د. عصام بن صالح العويد
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ..
أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا كما جمعني وإياكم في هذا المكان أن يجمعنا جميعا في الفردوس الأعلى من الجنان. اللهم يا رب يا كريم .. يا رحمن يا رحيم .. اجمعنا بشيخنا الذي سُميت هذه الندوة المباركة باسمه في الفردوس اﻷعلى من الجنة .. اللهم ﻻ تحرمنا أجره وﻻ تفتنا بعده يارب العالمين.
أيها اﻹخوة الكرام حديث هذه اﻷمسية بعنوان [ أركان تربية القرآن ] والله عز وجل حينما أنزل القرآن أنزل هذا القرآن ليُعلمنا الحكمة ويزكينا (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) فكان من أعظم ما تنزل القرآن من أجله أنه يربي البشر .. يزكيهم .. يعلمهم ما يحتاجون إليه وهذا - في هذا الزمن بالذات - من أهم المُهمات ﻷن الناس ضربوا في كل ما يتعلق بوسائل الدعوة في كل واد وأصبحوا يجربون على من يربونه وسائل وأدوات شتى فتارة ينجح بعضها وتارة يفشل .. وتارة نُحسن من جهة ونُسيء من جهة أخرى، وهذا الميدان وهو ميدان تربية اﻹنسان لا ينبغي ﻷي مسلم عالم بكتاب ربه أن يعتقد أن الله عز وجل قد تركه من دون بيان شاف وإيضاح بيّن لما نحتاج إليه في هذا الباب فإنه من أهم مهمات هذا العلم الذي أمرنا الله عز وجل بتحصيله ، والقرآن حينما نزل أوﻻ نزل على محمد صلى الله عليه وسلم من أجل قضيتين اثنتين كبيرتين واضحتين :
أما اﻷولى: فهو أن يعلم الناس كيف يعرفون ربهم جل في علاه، يعرفونه بربوبيته ويعرفونه بتوحيده وألوهيته ويعرفونه بأسمائه وصفاته.
ونزل من أجل أمر آخر وهو أن يعلم الناس كيف يتخلقون باﻷخلاق التي يريده منها ربهم سبحانه وتعالى أن يتلبسوا بها وأن يكونوا من أهلها . لذلك لما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل الدعوة - والحديث في صحيح مسلم - من حديث عمرو بن عنبسة أبو أمامة رضي الله عنه وأرضاه قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مختفٍ فقلت يا رسول الله من أنت؟ قال : أنا نبيّ ، قلت وما نبيّ؟ قال: يأتيني الوحي من السماء، قلت: فبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بكسر اﻷصنام وأن يُعبد الله وحده لا شريك له وبصلة اﻷرحام ) فذكر هاتين القضيتين : القضية اﻷعظم وهي قضية التوحيد ، وقضية اﻷرحام وما يتبعها من مكارم الأخلاق ولذلك ثبت في سنن اﻹمام أحمد من حديث عوف الجُشمي - يتحدث عن أبيه - قال: دخل أبي مالك - عوف بن مالك الجشمي - قال: دخل أبي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله بأي شيء تأمر؟ قال: ﻻ شيء إﻻ الله والرحم ) ( ﻻ شيء ) أي اختصر النبي صلى الله عليه وسلم كل دعوته في تلك المرحلة بشيئين اثنين : بعبادة الله وحده، وبالرحم الذي هو من أعظم مكارم اﻷخلاق ، ولذلك لما تنزّل القرآن تنزل على هذا النحو موافقا لما كانت تربية النبي صلى الله عليه وسلم ﻷصحابه في مكة ، فكان أن أنزل الله عز وجل في أوائل ما أنزل بإجماع أهل التفسير سورا أربعة:
/ أما أولاها: فهي سورة العلق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ) ثم أنزل بعد ذلك السورة اﻷخرى التي اختلف أهل العلم فيها هل هي اﻷولى أو الثانية وهي سورة المدثر (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ) ثم أنزل سبحانه سورة المزمل وأهل العلم بالتفسير يتفقون على أنها من أوائل ما نزل ولكن منهم من يجعلها بعد المدثر مباشرة ومنهم من يؤخرها قليلا ، والمشهور عند أهل التفسير- كما روى ذلك جابر بن زيد- تلميذ ابن عباس أنها نزلت بعد المدثر بقليل ولم تتخلف عنها كثيرا.
وأما الرابعة فهي سورة القلم (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) هذه السور اﻷربع في كل واحدة منها ركن من أركان التربية.
/ فأما سورة العلق فهي ركن أول بل وأعظم وأجل وهو: ركن معرفة الله عز وجل، الركن الذي ﻻبد منه أن يعرف اﻹنسان ربه سبحانه وتعالى حق معرفته وهذا هو أشرف العلوم على اﻹطلاق فلا علم في الدنيا ، بل وﻻ علم في اﻵخرة أشرف من العلم بالعظيم سبحانه وتعالى. والعلم به هو أساس كل خير والجهل به هو أساس كل شر ولذلك لما تحدث الله عز وجل عن هذه السورة أوائل ما نزل قال سبحانه وتعالى لنبيه (اقْرَأْ) ثم بيّن ماهي هذه القراءة، و(اقْرَأْ) هي إشارة لوسيلة العلم ولما ذكر الله عز وجل هذا اﻷمر الذي هو أول أمر في كتاب الله ويدعمه نظيره أن الله عز وجل حينما أقسم في سورة القلم أول ما أقسم أقسم أيضا بالقلم فكان أول أمر باقرأ وأول قسم بالقلم وكلها أدوات للعلم ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يُؤمر بأن يستزيد من شيء إﻻ بالعلم (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) وشواهد تقديم العِلم على غيره كثيرة جدا ولذلك قال الله عز وجل (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ) آمَنُوا أي علِموا بالله .. آمنوا به سبحانه وتعالى بعد أن علِموا ما الذي يستحقه جل في علاه فيما يقرّ في قلوبنا ، ثم خصّ ذلك أيضا بأهل العلم (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) فخصّ من المؤمنين أهل العلم . فجاء التأكيد عليها في مواطن كثيرة ولذلك كان مما قال ابن القيم في نونيته - رحمه الله- قال:
والعلم أقسام ثلاثٌ ما لها = من رابعٍ والحقُ ذو تبيان
علمٌ بأوصاف الإله وفِعله = وكذلك الأسماءُ للرحمن
فهذا هو أول العلوم وهو أعلاها وأشرفها علمٌ بأسماء اﻹله ، وعلمٌ بأوصاف اﻹله، وعلمٌ بأفعال اﻹله .
ثم قال:
والأمر والنهي الذي هو دينه ...
هذا العلم بالأمر والنهي وهو مع عظمته وأهميته - العلم بالفقه، العلم بالأمر والنهي - هو من أعظم العلوم التي أمر الله عز وجل بأن يتعلّمها أهل اﻹسلام ولكنه بعد ذاك وليس قبله فهو ثانٍ يتلو وليس أوﻻ وﻻ ينفع هذا الثاني إﻻ بعد أن يتجلى العلم الأول في قلب العبد وإﻻ سيكون عليه لا له يقول ابن القيم:
والأمر والنهي الذي هو دينه = وجزاؤه يوم المعاد الثاني
هذا هو العلم الثالث: العلم بما يستقبلُ العبد يوم القيامة في يوم الجزاء والحساب.
فهذا العلم السورة التي أوضحت فيه أمورا أربعة هي سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وقد أوضحت في بدئها ماهية هذا العلم أوضحت أمورا أربعة:
أولها: ماهية هذا العلم وحقيقته، ماهي حقيقة العلم بالله.
ثم أوضحت بعد ذلك الوسيلة التي من خلالها يزيد العبد قلبه معرفة بالله
ثم أوضحت العوائق التي تحول دون أن يعرف العبد مولاه
ثم أوضحت رابعا ما يكون مقياسا وبرهانا على زيادة هذا العلم في القلب أو على نقصانه .
أما أولى هذه النقاط:
فالله سبحانه وتعالى أوضح العلم الذي أراده من عباده به في مطلع هذه السورة فقال سبحانه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فذكر أوﻻ اﻻستعانة بالربوبية وهذه "الباء" تسمى عند أهل العربية بـ "باء اﻹلصاق" ودﻻلتها ظاهرة من كلمة اﻹلصاق فهي تجمع بين ما قبلها وبين ما بعدها فلابد أن يلتصقا .. أن يتلبسا ببعض، فقال (اقْرَأْ) فبأي شيء أقرأ يارب قال (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أي حال أن تقرأ كن مستعينا استعانة تامة ملتصقة بالرغبة إلى الله أن يفتح قلبك وبصيرتك إلى أن تتعرف عليه سبحانه وتعالى فقال (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فهذه الربوبية اقرأ باسم الرب الذي خلق ، وكثير من الناس في هذا الزمن لما لحظوا أن أهل التوحيد .. أن أهل العلم يؤكدون على توحيد اﻷلوهية ظنوا أن توحيد اﻷلوهية أعظم وأسبق في المنزلة من توحيد الربوبية وهذا ﻻشك بأنه ليس بصحيح بل هذا من الجهل البيّن بدين الله عز وجل، وإنما تركيز أهل العلم على توحيد اﻹلهية ﻷجل أن كثيرا من الناس وقعوا في الشرك به وأخلوا بركنه ولكن ﻻ يمكن بحال أبدا أن يأتي توحيد اﻷلوهية قبل توحيد الربوبية ولذلك كانت فاتحة القرآن التي اشتملت على كل أمهات العلوم بالقرآن كان بدؤها أن قالت ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وهذه الثلاثة كلها ربوبية ثم قال سبحانه وتعالى ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فذكر بعدها اﻷلوهية.
ولذلك جاءت سورة العلم باﻷمر بهذا واﻻبتداء به وهو أن تتعرف على ربك سبحانه وتعالى من خلقِه وهذا هو أعظم سبيل يتعرف به المخلوق على خالقه ، والعبد على سيده ومن لم يفتح بصيرته وجوارحه للنظر في هذا الكون العظيم الذى امتلأ دﻻئلا على وحدانية الله عز وجل وعلى قدرته التامة وعلمه الكامل فإنه أبدا لن يمتلئ قلبه علما بالله جل وعلا ولذلك كان مما عاتب الله عز وجل عليه الناس أوائل ما تنزّل الوحي أن أكثر عليهم سبحانه وتعالى وردد عليهم أن يقول لهم (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ) ( فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ) كل ذلك من أجل أن تنظر فيما حولك فتتعرف على ربك ومن حُرِم هذا حُرِم المنزلة العليا باﻹيمان وﻻ يمكن لعبد أن ينال درجة الصديقين والمُقربين حتى يفتح جوارحه لينهل من علم الكون ما يدله على خالقه في كل حركة من حركاته ولذلك قال اﻷول :
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه الواحد
وهذا الذي جعل شيخ الإسلام ابن تيمية يقرر أن العلم بالكون ودﻻئل الكون التي بثها الله عز وجل فيه وجعل بينها وبين فطرة العبد دﻻئل ﻻ تنكرها وﻻ تستطيع الهروب عنها - جعل مثل هذا اﻹمام - يقول بأن أول واجب أوجبه الله عز وجل على الناس أن يتعرفوا على الله بفطرتهم التي أقرها الله وخلقها في داخل قلوبهم، ولذلك لما فسر آيات كثيرة كقوله سبحانه وتعالى في سورة النور ( نُورٌ عَلَى نُورٍ) فسّرها بما فسّرها به السلف قبله فقال: "نور اﻹيمان يتبعه نور القرآن" فجعل نور اﻹيمان الذي تأخذه من الكون ومشاهد الكون يسبق نور القرآن في هذا الكتاب العظيم ، ولذلك كان من تقريراته الكبرى - رحمه الله - في الفتاوى هذا المعنى . ويحرم كثير من الناس أنفسهم من هذه الفرصة العظيمة وهذه المِنّة الجليلة الكبيرة أنهم يزداد إيمانهم مه كل لفتة وفي كل حركة وفي كل نظرة وفي كل سمعة وفي كل جلسة بل وفي كل ما يحدث حوله من حركات وسكنات .. وخير وشر فإنها كلها لو وعب واستوعب كيف يجعل هذه اﻷمور طريقا إلى المعرفة بالله لجعل ذلك - أحبتي - اﻹيمان في قلبه يزداد في كل ثانية.
ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يولون هذا اﻷمر عناية بالغة كاملة تامة ﻷن الله في القرآن أمر بهذا النظر في أكثر من ألف وثلاثمائة آية في كتاب الله، يأمرنا نحن أن ننظر في هذا الكون الفسيح ولذلك لما جاء رجل إلى أم الدرداء - وأبو الدرداء كان من فقهاء الصحابة الكبار - فجاء رجل إلى أم الدرداء بعد أن توفي أبو الدرداء رضي الله عنهم أجمعين فقال: يا أم الدرداء ماذا كانت عبادة أبو الدرداء في بيته؟ -هذا العابد .. هذا الناسك .. هذا الذي أجلّه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورفعوا قدره - ماذا كانت عبادة أبي الدرداء في بيته؟ قالت : كانت عبادته التفكّر .
وهل تنظنون -أحبتي - أن بيت أبي الدرداء عبارة عن حدائق وبساتين وحيوانات تمشي على أقدامها وطيور تطير بأجنحتها، ما فيه ذلك، بيته رضي الله عنه إنما هو أمتار قليلة في أمتار أقل فما الذي كان يتعبد الله عز وجل به في بيته هذا العابد؟! كيف كان يعبد الله إذا كان يزيد إيمانه وهو في داخل بيته عند هله؟ ولو تأمل الواحد منا - أحبتي - في صغير جاء يركض إليه وعمره في السنتين ونحوها لعلِم أن هذا الصغير قد كان له حال ، لم يستطع أن يركض بالقدمين ولم يستطع أن ينطق بكلمة في اللسان ثم ربّاه الله عز وجل وربّاه حتى صار إلى ما صار عليه ، ولذلك أذكر أن بعض الصالحين لما ولدت زوجته له ولدا خرج متعجبا وامتلأ قلبه بشيء في صدره يقول والله بقي معي أياما بل وسنوات أتفكّر به فأنا لما وُلد هذا المولود الصغير أدخلوني على أمّه ثم جاؤا به - صغير لتوه ما خرج إلى الدنيا إﻻ من قرابة ثلث ساعة - قال فجيء به إلى أمه من أجل أن تُرضعه فلما وضعوه بجوار صدر أمه فتح فمه الصغير، قال : فلما ألقمته حبة الثدي حرّك - هذا الطفل الصغير - حرك شفتيه من أجل أن يمُصّ حليبه الذي به حياته فقولوا لي بربكم من أين كان هذا؟! ولذلك الصالحون حينما يستمعون إلى قول الله عز وجل في سورة اﻷعلى التي تتلى علينا كثيرا في الصلوات المفروضة وفي اﻷعياد وفي الجُمع وفي مواطن كُثُر ، لما يستمعون إلى قول الله عز وجل (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) يبصرون معنى هذه اﻵية مع مثل هذه اﻷحوال ، ﻷن هذا الصغير في منتهى الجهل لم يُعلّم قبل ذلك أدنى علم ليس له علم بأنه يشرب مع فيه وليس له علم بأن طريق ذلك بأن يُحرِّك العضلات التي في فكيه أبدا، بل وأعجب من ذلك الحيوان البهيم تلِد الناقة فيسقط صغيرها على اﻷرض ثم دقائق معدودة يقوم فيتجه إلى رأسها؟ أو إلى قدميها؟ أبدا إنما هو أن يتجه إلى ثدييها فيرضع حليبا ، وهذا كله الذي (قَدَّرَ فَهَدَى) فيُجلُّون الله ويتعلمون كيف يعظمون ربهم في مثل هذه المواقف، وهذا في كل حال ﻻ يستثنى من ذلك لا ليل ولا نهار .. وﻻ في البيت وﻻ خارج البيت .. فإن اﻹنسان إذا رُزق أن يفتح البصيرة في هذا الشأن عظُم الله في قلبه كثيرا مع كل حدث يحصل معه ولذلك كان تركيز هذا في سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) عظيما .. شديدا (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) لينظر في أصل خلقته إن جاءه شيء من التكبر، إن ضجر من العبادة، إن سئم من طول الصلاة ، إن ظمئ من طول الصيام إن .. وإن .. وإن، سبحان ربي ﻻ إله إلا الله؟! وأين الذي خلقك .. أين حقه منك؟! إذا تفكّرت في ذلك علِمت أن كلك من أولك إلى آخرك إنما أنت له وبه وفيه ومنه وإليه، وهذا هو معنى قول الله عز وجل هنا (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ).
/ ثم قال (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) وهذه هي الوسيلة الثانية، فالوسيلة اﻷولى هي النظر في الكون المشاهد ، والوسيلة الثانية هي النظر في اﻵيات المتلوة هذه التي كتبت بالقلم وأمر الله عز وجل أن تحمد الله على أن علّمك أن تقرأ ما كتب بهذه اﻷقلام .
(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ) من كرمه علينا أن علّمنا كيف نقرأ ، ومن كرمه علينا أن علّمنا كيف نفهم ، ومن كرمه علينا نحن من بين العالمين أن خصّنا أن نقرأ بلغة أنزل القرآن بها سبحانه وتعالى. ولعلك أن تنظر إلى أحبتنا هؤﻻء من طلاب المِنح الذين جاؤا من أصقاع اﻷرض من هنا وهناك ليتعلموا لغة العرب كم يكدون وكم يتعبون وكم يدرسون ليلا ونهارا من أجل أن يتحدثوا قليلا بلغة القرآن ثم يمكث الواحد منهم أكثر من عشر سنوات من أجل أن يتعلم لغة العرب على أصولها فيفهم القرآن باللغة التي أنزل الله عز وجل بها القرآن، وهذه بالنسبة لنا ميسرة .. سهلة .. إنما هو كرم ونعمة من الله عز وجل ولذا قال (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) . هاتان وسيلتان عُظمتان لمن أراد أن يتعلم كيف يعرف ربه سبحانه وتعالى.
وأما العوائق بعد ذلك فذكر الله عز وجل في هذه السورة العظيمة عائقين عوالق من عوالق هذه الحياة الدنيا :
أما أولاها: فهو جهل اﻹنسان بحقيقته بحيث أنه ﻻ يرجع كثيرا إلى معرفة ماهو عليه ، واﻹنسان - أحبتي - لو نظر إلى نفسه كثيرا لعرف قدرها فإنه يكفي من عوامل ضعفه وجهله أنه ﻻ يدري ماهي اﻷمور التي ستقع عليه بعد ثوان معدودة، لو أن أحدنا قيل له الساعة كذا وكذا بعد ثلاث ثوان ما الذي سيكون من حالك؟ لما استطاع أن يجيب بل ولا بعد ثانية واحدة وهذا يشترك فيه الملوك وأبناء الملوك والرؤساء والعلماء والكُبراء واﻷثريا كلهم يشتركون بالجهل المطبق فيما يخصّ بالعلم ، وإذا كرر الله عز وجل ذلك في اﻵيات العظمى وباﻷخصّ في أعظم آية من كتاب الله في سورة البقرة في آية الكرسي فنبّه على ضعفك الشديد في مسألة العلم وأنك ﻻ تعلم شيئا وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذى يحيط بك علما جل في علاه، ولذلك لما يجهل اﻹنسان في حقيقته هو يطغى ويتكبر وهذا الذي حذر الله عز وجل منه العبد أن يجهل حقيقة نفسه، وقد يقول كثير من الناس نحن نعلم حقيقة أنفسنا، وأقول لك أخي أيها الحبيب المبارك والله ما عرفنا حقيقة أنفسنا حق المعرفة التي يريد الله عز وجل لنا ولو عرفنا ذلك لحقرنا أنفسنا كما كان الصالحون اﻷوائل يحقرون أنفسهم، فمن كان في قلبه ذرة من كِبر أو ذرة من أنفة أن يُصاب بشيء من البلاء أو بشيء مما يرى أنه أكبر من ذلك، قد يظن بعضنا حينا أنه تجاهله فلان وفلان ﻷجل نقص فيه وﻷجل جهلهم بحاله وقدرِه فيأتي في نفسه من الحديث أنها .. وأنها .. وهذا- أحبتي - ﻻ يكون ممن عرف حقيقة نفسه وإنما الذي يعرف ذلك يعود في كل شأن باللوم على نفسه ، فلو أنه - مثلا - حصلت له مصيبة في ماله لعاد مباشرة إلى نفسه وقال تقصيري وذنبي هو السبب في هذا، ولو أن الناس سبّوه وشتموه وآذوه وكذبوا عليه ولفقوا عليه اﻷقوال من هنا وهناك لعاد إلى نفسه وقال والله ما سُلِّط علي هؤﻻء إﻻ بذنوب بيني وبين خالقي ، ولو أنه حينما ينام عن صلاة الفريضة فلا يصلي في المسجد فإذا قام ﻻ يبحث عن اﻷعذار لنفسه وإنما مباشرة ينتفض كما ينتفض العصفور بلّله الماء ويهتز ويرتعد إنما نمت بسبب ذنبي الذي لم أستغفر منه فكان أن جر علي هذا البلاء أن فاتتني صلاة الجماعة مع المسلمين، فيبدأ العبد في كل حال على هذه الحين ﻻ يحصل له حاصل إﻻ ويعود إلى حقيقة نفسه ولذلك نبّه الله عز وجل عليها هنا في سورة العلم هذه أنه لن تنال العلم الكامل إﻻ إذا عرفت أنك ذو جهل كامل وأن الوسيلة لعلمك إنما هي بالخضوع والخشوع والذل بين يدي ربك.
لذلك - أحبتي - هنا في مطلع هذه السورة حينما ذكر الله عز وجل العائق اﻷول نبه على هذا (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى) طغى في نفسه لماذا؟ (أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) (أَن رَّآهُ) أي رأى نفسه (أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) ظن أنه اﻵن عنده من القدرة والقوة والعلم والمُكنة والمال والناس وكذا (أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) فنبّه الله عز وجل إلى شيء قد يغيب عن أذهاننا نعرف به حقيقة أنفسنا وهو ما يجري علينا بعد الموت من هذه الحياة الدنيا (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) لو كانت لك قوة ، لو كانت لك مُكنة هل ستكون خاضعا ﻷقدار ﻻ تملك فيها أنت أدنى حراك؟!.
سئلت مرة وكنت في موسكو فسألني بعض من اشتبه عليه أمر اﻹلحاد - منهم هناك - فقال لي : لعلك أن توضح لنا ماهي دﻻئلكم على أن الله هو الخالق وأنه هو المعبود وحده، نحن ﻻ نؤمن بذلك؟ فقلت له عبارة واحدة ، قلت له : لو أن رئيس روسيا - وهو بوتين - قلت لو أنه نزل عليه ملك الموت هل يستطيع هو أن يرد هذا الموت ولو لحظات معدودة؟ قال : ﻻ، قلت : فأي مُلك تنسبونه إليه وأي رئاسة عنده وأي تجبر وقوة عند إنسان لا يملك أن يرد عن نفسه ولا موت بدنه كله، البدن كله يموت وأنت ﻻ تستطيع أن تُحرِّك شعرة؟ فسكت. قلت له : لو قلت أنت لي نعم بوتين يستطيع لذكرت لك زعماء الشيوعية من أولها كلهم ماتوا بغير أقدار منهم وأنت تُقِرّ بذلك ونحن نقر بذلك لملوكنا نحن أيضا ولرؤساء العالم ولكل الناس ولذلك من ﻻ يعبد ﻻ يملك أن يزيد في حياته ولو لساعات وثوان قليلة .. بسيطة .. يسيرة فأي شيء يدعيه وأي شيء يظنه في نفسه .
كان التنبيه هنا (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) ليعرف اﻹنسان حقيقة المآل بعد هذا (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) .
ثم بين الحقيقة الأخرى التي ﻻبد منها أن نعرفها لنتجنبها ﻷنها هي العائق الثاني - أيها اﻷحبة - وهو : ما يتعلق بالجهل بدين الله.
فقال في سورة اقرأ (رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى) ينهاه عن ماذا؟ ينهاه عن الصلاة .
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى) هل كان كفار مكة يصلون أيها الكرام؟
نعم يصلون فما بالهم لما قام رجل منهم يصلي أخذ ينهاه عن الصلاة، ما بالك وأنت تعلم أن الصلاة مُستحِق لها عظيم سبحانه وتعالى في السماء؟! وأخذت معه أصناما تقرِّبك إليه زلفى فما الذي شانك وأنت ترى عبدا يصلي لربه يركع ويسجد (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى) قال الله عز وجل (أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (١٢) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) فرجعت القضية إلى الربوبية (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) وهذه الآية -أيها اﻷحبة - والله إن وُفِق العبد إلى أن يجعلها (***) كلما دخل خلوته ﻻ يراه أحد ، والله يصلح حاله ويزداد إيمانه وتكثُر عبادته وتصفى أذكاره ويصعد في العُلا إلى ربه (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) هذه تقولها حينما تحدثك نفسك بالمعصية لوحدك، وتقول أيضا (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) حينما تضعف النفس عن قيام الليل وتحب الفراش الوثير وتنظر في الساعات فتحسب ساعات نومك وﻻ تحسب ساعات صلاتك فحينما تكون هذه على طرف لسانك (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) بأن الله يراك اﻵن وأنت على فراشك قم يا رجل .. قم .. قم وادخر ما لنفسك .. أمامك .. ما سيكون لك رجع وحسنات وأمان في يوم كلنا في أشد الحاجة إلى ذلك. ولذلك - أحبتي - حينما يضعف الذكر باللسان في السيارة - مثلا - فيريد أن يتحدث من هنا وهناك، أو يستمع إلى أي كلام فقط ليكن قريبا منك (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) الله يراك اﻵن وأنت تذكره ويراك وأنت ﻻه عنه ، كلاهما (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) وهذا - أحبتي - هو العائق الثاني وهو عدم المعرفة بما عند الله عز وجل لنا في اﻵخرة ، نقص العلم بموعود الرب ، والموعود هذا ليس يحققه العلم الذهني أبدا وإنما هذا حقيقته العلم القلبي الذي يُدّخر في القلب ﻻ العلم الذي يردد على اﻷلسنة أبدا وإنما هو بقدر ما يقر في القلب.
ثم من أعجب ما مر في هذه السور اﻷربع أنها جميعا قد ذكرت فيها الصلاة فهنا في سورة (اقرأ) الله عز وجل يقول وهو يتحدث عن هذا الذي ينهى (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى) فذكرت ونبّه بهذا الذكر على أن برهان العلم بالله عز وجل هو قوله سبحانه وتعالى (كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) فهذا ينهى عن الصلاة والله يأمر بالصلاة فمن أراد أن يعرف مقدار معرفته بالله عز وجل في قلبه فلينظر إلى كثرة سجوده ومحبة جبهته هذه أن تلتصق باﻷرض ، فمتى ما كان العبد كثير السجود مُحبا لهذه الهيئة أن يكون عليها وأن يديم نفسه على صفة التذلل واﻻنكسار التامة في قلبه .. في جبهته .. في كل جوارحه .. في لسانه وذكره فعندئذ - وربي - إنه قد علم .... الله. ومن كان ينقرها نقرا وﻻ يدري ماذا ردد باللسان ويظن أنه حينما يصلي نافلته أن ذلك كالمنّة على ربه، صلى ركعتين خفيفتين سريعتين ﻻ يدري ما الذي قال فيهما ثم يقوم ويسلم ويمضي في دنياه ويأخذ فيها اﻷوقات والساعات وربي -أحبتي - أنه ما علم بالله. وهذا هو اﻷمر الرابع الذي في سورة اقرأ وهو : البرهان على علو اﻹيمان في القلب أو البرهان على ضعف اﻹيمان في القلب (كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) .
بعد ذلك بنى الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ثم ﻷمته الركن الثاني وهو : ركن الدعوة .
فمن علم بالله لزِمه أن يدعو الناس إليه وهذا ﻻزم المحبة فمن أحب شيئا أحب أن يُحبب الناس كلهم إلى هذا المحبوب فأنت الله عز وجل منّ عليك بعلمه فادع الناس إليه وإلى طريقه، فنزلت مباشرة بعد ذلك سورة المدثر وهي ﻻ يُعرف لها إﻻ هذا اﻻسم ، والمدثر هوالمزمل وبينهما تقارب في المدلول اللغوي ولكن السياق بين السورتين يدل على أن المدثر هو: الذي تغطى من مرض أو من روع وخوف حصل عليه ، وأما المزمل فهو: الذي تغطى لرغبته بالنوم من دون عارض حصل له ولذلك جاءت سورة المدثر (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) بعد نزوله صلى الله عليه وسلم من الغار ولما دخل على خديجة وقال دثروني .. دثروني وفي الرواية اﻷخرى في الصحيح زملوني .. زملوني ثم أمر بأن يُصبّ عليه دلوا من ماء -من ماء بارد حتى يخفف ما به - قد أصابته وعكة ورهبة وخوف فقال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) . أما المزمل فقال (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ) فلم يكن قبل ذلك ما غير من حاله .
وسورة المدثر هي سورة الدعوة إلى الله عز وجل، ومن أراد أن يكون داعية بحق فلابد أن يعلم وأن يعرف دﻻئل هذه السورة فهي قد ذكرت صفات الداعية، صفات الداعية وهي ست في أولها، ثم ذكرت أعداء الداعية وكيف نتعامل معهم، ثم ذكرت الشُبه التي تُلقى على الناس وكيف يتعامل معها، ثم ذكرت ثمرة هذه الدعوة على الداعي وعلى المدعو آمن أو كفر، ثم ختمت السورة بالوسيلة العظمى التي يجب أن يتمسك بها كل داعية وﻻ يحيد عنها يمنة وﻻ يسرة .
/ أما صفات الداعية فقال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ) و (قُمْ ) هنا هي حسية معنوية ويُقصد بها أم يكون همّ الدعوة موجودا في القلب في كل اﻷحوال سواء عند نومك وراحتك أو عند قيامك وشغلك ، ويُقصد بها أيضا أن من كان مضطجعا فليس هذا حين اﻻضطجاع إنما قُم وبلّغ رسالة الله عز وجل، (قُمْ فَأَنْذِرْ) والـ "الفاء" هنا في قوله (فَأَنْذِرْ) هذه عند أهل العربية تسمى بـ "فاء التعقيب" أي قُم وبعد ذلك فأنذر . وأما "الفاء" التي جاءت في اﻵيات الخمس بعدها فليست هي فاء التعقيب وإنما هي الفاء الفصيحة وهذا أبلغ ما يكون في سياق الكلام فقال الله سبحانه وتعالى (قُمْ فَأَنْذِرْ) .
/ ثم قال (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)
(وَرَبَّكَ) هذا أمر ثم جاءت الفاء هذه لتُبيْن عن شرط مُضمر وتقدير الكلام "وربك كبِّره في كل أحوالك" وهذا التقدير في لغة العرب دائما ما يعبرون عنه - كما ذكر الزمخشري وغيره - "مهما يكن من شيء" أي الجملة [ مهما يكن من شيء اجعل ربك أكبر منه] فإذا قُمت إلى الدعوة فلا أضر على الداعية - أبدا والله - ﻻ أضر على الداعية من وساوس القلب ولا أشكل عليه من صدره أن يتلاعب به الشيطان والذي ﻻ ينتبه لذلك من الدعاة يذهب دعاؤه بل ويكون وباﻻ عليه ونقمة في الدنيا والآخرة، فإن اﻹنسان إذا لم يعرف كيف يضبط قلبه وكيف يوجهه حينما يدعو الناس، كيف يوجهه إلى مقصوده إلى ربه فإن الشيطان يجره إلى مقاصد أخرى وهذا سهل جدا أمام الناس ﻷن العبد ضعيف أمام الخلق، فإذا بدأ يتحدث رأى الناس قد أُعجبوا به جاءه الشيطان فقال انظر إلى الناس كيف يلتمون وكيف يجتمعون وكيف هذه اﻵﻵف قد التفت ونظرت وتحدثت عنك فأفسد عليه آخرته . وإن ذهب الناس جاءه الشيطان فقال لم تقل ما يريده الناس فذهبوا عنك ، فائت بالكلام الذي يجذبهم إليك ، انظر إلى فلان وعلان وكذا .. وكذا انظر إلى هذه اﻵﻵف قد ابتعدت فهاتهم وكيف تأتي بهم ؟ بكذا .. وكذا، فينشغل بالمدعوين ويكون في حقيقة الأمر هو ليس داع وإنما هو مدعو لكن الداعي له هو الشيطان فتذهب دعوته شؤما عليه في الدنيا والآخرة ووباﻻ وخسارا . هذا والله أشد أنواع الخسارة أن يستبدل اﻵخرة بمتاع من الدنيا قليل ، أن يجعل هذه اﻵخرة سلما وسبيلا ودرجا لينال الدنيا وهي الزائلة .. الحقيرة .. الفانية ولذلك قال الله (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ).
والداعية الحصيف يمكث مع هذه اﻵية سنوات - أحبتي - سنوات يرددها في كل مشهد من مشاهد الدعوة، يقف مع نفسه حينما يقال له اذهب فألقِ .. تكلم في مسجد .. تكلم في ندوة .. تكلم في محاضرة ، رأى منكر ويريد أن ينكر هذا المنكر ، أراد أن يسجل شريطا .. أن يشارك في قناة فضائية .. أن يفعل ما يفعل من هذه اﻷمور ﻻبد أن يكون ( وربك فكبر - وربك فكبر - وربك فكبر ) أن يكررها حتى يسلم وينجو ويغنم .
ثم قال الله سبحانه وتعالى وهو يذكر اﻵن الشرط الثالث من شروط الداعية
اﻷول : أن يقوم ، والثاني: أن يجعل الله أكبر من كل شيء.
والثالث: قال (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) والثياب هنل هنا عند جمهور السلف إنما يراد بها اﻷعمال أي طهّر أعمالك من الدنس والشرك ، وهذا الذي عليه مجاهد والشعبي وقتادة وغيرهم كثير ، وهو معنى صحيح ولكن معه معانٍ أخرى أيضًا نبّه على هذه المعاني غيرهم من السلف:
- فذكر محمد بن سيرين أن (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي أن الثياب هذه طهّرها من الدنس والنجس
- وذكر سعيد بن جبير أنها في تحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي طهّر قلبك من غير الله.
وكلام السلف في هذا كثير وهو يدور على تطهير أمور خمسة:
- أما اﻷول فهو القلب وهو أعظمها ، تطهير القلب من الشرك صغيره وكبيره (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) ﻷن إخلاص المرء لربه سبحانه وتعالى يعود ويثوب إليه فسُمّي إخلاصه لله وتطهير قلبه وعمله من هذه الشركيات سمي ثوابا كأنه يثوب إليه .
والثوب اﻵخر هو الجوارح أن تطهرها مما ﻻ يريده الله سبحانه وتعالى منك ، أن تطهر العين من رؤية الفجور والخنا والمناظر التي لم يبحها الله عز وجل لك أن تطلقها في النظر إلى النساء في الشاشات أو في اﻻنترنت أو في اﻷسواق هذه طويلة .. وهذه عريضة .. وهذه صفتها .. انظر إلى جمال عينيها وانظر ... الخ فيأتيك الشيطان، أو انظر إلى هذا الخبر أنت ﻻ تريد الصورة ولكن تريد الخبر افتح على الجزيرة وعلى العربية ثم تنظر إلى الصور المحرمة فيها وأنت ﻻ تريد إﻻ اﻷخبار ﻻ تريد الصور وكأن اﻷخبار ﻻ تأتي إﻻ من خلال النظر إلى تلك الصور وهذا ﻻشك كله أنه من خطوات الشيطان التي يجُر العباد إليها.
- واﻷمر الثالث: هو تطهير اللسان من الكذب ومن الخنا ومن الفجور ومن الطعن والسب والفحش والتفحش وخُصّ اللسان بذلك لخطره في هذا الباب فتطهيره من أعظم ما يكون وهو من أصعب ما يكون ، تطهيره من الغيبة ، قد اشتكى منه أكابر اﻷولياء من الصالحين، اشتكوا من اللسان هذا حتى أخذ به أبو بكر رضي الله عنه، أبو بكر وهو أبو بكر صديق هذه اﻷمة ، ومن منا بشعرة من شعرات أبي بكر بلى وربي وﻻ برأس إبرة وﻻ أدنى من ذلك من هذا الصديق اﻷكبر ، ثم يأخذ بلسانه وهو يبكي ويقول : هذا أوردني الموارد هذا أوردني الموارد .هذه المحاسبة العظيمة للسان لا تكون إلا من أهل الصلاح والتقوى ممن رزقهم الله أن يقفوا مع كلامهم وأقوالهم قبل أن يُلقوها إلى الناس .
- وأما اﻷمر الرابع: فهو تطهير الثياب هذه من الدنس والقذر ونحو ذلك والله عز وجل يحب من عباده أن يتطهروا (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) فالداعية ﻻ يصلح أبدا أن يخرج إلى الناس بثوب دنس وبغترة ﻻ تليق وبحال يجدون منه رائحة في بدنه أو في فمه أو في شيء من بدنه ، فالداعية ﻻ يكون كذلك أبدا وإنما هو يطهّر ذلك كله ، كان النبي صلى الله عليه وسلم - كما ذكرت عائشة في الصحيح - كان يشتد أن توجد منه الريح بل إنه حرم على نفسه الحلال من أجل هذا وعاتبه الله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) من أجل أنهم قالوا له في العسل ما قالوا فحرّمه على نفسه وهذا من كمال طهارته وكمال احترامه وتوقيره لربه ولذلك كان الصالحون أيضا كذلك، لما ذكر الذهبي اﻹمام أحمد قال : وكان أبيض الثياب جدا ، وكان كثير العناية بشعره في وجهه .. في شاربه .. وفي لحيته وفي وجهه - هذا اﻹمام أحمد مع فقره الشديد - ولما دخل عليه أبو نعيم - شيخه - دخل عليه وكان في هيئته .. في لحيته لم يرتبها فقال يا شيخ - يريد أن ينصح شيخه - يا شيخ كذا .. وكذا فقال أبو نعيم : يا أحمد والله ﻻ أجد وقتا - مشغول بالحديث والفقه والتعليم ، من أكبر اﻷئمة - فغضب أحمد - التلميذ غضب على الشيخ - وقال : سبحان الله ما تجد وقتا للسنة .. ما تجد وقتا للسنة .. ما تجد وقتا للسنة !! ليس هذا برد . ولذلك ﻻ ينبغي ﻷحد أن يظن هذا أنه من اﻹيمان أو اﻹسلام.، ﻻ . وما يتعلق بالبذاذة ونحوها ليس البذاذة في سوء الرائحة وإنما المقصود بعدم التفخم في اللبس أما النظافة نظافة العرق والبدن فهذا الله عز وجل رفع إبراهيم الخليل بهذا (وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) كان خمس منهن في البدن وهي السنن الخمس ( خمس من الفطرة ) التي أخبرنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح. فهذه كلها من الفطرة التي يجب أن نعتني بها أشد العناية.
/ ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)
(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي اﻷصنام، وخصّها بالذكر هنا ﻷجل عظم أثرها على العبد .
ثم قال سبحانه (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قد يفتح الله عليك وترى قبوﻻ فيُطبع من كتبك كذا .. وكذا أو يُنسخ من أشرطتك ومقاطعك كذا .. وكذا أو تفتح مشروعا فيأتيك الناس أفواجا .. أفواجا وترى بركة دعوتك اﻵن في هذه الحياة الدنيا فإياك أن تمُنِّ على الناس (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) يقول لك الناس تعال ألقِ محاضرة فتقول في نفسك أن هذا الشهر ألقيت محاضرة مرتين وثلاث يكفي ماذا يريد الناس أكثر من هذا، ﻻ .. هذا ﻻ يجوز إن كان عندك قدرة فألقِ، ما عندك قدرة اعتذر من الناس بأدب قل والله ﻻ أستطيع لكن لا تمنن تستكثر ، ﻻ تطرد الناس إذا جاءك داعية أو مدعو واستجاب لك ثم حصل خلاف فتقول له نحن أغنياء عنك، ﻻ .. لست بغني عنه كل من استجاب لك وتأثر بدعوتك فأنت بحاجة إليه، ﻻ تطرد الناس ﻻ تمنن تستكثر.
- ثم أخيرا قال الله عز وجل (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) وهذا الذي ﻻبد منه لكل داعية، إذا لم يستحضر الصبر في كل أمر ، الصبر على القلب أﻻّ يتقلب وأﻻّ يزيغ في الدنيا وأﻻّ تجره الشبهات والشهوات وأﻻّ يجره اﻷكابر والوجهاء والملوك وأبناء الملوك يأخذونه من هنا وهناك إلى ما يريدون، وأﻻّ يجره عامّة الناس فإذا قال في إنكار منكر كذا .. وكذا غضبوا منه وقال هذا يتشدد .. وهذا ﻻ يتكلم بالكلام الذي يليق ونحو ذلك نفر وضعف واختفى فإن هذا أبدا ﻻ يكون داعية على طريق الله قد ... نكل .. سقط .. تعثر في أثناء الطريق، ولذلك أكد الله عز وجل في ختام هذه الست (وَلِرَبِّكَ) أي اجعل الصبر من أجل الله .. اصبر صبرا عظيما من أجل هذا.
- ثم ذكر الله عز وجل في هذه السورة ما ذكرت لك وارجع إليها وتأملها هي واضحة ظاهرة .
ذكر العوائق وهو الذي ذكره سبحانه وتعالى بعد هذه، العوائق التي تتعلق بتأثير الناس من حولك ولذلك الذي ردّ ذاك الكافر الذي فكر وقدر .. ونظر .. وعبس وبسر ، عرف الحق ، وقد قال قبل ذلك عن القرآن حينما سمعه من محمد صلى الله عليه وسلم قال : "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة - الطلاوة هو الحلا فوق الحلا أليس بعض الحلويات يضعون عليها السكر المطحون ونحو ذلك - إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمُثمر وإنه يعلو وﻻ يُعلى عليه" قبحك الله وقبح عقلك وماذا بعد ذلك؟
(ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) قال الله (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ) حال الناس، نظر من هنا وهناك ما الذي رده عن الجنة وعن أن يكون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن يلحق بعمر وسعد وطلحة وهؤلاء اﻷكابر ما الذي رده ؟ وهو ذكي أكثر من ذكائهم وعلمه بلغة العرب أكثر من علمهم وكان من أعلم الناس بلغة العرب؟! إنما صده الناس ، ماذا يقولون عنه ، فهذا من أعظم عوائق الدعوة أن ينظر الداعية إلى الناس كيف وقفوا من دعوته .. كم شاهد هذا المقطع ثلاثة أشخاص أو ثلاثة ملايبن ، مقطع علمتهم التوحيد شاهده ألف ، ما فعلتُ شيئا .. لم أؤثر بين الناس ، ومقطع حكيت لهم فيه قصة من هنا وهناك وطارد الناس هذا المقطع فشاهده مئات اﻷلوف من الناس، نعم أريد هذا، وليس كذلك.
ﻻ - أحبتي - ﻻ .. ليس هذا هو مقياس الدعوة وﻻ موازين الدعوة أبدا في هذا الباب. ثم ذكر الله عز وجل الرِيَب والشكوك والظنون ، ذكرها في اﻵية الطويلة منها .
ثم ذكر سبحانه أثر الدعوة اكتبها عندك وارجع إلى سورة المدثر ستجد هذا بينا ، تذكر أثر الدعوة سواء حينما أجاب وحينما أدبر .
وذكر أخيرا ذاك المثل العظيم (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) حال سماعهم لهذا القرآن العظيم، فما صار حالهم لما سمعوه ؟ جعلهم الله عز وجل حُمرا - جمع حمار - وهذا الحمار ليس بحمار كما هي التي يراها الناس، لا.. وإنما هو حمار مجنون .. حمار ﻻ عقل له هجم عليه أسد أو هجم عليه الصيادون فهو حمار ومذعور جدا .. خائف أشد الخوف قال الله عز وجل عن وصغهم وحالهم (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) ولذلك النجاة هي بالدعوة من خلال القرآن والمدعو نجاته بالتمسك بالقرآن (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) ( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ) "يمسِّك" يُمسِّك هو ويمسك غيره بكتاب ربه سبحانه وتعالى.
- ثم جاء بعد ذلك الركن الثالث وهو: ركن العبادة الخفية والتي قال الله عز وجل فيها في سورة المزمل (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) واﻹنسان - أحبتي - في بداية طريق هدايته إلى ربه ﻻ يحتاج شيئا كحاجته إلى عبادة خفية بينه وبين الله ﻻ يعلم عنها أحد ولذلك تواتر عن السلف أنهم قالوا "إنما العلم الخشية" جاء ذلك عن الصحابة وعن التابعين وعن أتباع التابعين ، وقاله الفضيل وأحمد والحسن والنخعي وغيره "إنما العلم الخشية" والخشية تبينُ إن كنت منفردا أما الخشية أمام الناس فلا تفرح بها ، لما رأى اﻹمام أحمد - رحمه الله - رجلا يصلي مع الناس ويبكي بكاء شديدا، فنظر إليه أحمد وقال له : يا ابن أخي ما أحسن هذا لو كان ليس هنا. ما أحسن هذا لو كان ليس هنا، ما أحسن لو كان لوحدك أما عند الناس فلا تظهر هذا .. دافعه .. احبسه .. ﻻ تفعله .. ما استطعت إلى ذلك سبيلا لا يخرج منك بحال ﻷنه بلاء وفتنة ،أما إذا كنت لوحدك - بينك وبين الله - فهذا حينه أن تناجي الرب جلّ في عُلاه وأن تبكي وأن تذهب وأن تخشع وأن تذِل وأن تنكسر وأن تكرر اﻵيات مئة مرة .. وأن تدعو .. وأن تستعين .. وأن .. وأن .. كل ذلك في حال خشيتك ولذلك فُرض قياك الليل باكرا على محمد صلى الله عليه وسلم ومن حرم العبادة الخفية لم يستطع أن يواصل في طريق الصالحين، لم يستطع .. من كانت كل حسناته ظاهرة افتقر إلى زاد يستطيع أن يصل به إلى ما يطمع فيه ، والله ﻻ يستطيع إنسان أن يصل إلى مبتغاه وجنة ربه وما يريده هو من الله إﻻ وإن كان من أعماله الخفي .. الخفي .. الخفي بل غلب على عبادته الخفاء .
وهذه سورة المزمل -أحبتي - ﻻ تحتاج إلى كثير تفسير وشرح بهذا. ولي محاضرة في سورة المزمل خاصة لمن أراد أن يتوسع في ذلك. ولكن تأمل بدايتها ونهايتها (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) انظر كيف التراوح اﻵن، بماذا يقومون؟ ماذا يتلون؟ القرآن .. القرآن -أحبتي - إنما يتلون كلام ربهم سبحانه وتعالى فلابد من ساعة خلوة في الليل بينك وبين الله في هذا اﻷمر العظيم ولذلك قال الله (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) فكل من عانى من عدم فهمه للقرآن وعدم تدبره لآيات الكتاب فليعلم أنه بحاجة إلى ساعة يخلو بها مع الله يتلو فيها القرآن، ولذلك أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) حينما قال له (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) .
/ وأما رابع ذلك : فهي سورة القلم ومقصودها - كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - الخُلُق الجميل (ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ) قال (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) قال ابن عباس: الخُلُق هو الدين. وقد صدق لماذا؟ ﻷن - أحبتي - الخُلُق الجميل يكون مع الله ويكون مع الناس ويكون مع النفس .
انظر في أولها - في مطلع سورة القلم قال الله عز وجل بعد ذلك (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) وهذا من سوء الخلق مع الله ودوا لو أنك تعبد إلههم سنة ويعبدون إلهك سنة . الدِّهان هو : أن تترك قول الحق مخافة من الخلق ، مخافة من الخلق ﻻ تقول الحق ولذلك نهى الله عز وجل عنها ، ثم نهى عن سوء الخلق مع الناس بذكر أصحاب الجنة وهذا واضح ببن.
ثم نبه الله عز وجل على ذلك في أواخر سورة القلم بما يتعلق بحاله فقال سبحانه وتعالى (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) ثم بعد ذلك ما يحصل؟ (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) ، (وَهُمْ سَالِمُونَ) هذا -يا أحبتي - تمام إكرام النفس، إذا أردت أن تتخلق مع نفسك بالخُلُق الجميل الحسن فهذا هو طريقة .. طريقه أن تصلي لربك .... هذا أعظم إكرام لهذه الجبهة ولبقية اﻷعضاء إذا أردت أن تكرمها في الدنيا ثم في اﻵخرة.
وأصِلُ ما بين اﻷولى والرابعة:
اﻷولى ذكرت لكم ما يتعلق بالصلاة في سورة العلم بالله ( اقرأ ) وفي آخرها -آخر اﻷركان اﻷربعة- قلنا لكم بأن هذا الركن هو ركن الخلق الجميل (ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) وفيها أيضا آيات السجود والصلاة. فهذا ماهو موجود في أول هذه السور وهذا ماهو موجود في آخرها . وأما في المدثر فأين ذكرت الصلاة؟ لم يكن مصليا ولذلك قال ابن عاشور - وانتبهوا لهذا - قال ابن عاشور في تفسيره لهذه اﻵيات قال: " والله عز وجل نبه على أهمية الصلاة للداعية بذكر أمرين من شروطهما وهما تطهير الثياب وتكبيرة اﻹحرام فهذا هو ذكر الصلاة في سورة المدثر" - واضح - للداعية. وفي سورة المزمل كلها صلاة في صلاة.
ولذلك -أحبتي - كل من أراد أن يعرف نفسه وهل تربية القرآن قد ربّته .. قد أدّبته .. قد هذّبته .. قد جمّلته .. قد أكملته فما عليه إﻻ أن ينظر إلى حاله في صلاته . أسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بما نقول ونسمع.
اللهم إنا نسألك يا كريم أن تربينا بكتابك العظيم
اللهم إنا نسألك من علمه ونوره وهدايته وتربيته وتزكيته
اللهم ﻻ تحرمنا ذلك بذنوبنا .. اللهم ﻻ تحرمنا ذلك بكثرة معاصينا .. اللهم إنا نسألك ذلك بجودك وفضلك وإحسانك يا أكرم اﻷكرمين .
اللهم إلهنا وموﻻنا املأ قلوبنا نورا بالقرآن واملأ جوارحنا وجوانحنا نورا من القرآن
اللهم نور به دنيانا .. ونور به أُخرانا .. اللهم نور به قبورنا .. اللهم نور به كل جارحة وجانحة فينا يارب العالمين.
واستغفر الله لي ولكم ثم أختم وأصلي على نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق