الجمعة، 29 أغسطس 2014

الحلقـ التاسعة ـــة/ العين


الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الكون بما فيه وجامع الناس ليوم لا ريب فيه وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله بلّغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبيًا عن أمته صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما وحّد الله وعرَّف به ودعا إليه.
 أيها المباركون درسُ هذا المساء عنوانه "العين" والعين جارحةٌ معروفة ذكرها الله عز وجل في كتابه مُمتنا على عباده بقوله (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ *وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ). ولَمَّا ذكر الله عز وجل ما أعدّه لعباده الصالحين في جنانه قال: (وَحُورٌ عِينٌ *كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) فـ"حُور" جمعٌ مفردها حوراء. و"عِين" جمعٌ مفردها عيناء. ومعنى عيناء: المرأة واسعة العينين في جمال.
 قبل أن نأتي للآية التي نريد الحديث عنها نقول: كان الناس وما زلوا متفقين على أن العينين مما يأسر الرجل في المرأة قال جرير: إنَّ العيون التي في طرفها حَورٌ** قتلننا ثم لم يحيينَّ قتلانا.
أهل الصناعة الأدبية يقولون إن هذا أبدع بيتٍ قالته العرب في الغزل؛ هذا تصنيف أدبي، ويقولون أن أكذب بيتٍ قالته العرب قول مهلهل ربيعة:
ولولا الريح أُسمِعَ من بهَجْرٍ ** صليلَ الخيل تَقْرعُ بالذكور.
 فهو يتكلم عن حربٍ كانت في بادية العراق ويقول إن الريح حالت بين أن يسمع من في نجد صليلَ السيوف التي تقرع في العراق. وهذا قول فيه مبالغة، لكنها مبالغةٌ -عندهم- ممجوجة يعني غير مقبولة؛ فعدُّوا هذا البيت أكذب بيتٍ قالته العرب. نحن نتكلم الآن عن قضية العين حتى نصل إلى المقصود.
 الله جل وعلا، إذا رأيت الناس في أعينهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
 رجلٌ سليم صحيح العينين
 ورجل إحدى عينيه سليمة والأخرى بها عور
 ورجل كتب له ألا يُبصر بهما، وأجر الله عظيم والابتلاء في هذا شاقّ.
 وكل هذه الثلاث وجدت في الصحابة فعبد الله ابن أم مكتوم رضي الله عنه وأرضاه كان أعمى وهذه تسمية القرآن له، ربنا يقول (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) وقال ربنا (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ)
 وأما من بعينيه عور فإن المغيرة ابن شعبة الثقفي -رضي الله عنه وأرضاه- من الحروب التي خاضها والمقاتلات التي شارك فيها فُقِعت إحدى عينيه فأضحى -باصطلاح اللغة- أعور. وأكثر الصحابة جلهم صحيح العينين. بيِّن؟
الذي نريد أن نناقشه الآن قضية فقهية، فنحن في دروسنا نُفرِّق في كل حلقة.. في كل لقاء نحاول أن نسلك سبيلا.
 ربنا عز وجل يقول: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ) كتبنا على من؟ على بني إسرائيل. (فِيهَا) أين؟ في التوراة. لكن هذا محمولٌ على أن شرع من قبلنا شرع لنا.. مسألة أصولية معروفة لكن هنا العلماء اتفقوا على أن هذا شرع لنا.
 (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) الجنايات -أيها المبارك- من حيث الإجمال تنقسم إلى قسمين:
جناية على النفس وجناية على مادون النفس. فقول الله عز وجل  (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) هذا حديث عن الجناية على النفس وليس هذا حديثَنا؛ نحن حديثنا عن العين.
 قال ربنا بعدها (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) معنى الآية وكتبنا عليهم فيها أن العين بالعين، لأنه معطوف على مثله فيأخذ نفس الحُكم، العين بالعين، واضح الآن؟ هذه العين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالإذن والسن بالسن هذه كلها جنايات دون النفس، والنفس مستقلة؛ النفس بالنفس، لكن نبقى في العين بالعين. أما واحدة منها، من الجنايات فظاهرة لا تحتاج إلى مزيد برهان؛ رجلٌ سليم العينين فقأ إحدى عيني رجل سليم العينين، ما الأمر؟ يُفقأ عينه. ظاهر؟ هذه لا إشكال فيها ولا تحتاج مزيد توقف. لكن الإشكال أين يأتي؟ يأتي لو أن رجلًا إحدى عينيه سليمة والأخرى عوراء لا يرى بها البتة ففقأ عيني رجلٍ سليم العينين. ما الحكم؟ واضح الآن؟
 ذهب أبو حنيفة -رحمه الله- والشافعي -رحمه الله- وعددٌ من أهل العلم إلى أنه تُفقأ عينه عملًا بعموم الآية والله يقول -والآية ليس فيها تقييد- (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) قالا تُفقأ عينه ولو سيبقى أعمى. هذا قول.
قال الحنابلة -الإمام أحمد -رحمه الله- يقول لا تفقأ عينه لأنه إذا فقأت عينه أصبح أعمى، في حين أن خصمه لم يصبح أعمى، لكن الإمام أحمد رحمه الله يرى أن هذا الذي فقأ عيني الرجل يُطالَب بالدية كاملة مع أن الأصل أن العين فيها نصف الدية؛ العين الواحدة فيها نصف الدية، قال لكن نطالبه بالدية كاملة لأنه بالنسبة له ليس له إلا عين واحدة فنطالبه بالدية كاملة لكن لا تُفقأ عينه. هذا قول مَن؟ الإمام الأحمد. وقلنا ماذا قال الإمام أبو حنيفة والشافعي؟ قالوا تُفقأ عينه.
 بقينا في مالك رحمه الله. قال مالك رحمه الله -وهذا الذي أرجحه- قال: يُخَيَّر. من الذي يُخَيَّر؟ المجنِي عليه. إما أن يقبل الدية كاملة -كما قال الإمام أحمد- فإن لم يقبل فله الحق أن يطالب بفقئ عين من فقأ عينه. واضح؟ رأى مالكٌ رحمه الله تعارض الأدلة فأتى بها من نصفها فقال يُخير المجني عليه بين أن يقبل الدية كاملة أو أن تُفقأ عين الجاني. واضح الآن؟
 إذا جاءت بالضد؛ رجلٌ إحدى عينيه سليمة، فجاء رجلٌ عيناه سليمتان ففقأ العين السليمة من الرجل الذي ليس له إلا عين واحدة، فلما فقأ عينه أصبح أعمى، فما الحل؟ قال الفقهاء -العلماء-: الحل الآية.. الله يقول: (العين بالعين) تُفقأ عينه. تفقأ عينه ويترك. في روايات عن الإمام أحمد أنه تُفقأ عين ويُعطى نصف الدية، يعني يقبض نصف الدية وتفقأ عين خصمه.. واحدة منها لكن لم يقل أحد فيما أعلم.. لم يقل أحد من الفقهاء -فيما أعلم- أنه تُفقأ العينين ولو قال به أحد ما سمعه أحد. لكن بالنسبة للذي فقد عينه السليمة هو فقد بصره كله فلما فقد بصره كله جاءت الرواية عن الإمام -وهذا حق- أنه تفقأ عين الجاني فيستريح نفسيا ثم يعطى نصف الدية، والعلم عند الله. هذه الآن تعمدت قولها قلت نحن نخوض في الدروس والقرآن فيه أحكام وفيه إيمانيات وفيه قصص، نحاول أن نأتي عليها كلها.هذا ما يتعلق بالأحكام الفقهية.
ثمة أحكام فقهية تتعلق في غير الجنايات وهي أن الله عز وجل أمر المؤمنين أن يغضُوا أبصارهم. والأول يقول:
 وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا ** لِقلبكَ يَوْماً أتْعَبَتْكَ المنَاظِرُ
 رَأَيْتَ الَّذِى لا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌِ عَلَيْه ** وَلا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابرُ
 والإنسان عقلًا ونقلًا لو أطلق بصره سيتعب كثيرا لأنه ليس كل شيء يراه يقدر عليه فأمر الله المؤمنين.. أمر الله المؤمنات بأن يغُضوا أبصارهم ويحفظوا فروجهم. هذا ما يتعلق بالعين في الأوامر والنواهي.
جاءت العين في شرفها لصاحبها قال -صلى الله عليه وسلم-: (عينان لا تمسهما النار عين باتت تحرس في سبيل الله وعين بكت من خشية الله) والسعيد من جمع الاثنتين قطعا. لكن إذا تعذر أحدهما فلا يترك الإنسان الشيء الآخر. يوم القيامة يُحشر الناس لكن أهل الضلالة.. تلك الأعين التي آتاهم الله إياها فلم ينتفعوا بها تُسلب منهم بالكلية، قال الله عز وجل (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) فيُحشرون كما قال الله عز وجل عنهم -أعاذنا الله وإياكم- (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏) وهذا عياذًا بالله نسأل الله ألا نكون من أهله.
ثم بعد ذلك الناس في أرض المحشر ويحشرون حفاة عراة. وجُلّ الخلق بِجِبِّلتهم بطبيعتهم لو رأوا أحدا لا شيء يستر عورته لوجدوا في أنفسهم طمعا في أن يطّلِعوا عليها، لكنهم يوم القيامة يقع منهم ذلك، يعني يقع منهم أن يروا الناس لا شيء يستر عوراتهم ومع ذلك لا يقع منهم أن ينظر بعضهم إلى بعض ولما قالت أم المؤمنين الصِّديقة الطاهرة المبرأة عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- لما أخبرها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الناس يُحشرون يوم القيامة حفاة عراة غُرلا بُهما قالت: يا رسول الله النساء والرجال ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: (يا ابنة الصديق الأمر أعظم من ذلك) فلا يلتفت أحد إلى أحد أيًا كان حال الآخر (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) وكل إنسان عنده ما يشغله، شغلني الله وإياكم في الدنيا بطاعته وأكرمنا يوم القيامة برحمته.
ثم يأتي الفصل العظيم يفصل رب العزة والجلال بين خلقه ويُؤمر بأهل الجنة إلى الجنة ويدخلها فقراء المهاجرين -أي الجنة- قبل الناس يقيلون فيها أربعين عاما قبل أن يدخلها الناس. ثم يؤتى بالموت على صورة كبش أملح فيُنحر.. يُذبح بين الجنة والنار وهذا مَرّ معنا كثيرا وينتهي الأمر إلى أن ينادي منادي يا أهل النار خلود بلا موت ويا أهل الجنة خلود بلا موت.
 يبقى ما نحيا جميعا من أجله وهو لذة النظر إلى وجه العلي الأعلى جل جلاله.
 المعتزلة فرقة من الفِرق المنتسبة للإسلام، لهم علماء لا يرتاب عاقل في علمهم في الصناعة اللغوية خاصةً مثل الزمخشري وغيره إبراهيم النظّار وأبو هاشم الجبائي وغيرهم من شيوخ المعتزلة، هؤلاء يقولون إن نصوص اللغة تمنع -حسب فهمهم- أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وقالوا إن قول الله عز وجل لكليمه موسى (لَنْ تَرَانِي) تعني النفي الأبدي؛ يعني لن تراني لا في الدنيا ولا في الآخرة. وقولهم هذا نصروه أعظم نصر في زمانهم وهم قالوا بفتنة خلق القرآن وأيدهم المأمون عفى الله عنه والمعتصم عفى الله عنه، حتى جاء المتوكل -رحمه الله- ورفع الضر عن أهل الإسلام –هذا من باب الاستطراد العلمي، لكن من حيث القضية الإيماني فإن المسلمين ليسوا في القيامة موعودين بشيء أعظم من رؤية وجه الله هو وعد الله الأعظم لعباده. قال نبينا الصادق المصدوق المُبلغ عن ربه (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون البدر في السماء لا تضامون في رؤيته) وقال ربنا في كتابه العظيم  (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) ولما ذكر الله أهل الكفر قال (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ).
 يوجد -أعاذنا الله وإياكم- من يحجُب نفسه عن الله في الدنيا -عن ربه- بإرادته، فكيف يطمع يوم القيامة أن ينال القُرب من الله؟!
 كيف يحجب الإنسان نفسه عن الله بإرادته؟
رجلٌ عافاه الله في نفسه وبدنه وأهله؛ يسمع الآذان ويقبل أن يُشغل بغير الصلاة، ويمُر عليه أذان تلو أذان، وصلاة تلو صلاة وتبلغ القسوة في قلبه أن يخرج من بيته ويرى جموع المسلمين تخرج من مسجد حيه ولا يقع في قلبه ذرة من انكسار أنه يتمنى أن يكون معهم. هذه الذروة في القسوة. ويزداد الأمر -عياذا بالله- أسوأ لو كان ينظر إليهم نظرة محتقر وأنهم يسعون فيما لا شيء ورائه. هذا شاء أم أبى بمحض إرادته -وكل شيء يجري بمشيئة الله- يحجِب نفسه عن ربه.
 لكن ينال القُرب يوم القيامة من هو في الدنيا مقبل على الله. وقد قلنا مرارًا: والله إنه ليس منظرا حسنا ما يُرى في مدرجات الملاعب في أن الناس ماكثون الساعات تلو الساعات ويُنادى للصلاة وراء الصلاة ويعجِز أحدهم أن يقوم يصلي ثم لا يلبث أن يقوم لغير ذلك. لا يقبل أحدٌ يرجو ما عند الله أن يصنع مثل هذا.
عافانا الله وإياكم من كل سوء وجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه وصلى الله على محمدٍ وآله والحمد لله رب العالمين.
–––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––––
الشكر موصول للأخت "ن.ن" لتفريغها للحلقة جزاها الله خيرا ونفع بها. (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق