الاثنين، 15 سبتمبر 2014

تفسير سورة السجدة / من دورة الأترجة

د.محمد بن عبد الله الخضيري

 لعلنا نبدأ بسورة السجدة وهذه السورة من السور المكية وورد في فضلها أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في البخاري- كان يقرأ هذه السورة عليه الصلاة والسلام فجر كل جمعة هي وسورة الإنسان وفي بعض الروايات يديم عليها عليه الصلاة والسلام.
 هذه السورة ما سبق من السور كان لها مسميات أو مسمى واحد لكن هذه السورة لها كثير من المسميات من أشهرها:
 سورة السجدة، وتسمى أيضاً (ألم تنزيل)، و(ألم تنزيل السجدة)، وتسمى (المُنجية) ومشهور أيضاً سورة المضاجع (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) ومن أضعفها ما جاء أنها تسمى سورة سجدة لقمان، فيها ضعف كما ذكر بعضهم.
 وجاء في فضلها أيضاً كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ السجدة ويقرأ تبارك وهذا الحديث صحّحه الشيخ الألباني وقال إسناده صحيح وإن كان في سنده ليث بن أبي سليم.
 هذه السورة نزلت بعد سورة النحل وهذه السورة أريد أن ننتبه كما قلنا في سورة لقمان الحكمة، هنا جاءت لمعالجة مسألة شدة إعراض المشركين لأن هذه مكية وتلك مكية ولكن تلك نزلت تعالج قضية دارت حولها وهذه جاءت لقضية شكهم في الكتاب وقولهم أن النبي افتراه فجاءت آيات السورة من أشد الآيات في خطاب المشركين وفي مقارعتهم ولذلك هم أشد الناس في الاعتراض جاءوا، جاءت الآيات تشير إلى صنفين من الناس: أشد الناس في المكابرة والعناد وجاءت الآيات شديدة في حقهم في عذابهم وعقابهم، وأيضاً جاء فيها المستجيبين (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا) فمنتهى الطاعة ومنتهى العصيان والتكذيب ذكرت الآيات هذين الصنفين.
 هناك قال الله عز وجل (الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)) هنا (الم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ) لأن العلاج لمسألة الكتاب (لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) انتبهوا لافتتاح هذه السورة.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) إذاً التركيز على تنزيل الكتاب والتنويه بشأنه ولأن جِماع ضلال من ضل هو التكذيب بهذا الكتاب فجاء التركيز على هذا، وفي لقمان جاءت مسألة الحكمة، ولذلك تختلف هذه السورة عن تلك. 
ومما ينبغي التأكيد عليه وأرجو الالتفات إليه هو أن هذا الثناء جاء في آخر السورة مشابه لهذه السورة يعني لاحظوا البداية هنا في هذه السورة قريب من البداية في سورة البقرة لكن هناك فرق يعني هنا قريبة قال الله عز وجل (الم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ) 
قال هناك (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ) وهنا قال (تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ) وزاد (مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) هناك (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ) ما جاء التنزيل ولا جاء أنه من رب العالمين وما بيّن مقولتهم لأن آيات البقرة نازلة للمؤمنين سورة مدنية هادئة، وهنا شديدة لأنها على أولئك المنكرين أشد الإنكار ولذلك قال المفسرون عند هذه الآية: وإنما عدل عن قوله (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ) في سورة البقرة لأنها مدنية نازلة بين المسلمين ومنهم من يُرجى إسلامهم من أهل الكتاب وأما هذه السورة فقد جاءت مجابهة للمشركين وهم أصلب عوداً وأشد إنكاراً ولذلك جاءت بهذه القوة ولذلك ولو قرأها أحد وتأملها نجد فيها قوة شديدة بل من أقوى السور المكية في التشنيع على الكافرين والمشركين.
 و(تَنزِيلُ الْكِتَابِ) جاء في أكثر من أية جاء 5 مرات في القرآن لم يأتِ نفي الريب إلا هنا فنفي الريب، يأتي الريب ولكن أكثر نفي الريب يأتي في مسألة شكهم في القيامة.
 قال الله عز وجل (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ) لماذا لا ريب فيه؟ لأن الذي نزل به أمّي وسيرته أنه صادق أليس كذلك؟ وما استطاعوا أن يأتوا بشيء من مثله. المُنزَل عليه أميّ ،وسيرته أنتم تعترفون بصدقه، ثم لم تستطيعوا أن تأتوا بمثله، ما استطعتم حتى بسورة من مثله، بعشر سور ولذلك لما تأتي كلمة الافتراء يأتي التحدي في مسألة المجيء فيه بشيء منه. إذاً هو معجز في تنزيله وفي آياته وفي أمره.
 قال عز وجل (تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) استخدام لفظ لفظ الربوبية هنا والألوهية جاءت مرة واحدة ومن الفوائد أن لفظ الربوبية يأتي في السور المكية أكثر ولفظ الألوهية يأتي في السور المدنية أكثر، يعني في سورة الأحزاب ورد لفظ الجلالة (الله) خمسون مرة أما هنا فورد مرة واحدة وهذا من بعض الأسرار التي تفاد من مقارنة الآيات وتفسير القرآن بالقرآن.
 والذين ارتابوا إما أنهم متعنتين في الارتياب أو جُهّال بما ارتابوا فيه (مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) إيحاء لعموم الشريعة ليس فقط ربكم بل رب العالمين.
 ثم بعد ذلك قال الله سبحانه وتعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)، (تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ) بيّن مقولتهم (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) ثم أعرض عن هذه المقولة  (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) (بَلْ) إبطال لما قالوه. (بَلْ هُوَ الْحَقُّ) هنا الضمير ثم الاستغراق يعني: الحق هو فقط وغيره باطل. (بَلْ هُوَ الْحَقُّ) حتى تردوا عليهم بقوة. (مِن رَّبِّكَ) لماذا من ربك؟ ما مناسبة ربك هنا؟ لأنهم قالوا افتراء، اتهموا النبي بالافتراء فتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم هو ربه ورب المؤمنين عموماً وربهم لكن خصّه بالربوبية تكريماً له وتطميناً وإبعاداً له عن شبهة ما قالوه أن النبي صلى الله عليه وسلم افتراه.
 (بَلْ هُوَ الْحَقُّ من ربّك لِتُنذِرَ قَوْمًا) الإنذار في القرآن ورد أكثر من التبشير، الإنذار هو الصيغة العامة هو الوظيفة العامة وإلا الإنذار والبشارة في القرآن -تأملوا في القرآن- تجدون كل آيات البشارة والنِذارة تبدأ البشارة قبل إلا في موطنين أو ثلاثة وإلا جُلّها أكثر من خمسين موطن تبدأ بالبشارة كأنها تشير إلى أن الأصل النذارة ولكن يُبدأ بالبشارة يعني الإنذار هو الاسم العام ويدخل فيه أيضاً التبشير والتنذير ووظيفة الداعي أن يبدأ بالتبشير قبل التنذير.
 قال الله سبحانه وتعالى (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ) من هؤلاء القوم الذين لم يأتهم نذير؟ قيل هم عرب مكة، وقيل عرب الحجاز، وقيل العرب العامّة -العرب العاربة والعرب المستعربة- على الاصطلاح المعروف وإن كان عليه ملاحظات لكن نقول العرب قحطانيين وعرب عدنانيين على كل الذين لم يأتهم لأن بعض العرب تهوّد وبعضهم تنصّر وبعضهم على ملّة إبراهيم، فقال الله سبحانه وتعالى (لِتُنذِرَ قَوْمَاً) كأن الآية تشير إلى أنهم كانوا هم أولى الناس بالعناية بك والإيمان والتصديق لأنه ما أتاهم من نذير من قبلك. قال الله عز وجل (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) لاحظوا -وسيأتينا إن شاء الله تفصيل ذلك- (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) وفي الآية بعد آيات (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) -ولعلنا نأتي لها في الدرس القادم- لنفصِّل في (لعلهم) لأنها مهمة بعض الأحيان قال الله عز وجل (وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ) [ الأعراف:164] ماذا قالوا (قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) إذاً بعض الأحيان (لعل) تكون مهمة (لعلهم يرجعون، يهتدون، يتقون) فالإنسان لا يملّ. وأيضاً سنتأمل -إن شاء الله- وننظر في أكثر (لعلهم) مثل ما قلنا في (أكثرهم) والأكثر وليس كثير سنأتي أيضاً للفائدة في مسألة (لعلهم) لكن بعد أن نأتي في مسألة الرجوع عندما قال الله (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
 (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) إذاً عرفنا الحق هو الحق الكامل الذي لا شك فيه فهو أكمل الحق (مِن رَّبِّكَ) قلنا سر لفظ الربوبية هنا لأن قبلها افتراء فتطميناً للنبي صلى الله عليه وسلم جاء السياق بهذه المثابة.
 (لِتُنذِرَ) قلنا أن الإنذار جاء في القرآن في مائةٍ وثلاثةٍ وعشرين موضع والبشارة في سبعةٍ وخمسين موضع كانت البشارة في جُلِّها متقدمة حال الإنذار يعني يبشِّر ثم يُنذر. قال الله عز وجل بعد ذلك (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ) المقصود: أنهم أحوج الناس للتدبر والتأمل.
 (لَعَلَّهُمْ) سأعطيكم فائدة مهمة هنا (لعلهم) و(لعلكم) في القرآن. و(لعلهم) تفيدنا كدعوة لنا، (لعلهم) في الغالب للكفار، و(لعلكم) للمؤمنين ويدخل أيضاً معهم الكفار، وأكثر ما جاءت (لعلهم يتذكرون) التذكّر أكثر شيء،(لعلهم) جاءت في 43 موضع ولكن جاء رُبعها في التذكر وإلا هي تسير في أكثر من 15 آية (لعلهم يتضرعون، يؤمنون، يتفكرون، يفقهون، يرشدون، يرجعون، يتقون) لكن أكثرها (يتذكرون) التذكر مهم قلنا الجهل أساس والغفلة أساس فاكتشفنا من خلال (لعلهم) و(أكثرهم) فائدتان:أن الجهل مشكلة والغفلة مشكلة.
 ويفاد من ذلك أن وظائف الإنذار جاءت كما قلت، أنت تنذر لماذا؟ إما يرجع أو يتقي أو يهتدي أو يتذكر أو يؤمن. خمسة عشر وظيفة ربما من أكثر هذه الوظائف التي لا تنسى التركيز عليها أنها ربما تؤتي ثمارها (التذكّر) لأنها هي الأكثر وجاء بعدها (الرجوع) وجاء بعدها (التقوى) ثم يأتي بعد ذلك في درجات متتالية. وهنا أيضاً تذكّرون.
 (الله) قلنا (الله) جاءت في الأحزاب وهي بعد هذه السورة خمسين مرة بينما جاءت مرة واحدة في هذه السورة، هي أقل سورة وقلنا في السور المكية كذلك قليلة، ما سر مجيء لفظ الله هنا؟ ننظر في سياقها، لأن فيه مسألة الألوهية وتوحيد الألوهية حضرت ولأن فيه الولي والشفيع فجاء ليُغلق هذا الباب. بل بُدأت هذه الآية -مع قليل من الآيات- يُبدأ خلق السماوات بها فقال الله عز وجل (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) مع خلق السموات والأرض يأتي لفظ الجلالة والموصول لتأكيد أن الله الخالق، تأكيد على مسألة الوحدانية والألوهية لله سبحانه وتعالى.
 (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) الستة أيام تأتي مع الاستواء على العرش -دائماً في الغالب- كما جاء في آية (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ) [ ق:38]. لا هنا لم تأتِ. 
(ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) إذاً خلق السماوات والأرض وما بينهما أنظروا جاءت (بينهما) لا تأتي مع (ما في) و(من في) جاءت هنا (وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ) هنا التوحيد لأن الله هو الذي خلق ما دام الله هو الذي خلق اتجهوا بالتوحيد له (مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ) ما الفرق بين الولي والشفيع؟ في القرآن يأتي وليّ وشفيع ويأتي وليّ ونصير، والولي والنصير أكثر، جاء الولي والشفيع في ثلاث آيات وجاء في سبع آيات الولي والنصير.
 (مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ) الولي هو: الذي يقوم بالأمر بنفسه. مثلاً -ولله المثل الأعلى- يقول أنا أتولى الأمر عنك، يعني هؤلاء الذين يشركون بعضهم مُغالي في الشرك يجعل الأمر كله في يد السيد وبيد الولي، وبعضهم لا، يطلب منه الشفاعة، والبعض يطلب الجاه، فالمشركون هم مختلفون في شركهم، فالله سبحانه قطع هذا الباب لا ولي ولا شفيع، الشفيع يعني يضم صوته لصوتك، أنت صوتك ضعيف يضم صوتك له عند الله عز وجل الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ثم استوى على العرش، هذا الكون الواسع (مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) ثم لاحظوا السر فالآية بعض الأحيان تفهم من سياقها يا سِباقها أو لِحاقها يعني لماذا جاءت (مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ) (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)؟ لأن بعض الجُهّال قد يحسب -بجهله- أن الله عز وجل الذي له هذا الخلق العظيم وهذا التدبير من السماء إلى الأرض أن لأحد فيه شرك فجاءت هذه الآيات لتقطع هذا الأمر وتبعد هذا الظنّ.
 إذاً (مَا لَكُم مِّن دُونِهِ) أيضاً لاحظوا (مَا لَكُم مِّن دُونِهِ) قال  (من) الأن أيهما أبلغ تقول: ما جاء أحد في الدار أو ما جاء من أحد؟ لما تقول من أحد يعني كأنه كائناً ما كان لم يأتِ أحد فتنفيه فقال الله عز وجل (مَا لَكُم مِّن دُونِهِ) لتأكيد النفي وعرفنا الولي والشفيع وأيضاً النصير قريب من الشفيع وإن كان أعلى درجة من الشفيع. أعلاهم الوليّ، فالولي يتولى وهو مُشارك كأنه مشارك -في تصورهم- مع الله. والشفيع والنصير يدخل يشفع. فقال الله عز وجل لا ولي ولا شفيع ولا نصير وفيها ارتباط بقوله (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ) تأملوا التوحيد في هذه الآية، آية عجيبة! (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء) أي من الله ثم وصل إلى الأرض ثم يعرج إليه، يدبر الأمر من السماء منه – إلى - إليه ليس هناك أحد لما يطلع الأمر من السماء مدبّر. ولاحظوا أيضاً كلمة يدبر ليس يقضي فقط بل يُدبر والذي يدبر يُتقن، يعني على هذه السعة وهذه القدرة هو سبحانه يُدبر الأمر وحده سبحانه لا شريك له يدبر هذا الأمر من السماء إلى الأرض.
 (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) ألف سنة من عدّكم، وهذا اليوم غير يوم القيامة (وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) [الحج:47 ] ويوم القيامة من طوله مقداره خمسين ألف سنة، هذا اليوم غير هذا اليوم لا نخلط بين هذين اليومين. (مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) أنكم لو أردتم تصنعون هذا الصنع وقيل المراد بالألف الكثرة في لغة العرب يقال جئتك أو زرتك ألف مرة وهو قد زارك مرتين أو ثلاث أو خمس (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) [البقرة:96] ألف سنة مما تعدون يرُد هذا التأويل أن المراد به الكثرة لكن الصحيح أن المراد به العدد.
قال الله عز وجل (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) الله سبحانه وتعالى الذي دبّر وخلق هذا الكون على اتساع هذا الكون يعلم الله عز وجل كل شيء (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) الشهادة معروفة يبين الله عز وجل للذين ينظرون لسعة هذا الخلق ولعظمة هذا الخلق فيأتي خاطر شيطاني هل الله يعلم؟! (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) والإشارة هنا للتعظيم (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) فما غاب الله سبحانه وتعالى عالم به والشهادة عالم بها لأن بعض الناس يدققون في الغيب ويتركون الشهادة فيقال دقق كأنها تشير إلى أن الله عالم بهذا وعالم بذاك ولذلك أيضاً ختمت (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) لماذا الرحيم هنا؟ العزيز واضحة، الرحيم لأن هناك أمر نازل من السماء وطالع فبداية النزول رحيم سبحانه وتعالى هذا الطالع وهذا النازل.
والعزيز ستجدها العزيز مع الرحيم والعزيز مع الحكيم وأكثرها العزيز مع الحكيم، العزة من صفات الله التي فيها قوة منه سبحانه وتعالى تختلط بهاتين الصفتين أكثر شيء وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


  استكمال سورة السجدة من الآية (7) إلى خاتمتها

 المجلس الأول:
 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)).
 بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. اللهم اجعل ما تعلمناه وما نقوله وما نفقهه وما نتأوله حجة لنا لا علينا. توقفنا فيما مضى عند قول الله سبحانه وتعالى في الآية السابعة (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) والإحسان هنا في كل شيء إحسان بعامة قال سبحانه وتعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ) والمراد بالإحسان -وأرجو أن نلتفت إلى ذلك- هو: جعل الشيء حسناً غير معيب والمراد بالإحسان أيضاً الإتقان ولا يفهم البعض من هذا الإحسان أنه إنما هو الشيء الحسن الجميل فإن الإتقان من معاني الحُسن بل أسُّها وأهمها. والآيات هنا جاءت خبر اسم الإشارة في قوله (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ) ثم قال (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) فهو أحسن كل شيء أحسن سبحانه وتعالى في حُكمه (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا) وكذلك أحسن في قصِّه فهو يقُصّ سبحانه وتعالى أحسن القصص، أحسن في حديثه (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) تبارك الله أحسن الخالقين ولذلك قال الله (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) إذاً معنى الإحسان هو الإتقان والإتمام.
 بعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى هذا الحُسن في الخلق بعامة وفي الإنسان بخاصة قال سبحانه وتعالى بعد ذلك (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) ولاحظوا أن هنا قال (جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) وقلنا أن سورة السجدة تؤكد على مسألة الرد على أولئك الذين أنكروا العَوْد (أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) فالسورة جاءت لتؤكد صحة تنزيل الكتاب ولبدء الخلق وإعادته فذكّرهم بأصل خلقهم قال سبحانه وتعالى (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) ولم يفصِّل في ذلك كما فصل في سورة المؤمنون. الله سبحانه وتعالى هناك في سورة المؤمنون قال (مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ) يعني ذكر ست مراحل، لكن هنا بيّن أن أصل هذا الإنسان الذي أُحسِن خلقُه هو من سلالة من ماء مهين، وأيضاً يخطئ بعض المفسرون عندما يقولون: مهين يعني حقير، المهين ليس الحقير، من قال أنه حقير هذا تفسير خاطئ يعني هذا الماء ليس حقيراً إنه مهين عندما وصِف بالمهانة هنا أنه لا يلتفت إليه ولا يؤبه به ومع ذلك يكون سبب في خلق هذا الإنسان العجيب، فهو يبدأ من خلقه.
 إذاً الخلق من ماء مهين كيف يكون هذا الإنسان من الماء الممتهن الذي لا يُعبأ به ثم جاء هذا الخلق العجيب في أحسن صورة ولذلك قال سبحانه وتعالى (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ).
 (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) سوّى هذا الخلق وأحسنه وفي أحسن الصور ركّبه (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) سوّاه ثم نفخ فيه والمراد (مِنْ رُوحِهِ) يعني إضافة هنا إضافة تكريم لهذا المخلوق الذي اختص بهذه النفخة من الله سبحانه وتعالى. وقال (وَجَعَلَ لَكُمُ) وهذا في إظهار المنّة جعل لكم (السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) وجاء بها على حسب أهميتها وأكثر القرآن يبدأ بذكر السمع بل جُلُّه أو كُله يبدأ بالسمع قبل البصر لأهمية السمع. والامتنان هنا جاء بقوى الحواس أقوى من الامتنان بالقوى الباطنة لأن الانتفاع بالسمع والبصر والفؤاد متكرر أكثر فجاءت المنّة وتذكير أولئك الذين ينكرون قدرة الله عز وجل على الإعادة بعد - كما زعموا- ضلالهم في الأرض أكّد ذلك يذكِّرهم بهذه النِعم كيف أنهم خُلقوا من ذلك الماء الممتهن الذي في نظرهم أنه لا قيمة وكان هذا الإنسان ثم جعل لهم السمع والأبصار. ثم ختم الله عز وجل هذه الآية بقوله (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) وفي أكثر السور يأتي قوله: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) إما أن المراد بالقلة هنا العدم أو على ظاهرها أنه فيه شكر لكنه غير كثير وإن كان جاء في سورة الأنعام -سورة النِعم- ذكر الله عز وجل ذكّرهم الله عز وجل بالنِعم فقال (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وفي الأكثر قال (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ).
هنا السر أيضاً في إنكارهم لذلك اليوم (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ) إذاً ظاهر من هذا الكلام شدة الاستبعاد، وقلت إن في هذه السورة شدة على المشركين وبيان لشدة مقولتهم في قولهم افتراء القرآن وكذلك استبعادهم ليوم القيامة ولذلك جاء في الآية الأخرى (أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا) ولذلك ذكّرهم الله سبحانه وتعالى بقوله (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) لكن المشكلة أنهم (فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ).
 وهنا في قوله سبحانه وتعالى في استبعادهم ليوم القيامة يقول الله سبحانه وتعالى (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ) إذاً السر كما قال الله هنا (بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ) أنهم يريدون أن يفجروا والفاجر ما يريد أن يلتقي بالله. إذاً سرهم ترى شبهتهم ليست في الإنكار بقدر ما هي شبهة الشهوة أكثر من الشبهة التي عندهم لأن الله قال (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ) يعني الإنسان هو أكثر ما جاء أيضاً الإنسان في الكافر (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) ولذلك إذا فجر، فجّر القيود يفجر أنت تضع له حدود وسدود وقيود وحلال وحرام لكنه يريد أن يفجرها وإذا فجر ماذا يفعل؟ (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) حتى (أَيَّانَ) ما قال وين (أَيَّانَ) استبعاد ولذلك (بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ) إذاً لأنهم ما أحسنوا العمل ولذلك يسيؤن اللقاء بالله سبحانه وتعالى، إذاً ظاهر الكلام شدة الاستبعاد. فقال الله أين هم من الخلق الأول؟ وليست الإعادة بأعجب من بدء الخلق ولكن الباعث على كفرهم إنكارهم لقاء الله سبحانه وتعالى. ولاحظوا أن الله عز وجل في الآية العاشرة هذه (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا) يعني ضللنا يعني ضلت أجسادنا وذهبت (أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ) هنا قدم الجار والمجرور ما قال: بل هم كافرون بلقاء ربهم بل المشكلة عندهم اللقاء ولذلك سرهم باللقاء فقدّمه وقال (بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ) إذاً تقديم الجار والمجرور بلقاء على الكافرين لإفادة الدوام أنهم مداومين على هذا الكفر. 
فجاء الرد عليهم جواب لقولهم (أَئِذَا ضَلَلْنَا) قال الله عز وجل (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)، (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) وجاءت في آيات الملائكة مرة ولذلك (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ) فالملائكة جاءت ملائكة وجاء ملك الموت، المَلَك هو الذي يبلِّغ أيضاً الأمر يأتيه ثم يبلغ الملائكة وإن كان طبعاً في تسميته عزرائيل هذه لم تصح هذه من الإسرائيليات، لم يصح في ذلك حديث لكن أصبح دارجاً وهذه من الإسرائيليات تسمية ملك الموت لكنه نقوله اسمه ملك الموت.
 (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) هذا تأكيد أن ملك مُوكل بكم (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) ولذلك عندما يرجعون ماذا يحدث؟ (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو) سجّل عليهم الإجرام، الجواب هنا محذوف جواب (ولو) كأن تقديره: ولو ترى أيها الرائي لرأيت أمراً عظيماً. (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ) جيء بالفعل هنا (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ) يعني حذف هنا الجواب وصوّرهم بهذا التصوير ووصفهم بهذا الوصف المنبئ عن شدة وعظم جرمهم، وقلت إن السورة فيها شدة لأن فيه شدة إنكار وفيه شدة رد وعقاب عليهم. إذاً جاء وصفهم لمن أنكر الساعة بالإجرام.
 قال سبحانه وتعالى (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ) والناكس هنا هو من يجعل رأسه إلى أسفل ينكس هذا الرأس ولذلك قال الله عز وجل (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) مقنعين هذه الرؤوس مطأطينها ذلة ومهانة، (نَاكِسُو) أين هذا التنكيس للرؤوس؟ أعز شيء عند الإنسان ينكِّس رأسه ذلة، عند ربهم، ماذا يقولون؟ نكسوا الرؤوس وطأطأوا وراحت الكبرياء وذهبت العزة والإنكار وفي النهاية قالوا (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا)، (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) هنا (أَبْصَرْنَا) ما أبصرهم الآن وما أسمعهم لكن ما ينفع هذا البصر وهذا السمع (أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) الآن رأينا (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أصبح حاداً ينظر ويعاين.
فقال الله عز وجل في وصفهم (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا) فقال الله عز وجل (وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) والله عز وجل لو شاء كما في الآية لآتى كل نفس تقواها، الله عز وجل خلق الخير والشر وهدانا النجدين لكن (حَقَّ الْقَوْلُ) لاحظوا (الْقَوْلُ مِنِّي) أيضاً (حَقَّ الْقَوْلُ)، الآيات الأخرى قد تقول (حَقَّ الْقَوْلُ) لكن هنا (مِنِّي) أيضاً لشدة تخويف هؤلاء (حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أيّ قول حق؟ عندما قال إبليس فقال الله (اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) من الجِنّة والناس، فهذا هو القول الذي حقّ أن من تبع إبليس وحزب إبليس ستُملأ منه جهنم.
قال الله عز وجل (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) الذوق هنا أيضاً لاحظوا كما قلنا في السورة شِدة، الذوق هذا جواب عن قولهم (أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا)، قال (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ) يعني الذوق استخدام الذوق للإحساس بالكدر وإن كان الذوق في القرآن جاء في أمر الخير والشر وإن كان في أمر الشر أكثر بكثير، ورود الذوق في أمر الشر. إذاً الذوق هنا مستعار للإحساس بالكدر شُبِّه بذوق الطعم الكريه، يعني كأنه أيضاً حسّ (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ) ثم عاد مرة أخرى وقال (وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ) في قوله تعالى (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ) اللقاء هنا يعني الشيء الذي كنت ما تفكر أن تلتقي به فالتقوا به ذلك اليوم (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ) وسماه (يَوْمِكُمْ) يعني كأن اليوم من باب التهكم بهم هذا هو اليوم الذي كنتم توعدون (يَوْمِكُمْ هَذَا) هذا اليوم الذي كانت المشكلة فيه وعنه وإنكاركم له! (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) إذاً أضاف اليوم لهم احتقاراً لهم (إِنَّا نَسِينَاكُمْ) يعني إنا نسيانكم وإخراج الكلام هنا نسيناكم في صيغة الماضي لإفادة أن هذا قد تحقق الفعل كأنه مضى ووقع. (نَسِينَاكُمْ) والنسيان الأول الإهمال والإضاعة في الآية والنسيان الثانية بيان حرمان الكرامة.
قال الله عز وجل (فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا) تكرار (وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ) ما سره؟ ذُوقوا، ذوقوا، هناك قد يخطر في بالهم أنه ذوق فقط وينتهي الموضوع لا، ذوقوا عذاب الخلد، عذاب الذوق مستمر فيه عياذاً بالله! والاستمرار في ذوقه والاستمرار في مدته، ليس ذوقاً فقط يتألم مرة ومرتين وخلاص، لا، ثم قال (وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ) هنا جاء بعذاب الخلد مما يزيد الألم ألماً أنه ليس ذوقاً وليس عذاباً مؤقتاً بل عذاب خالد. وترى مما يزيد النعيم الخلود، ولذلك الآخرة الخلود فيها الآخرة خير وأبقى، البقاء مهم، ترى كثيراً من النِعم مما ينغصها أن ما فيها خلود تتنقص النِعم حتى النِعم التي نعيشها الآن، ولذلك الوجهاء والكبراء أفضل شيء تقول له يطول عمرك حتى يستمتع، الجنة عنده ما شاء الله عنده جنات وعنده فهو الآن تقول له يطول عمرك حتى يستمتع بهذا ومما ينغص عليهم أنها قصيرة، ولذلك الخلد متعة أخرى يعني الآخرة ليست فقط خير، الآخرة خير في كل شيء ليس في دنيانا مما في الآخرة إلا الأسماء فقط وإلا الخيرية ولذلك سنأتي (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) ثم أيضاً البقاء والعجيب جاء الخلود في الجنة في 26 موضعاً، وفي النار 13 موضع يعني نصف العدد بالضبط وهذا من رحمة الله عز وجل وأيضاً جاء الخلود الأبدي في الجنة زيادة الأبد في أكثر من 8 آيات وجاء معها (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، لما يقال (خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ) وأيّ فوز؟ ليس فوزاً عادياً بل فوز عظيم.
 بعد أن بيّن الله عز وجل تلك الشدة من أولئك الكفار والإنكار وشدة العذاب عليهم بيّن صنفاً آخر مستجيبين غاية الاستجابة فقال سبحانه (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا) ولاحظوا الحصر والقصر ولاحظوا المضارع في (يؤمن) ولاحظوا الامتثال السريع الحصر في (إنما) والمضارع (يؤمن) يعني كلما تليت عليه الآيات (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا) مجرد التذكير حصل الخرور، حصلت الاستجابة السريعة هناك تكذيب شديد وهنا استجابة وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وللدعاة من بعده أنه هناك أصناف في القمة وأصناف في القاع (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا) بعد أن ذكرت الآيات السابقة شدة إنكار المشركين جاءت هذه الآية لتبين حال المُمتثلين والمسارعين في أمر الله فجاءت الآية حاصرة وقاصرة ومشيرة أن هناك صنف من المستجيبين أشد استجابة في أشد حالات الاستجابة مُجرد سماع آيات الله تتلى يخرون للأذقان. والعجيب الخرور أيضاً بحثته فوجدت أن أكثر الخرور مع الأنبياء وجاءت مع هؤلاء الصلحاء الذي هم في أعلى درجات الصلاح وإلا السجود يأتي في القرآن لكن الخرور في ذاك، وقلت في المضارع (يُؤْمِنُ) لأنهم يتجدد عندهم الإيمان (يُؤْمِنُ) كل ما عرضت آمن، يؤمن وهو مؤمن؟! نعم يزداد إيماناً (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا) ولذلك نقول (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ونحن مهتدين. إذاً كما أن السورة فيها بيان شدة الكفارة ففيها شدة استجابة الموحدين.
 ثم قال سبحانه وتعالى (إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) أيضاً التلازم بين التسبيح والتحميد وهذا أُشير إليه فقط ليتأمل فيه ( وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) أيضاً بيان تلك الحالة وحالهم تتضح من هذه الاستجابة، بل وضح الله عز وجل حالهم غاية الإيضاح عندما قال (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) وأريد أن أتأمل وإياكم في قوله (تَتَجَافَى) أولاً مضارع يتكرر منهم، ثم ما معنى تتجافى؟ أنا أجفي الشيء أجفيه كأن بيني وبينه شيء من الجفاء، بالله عليكم أحد يجفي فراشه؟! مضجعه؟! ما يجفي الفراش والمضجع إلا من تركه لما هو أعلى منه، إذاً (تَتَجَافَى) يعني هو كأن بينه وبين الفراش أو المضجع شيء من عدم الارتياح لأن فيه راحة أخرى (تَتَجَافَى) ولا هو مرة، على طول حاله (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) جنبه كأنه هو الجنب يقول للجنب نم والجنب يقوِّمه لست مرتاحاً لهذا النوم أنا أريد أن أقوم، لماذا تقوم؟ أقوم أدعو ربي خوفا وطمعاً (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ) هذه صفات الاستجابة (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) ما دامهم مستجيبين ما عندهم غرور (خَوْفًا) وبدأوا بالخوف قبل الطمع، أي خوف أنتم الآن حتى النوم ما عاد أنتم ترتاحون من النوم تحبون الليل وتحبون القيام وتركتم المنام وتركتم المضجع لكن حال عباد الله الذي في أعلى درجات الصلاح والخير هي هذه حالهم.
 (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) والله عز وجل قال في وصف الأنبياء أيضاً (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) إذاً سائرين على مسلك أنبياء الله يدعون خوف وطمع يعيش الإنسان بين الخوف وبين الرجاء مثل جناحي الطائر لا يُغلّب الرجاء فيصبح مُرجئ ولا يُغلب الخوف فيصبح حروري، لا، يسير بينهما (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) ولذلك في سورة المؤمنون أيضاً قال الله سبحانه وتعالى (يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) يعني يقومون ما قاموا قالت عائشة: "يا رسول الله من هم (يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)؟ أهم الذين يسرقون؟ أهم الذين يزنون؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا ابنة الصديق هم الذي يصومون ويتصدقون ويخافون أن لا يُتقبل منهم ولذلك قال الله عز وجل في وصفهم اقرأوا بقية الآيات تلاحظون وصفهم (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) مسارعة أحد يسبقهم إلى شيء؟ (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) الذين يؤتون ما آتوا يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون، وإذاً هؤلاء مع أنهم تتجافى جنوبهم ما اغتروا ولذلك (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) ما ينبغي للإنسان أن يُكثِر، مهما قدمت، مهما قمت ما قمت، صليت ينبغي أن يكون هذا حالك تخاف وتدعو ربك خوفاً وطمعاً. وجاءت طبعاً (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) (وَخِيفَةً) كلها في صفات وحتى الخفية ترى الاختفاء بالدعاء نوع من الأدب الذي ينبغي أن نُشيعه فيما بيننا يعني بعض الناس إذا جاء يدعو تجد أنه بصراخ وصياح ويسمعه القاصي والداني وبكاءه يسمعه الناس كلها، يعني ليس هذا كما ذكره الحسن "لقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملونه في السر فيكون علانية ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء" لاحظوا يجتهدون في الدعاء وأقول هذا يا إخوان بمناسبة أني أسمع بعض الأحيان في رمضان وغيرها من الصِّياح ومن النياح يعني المبالّغ في ذلك، "ولقد كانوا يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوتاً إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم" وذلك أن الله تعالى يقول (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً).
وذَكر عن عبد صالح ماذا قال عن هذا العبد الصالح؟ (نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) بل العجيب أن الأحناف استدلوا بمسألة النداء الخفي استنبطوا منها فائدة أن (آمين) تُخفى على أساس كاستنباط بس جعلوها دليلاً.
إذاً عرفنا بعد التجافي أيضاً قلنا معنى التجافي يعني تركوا الرغبة -شهوة نفسية- وتركوا الشهوة المالية (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) يعني قدموا راحة الجسد وقدموا المال. إذاً (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ولذلك الجزاء يخرون سجداً، تتجافى الجنوب ويدعون خوفاً وطمعاً ومن الرزق ينفقون، الجزاء؟ (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ) أخفوا فأخفى الله لهم كانوا في مثل هذه المثابة في الإخفاء فأخفى الله عز وجل ما تعلم، قد يقول قائل (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ) يعني نحن لا نعلم؟ يعني لا نعلم الجنة؟! لا نعلم ما في الجنة؟! الإدراك الحقيقي حتى أُقرب لكم المسألة بعض الأحيان يقول لك الواحد أريد أن أريك مكاناً ما يخطر على بالك، يعني كأنك يقولك أريد أريك شيئاً ما يمكن أن تتخيله ما تستطيع وفعلاً حتى في أشياء الدنيا الآن لو واحد مدح لك مكاناً وقال فيه كذا وفيه كذا وجئت إلى الخضرة تجد سبحان الله أنا انقدح خيالي لما مدح لي هذا المكان انقدح خيالي لأمور في ذهني صورت المكان قبل أن آتي له لكن لما جئت وجدته غير ما تصورته سواء طبعاً في الزيادة أو بالمقاربة أو بالنقص، الخيال يذهب، لكن الخيال في الجنة هل ستتخيل أنهار من عسل، من خمر، من لبن، أرض من زعفران، أشجار من زبرجد، تتخيل هذه الأشياء؟! ولو تخيلت كيف يكون هذا الخيال، ما في الدنيا وما في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ) لأن مدركات العقول تنتهي بما تشاهده، أنا أقول لك مسجد بعشرين عمود تتخيل هذا المسجد لكن لو أقول لك مساحة هذا المسجد عشرين مرة بدون أعمدة ما تتخيله ما يدركه عقلك هذا الشيء، فكيف بما عند الله عز وجل؟! يعني أعطيكم بعض الأحيان يقولون مثلاً الشجرة فيها رأينا في بعض أفريقيا أشجار يمكن يبقى في ظلها مئة شخص أشجار فاكهة، يعني هل نتخيل أننا عايشين في بلد ما هنا الشجرة أكثر ما تكون يستظل في ظلها أربعة، خمسة، عشرة، لكن أن تكون بهذه المثابة وفيها ثمر هذا في الدنيا فما بالك في الآخرة؟! فلما يأتيك تتذكر مثل هذه الآية (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) وقرة أعين أيضاً قرّ العين سكونها ولذلك (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ)، (وَقَرِّي عَيْنًا) فلماذا تقرّ العين؟ إذا ابنك صالح ما عاد تلتفت للأولاد الثانيين لكن لو ولدك فاسد كل ما شفت ولداً صالحاً تقول سبحان الله لو هذا ولدي! الله لو هذا كذا! ولذلك ندعو (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) فالعين تَقر، وإن كان قيل: من القرار والبرودة لكن الأصح أن تقر العين (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) ولذلك المؤمن يقر، فهنا تقُرّ أعينهم لا يفكرون بالانتقال (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا). ثم قال سبحانه وتعالى بعد أن بين جزاءهم (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا) يعني إنكار المساواة بين المؤمن والكفار (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا) هل المراد بالفاسق هنا لعل سياق الآية يدل على أن المراد بالفاسق هنا الذي ابتعد قليلاً وإلا كثيراً؟ ما الدليل؟ المقارنة بينه وبين المؤمن أليس كذلك (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا) هذه القرينة أن هذا المراد به، لا، هنا قال (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا) كفر يعني أشد أنواع الفسق، لأن الفسق يأتي بالقرآن كثيراً لكن الأكثر أن يطلق على المعنى العظيم وإن كان الفسق يكون بالشيء القليل والشيء الكثير، لكن هنا المراد به الكفر، وإلا الفسق يكون ينصرف بمعانيه الشرعية أنه من التزم بالحكم ثم خرج عنه وتركه فهذا يقال له فاسق.
 ثم قال سبحانه وتعالى (أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى) يعني هنا بدأ بالمقارنة بين عموم المؤمنين وعموم الفاسقين فقال (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى) يقولون: إن الجنات كما قلت قبل قليل كابن عباس قال وغيره من المفسرين أيضاً أنها سبع جاءت في القرآن: الفردوس، وعدن، والنعيم، ودار الخلد، والمأوى، وعليين، ودار السلام، وإن كان أعلاها الفردوس، الفردوس الأعلى وكما في الحديث لما جاءت أم ابن الرُبيّع لما استشهد ابنها في بدر سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل هو في الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها أنه في أعلى المراتب أصاب الفردوس الأعلى.
 (أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا) النزل هذا المأوى جنات المأوى هذا النوع من أنواع الجنات (نُزُلًا) يعني ليست مأوى فقط بل ونُزُل دائم.
 وجنة المأوى كما قال بعض المفسرين قال بعضهم: أنها المراد بها قريب من جنة المأوى على يمين العرش تأوي إليها أرواح الشهداء.
 (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ) أيضاً هذا يدلك ويؤكد أن مأواهم النار أن الفاسقين هنا المراد بهم من؟ الكفار (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) إذاً الفسق كما قلنا أنه أعمّ من الكفر لأن الفسق يقع بالقليل وبالكثير، والفاسق هنا من ليس بمؤمن بقرينة (ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) قال الله عز وجل: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا) قال الله (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا).
 ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ) أي عذاب أدنى؟ يعني فيه عذابين لهم؟ المراد الصحيح أنه في الدنيا بقرينة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إذاً العذاب القليل في زمنه القليل بالنسبة لغيره، العذاب الأدنى هو أدنى زماناً وأدنى كمّاً وبقرينة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إذاً هناك عذاب في الدنيا وقد جاءهم عذاب يوم بدر (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وفعلاً رجع من رجع وإلا ما رجعوا؟ رجع من رجع ولاحظوا في أول السورة قلنا (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) وهنا يناسب (لَعَلَّهُمْ) ما دام فيه عذاب وأدنى (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فالختام واضح مناسبته. إذاً تحصّل إما الرجوع أو الهداية أو الاتقاء.
 ذكرت لكم أن الغايات في الهدايات كثيرات بالنسبة (لعلهم) جاءت فيها 16 غاية (لعلهم يتقون) (يحذرون) (يرجعون) وللمؤمنين 8 غايات، على كلٍ ما يسعفنا الوقت لذكرها لكن أنا أحببت أن أذكر الغايات لأجل أن لا نتوقف لأنه ربما هذا المدعو يرجع، ربما يهتدي، ربما يتذكر، وقلنا التذكر أكثر شيء سواء في (لعلهم) أو (لعلكم) جاء أكثر الآيات في مسألة التذكر عموماً (18 آية) ولغير أهل الإيمان في (11 آية) وكذلك الشكر بعدها (لعلهم يشكرون) وغالبها مع غير المؤمنين.
 قال سبحانه وتعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا) من أظلم، هناك ظالم وأظلم انتبهوا لأن الله عز وجل قال قوم نوح ماذا هم؟ (كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى) بعد يعني هناك واو، ولذلك سبحان الله ما آمن مع نوح إلا قليل، ما آمن معه غيره، فهم الأظلم وهم الأطغى، ولذلك انتبهوا لا تخلطون بين الظالم والأظلم، إذاً الظلم دركات ظالم وأظلم، وطاغي وأطغى أيضاً، وجاء الأظلم في القرآن في عدد من المواضع جُلُّها في بيان أن الأظلم جاءت مثل ما قلنا في الضلال البعيد، هناك بعيد وهناك مبين. البعيد الذي يكفر ويصدّ جمع بين خستين، وكذلك أيضاً بالنسبة للأظلم هو من كذّب وصدف هذاً أيضاً يكون هو الأظلم الذي كذب ظالم، كذب وصدّ أظلم، ولذلك ترى الكفار والمعاندين درجات، هذا يرشدنا إلى أن هناك ظالم وأظلم سواء كان لنفسه أو لغيره، مثلاً من لا يصلي ظالم ومن لم يصلي ومنع الناس من الصلاة أظلم ولذلك قال الله عز وجل: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ) كما قلت وهذه السورة لأنها من أشد السور على الكفار والمشركين.
 قال الله عز وجل (وَمَنْ أَظْلَمُ) جعلهم من الأظلم وليسوا من الظالمين، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) دلالة على كثرة التذكير لهؤلاء وأنهم مع التذكير يُعرضون، ويدل على تكبر بصيغة أهل الإيمان (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا) يعني ذُكِّر فكان الإعراض بعد التذكير ولذلك جاء بيان انتقام الله عز وجل منه، لعلنا نواصل فيما يستقبل. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
 المجلس الثاني
(وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿٢٣﴾ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴿٢٤﴾ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿٢٥﴾)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وصلّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. لا زال الحديث موصولاً ومتصلاً بما جاء في سورة السجدة وما جاء في بيان شدة عناد وكفر المشركين والتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نُسِب أنه افترى على القرآن وكان هذا شيئاً عظيماً على نفسه ثم أنكروا غاية الإنكار العود.
 ثم بيّن الله عز وجل مصيرهم ثم سلّاه بأن هذا الصنف (الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً) ثم جاءت التسلية الثانية وكثيراً ما يُسلّى الحبيب صلى الله عليه وسلم بما جاء عن موسى وقصة موسى، وقد يقول قائل لِمَ؟ لو تأملنا وجدنا أن موسى ذُكر في القرآن كثيراً بل أظن ذُكر أكثر من 130 آية بينما يأتي بعده نوح. ولذلك القرآن قيل كاد القرآن أن يكون كله عن بني اسرائيل والعجيب أن معركتنا مع اليهود ومع بني إسرائيل إلى يومنا وحتى مشكلتنا مع النصارى بسبب يهود -طبعاً ليس كلها لكن أكثرها-.
هنا قال الله عز وجل تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ) هذا إشكال في الآية: لقاء ماذا؟ ما اللقاء؟ قيل أنه يعود اللقاء على موسى أو على ما وقع لموسى، إما أن يكون (فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ) أي لقاء موسى وهذا تفسير جزئي وطبعاً هو التقى به ليلة الإسراء ووصفه عليه الصلاة والسلام ورآه يصلي في قبره أيضاً ورآه في السماء وقصة الصلاة وما كان فيها، إذا هذا الذي وقع، هذا اللقاء وقع لكن الصحيح أن الآية جاءت تسلية لشدة عناد هؤلاء فقال الله عز وجل (فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ) ستلقى ما لَقي موسى من قومه، ستلقى من الصَلَف ومن الإنكار يعنى سيأتيك ما جاءه لكن قال (وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) أيضاً جعلنا موسى أو الكتاب (هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) فستكون أنت أيضاً، تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتبشير آخر (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) يعني ليس أنت فقط لكن ستكون من أمتك أيضاً (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) لا تكن في مرية هناك قول ضعيف في مرية من لقائه في الآخرة لكن لا يلتفت لهذا القول.
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) وهذه أيضاً تسلية بعد التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن نستشعر أن هذه الصورة قوية والإعراض الذى لاقاه ولذلك قال الله عز وجل (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) النبي صلى الله عليه وسلم حزن أشد الحزن ووجد من عنادهم وصلفهم حتى أنهم قالوا بافترائه لهذا القرآن فجعل التسلية أيضاً (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ)، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) [القصص:٥] ولذلك قال (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) (وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ) [الأعراف:159] ماذا تلاحظون في الآيات؟
(يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) وقال في الآية الثانية (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ) [الأنبياء:73] قال (وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) القاسم بينهم الهداية بأمر الله الذي يهدي الناس بغير أمر الله لا يمكن أن يكون إماماً فلا بد (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) هذا الشرط الأول إذا يريدون الإمامة يهدون بأمرنا ويصبرون ويوقنون هؤلاء تكون لهم الإمامة في دين الله عز وجل (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) لن تكون هناك هداية للناس إلا بأمر الله ووحي الله وبالحق الذي جاء به الله فمن أراد الإمامة في الدين بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين وأيضاً بتوجيه الناس لأمر لله عز وجل (لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) يعني الصبر لا يكفي؟ يقول الإمام أحمد ورد الصبر في القرآن في 90 موضعاً هذا عند الإمام أحمد -غداً يُدرسكم أحد المشايخ سورة سبأ ورد الغفور الرحيم في عموم القرآن في سبعين موضعاً يتقدم الغفور إلا في سبأ (الرحيم الغفور) سبحان الله! هذا يعطيك لما تتأمل في القرآن يعطيك طمأنينة فالإمام احمد يقول جاء الصبر في القرآن وهذا يدل على أهميته وذكر بعض أهل العلم أن التقوى من أكثر الأشياء التى جاءت في القرآن في 245 موضع وجاء الصبر في 90 موضعاً هناك لكن يكفي الصبر وحده؟ 
في مواطن لا بد من الصبرواليقين وفي مواطن لا بد من الصبر والتقوى.
مع الكافرين (إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) [آل عمران:120] قال الله وصدق الله وكذب من قال خلاف هذا، الأعداء مهما ضخمنا بعداوتنا لهم لو نصبر ونتقي لكن إما نصبر ولا نتقي أو نتقي بدون نصبر اجمعوا بين الأمرين ما يضرنا كيدهم أبداً بإذن الله وهذا تصديق لكلام الله وليس من عندنا.
 إذاً (لمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) الصبر ورد واليقين ورد فيما يقارب 30 موضعًا وقلت أن الصبر لا يكفي لأن يأتي مع الصبر في الخصومات صبر وغفر وفي القتال صبر واتقى لا بد من تقوى فما يكفي الصبر لوحده.
 ثم أيضاً الصبر يكون بالله (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ ) [النحل:127] لا تصبر أنت بنفسك تجزع وتتعب لا بد أن تجعل صبرك هذا من الله وإلى الله. يقول شيخ الاسلام "بالصبر دفعوا الشهوات وباليقين دفعوا الشبهات". ولذلك قال الله عز وجل في أهل الإيمان الكُمّل أهل الإيمان الكُمل في سورة العصر الذين اتصفوا بأربع صفات آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر هذا أهل الإيمان الكُمل وكلما نقص فيك شيء نقص في كمال إيمانك ولذلك أفضل الدرجات هم الذين اتصفوا بهذه الصفات. إذاً صبروا، أيقنوا والصبر لا يمكن أن يكون العبد أن يصبر إلا لما يكون له ما يطمئن له وينعم به وهو اليقين يقول شيخ الاسلام عبارة جميلة "إن لم يكن له ما يطمئن وينعم به ويتغذى به وهو اليقين وإلا يجزع بالصبر".
 يقول ابن عيينة عند هذه الآية "أخذوا برأس الأمر فجعلهم رؤساً" أخذوا برأس هذا الأمر وهو الصبر واليقين فكانوا رؤساً واليقين كما يقول ابن القيم هو روح العمل، العمل بدون يقين ما في روح.
 والمراد بالإمامة هنا (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) بني اسرائيل الإمامة في العلم والدين والرئاسة في هذا الباب. قال في الآية نفسها (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ما علاقة يفصل هنا؟ (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) ذكر القرآن لنا قصص بني إسرائيل وما وقع لهم من خلاف فقال الله عز وجل كان فيهم ذاك الصنف وأما غيرهم فالله عز وجل يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
 قال (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ) هذه السورة قريبة من نفس الحبيب دائماً يقول (إِنَّ رَبَّكَ) وهو رب الجميع لكن حتى لا يكون في نفس النبي صل الله عليه وسلم لما قالوا بالافتراء فقال (ربك) كأنه ربه وحده صلى الله عليه وسلم.
ثم قال سبحانه وتعالى لأولئك الذين أنكروا نزول الكتاب وأنكروا العوْد (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا) كم هنا الخبرية (مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) (مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِم) والمشكلة أيضاً أن من قلة عقولهم هذه المساكن كانوا يمشون فيها كما في مساكن صالح وثمود وغيرها (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ) (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) واحد يقرأها يسمعون وواحد يقرأها يبصرون ويرتبك، ما دام هناك أمور تاريخية فالأمور التاريخية مسموعة ولذلك في الآية الثانية (أَوَلَمْ يَرَوْا) بصرية (اَفَلَا يُبْصِرُونَ) ولذلك الختام قال الله عز وجل (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ) ليست آية بل آيات وهم يمشون لاحظوا مضارع يترددون ومع ذلك لا يستفيدون، أولم تهدهم تلك المثُلات من القرون السابقة وهم يمشون في مساكنهم وهذا عطف على قول الله عز وجل (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ) يعنى يُذكَّرون بهذه الآيات ومع ذلك باقين على هذا الظلم يمشون.
 ولذلك بعد أن ذكر الله عز وجل الآيات الكونية في الآيات السابقة قلنا (أَوَلَمْ يَرَوْا، ألم تروا) هذه آيات كونية وهنا جاء بالآيات الحوادث التي وقعت هناك يسمونها الآيات الكونية هناك السماوات وهذه الآيات ما وقع من أحداث أي يسمونها السُنن والعقوبات ينظرون في السنن والعقوبات.
 ثم بعد أن وجههم لصفحة الكون ثم وجههم لصفحة التاريخ والآن يوجههم الآن لصفحة الأرض التى كل يوم يرونها (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) عطف على (أَوَلَمْ يَهْدِ) وهناك (أولم يهد) وهنا (أَوَلَمْ يَرَوْا) هنا جاء بالرؤية لأن إحياء الأرض بعد موتها آية عجيبة في القدرة. وكثير ما يأت هذا في القرآن إحياء الأرض الميتة وجاء بالمضارع (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء) (أَوَلَمْ يَرَوْا) بالمضارع كأنهم هم ينظرون إلى هذا الأمر (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) المراد بالأرض الجرز المنقطع النبات فيها ولذلك يقال سيف جرّاز أو جزار أيضاً وفي سورة الكهف (صَعِيداً جُرُزاً) يعنى أرض منقطعة الإنبات. فالله عز وجل يقول انظروا إلى سوق الماء أولاً ثم انظروا إلى إتجاه الماء إلى هذه الأرض المجروزة التي انقطع فيها النبات كيف كانت وكيف أصبحت هذه الآيات تلفت الأنظار ومع ذلك هم بعد كل هذه الآيات آيات كونية وسنن وعقوبات آيات يرونها وقعت وآيات تُشاهد أي آيات وقعت ورأوها للعقوبات وآيات يشاهدونها في الآيات التي أمامهم ولفت أنظارهم لما حولهم من السماوات والأرض ومع ذلك لم يستجيبوا بل زادوا شدة في الكفر (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) متى هذا الفتح؟! شوف الإنكار.
 إذاً الداعية يدعو إلى الله وطالب العلم لا تتصور وإن كنت أفصح الناس وأبلغ الناس أن يستجيب الناس. بعد كل هذه الآيات ومع ذلك لا يستجيبون و يعاندون ويقولون (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ) أخبرنا متى هذا الفتح دليل البعث كأنهم في نهاية المطاف كذبوا بالبعث وكذبوا بالوعيد ولذلك قال الله عز وجل (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ) أي أنتم تنتظرون هذا الفتح ويستعجلون بهذا (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ* فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ) كأنه جاء في الآيات كما جاء في نهاية سورة الطارق (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق:17].
الشاهد من ذلك: أن الله سبحانه وتعالى تولى عقابهم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعرض عنهم لأنهم بلغوا غاية في إنكارهم والبعد عن الله عز وجل.
__________________________
مصدر التفريغ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
المادة الصوتية على الرابط التالي : 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق