الأحد، 28 سبتمبر 2025

تدبر سورة الكهف م.(٢٧) / د. محمود شمس



بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ. سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا رب العالمين؛ وَبَعْدُ:
 فإني أحييكم بتحية الإسلام السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. وإني لأسأل الله أن يشرح صدورنا، وأن يجعلني وَإِيَّاكُمْ من أهل القرآن الكريم الَّذِينَ هم أهل الله وخاصته. وها نحن نلتقي في لقائنا هذا وتدبر سورة الكهف.
 توقفت في اللقاء السابق عند قول الله تبارك وتعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَدًا) وبينت كيف أنَّ الله تبارك وتعالى سيسير الجبال بحيث تنتقل من مكانها، وما سيفعله الله في الجبال، نظرًا لأن المشركين كانوا يعتقدون أن الجبال هي أعظم المخلوقات، وكانوا يقولون: إذا قامت الساعة فأين تذهب هذه الجبال؟ وماذا سيفعل الله بهذه الجبال؟ فبين الله أنَّ هذه الجبال تُنسف نسفًا : (وَيَسْألونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) [سورة طه: ١٠٥]، وبين أنَّ الأرض تُرى بَارِزَةً، ومعنى بَارِزَةً  يعني: لا يوجد عليها شيء يسترها، الأرض كان عليها جبال ومباني وعمارات ومصانع وشركات ...الخ فأصبحت الأرض الآن كلها بارزة بقدرة الله .
ثُمَّ يقول الله بعد ذلك : (وَحَشَرْنَهُمْ) يعني: جمعناهم، جمعناهم للحشر، لماذا الجمع؟ لأنَّ النَّاس فارقوا الدنيا وماتوا في أزمنة مختلفة وأزمنة طويلة ما بين آدم عليه السلام إلى ما شاء الله، فالله يجمع هؤلاء جميعا في مكان واحد سماه: «أرض السَّاهِرَةِ» (فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ) وجعل الله أمر إحياء الناس من قبورهم، وسوقهم إلى أرض الساهرة عملية سهلة لا تستغرق دقيقة بمفهوم البشر؛ لأنها عبارة عن (زَجَرَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾ زَجَرَةٌ من الزجرات التي قد يزجرها الإنسان للحيوان، الأرض الساهرة هي الأرض البيضاء، الأرض التي لا شيء عليها، أرض بيضاء، أرض فضاء، لا شيء عليها يجمع الله عليها الخلائق.
(وَحَشَرْنَاهُمْ) معطوفة عَلَى : (نُسَيرُ الْجِبَالَ) (نسير) فعل مضارع، (وحَشَرْنَاهُمْ) فعل ماض، فلِمَ عبر في الحشر بالذات بالفعل الماضي؟ دلالةً عَلَى أَنَّ الحشر قد وقع وانتهى، تأكيدا لوقوعه، كأنه لا مشكلة فيه فهو محقق الوقوع، هذا (وَحَشَرْنَهُمْ) 
 هل سرعة الحشر هذه تترك الفرصة لأحد لكي يفرّ أو لكي يهرب من الحشر قَالَ الله : لا (فَلَمْ نُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَدًا) (فَلَمْ نُغَادِرُ) يعني: فلم نترك، مادة «غَدَرَ» و «غَادَرَ» كلها تعطي معنى الترك، حَتَّى كلمة «الغدر» معناها: ترك الوفاء وخيانة الأمانة، الغدر يعني: الإنسان الذي يغدر بأحد، فَهذا معناه: أنه لا وفاء عنده وخائن للأمانة، فالمغادرة المنفية هنا هي الترك، فلم تغادر يعني: فلم نترك مِنْهُمْ أَحَدًا، فلا يستطيع أحد أن يفر، ولا يستطيع أحد أن يبتعد.
ثُمَّ بعد ذلك يقول الله تَعَالَى: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفَا) العرض: إحضارهم ليعلموا أنهم سيتلقون ما يأمرهم الله به في شأنه، يعني: يُعرضون عَلَى رب العباد، كما قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [سورة الحاقة : ١٨] لا يخفى منكم أي شيء. فالعرض عملية منظمة بحيث لا يخفى فيها صفٌ للَّذي يليه، يعني: نعلم أنَّ الصفوف في مفهوم البشر من الناس من يكون طويلا، فقد يختفي من خلفه، لكنهم سينظمون صفوفًا، بحيث يكون كل صفٌ في الخلف أَعْلَى قليلا من الصف الَّذِي أمامه، حَتَّى يظهر، حَتَّى لا يختفي أحد، فلن يكون هناك فرصة للتخفي، لأنَّ الصفوف ستكون متداخلة، بحيث لا يُخفي صف صفًّا، هذه: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا).

(لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة) يعني: قائلين لهم: ﴿لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةً﴾ (أَوَّلَ مَرَّة) يوم أن خلقكم الله ونزلتم من بطون أمهاتكم عرايا، فأنتم اليوم جئتم (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةً) ، والله وضّح ذلك في قوله تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْناكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ هذه الآية في سورة الأنعام. (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةً) هذه الجملة عطفت على ماذا قبلها؟ إحنا عندنا جملتان قبل هذه الجملة، كل منهما تصلح للعطف، وكل منهما إذا عطف عليها يكون لها دلالة في المعنى الجملة الأولى التي تصلح للعطف،نحن تركنا (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ)، نحن الآن في : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [ سورة الأنعام : ٩٤] ، الجملة المعطوف عليها أولا جملة (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) لأنَّ جملة (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) في قول الله تَعَالَى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) جملة: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقول لقول محذوف، فإذا كان القول المحذوف من الله تبارك وتعالى أي: أنَّ الملائكة وهم يقودونهم إلى العذاب قَالَ الله لهم: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ)، فإذا كانت جملة (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقول القول هو قول الله فيجوز أن نعطف عليها : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى)، كأنهم قيل لهم قولان، يقال لهم : (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ)، ويقال لهم: (لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةً) يعني: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا) لا تُعطف عَلَى (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) إِلَّا إذا كانت (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقولا لقول الله لأنَّ (جئْتُمُونَا فَرَادَى) هذه لا تُقال من الملائكة إِنَّمَا تُقال من الله. وصلت هذه النقطة ولا لا؟
 يعني : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا) تكون معطوفةً عَلَى: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ)  بشرط أن تكون (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقولا لقول الله تَعَالَى، الله قَالَ لهم : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ)، وَقَالَ لهم : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى)، وإذا كانت جملة: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقولا لقول الملائكة، يعني: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ)  يقولون لهم : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ) فتكون جملة: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقولا لقول الملائكة، تكون جملة : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا) معطوفة عَلَى ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ﴾ واضح هكذا؟
طبعًا ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ ﴾ من المخاطب هنا في ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ﴾؟ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل مؤمن صالح للخطاب، يعني: الخطاب للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو خطاب للأُمَّةِ، فتكون معطوفةً عَلَى هُذَا القول: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ﴾ ، ويكون هنا انتقل القرآن من خطاب الاعتبار بحال الظالمين إلى خطاب الظالمين أنفسهم بوعيدهم بجهنم، يعني: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ ﴾ كان الخطاب موجها على المعتبرين بأحوال الظالمين، وهم أمة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أما (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا) الخطاب هنا انتقل القرآن من خطاب المعتبرين بأحوال الظالمين إلى خطاب الظالمين أنفسهم، يخاطب الله هنا الظالمين أنفسهم بالوعد الحق والوعيد الحق الذي كان قد وعدهم به: ها أنتم (جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فهمنا هكذا؟ هذه (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى).
 ما معنى فرادى؟
الإنسان في الدنيا عنده أولاده، وعنده أنصاره وعنده زوجه، وعنده ماله، وعنده سلطانه، وعنده جاهه، وعنده حسبه، وعنده نسبه ...الخ  ما لدى الإنسان في الدنيا، الله يقول (جِئْتُمُونَا) منعزلين عن كل ما تعتزون به في الدنيا، خلاص أنتم الآن جئتمونا وأنتم منعزلون عن كل شيء كنتم تعتزون به وتعتبرونه عزا لكم في الدنيا، ها أنتم الآن، هذا معنى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى): لا مال، ولا ولد، ولا جاه ...الخ. والفرادى جمع باعتبار أن كل واحد جاء منعزلا عما يعتز به في دنياه، هذا معنى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) كما خُلقتم أول مرة، الإنسان خُلق في أول مرة ولد من بطن أمه منعزلا، لا جاه ولا سلطان، ولا مال، ولا ملبس يستر به عورته، كذلك في الآخرة سيكون بلا ملبس يستر به عورته، كما خلقنا الله في أوَّلِ خلقنا، هذا معنى : (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
 (وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْنَكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) التخويل هو التفضل بالعطاء ، يعني : العطاء بلا مقابل التخويل هو التفضل بالإنعام، يتفضل الله عليك بأن يُنعم عليك بنعمة ما ، فكل ما ينفعك تفضل الله عليك به، ولذلك قَالَ اللهُ: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرِّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ ) [سورة الزمر : ۸] ليبين الله أنك لا تملك أن تحضر لنفسك نعمة من النعم، ولا تملك أن تفعل شيئًا لم يقدره الله لك أن تفعل، فكل ما أنت فيه إِنَّما هو نعيم من الله تبارك وتعالى، يعني: الإنسان كل ما يتمتع به في الدنيا من جاه، من مال، من سلطان، من .. من ...الخ فإنَّ هذا كله من فضل الله تبارك وتعالى عليك.
الفرق بين «التخويل» و«الهبة»:
«الهبة»: قد توهب للإنسان وقد تكون بين البشر، يعني: البشر كل منهم يهب الآخر، والله جل وعلا يهب الإنسان ما يهبه من نعم، والله جل وعلا قصر الهبة في القرآن الكريم على الولد، وذكرها في ملك سليمان: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي) [سورة ص : ٣٥].
إذا «التخويل»: تخويل في كل النعم التي تتنعم بها، والهبة قد يهبك الله نعما زائدة على التخويل ، يعني : هما متداخلتان و مفترقتان. التخويل يتفضل الله عليك بالعطاء، الهبة يهبك الله الشيء دون مقابل منك، وكذلك التخويل دون مقابل، إلا أنك تأخذ بالأسباب في كلا الأمرين، يعني: أنت تأخذ بالأسباب في الهبة، وتأخذ بالأسباب في التخويل. هذه (وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْناكُمْ)، يعني : يبين الله تبارك وتعالى أنَّ كلَّ النعم التي أنعم الله بها علينا في هذه الدنيا هو المُنعم، وليس هناك من مُنعم غير الله ، فهو الَّذِي خولكم هذه النعم، وها أنتم تركتموها وراءكم. هذه: ﴿وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْنَكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ .
 هناك فرق دقيق يُعد كالشعرة، يعني: التخويل والهبة:
«التخويل»: عطاء عام في كل شيء ، الله خولك إيَّاه وملكك إيَّاه عَلَى سبيل التملك.
«الهبة»: أصلا ليست عَلَى سبيل التملك، وَإِنَّمَا هو يهبك الشَّيْء دون جهد منك، ودون مقابل منك، ما أنت إِلَّا آخذ بالأسباب.
فيكون التخويل في التملك، والهبة في غير تملك؛ ولذلك الهبة إذا وقعت بين البشر، فيجوز للواهب الرجوع في هبته الهبة يجوز له الرجوع فيها لأنها ليست على سبيل التملك، كذلك ما يهبك الله إياه وخاصة الولد، وهو الذي ورد في شأنه الهبة في القرآن، هل الولد أنت تتملكه؟ أو هو أصبح كالشَّيْء الملك لك؟ لا، هو ابنك نعم، لكن ليس على سبيل التملك، إِنَّمَا هو عَلَى سبيل الهبة، إِنَّمَا التخويل: نعم، فأنا قلت: الولد، الولد هبة، الهبة بين البشر عندما تهبين ابنتك مثلا كردانا من الذهب وتقولين: هذا هبة، أو هذا خولتك إياه، لو تخويل ليس لك أن ترجعي فيه، لو هبة لك الحق في الرجوع فيه.
(وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْتَكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ) خل بالكم من التعبير الدقيق : (وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) معناها: أنَّ الَّذِي خولناه لكم لو قيل لكم: خذوه معكم لن تأخذوه، يعني: لو عُرِض عَلَى إنسان أن يأخذ أمواله كلها معه وهو يحتضر، لو عُرض عليه لا يمكن أن يأخذها معه، كأنهم تركوها معرضين عنها بعد أن كنتم تتمسكوا بها؛ هذا معنى : (وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْناكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) .
حضرت موقفا ذات مرة - وكنت صغيرًا صحيح - لكن حضرته: أحد الناس يحتضر وزوجه يرحمها الله هي الأخرى تحاول أن تعطيه السيجارة في فمه ليشربها وهو يصرخ بأعلى صوته ويقول لها : ابعدي أنتِ وَهذه السيجارة، فهي متعجبة كيف هو كان يحب هذا ؟! يعني هي تقول: هو كان يحب هذا والآن لماذا يقول هذا؟! يعني أنا أوضح لكم فَقَطْ : ﴿وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْتَكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ خلاص الإنسان في هذا الوقت يُعرض عن كل شيء في الدنيا؛ ولذلك من وفقه الله هو الذي يتذكر في هذا الوقت أن يوصي بتسديد الديون، ويوصي برد المظالم، ويوصي .. ويوصي، حَتَّى يُنقح نفسه قدر الإمكان والطاقة.
فهؤلاء الله تبارك وتعالى بيّن انظر : (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء) أين هم الآن؟ والزعم لا يُستعمل إلا في القول الباطل؛ إِمَّا عن تعمدٍ للباطل، وَإِمَّا عن سوء اعتقاد بالنسبة للإنسان في زعمه، يعني: الزعم إما أن يكون عن تعمد للباطل، يزعم شيئًا وهو متعمد أنه باطل، أو يزعم شيئًا بسبب سوء اعتقاده، يعني هنا سوء اعتقاد وهو : ﴿ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ ﴾  كنتم تزعمون (أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ)
« لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ »، هنا قراءتان: - (لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) بالنصب، فتكون «بَيْنَ» الظرفية، وهي كلمة «بين» المسافة التي تكون بين الإنسان وبين شيء آخر، هذا يُسمى: «ظرف مكان»، فقد تقطع هذا البين بينكم.
وفي قراء الرفع : ﴿لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) البين هنا أصبح اسما، يعني: كلمة (بَيْنُكُمْ) عَلَى قراءة الرفع أصبحت (بَيْنُكُمْ) اسما بعد أن كانت ظرفية، أي (بين) أصبحت الآن اسما يعني علمًا، أصبح (البين) علما ووقع فاعلا  لـ (تَقَطَّع) (لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) ؛ يعني: أصبح علمًا وتقطع هذا العلم، إِنَّمَا (بَيْنَكُمْ» الظرفية البينية التي بين الإنسان وبين أي شيء.
طيب، أين فاعل: (تَقَطَّعَ) عَلَى قراءة النصب في (بَيْنَكُمْ)؟ الفاعل غير موجود، لكنه يفهم من البينية اللي هي وقعت ظرفًا: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) ، هَذَا معنى: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةً) .
(بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن تَجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا) : بل أنكرتم الرفع، معناها بالرفع إنَّ «بين» هي الفاعل، كأنَّ البين أصبح اسما، أصبح علما، هذا العلم نظرًا لزعمكم، يعني: البين الذي بيني وبينك، البين هذا هو الظرف أو المكان اللي بيني وبينك جعله الله علما وأصبح فاعلا ، وطالما علماً وأصبح فاعلا ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا العلم تقطع، هذا الاسم تقطع، يعني: كلمة «بينكُمْ» أصبحت بالضبط كأنها مثلا: لقد تقطع بيتكم مثلا، لقد تقطع فلان ، لو افترضنا أنه فلان، ففلان هذا تقطع، هذا بنقل الظرفية إلى الاسم المحسوس، لكي يتناسب مع التقطع، ما أخذتم بالكم ! الآن لو أنا قلت : لقد تقطع ما بيني وبين فلان، البينية هنا ظرف، هل البينية التي بيني وبينك والتي تقطعت؟ هو الظرف يتقطع ؟ سيتقطع كيف؟ فنقل الله الظرف إِلَى شيء محسوس ووقع فاعلا، يعني عَلَى قراءة الرفع (بَيْنُكُمْ) فاعل، وطالما أنه فاعل يعني أصبح اسما وأصبح علمًا، فهو الذي تقطع، فقراءة الرفع نقلت الظرف المعنوي إلى المحسوس، وهو البين.
يعني: كان في الظرف بينية، البينية التي بينهم وبين شركائهم على قراءة الرفع أصبح البين اسما وَهُذَا الاسم تقطع.
وَقَالَ الله في سورة الكهف: (بَلْ زَعَمْتُمْ) أَيْضًا زعم قول باطل، وَهذَا أَيْضًا زعما اعتقاد (أَلَّن نَجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا) [سورة الكهف : ٤٨] يُقال لهم في هذا الوقت وهم يرون الموعد أمام أعينهم : أنتم كنتم في الدنيا تزعمون أننا لن نجعل لكم موعدا.
 «بَيْنَ» ظرف مكان، عندما أقول - لكن ركزوا قليلا- بيني وبين فلان علاقة، ما البينية لهذه؟ البينية هذه هي ظرف المكان أو الجزء من المكان الذي بيني وبين فلان، توجد فيه علاقة في النصف، إذا الظرف ظرف مكان، الله تبارك وتعالى نقل ظرف المكان من المعنوي إلى المحسوس لندركه ونفهمه، وهذا هو الأهم، كما قَالَ الله تَعَالَى: (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا).

ونتوقف هاهنا الليلة، ونسأل الله الله أن يرزقني وَإِيَّاكُمُ الإخلاص في القول والفعل والعمل، وأن يجعلني الله وَإِيَّاكُمْ من أهل القرآن الكريم الَّذِينَ هم أهل الله وخاصته، وأسأله أن يبارك في أولادنا، وأن يهديهم طريقه المستقيم، وأن يجعلهم جميعا أثرًا صالحًا لنا، وأن يغفر الله لوالدينا وأن يرحمهم، وأن يجعلنا أثرًا صالحًا لهم، وأن يجعلنا الولد الصالح الذي يدعو لهم، اللهم آمين، اللهم آمين، وأن يغفر الله لمشايخنا ولعلمائنا ولأساتذتنا، ولكل من له فضل علينا، اللهم آمين.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعِيْنَ وَالحَمْدُ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق