سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الهادي اﻷمين سيدنا محمد ﷺ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها اﻹخوة الصائمون، أيها اﻹخوة المؤمنون،أيها اﻹخوة المصلون، يا أهل القرآن في شهر القرآن. نواصل مع تدبر هذه القصة العجيبة في سورة القصص.
وقفنا عند قوله تعالى (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [سورة القصص : 9] تأملوا في هذه اﻵيات: عندما التقطه أي التقط آل فرعون موسى -عليه السلام- من النهر، من الماء وجدوه رضيعا، علموا أنه وُلد في السنة التي يُقتل فيها اﻷبناء ﻷنهم كانوا يقتلون أوﻻد عام دون عام فهمُوا بقتله مما يدل عليه السياق فتدخلت امرأة فرعون وقالت هذه الكلمات العجيبة التي أقف معها اليوم بإشارات للإخوة جميعا وللأخوات خصوصاً .
(وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) ﻻحظوا (امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) انظروا هذا اﻷسلوب العجيب أمام طاغية جبار يُقتّل اﻷوﻻد ويستحيي النساء، والعجيب أنه مع جبروته وطغيانه وادعائه اﻷلوهية يستجيب لهذه الكلمات فلم يقتله. أريد أن أصل إلى قضية مهمة جدا. هذه المرأة التي آمنت فيما بعد بموسى -عليه السلام- وهذا من توفيق الله لها حتى إنها فوق أيضا ومع قوة إيمانها عدّها النبي ﷺ ممن كمُل من النساء، في الحديث الصحيح يقول ﷺ (كمُل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنت عمران وآسيا امرأة فرعون) وفضل عائشة -رضي الله تعالى عنها- كفضل الثريد على الطعام. إذا هي من النساء الكاملات، عقلها، وهذا قبل بعثة موسى- تأملوا فطرتها، أسلوبها، حكمتها، ومع ذلك هذا الطاغية الذي يقتل الشعب، يقتل بني إسرائيل ويستخدم ويستحيي نساءهم وأمام هذه الكلمات الرقيقة العاقلة الجميلة يستسلم فرعون. انظروا إلى لطفها، انظروا إلى تعليلها (لَا تَقْتُلُوهُ) ثم تعلل (عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) قيل: إنه ﻻ يولد له ولدا، قيل إنه ﻻ يولد له إلا البنات ففرحوا بهذا الولد من باب التبني وهو معروف قديما وحديثا وإن كان قد أبطله اﻹسلام.
أصل إلى قضية أيتها اﻷخوات الكريمات وأيها اﻹخوة الكرام أننا نملك مفاتيح لكل إنسان، يقول ابن حجر -رحمه الله- في قصة إسلام الطفيل بن عمر لما جاء إلى النبي ﷺ وحاولت قريش أن تصده عن النبي ﷺ فتحدث مع النبي ﷺ ثم لما انتهى قام النبي ﷺ وقرأ عليه بضع آيات من القرآن ثم أسلم الطفيل وأسلمت دوس هذا استجابة لدعوة النبي ﷺ (اللهم اهد دوسا وأتِ بهم) قال ابن حجر: إن كل إنسان له مفتاح وقد عرف النبي ﷺ مفتاح الطفيل فأتى من قبله فاهتدى من خلال آيات، وقد عرف النبي ﷺ مفاتيح آخرين.
إذا مع جبروت فرعون وطغيانه له مفتاح. أتت امرأته -هذه المرأة العاقلة التي كمُلت- من قِبل هذا الجانب فحصلت على ما تريد، لم تدخل في معركة معه، لم تنزع الولد، استخدمت اﻷسلوب الجميل (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) ما قالت لي فقط (ولك) وإن كان الله -جل وعلا- اقتضت حكمته أن يكون قرة عين لها وإﻻ فرعون تجبر وطغى ولم يستجب. ثم تقول (لَا تَقْتُلُوهُ) هل اكتفت بهذا؟ ﻻ، إنها تُعلل ..تذكر التعليل (عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)، إذا أسلوب اﻹقناع، أسلوب الحوار، لو أن الزوجين استخدما هذا اﻷسلوب في قضاياهما وأمورهما لما نشأت هذه المشكلات التي نراها في البيوت ولكن يبدأ النقاش ثم ترتفع اﻷصوات ثم الشجار ثم الطلاق والفِراق وما يترتب على ذلك . لو أننا في نقاشنا وتحاورنا مع أبنائنا استخدمنا هذا اﻷسلوب، أسلوب اﻹقناع والحوار.
يا أخي الكريم: فيه نظرية بسيطة: مادمت مُقتنعا بهذا اﻷمر الذي تريد أن تفعله فانقل قناعتك للآخرين كما فعلت امرأة فرعون(لَا تَقْتُلُوهُ) ولم تقف عند هذا الحد، تعلل .. تبين.. تُقنع (عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) وفعلا (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) قال بعض العلماء إن هذا من قول الله أن هذا منهج صحيح. وهم ﻻ يشعرون ماذا سيترتب على هذا الولد، هذا الرضيع موسى -عليه السلام- يمكرون ويمكر الله، يكيدون ويكيد الله (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)) [سورة الطارق] . إذا هذه المرأة وصلت إلى هذا الجانب بهذه الطريقة وبهذا اﻷسلوب الجميل فحققت هذا المعنى.
ثم أيها اﻷحبة (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) إن ربي لطيف لما يشاء، قضية اللطف أيها اﻷخوة (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) لو كانوا يشعرون أن هذا هو الذي سيكون وبسببه قتلوا نصف بني إسرائيل من اﻷبناء ما تركوه، سيأتي -بإذن الله- وقفة مع (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) ومع التلطف.
ثالثا هذه الفراسة الجميلة -أيها اﻷحبة- من هذه المرأة فراسة يقذفها الله في القلب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) [سورة اﻷنفال : 29] أمامنا أمثلة كثيرة في القرآن، أمامنا:
لما اشترى الرجل يوسف -عليه السلام- قال لامرأته (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) [سورة يوسف : 21] مع أنه اشتراه بمبلغ على أنه مملوك وهو الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام لكنه توسم فيه (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) مرة أخرى يأتي التعليل من العزيز لامرأته (عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) [سورة يوسف : 21] سبحان الله.
الراهب تصوروا هذا الراهب الذي في قصة اﻷخدود، كان الغلام يمُر في طريقه يذهب إلى الساحر، مجرد أنه يمشي في الشارع ومع ذلك تفرَّس فيه. بالله عليكم كم مشى في هذا الشارع من أناس؟؛ كم مشى في هذا الشارع من شباب؟! كم..كم ؟! وﻻ يزال هذا الغلام على منهج قومه يتعلم السحر بأمر من الملك وبإرسال من أهله ومع ذلك يتفرَّس فيه الراهب ويدعوه ويبدأ يعلمه..يكون هذا الغلام هو مُنقذ أمته، هو الذي أنقذ أمته فحازوا على ذاك الفوز الكبير.
الفِراسة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) [سورة اﻷنفال : 29] أوصي اﻵباء، اﻷمهات، المربين أن يتفرسوا في أوﻻدهم، أن يتفرسوا في طلابهم، ما يدريك أن هذا الابن الذي أمامك وهو واحد من أبنائك -أصلح الله أبناءنا جميعاً- أو هذا التلميذ الذي أمامك سيكون منقذا للأمة، سيكون قائدا، سيكون مجدداً لهذا الدين، سيكون كأحد اﻷئمة اﻷربعة، كشيخ اﻹسلام، كمحمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله جميعا- كصلاح الدين، هي فِراسة.
الشيخ عبدالله القرعاوي -رحمه الله- لما ذهب إلى جيزان ماذا حدث؟ بدأ يدعو ويعلم الناس وجد شابا عمره سبعة عشر عاما يرعى الغنم تفرَّس فيه فضمه وآواه وعلمه وفيما بعد زوجه ابنته فكان ذلك اﻹمام العلامة الشيخ حافظ الحكمي -رحمه الله- الذي ترك هذا اﻷثر العظيم مع أنه توفي وعمره خمس وثلاثون أو ست وثلاثون عاما، توفي قبل شيخه بسنوات -رحمه الله- لكن تفرَّس فيه الشيخ عبدالله القرعاوي فوجد إماما فاعتنى به مع عنايته بغيره فكان كما توقع.
إذا قضية الفراسة هذا الجانب مهم جدا وسبق أن تحدثت فيه في محاضرة كاملة فآيات عظيمة ومنهج تربوي نحتاج إليه كما حدث من هذه المرأة -رضي الله تعالى عنها-.
إذا نصل إلى حقيقة إلى أن كل واحد منا يستطيع أن يحل مشكلته إذا وقعت بالحكمة واﻷسلوب واﻹقناع ليس بالقوة، أسلوب القوة قد ﻻ يؤدي إلى نتيجة، أحيانا أسلوب القوة والضغط يؤدي إلى عكس النتيجة. قد يستسلم الابن أو يستسلم التلميذ أو يستسلم مواطن تحت الضغط لكنه داخليا وفكريا يتحول إلى عكس ما يُراد منه ﻷننا لم نوفق في أسلوب اﻹقناع، في أسلوب الحوار.. الحوار الشرعي وليس حوار التنازل، ﻻ (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة النحل : 125] ، (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ ) [سورة آل عمران : 64] هذا مع الكفار، مع اليهود، مع النصارى فلماذا لا نحاور أبناءنا؟! لماذا ﻻ نتحاور في مشكلاتنا لنصل إلى كلمة سواء ؟! إننا بحاجة لهذا المنهج وإلى هذه الحقيقة.
أسأل الله -جل وعلا- التوفيق والسداد ونواصل في الحلقة القادمة إن شاء الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق