الأحد، 14 ديسمبر 2014

تفسير سورة الطور (٥-١٨) / د. رقية المحارب

د. رقية المحارب

 قال الله جل وعلا (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) والمقصود بالسقف المرفوع: السماء وسُميت سقفا ﻷنها في اﻷعلى ينظر إليها اﻹنسان من سُفل فيراها أعلاه فتكون سقفا، والله جل وعلا قال (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا) [سورة اﻷنبياء : 32] وقيل: (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) هو العرش.
/ وأما قول الله جل وعلا (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) فعلى معنى (سُجِرَ) يتبين معنى البحر المسجور، و(سُجِرَ) لها معان:
 أحدها: الملئ
 والثاني: الكف
 والثالث: اﻹيقاد.
 فمعنى (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) يعني البحر المملؤ ماء ﻻ ينقص.
أو(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) يعني المكفوف أن يطغى على الناس ولو طغى على الناس ﻷغرقهم لكن الله جل وعلا يكفه عنهم.
ذكر أيضاً أن معنى (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي المُوقَد من سَجرتُ النار إذا أوقدتها في التنور ومنه قوله جل وعلا (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) [سورة التكوير : 6] وقد ذكر بعض أهل التفسير المُعاصر من علماء الجولوجياء والبحار وغيرهم أنه يوجد نيران في البحر وصوروها وقالوا أنه يوجد نيران في البحر وأن هذه النيران ﻻ تنطفئ بالبحر من شدة لهيبها فهي مشتعلة ملتهبة تفور من اﻷرض فورانا شديدا فلا هي تعدو -بفورانها واشتعالها- ﻻ هي تعدو إلى إحراق اﻷرض فلا البحر يمنعها ولا البحر أيضا يطفؤها ولعل ذلك يتقارب مع النفس الذي تتنفسه اﻷرض فهي تتنفس تحت البحر بتلك النيران التي ﻻ يعلمها إﻻ الله جل وعلا ويمكن لو بحثتم في هذا ستجدون عدد من الصور والفيديو لهذه النيران التي تكون تحت البحر والله أعلم بذلك. وعلى كل حال قد يكون المُقسم به هذا وهذا وهذا والله أعلم.
/ هذا بالنسبة للقسم أما المُقسم عليه فما هو يا ترى؟ (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ) هؤلاء الذين كذّبوا عذاب الله جل وعلا، هؤﻻء الذين لم يعتنوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وأعلمهم إياه إن عذاب الله جل وعلا حق وأنه واقع هم يكذبونه وهو واقع بهم حتما ﻻ يملكون له دفعا ﻻ يدفعه أحد وهذا إما أن يكون معناه أو على معنيين:
المعنى اﻷول: العذاب الواقع على اﻹنسان بخاصة نفسه. والعذاب الواقع عليه بعامة. يعني تهديد الله جل وعلا لمن عاند وكذب أن الله جل وعلا يوقع عليه العذاب . هذا العذاب اﻷول الذي هو عذاب الدنيا.
فالعذاب إما أن يكون عذاب الدنيا للخواص والعوام يعني خاصة اﻹنسان نفسه أو عامة أهل اﻷرض.
أو أن يكون (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ) يعني العذاب في اﻵخرة للمكذبين والمعاندين والكافرين فعذاب الله واقع ماله من دافع .
والذي تدل عليه اﻵية -والله أعلم- الثاني ﻷن الله جل وعلا قال (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا*وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا) فهذا معناه أن هذا العذاب في اﻵخرة.
وهو قسم على حقيقة التي أقسم الله جل وعلا عليها لما سمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان خرج  يعِسُّ المدينة ذات ليلة فمر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائما يصلي فوقف يستمع قراءته .
عمر بن الخطاب كان يَعِسّ وكان يستمع أحياناً للأصوات التي تخرج من بيوتات أهلها يستمع الذي يقرأ والذي ماذا عليه لو كان يشرب، لو كان عنده شبهة، لو كان مريض لو كان له حاجة لو كان كذا فيستمع. فسمع الرجل يصلي ولما سمع قراءته شدته القراءة فنزل عن حماره فإذا به يقرأ ( وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ) إلى أن بلغ (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) قال: "قسم ورب الكعبة حق" فنزل عن حماره واستند إلى حائط  فمكث ملياً لم يستطع أن يقف ولا أن يتحرك ﻷن المعاني العظيمة التي سكبتها تلك اﻵيات في قلبه وفي روحه لم يستطع أن يتحرك تلك اللحظة نزلت منه منزل التأثير العظيم البليغ فحينئذ مكث مليا ﻻ يستطيع أن يقوم من مكانه ثم رجع إلى منزله فمكث شهرا يُعاد -يعوده الناس مريض- ﻻ يدرون ما مرضه لكن مرضه كان بسبب سماعه تلك السورة.
ولو تساءلنا قلنا: يعني عمر بن الخطاب في تلك اللحظة استمع لهذه السورة كم مرة؟ تُليت من النبي صلى الله عليه وسلم وسمِعها من أبي بكر وقرأها في صلواته فلماذا تأثر في تلك اللحظة؟ هذا يدلك على أن اﻹنسان أحياناً الله سبحانه وتعالى يفتح على قلبه فيصطبغ بآيات أو سور فيتأثر بها تأثرا بالغا وما يستطيع أن يتجاوزها فمثل هذا يُقال له إذا قرأت وانسكبت في نفسك معان بالقرآن فلا تبرح اجلس، استمع لهاتف اﻵية هذه ماذا يقول لك، استمع لمعانيها ﻷنها تمتد بمعاني طويلة...عريضة في النفس...في الروح، هذه المعاني في النفس وفي الروح تجعلك تشرق إشراقات أحياناً اﻹنسان من هذه اﻹشراقات يخشى على نفسه  ...يخشى على عقله والله جل وعلا يقول (لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) [سورة الحشر : 21] فما الذي يا ترى يحول بيننا وبين هذه الإشراقات؟ لماذا لا نشعر بهذه الإشراقات دائما وأبدا؟! 
لاشك أن هناك موانع للإشراقات هذه
 - من هذه الموانع : الغفلة
 - من هذه الموانع : الشبع
- من هذه الموانع : الذنوب
 رأيت الذنوب تُميت القلوب ** وقد يُورث الذل إدمانها
- من هذه الموانع : ظلم الناس، الإنسان إذا ظلم أحدا امتنع قلبه من الإشراق
 - من هذه الموانع : أكل الربا ، أكل الشُبهات من الطعام والشراب والأموال ولذلك جاء في الحديث: يُطيل السفر أشعث أغبر يقول يارب يارب فأنى يُستجاب له مطعمه حرام ... مشربه حرام ... وغُذي بالحرام فأنى يُستجاب له. فهذه من الموانع.
- من الموانع أيضا : ملئ القلب على الآخرين، فإذا امتلأ قلبه على الناس بالحسد والعتب والملامة، كل هذا يمنع القلب.الآن أنتِ إذا وقفتي تُصلين وقلبك مليء على واحدة من الناس ألا يمنعُكِ هذا من التفكُّر والتذكُّر والتدبر؟
- من الموانع أيضا : الإرفاه والترف لأن الله عز وجل قال ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ﴾ [سورة العلق: ٦-٧ ].
هذه جملة من الموانع ما الذي يُبدد هذه الموانع ويُزيلها؟
هي مثل الطبقات على القلب، هذه الطبقات على القلب كلما كثُرت كلما رانت لذلك يقول الله جل وعلا ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴾ [سورة المطففين: ١٤-١٥] لأنهم حُجِبوا في الدنيا عن كلام الله جل وعلا كذلك يُحجبون يوم القيامة عن الله جل وعلا.
فهي تتجمع هذه وهذه وتلك وتلك فتتراكم حتى تمنع هذا القلب من الإشراق، فما الذي يا ترى يجعل هذا القلب يرجع لإشراقه؟
أمور أذكر بعضا منها ليس على باب الحصر ولكني أذكرها للتذكير.
من هذه الدوافع لهذه الموانع التي تُزيل هذه الموانع وتبددها :
أولها: العلم، فإن العلم يُنير القلوب، يُورث لذة في القلب ويُورث إشراقة وليس المقصود بالعلم أي علم إنما العلم الشرعي الذي يُطلب لله، ليس أي علم شرعي لأن فيه علم، قد يقول قائل والله نحن ندرُس علم شرعي صباحا ومساء لكن لا نرى قلوبنا أشرقت؟! هذه القلوب الحقيقة لم تشرق بالعلم الشرعي لأنها ما طلبته لله، إذا طلبته لله أشرقت به فلابد أن يُحرر الإنسان طلبه هذا لِمَ ... فإذا طلبه لله جل وعلا ولو مرة واحدة جاءه إمتداد -إشراقة- هذا الطلب ليومه كله، فكلما جلس الإنسان على هذا العلم لما أشرق أكثر وأكثر. والجلوس للعلم يكون مع الوحي وقد يتهيأ للإنسان ويُخيل إليه أنه يطلب العلم لأنه يقرأ كتب شرعية لكن في الحقيقة قد لا تكون لها تلك الإشراقات لأنها كتب فلسفية -مثلا- أو كتب فيها خوض فيما لا طائل من ورائه ولا نفع له فلا تُعطي دوافع للموانع وإنما يتسلى بها الإنسان تسليا . فكلما كان الإنسان مع العلم الشرعي المُشرق بالروح الذي هو القرآن والسنة كلما أشرقت روحه واستنار قلبه وكان محِلا قابلا لكلام الله جل وعلا، ولذلك تُلاحظين أن قلبك أول ما يبدأ رمضان يكون القلب يستثقِل قليلا ثم تبدأ الآيات تنسكب وتنسكب حتى إذا وصل العشر الأواخر زاد التعلُق أكثر وأكثر بدأ يمكن أن يعتكف، يُصلي أول الليل ويصلي آخره لماذا؟ لأن القلب أقبل وأشرق، والعجيب أن القلب كلما أشرق بالقرآن كلما أحبه وأنِس به ولم يملَّه، وحينما يُشرق القلب بالقرآن ينبغي للإنسان أن يُقبل ما أقبل قلبه، ما دام قلبكِ مُشرق لا تتركي القرآن أبدا .. لا تنصرفي عنه، لا تنصرفي عنه حتى  يقفل القلب .. يمتلئ .. يملّ، وهذا معنى ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (اقرؤا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فإن اختلفتم فقوموا ودعُوه) وهذا معنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم (إن الله لا يملّ حتى تملُّوا) فلا يُريد ألإنسان أن يصل إلى المَلال وإنما مادام قلبه مُشرقا فيأخذ من إشراقات الآيات ما يفتح الله قلبه عليه.
/ كذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من دوافع موانع إشراقات القلب فكلما جالس الإنسان النبيّ صلى الله عليه وسلم كلما أشرقت روحه وحيا قلبه ولذلك قد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجالسونه ولا يملُّون من مُجالسته يُحدثُهم، وترى هناك أحاديث كثيرة ما بلغتنا، كثير منها -الله أعلم- ما بلغنا إلا ما به نفع لنا ، الله جل وعلا حفظ هذه السنة ووصلنا منها ماهو نافع لنا .
 قد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حدّثهم ما يكون بين يدي الساعة وذكروا منه ما ذكروا ونسوا منه ما نسوا، وأخبرهم أخبارا كثيرة حفظوا منها -بعضا منها- يعني أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لازم النبي صلى الله عليه وسلم ، كم لازمه؟ الملازمة المروية المثبتة من أول الإسلام إلى أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم، كم روى من الأحاديث؟ قليل.
 أبو هريرة كم لازم النبي صلى الله عليه وسلم؟ أربع سنين، كم روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ من أكثر المُكثرين أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يعني لو أن أبا بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه روى كما روى أبو هريرة -أقصد- روى كل ما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، اقسمي مُكث النبيّ صلى الله عليه وسلم على أربعة ثم اضربي الناتج في مرويات أبي هريرة ستجدين أن العدد يفوق ثلاثين ألف حديث. هذا وأبو بكر الصديق رضي الله عنه لزِم النبي صلى الله عليه وسلم مُلازمة لم يلازمه إياها أبو هريرة، لا نعُدّ السنين فلو عددنا السنين لكنا مُجحفين في حق أبي بكر لأن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه كان يُصبح مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من الفجر ويُمسي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الليل، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسمُر مع أبي بكر الصديق إلى مُنتصف الليل وأكثر من ذلك يتباحثون في شأن الإسلام وفي شأن الأمة، بينما أبو هريرة من أهل الصُفّة، وأهل الصُفّة لا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم متى شاؤوا يعني هم لا يرون النبيّ صلى الله عليه وسلم كما يراه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه كان يُجالس النبيّ صلى الله عليه وسلم بل كان في بيت عائشة رضي الله عنها كانت تُجالس النبي صلى الله عليه وسلم كم روت عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ روت الكثير من الأحاديث وهي من المُكثرين. المُكثرون من رواية الأحاديث أحد عشر مُكثرا من رواية الحديث منهم عائشة رضي الله تعالى عنها وقد تزوجت النبيّ صلى الله عليه وسلم ودخل بها وعمرها تسع سنوات وتُوفي عنها وعمرها تسعة عشر عاما ففي هذه التسع سنوات كم روت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما كل شيء روته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. من النساء من كانت قبل عائشة رضي الله تعالى عنها زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم وما روت كما روت عائشة رضي الله تعالى عنها.
فالرواة عن رسول صلى الله عليه وسلم منهم من لم يروِ كل ما سمِع، كانوا يتحرجون أحيانا من الرواية وبعضهم مات ... وبعضهم .. إذا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا، حياته معهم كانوا يُسطِّرون كل شيء فيها حتى أن بعضهم يصِف عِمامته صلى الله عليه وسلم كيف طولها قالوا: كان له عمامتان عمامة قصيرة وعمامة طويلة، العمامة القصيرة سبعة أذرع والعِمامة الطويلة اثنا عشر ذراعا، هذه عِمامة النبيّ صلى الله عليه وسلم، يصِفون عمامة النبي  صلى الله عليه وسلم وأنه كان يلبس العمامة ويلبس تحتها القلنسوة ويلبس تحت القلنسوة الخمار -ترى الرجال لهم خمار- لا ليس كالشماغ ، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يلبس الخمار -مثل الطرحة تُلف- ثم يلبس عليها القلنسوة ثم يلبس عليها العمامة، ويصفون عمامته وأن لها ذؤابة ولها عذبة وأنه كان ربما يلبس العِمامة ويغرز طرف الذؤابة غرزا وكان مرة يُخرجها ... يعني وصف لعمامة النبيّ صلى الله عليه وسلم، هذه عِمامة فكيف كانوا دقيقين بل إن أكثر واحد وصف النبي صلى الله عليه وسلم لم يره إلا مرة، المرأة التي وصفت النبي صلى الله عليه وسلم وصفت رموشه وحواجبه وأنفه حتى مفاصله وأطراف يديه وأطراف رجليه وسيقانه -لم تدع شيئا- وهي أم معبد مرّ بها مرة واحدة ووصفته وصفا دقيقا يعني لو أن الذين معه وصفوه لصار عندنا كم هائل من أحاديث النبي الله صلى الله عليه وسلم.
الحاصل أنهم كانوا إذا جالسوا النبي صلى الله عليه وسلم تُشرق أرواحهم ويذكِّرهم بالجنة ويُذكِّرهم بالنار ويُذكرهم بالقرب من الله، فحديثه لذيذ ... جميل .. ممتع فكأن الجنة تحت أقدامهم وكأنهم يرونها بأعينهم فتُخبت قلوبهم فإذا انصرفوا إلى أهليهم قست القلوب وانشغلوا فيأتي الرجل فيقول: يارسول الله نكون عندك تُذكرنا الجنة والنار حتى كأنها رأي عين فإذا انصرفنا إلى أهلينا عافسنا الزوجات والضيعات والأولاد ونسينا كثيرا، قال: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما أنتم عليه عندي في مجالس الذِكر لصافحتكم الملائكة في الطُرقات وفي فُرُشكم ولكن ساعة وساعة. (١) القلوب تُقبل مرة وتُدبر مرة.
فمن الإشراقات مُجالسة النبي صلى الله عليه وسلم فأنى لنا إن فاتكم أن تروه بالعيون فلا يفوتكم وصفه ... هذا الحديث أخبار نبينا صلى الله عليه وسلم فلا يفوتكم وصفه، هذه شمائله كما قال الشافعي، فشمائله مكتوبة .. منقولة، البخاري يقول حدثنا وابن أبي شيبة يقول حدثنا وقتادة يقول حدثنا كل واحد يروي عن الثاني فهذا ابن عمر يروي ويأخذ عن ابن عمر نافع ويأخذ عن نافع مالك ويأخذ عن مالك جملة من الناس ثم تنتشر الأحاديث في الآفاق. فكيف يصِح للإنسان أن يُجالس نبيه صلى الله عليه وسلم؟
يسمع حديثه .. يُصغي لحديثه، كانوا يستمعون إلى حديثه بالجملة يعني كان الواحد منهم يجلس يسمع حديث رسول الله أو يُتلى عليه فيستمع إلى أمثال صحيح البخاري -الذي هو سبعة آلآف حديث- يستمع إليه في خمسة أيام وآخر في ثلاثة أيام وآخر في عشرة أيام ، يسمعون هذا الحديث يُتلى، قال صلى الله عليه وسلم، سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنك وأنتِ جالسة مع هذا الحديث كأنك جالسة مع الصحابة تسمعين هذا الحديث شرط أن تكوني راغبة في سماع هذه السيرة العطرة ، هذا لاشك أنها تُشرِق به الأرواح.
/ ومما تُشرق به الأرواح أيضا: الصدقة فإن العبد إذا تصدق بصدقة أشرقت لها روحه.
/ ومما تُشرق به الأرواح أيضا: البِر فإذا وصل الإنسان وبرَّ أصحاب الحق كالوالدين والإخوان والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات، الرَّحِم إذا وصلهم انتفع بذلك شرط أن تكون الصلة لله، لا تكون صلة مكافأة ولا -لا يتشرهون علينا- تكون الصلة لله لها إشراق في النفس.
/ ومِما يزيد القلب إشراقا الذِّكر فإذا ذكر العبد ربه وأكثر أشرق لذلك قلبه.
/ ومِما يزيد القلب إشراقا كثرة الاستغفار وجاء في حديث فيه نظر (من لزِم الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجا ومن كل ضِيق مخرجا) وجاء في حديث مثله أيضا (من شغله القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أُعطي السائلين) وهذه أحاديث معلولة وفيها نظر لكن في مثل هذه كانوا يترخصون في روايتها لأن هذه فضائل الأعمال .الحاصل أن كل هذا مِما تُشرق به الأرواح.
/ ومِما تُشرق به الأرواح مُدارسة القرآن والمُجالسة فيه ولذلك قال الصحابي لأخيه "اجلس بنا نؤمن ساعة" هم مؤمنون أصلا لكن لماذا يقول نؤمن ساعة؟ لأنه يقصد بذلك تُشرق أرواحنا بالإيمان فنزداد إيمانا إلى إيماننا ‎{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} والإيمان لاشك يزيد وينقص يقول الإمام البخاري: أدركت أكثر من ألف من العلماء من مشايخنا يقولون الإيمان يزيد وينقص، الإيمان يزيد بالطاعة وينقُص بالمعصية ولاشك.
/ مِن الذي يزيد أيضا الإشراق: الطاعات فإن الطاعات تزيد إشراق القلب والمعاصي تزيد ظُلمته وكلما كان القلب مُرهفا رقيقا كلما كان حساسا للظُلمة والإشراق، كلما كان القلب حساس ومُرهف كلما كان أكثر حساسية للأمور ولو كانت صغيرة تؤثر فيه .
يقول الإمام النووي -رحمه الله- وهو كان علما من أعلام الحديث -الإمام النووي المعروف- صاحب رياض الصالحين والأربعين النووية والمجموع والروضة والمِنهاج.. عدد من الكتب. يُحدث عن نفسه .. يذكر عن نفسه في كتاب ابن العطار عنه "أنه كان يحبّ الطب فدخل مرة واشترى كتاب القانون لابن سيناء، يقول: فأظلم قلبي". ليس معنى هذا أن الذي يدرس الطب يُظلِم قلبه ولكن إذا كان صاحب عِلمٍ بالسُّنة وإقبال عليها فإن أي شُغُل بغيرها يجعل الإنسان يستوحش من هذا الشُغل، لماذا؟
لرِقة قلبه ورهافته ولذلك تجدين بعض أهل العِلم يستوحش من الأحاديث ولو كانت أخبار، وبعض الناس تجدينه مع الأخبار دائما فتجدينه وإن كانت هذه أخبار صحيحة، يتتبع أخبار من هنا وهناك ويسير ما يلزم أن يعيش مع هذه الأخبار ليلا ونهارا ، لا يلزم، لكنه لو عاش مع السنة ليلا ونهارا صارت تلك الأخبار يعني يكفيه منها -كما يُقال- كالملح في الطعام، هذه الأخبار في الحقيقة تتجدد وتتكرر كل يوم ولا تنفع صاحبها شيئا لأنها إما أنها فوات -قد فاتت- وخاصّة أخبارنا التي تُعنى بقاطرتين اصطدمتا في الصين، وبرج سقط في أمريكا الجنوبية، نحن ما دخلنا بهذا!! تصطدم في الصين أو تسقط في أمريكا الجنوبية، دعيهم يخبرون بأخبارهم لكن أنتِ لا تضيعي وقتك فيها لأنها أخبار تتكرر، أحيانا بعض الناس -مثلا- يُشغف بقراءة أخبار البداية والنهاية، اقرئي أخبار البداية والنهاية إن كان ستأخذينها للعِبرة فخذي منها شيئا يسيرا، لا تعيشي معها بطول لأنها أحيانا فيها أشياء لا فائدة منها تُرجى أو تُذكر، التاريخ إذا قُرئ للعبرة .. الاعتبار به وأخذ الدروس منه فإذا أنتِ ستقرئين هذا التاريخ وتضعين دروسا تنتفعين بها -أهلا وسهلا- أما إن كانت أخبار للتسالي -وهذا جُلّ علوم الناس اليوم- خاصة مع انتشار الواتس أب والتويتر و...و...الخ كلها أخبار ليس لها فائدة للقارئ، قد تكون لها فائدة لصاحبها، قد تكون لها فائدة لكثير من الناس لكن أنت يا من تبحث عنها لا فائدة لك منها ولذلك هي تُشغِل عن الطلب وهذا مما استعاذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (أعوذ بك من عِلم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع ومن نفس لا تشبع أعوذ بك اللهم من هذه الأربع) فالعلم الذي لا ينفع هو هذا، ليس معناه العلم الذي لاينفع بعض الناس يقول العلم الذي لا ينفع هو السّحر والكهانة وكذا، والحقيقة أن هذا ليس علم لا ينفع، هذا علم يضر صاحبه، العلم الذي لا ينفع دون ذلك، العلم الذي لا ينفع هو الأخبار التي ليس لها فائدة ولا طائل للإنسان من ورائها .
/ مما تُشرق به النفس -أيضا- بعد مُجالسة الصالحين: خدمة الناس أهل الحاجة لأنهم إذا خدمهم الإنسان دعو له فرُب دعوة تخرُج من قلوبهم تُستجاب تنفع المدعو له أكثر مِما ينفعه عمله أو دعاؤه.
/ ومِما تشرق له الأرواح -واجعل هذا آخرا- وإن كان هناك الكثير مما تُشرق به الأرواح لكني أطلت عن التفسير .
حُسن المناجاة مع رب الأرباب ودفق العبرات عندها ونفث الزفرات بين يدي الله -جل وعلا- والإنسان ساجد ولاسيما إذا كانت في الليل البهيم ولا يراه أحد فإن لها إشراقة في القلب لا يعلمها إلا أصحابها .
فإذا أشرقت الروح حينئذ فإن الإنسان يكون له من النور ما يتفهّم به القرآن ويتأثر به وينتفع به أيّما نفع وهذا الذي جعل عمر يستند إلى الحائط ويجلس يُفكِر مليا ثم يمرض لذلك ويجلس عليه يُعاد شهرا .
/ قال الله -جل وعلا - (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا* وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا) (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ*يَوْمَ) متى؟ 
يوم القيامة هذا اليوم الذي تمور السماء فيه مورا وترين مشهد السماء الثابتة وهي تمور بقوة وتضطرب وتتقلب كما يتقلب الموج .
ومعنى المور: يعني التحرك في استدارة -كما قاله ابن جرير- قال المور: التحرُك في استدارة تقلُب يعني
 كأن مشيتها من بيت جارتها ** مور السحابة لا ريث ولا عجلُ
يعني بالهون ولكن مع استدارة. هكذا سيكون حال السماء .
- ( وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ) الجبال المُعتاد أنها ثابتة وراسية كيف تسير!! تتحرك الجبال، يُسيّرها الله -جل وعلا- فيُسيّرها، تخيلي أنها تسير بل لا تسير وهي جبال بل تكون كالعهن تكون مثل القطن إذا نُفِش وتكون خفيفة، ولا تكون خفيفة وثابتة بل تتطاير، تخيلي لما ترين الجبال تصبح خفيفة تتطاير (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا) يعني الأرض (قَاعًا صَفْصَفًا*لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلآَ أَمْتاً) فهذا سيكون حال السماء وحال الجبال فحينئذٍ يقول الله (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) هؤلاء الذين كذبوا بالله وكذبوا برسله واستهزؤه واستنقصوه وقال مجنون وقالوا ازدُجر وقالوا شاعر وقالوا مسحور.هم مُتناقضون -في الحقيقة- مره يقولون مسحور ومرة يقولون ساحر ، عُمر الساحر يصير مسحور!! يا ساحر .. يا مسحور.
مرة يقولون نريد من لا يأكل، ما هذا الرسول الذي يأكل (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) [الفرقان:٧] ومرة أخرى يقولون (وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ..) الآيات قال الله -جل وعلا- (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا) الآن بالأمس كانوا يقولون لماذا يأكل واليوم يريدونه يأكل!! متناقضون لا يدرون ماذا يقولون لِمَ؟ لأنه ليس عندهم منطق صحيح لو كان عندهم منطق صحيح لكفتهم حُجّة واحدة لكن لأنهم ليس عندهم منطِق صحيح فكل الحُجج لا تنفع معهم ، ولذلك الله -سبحانه وتعالى- يقول لهم حتى لو أنهم رأوا الحقائق لن يُصدقوا بها حتى لو رأوها، حتى لو جاءهم ما يريدون لن يؤمنوا فلذلك لا ينفع معهم هؤلاء إلا التهديد والوعيد.
والتهديد هذا له فائدتان: 
/ فائدة للمُرسَل فإنه إذا علِم أن الذي أرسل هدد وتوعّد اطمأن قلبه. الآن أنتِ -ولله المثل الأعلى- إذا جاءكِ ولدكِ يبكي وقال لكِ فلان ضربني، إذا قلتي له -وش عاد، وش يصير؟ مسكين سيُحبط، لكن لو قلتي -أوريك فيه يا ويله مني- فإنه يرتاح ويسكت.
الله -جل وعلا- يُهدد فيقول (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ* الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ) من الذي يأنس بهذا التهديد؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- المُرسَل، يأنس ويرتاح.
/ كذلك فيه نفع بالتهديد هذا لأولئك المُهددين فإنهم يرتعدون حتى إنهم كانوا إذا سمِعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يتكلم يضعون يدهم على فمه من شدة خوفهم، فهم مع تكذيبهم يخافون أن يدعو عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيُستفاد من ذلك أيضا أن فيه تهديد ووعيد ولو كانوا يُكذبون ولو كانوا يُعاندون فإنهم يعلمون حقيقة هذا الأمر وحقيقة القرآن.
هؤلاء وصفهم الله -سبحانه وتعالى- بوصف قال (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) السبب في أنهم يُكذبون أنهم يؤثرون اللعب ويخوضونه وإلا فلو كانوا يبحثون عن الحقيقة ويريدون نجاة أنفسهم فإنهم سيصلون إلى هذه الحقيقة وسيعتنقونها لكن الذي يمنعهم من اعتناق هذه الحقيقة هو أنهم في خوض يتخرصون في هذا الدين يتبعون التخرص ويُتبعون أنفسهم الأماني ويلعبون واتخذوا دينهم لهوا ولعبا ... هزوا ولعبا اتخذوه سُخرية فلهم الويل والثبور والله -جل وعلا- يُنزِل عقابه بهم وهو نازل لاشك، لا محالة فيه.
متى هذا اليوم؟
يقول الله -جل وعلا- (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) والدَّعُ هو: الدفع بقوة وشدة وعُنف حتى إذا دُفِع الإنسان فيها بُوغِت بالحقيقة كأنها تلطُمُه فيُقال له (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) أنتم كنتم تكذبون بها وكنتم تسخرون منها وتسخرون مِمن هددكم بها فهذه هي الحقيقة، هذه هي النار التي كنتم بها تكذبون. يقول الله -جل وعلا- (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ) هذه النار ترونها الآن أمامكم وتُشاهدونها ليست مُشاهدة وإنما حقيقة وليست حقيقة فحسب وإنما حقيقة مُصطلاة تصطلون بها وتدخلونها لا يُنقذكزأحد منها ولا يدفعها عنكم أحد ولا يشفع لكم أحد فتخرجوا منها .
ويُقرِعهم الله -سبحانه وتعالى- فيقول (أَفَسِحْرٌ هَذَا) ويُعيد لهم الكلمة التي كانوا يقولونها يقولون سِحر، يقول (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ) هل هذه سِحِر الآن حينما دخلتموها ولجتم لها (اصْلَوْهَا) ادخلوها ما قال ادخلوها هنا قال (اصْلَوْهَا) مع أنه جاء في بعض الآيات (ادخلوا نار جهنم) ولكن هنا قال (اصْلَوْهَا) ادخلوها دخول اصطلاء بنارها الشديدة (فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا) سواء صبرتم أم لم تصبروا (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) فهذا الجزاء الذي تُجزون به من جنس عملكم الذي عملتوه فقد عملتم أعمالا شنيعة، كفرتم بالله ربكم وكذبتم برسُله وعاندتموهم وعذبتم عباد الله -جل وعلا- الذين يدعونكم إلى البِرّ ويدعونكم إلى الخير ولم تُطيعوا أمر الناصحين ولم تُحسِنوا وتُصلِحوا في الأرض بل كنتم من المفسدين إذا فهذا جزاؤكم اصلوه واصبروا عليه أو لا تصبروا عليه فإنه لن يُغيّر هذا في عذابكم شيئا فهو عذاب لا مخرج لكم منه، لا محيص لكم عنه، لا محيد لكم ولا خلاص لكم من هذه النار التي تُزجُّون فيها وتُدعُّون فيها دعّا شديدا (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لا يظلمكم الله -جل وعلا- مثقال ذرة بل يُجازيكم بما يُجازي به المُفسدين. وكلٌ يدخل النار ممن كان من أهلها فالنار له على قَدره. يعني الآن لو أنك وضعتي -مثلا- قِدرا ملتهبا وأدخلتي فيها -مثلا- دجاج، كل الدجاج سيستوي بنفس الطريقة، كله سيصطلي بنفس الطريقة. لكن النار تختلف، النار ليست مثل نار الدنيا، النار فيها لهيب، فيها حجارة، فيها ثعابين، فيها عقارب، فيها همّ، فيها غمّ، فيها صديد، فيها حُزن، فيها صُراخ وعويل، كل هذا جاء في وصف جهنم أسأل الله أن يُجيرنا منها وأن يُعيذنا منها ووالدينا وأهلينا أجمعين وألا يجعل فينا شقيا ولا محروما لا منا ولا من أهلينا ولا مِمن أحببناهم .. اللهم آمين.
فهؤلاء يدخلون النار يكون لهم من العذاب في النار على مثل أعمالهم فهذا مثلا يحبس زكاة غنمه تأتيه الغنمة أسمن ما تكون ويُبطح في النار وتمُرّ هذه الغنم واحدة .. واحدة تطؤه في بطنه وتدوسه فإذا انتهى آخرها رجع أولها، وإن كانت بقرا جاءت البقر أسمن ما تكون ويُبطح وتمشي عليه، وإن كانت بعيرا جاءت لها رُغاء ومثلها تدوسه حتى ينتهي آخرها فتعود من أولها .
وإن كان يأكل الربا فإن له عذاب أهل الربا، وإن كان -مثلا- يكذِب فيأتيه جزاء الكذب، جزاء الكذِب أنه يُشرشر بالمنشار شرشرة من أول شِدقه إلى آخره ثم الآخر فإذا انتهى من الآخر عاد الأول كما كان ثم أُخذ الأول وهكذا هذا عذابه خالدا مُخلدا على قدرِه حتى إن كان من المسلمين، إن كان من المسلمين فإن الله -جل وعلا- يأخذ منه على قدرِ ذنوبه تلك ثم يُطهّر ويعود إلى الجنة ينعم فيها لكن كم يمكث في النار؟ الله أعلم، قد يمكث فيها عصرا، قد يمكث فيها دهرا وقد يمكث فيها يوما، وقد يمكث أكثر من ذلك أو أقل.
 وبعد هذا العذاب وهذا الشقاء وهذا التهويل يأتي الخطاب بنسقٍ آخر لصورة أخرى تُريح النفوس تُشعر الإنسان بأن هناك طمأنينة وركون إلى الله -جل وعلا- لهؤلاء الذين كابدوا الليل سهرا وعبادة وأولئك الذين لا ينامون إلا وقد قاموا للصلاة، لا ينامون إلا وقد قاموا للعبادة بجميع أنواعها يصومون نهارهم ويحبسون أنفسهم، هذا أحبته نفوسهم ومنعوا نفوسهم منه لأنه حرام، وهذا تركوه لأنه شُبهة، وهذا ابتعدوا عنه لأنه...، وهذا إنسان ذمهم وصبروا وحبسوا أنفسهم عن مُجازاته لأنهم يريدون ما عند الله فهم يتقون بذلك كل ما نُهُوا عنه ويتحينون الأعمال الصالحة يعملونها فهؤلاء يُسمّون المتقين وهؤلاء يقول الله فيهم
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) فهؤلاء أهل التقوى الذين يحشرهم الرحمن إليه وفدا، هؤلاء ضد أولئك من أهل العذاب والنكال هؤلاء في جنات لا يعلمها إلا الله -جل وعلا- ونعيم لا يعلمه إلا الله -جل وعلا- لو أن واحدة من أهل النعيم أطلّت على الدنيا لأضاءتها من إشراقة وجهها، لو أن واحدة أُلقي خمارها -نصِيفها- هنا في الدنيا لملأها عِطرا وطيبا هذه يُرى مُخ ساقها من وراء ثوبها من جمالها، هذه حور ما يمكن أن يتخيلها الإنسان لأن لها من الجمال وفيها من النعيم مالا يتخيله الإنسان ، مالا عين رأت ولا أُذن سمِعت ولا خطر على قلب بشر، جنات عرضها السموات والأرض ماذا أقول فيها وقد كررنا الكلام فيها وتكلمنا عن نعيم الجنة بما يكفي مع ذلك يتكرر على النفوس لأن النفوس تتوق وتطرب لمثل هذا وتشتاق إليه وتتمنى الوصول إليه وتستسهل الصعب في سبيل الوصول إليه.
الآن يا أخواتي الكريمات لو أنكِ جلستي في الشمس وعلى بُعد عشرين متر أو ثلاثين متر نعيم -مُكيف وراحة وفاكهة وطعام وسرير وثير - تجلسين في الشمس أم تتحملين تمشين حتى تصلين؟! طيب لو كنتِ في الحر لكن في ظل وبينك وبين هذا النعيم الذي ذكرناه شمس حارّه تقولين سأتحمل وأتصبر وأمشي حتى أصل إلى نعيم أحسن من الذي أنا أجلس فيه، وهكذا أيضا الإنسان الذي في الدنيا إذا علِم ما عند الله -جل وعلا- حتى لو كان في نعيم في الدنيا تتوق نفسه لنعيم الآخرة، نعيم الجنة لذلك يمنع نفسه من الطعام والشراب من أجل الله -جل وعلا- فيصوم ، ويمنع نفسه من الرُقاد على الفراش الوثير فيقوم ويُصلي، ويمنع نفسه من حبه لماله وشهوته له ويتصدق بشيء منه والله -جل وعلا- وصف أولئك بقوله (فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ) ما فيه أحسن من هذا الوصف قال الله -جل وعلا-  (فَاكِهِينَ) فاكه يعني: مسرور يعني مُتفكِّه يأكل الفاكهة مثلا، أيضا فاكِه معناه أيضا: مُتنعِّم بأصناف النعيم من الملاّذ والمشارب فـ "فاكِه" هذه كلمة تصِف النعيم الجسدي -الحِسي- والنعيم النفسي ولذلك لا أحسن من هذا التعبير(فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ) مسرورون به  مُتنعِمون به ومعهم مع أنهم فاكهين هناك نعيم آخر وهو (وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) ما علاقة ذِكر الوقاية هنا من عذاب الجحيم مع النعيم يا تُرى؟ الإنسان إذا رأى النعيم ورأى نجاته من العذاب صار النعيم أكمل وأفضل وأحسن وتلذذ به. الآن حينما تكوني عطشانة عطش شديد ثم تأتين والماء بارد وتشربين أحسن وإلا أحسن لو تشربين ماء نصف بارد ثم يأتيك الماء الذي تشتهينه -البارد- ؟ لاشك أن الشرب على العطش أحسن...أهنأ...أحلى. كذلك إذا كنتِ صائمة وأكلتي أي شيء تجدين له طعم .. تُحبينه، لو كنتِ صائمة ولم يُقدم لكِ إلا تمر أكلتي من هذا التمر يمكن عشرين حبة بينما لو كان هذا التمر بين يدي الطعام ما أكلتي منه شيء، لأنه كان بعد صيام، ولذلك يُقال للمؤمن أول ما يُوضع في قبره ويُعْلَم بنعيمه يُرى مقعده من النار ويُقال هذا مقعدك من النار لو أنك عصيت الله ولكن قد أبدلك الله به بمقعدٍ في الجنة . نسأل الله أن يُقعدنا هذا المقعد في جنات النعيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.                        
___________________________________________
١-عن أبي ربعي حنظلة بن الربيع الأسدي قال لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال كيف أنت يا حنظلة قلت نافق حنظلة قال سبحان الله ما تقول قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا قال أبو بكر رضي الله عنه فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي العين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات. رواه مسلم .              



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق