هذه الوقفة الثانية من الجزء التاسع والعشرين ونفتتحُها بالمُزمل
قال أصدق القائلين ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (٥) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا)
النداءُ هنا نداءٌ بالوصف فالمُزمل ليس اسماً له ﷺ لكنَّه تزمَّل في ثيابه فنُودي بالوصف الذي كان عليه فلما أراد الله -جل وعلا- أن يُبين له الطريق الأمثل والسبيل الأقوم للقيام بحملِ أعباءِ الرسالة أرشده إلى أمرٍ عظيم وهو قيام الليل فقال -جل وعلا- ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) ويظهرُ أن هذا كان في حقِه فرضاً ثم خُفف عنه لقوله -جل وعلا- (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ).
(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ) يعني إن شئت نصفه (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ) أي من النصف (قَلِيلًا)
(أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) يصبح ثُلثين
(أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) أي أنَّ قيامك الليل يكون بالقرآن، ثم قال له
(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) يُوطِنه لما سيأتيه فالشرع في أصله ثقيل ورجُلٌ كان يمشي وراء مالك قال يا أبا عبد الله يا أبا عبد الله ثم مسألةٌ سهلة، ثم مسألةٌ يسيرة فالتفت وقال ليس في الدين شيءٌ يسير إن الله يقول (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا).
ثم أدَّب الله نبيه وأرشده قال (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) القول المُختار من معنى ناشئة الليل هي الصلاة التي تكون بين نومتين فيبدأ الإنسان ليله -إن شاء- بالنوم حتى لو صلى يسيراً ثم ينام ثم بعد ذلك يقوم فيُصلي ما كتب الله له أن يُصلي ثم يعود فينام حتى يستعد لصلاة الفجر هذه هي ناشِئة الليل.
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) هذه الناشئة يُمكن أن لا تكون من دون نوم في العشر الأواخر من رمضان أما العشرين الأُول منه فيأتي الإنسان بناشِئة الليل.
قال ربنا (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا(٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا) يوجد جسد كل أحد له جسد يحتاج لأن يشقى، يكُد يبحث عن قوتِه وقوت أبنائه وأهله ومن يعولهم، ويحتاج هذا الجسد في الوقت نفسه أن ينجو من عذاب النار فيختصم أمام جسدك مطلبان: طلبك للعيش والرزق وهذا حق، وخوفك من عذاب النار وهذا حق فالتوفيق بينهُما كيف يكون ؟! بالآية هذه (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا(٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا) تجعل نهارك للخلق وتجعل ليلك للخالق، تجعل جسدك ينصَبُ في النهار إكراماً لنفسك وقوتِك وأهل بيتك، وتجعل جسدك ينصَبُ في الليل إجلالاً لربك. هذا هو المراد الأعظم من قول الله -جل وعلا-(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا(٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا).
حتى تكون هُناك عناية، قُدرة، إقبال على قيام الليل لابُد من قوتٍ في النهار قال -جلَّ وعلا- (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) التبتُل : الانقطاع إلى الشيء. هو التبتُل الانقطاع لكن لما قال (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) عرفنا أنه انقِطاعٌ إلى الله (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا).
ثم وصف ذاته العلية قال (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) إن علِمت يا عبدنا أن لا إله إلا نحنُ نخفِض ونرفع، ونقبِضُ ونبسُط، ونحكُم ما نشاء ونفعلُ ما نُريد، فليس لك عنَّا حَيدة أبداً ولهذا أمر الله نبيه بالانقطاعِ إليه -جل جلاله- والمقصودُ: أن الإنسان أُمر بحفظِ جسده لكِنه لن يحفظ جسده من شيءٍ أعظم من النار ولن يكون ذلكم الحفظ إلا بالوقوف بين يدي الله الواحد القهار.
بعدها -في السورة التي بعدها- قال -جل وعلا- (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) هُناك كُسوة -ثياب- لاصقة بالبدن هذه تُسمى شِعار، وثياب على الثياب التي لاصقة بالبدن وهذه تُسمى دِثار فقال ﷺ لمَّا أراد أن يمدح الأنصار قال (الأنصارُ شِعار والناسُ دِثار). لمَّا جاءه المَلَك ورأى المَلًك وَجِل -خاف- فدخل البيت يقول لزوجته دثروني دثروني لمَّا قال لها دثروني دثروني كان عليه ثياب أو لم يكُن ؟! كان لكنه كان يحتاج إلى مزيدِ ثياب، مزيد كساء، مزيد غِطاء حتى يلتم بدنُه بعضه على بعض لأنه يرجُف، فدثَّرته خديجة -غطَّته- فأصبح مُدَثِراً وأصلُها مُتدثر لكن هذا تخفيف فأنزل الله -جل وعلا- عليه قوله (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ناداه بالوصف الذي هو فيه (قُمْ فَأَنْذِرْ) قال العُلماء: نُبئ النبي ﷺ بإقرأ وأُرسل بالمُدثر لأن إقرأ ليس فيها دعوة لتبليغ الدين لكن (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (٢) قُمْ فَأَنْذِرْ) هذه فيها الأمرُ بالدعوة إلى الدين فقال بعضُ العلماء إنه نُبئ بإقرأ ﷺ وأُرسل بالمدثر.
حتى يقوم بالرسالة على أكمل وجه بيَّن له الطريق وأوضح له المحجَّة فقال له (قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) وهذا الذي يُبنى عليه كُل شيء لابُد أن تعتقِد أنه لا أحد أكبرُ من الله فكيف تدعو إلى الله وأنت في قلبك أنَّ أحداً أكبر من الله؟! مُحال فأول الخُطوات أن تعلم وأن تكون على يقين أنه لا أحد أكبرُ من الله فإذا كان لا أحد أكبرُ من الله وعلِمت هذا يقيناً أعانك هذا على أن تدعو إليه.
(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) حملُها على الوضوء صعبٌ جداً لأن هذا من أول ما أُنزل لكِن المقصود: هذا كلامٌ كِناية في اللغة أن يكون الإنسان نقياً تقياً عفيفاً يُسمى طاهر الأثواب قال أبو تمَّام:
مضى طاهِر الأثواب لم تبقَ روضةٌ ** غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبرُ
عليك سلامُ الله وقفاً فإنني ** رأيتُ الكريم الحُرّ ليس له عُمرُ
موضوع الشاهد قوله طاهر الأثواب يعني نقياً عفيفاً.
(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) كُل ما فيه دنس وخنن وفجور فأهجُره هجراً كامِلاً.
ثم قال له (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) هذه مرَّت معنا. مرَّت معنا ونُعيدها إجمالاً بمعنى: لا تُعطي أحداً مالاً رجاء أن يُكافئك بأكبر منه فإنَّ مقام النبوة يُجلّ عن مِثل هذا، ولهذا لمَّا أراد أن يُهاجر عرض عليه أبو بكرٍ الناقة من غير ثمن فأبى ﷺ وأخذها من أبي بكر وهو أبو بكر أخذها بثمن صلوات الله وسلامه عليه.
ثم هذا كُله يحتاج إلى صبر، لن تصبر إلا إذا كان صبرك لله فقال له (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) فتلَبَّس ﷺ بهذا كُله وقام به أكمل قيام وبلَّغ دين الله ونصح الأُمة ومُنذ أن قال الله -جل وعلا- له (قُمْ فَأَنْذِرْ) إلى أن وقف على بغلتِه يومَ حجَّة الوداع وقال (ألا هل بلَّغت) وشهِدوا له الصحابة وكانوا أكثر من مئةِ ألفٍ أسمعهُم الله صوته فكان يرفع إصبعه إلى السماء ثم ينكُتُها إلى الأرض ويقول (( اللهم فاشهد )) ونحنُ لم نحضُر ولم نشهد ذلك المحفل لكن نشهدُ أن نبينا ﷺ بلَّغ عن الله رسالاته ونصح له في برِيَّاته.
فإن جاءك مغلوبٌ على عقله وقال لك كيف تشهد وأنت لم ترى؟!
قل لهُ إنَّ الخليل إبراهيم قال (قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) فقَبِل الله شهادته مع أنَّ إبراهيم لم يرَ خلق السماوات ولا خلق الأرض لكِن هذا أمرٌ ينقُله الأخيار بعضُهم عن بعض ثابِتٌ في الكتاب أنًّ نبينا ﷺ بلَّغ رسالة ربه على الوجه الأكمل والنحو الأتم جعلنا الله وإياكم من أتباعه.
النداءُ هنا نداءٌ بالوصف فالمُزمل ليس اسماً له ﷺ لكنَّه تزمَّل في ثيابه فنُودي بالوصف الذي كان عليه فلما أراد الله -جل وعلا- أن يُبين له الطريق الأمثل والسبيل الأقوم للقيام بحملِ أعباءِ الرسالة أرشده إلى أمرٍ عظيم وهو قيام الليل فقال -جل وعلا- ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) ويظهرُ أن هذا كان في حقِه فرضاً ثم خُفف عنه لقوله -جل وعلا- (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ).
(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ) يعني إن شئت نصفه (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ) أي من النصف (قَلِيلًا)
(أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) يصبح ثُلثين
(أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) أي أنَّ قيامك الليل يكون بالقرآن، ثم قال له
(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) يُوطِنه لما سيأتيه فالشرع في أصله ثقيل ورجُلٌ كان يمشي وراء مالك قال يا أبا عبد الله يا أبا عبد الله ثم مسألةٌ سهلة، ثم مسألةٌ يسيرة فالتفت وقال ليس في الدين شيءٌ يسير إن الله يقول (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا).
ثم أدَّب الله نبيه وأرشده قال (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) القول المُختار من معنى ناشئة الليل هي الصلاة التي تكون بين نومتين فيبدأ الإنسان ليله -إن شاء- بالنوم حتى لو صلى يسيراً ثم ينام ثم بعد ذلك يقوم فيُصلي ما كتب الله له أن يُصلي ثم يعود فينام حتى يستعد لصلاة الفجر هذه هي ناشِئة الليل.
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) هذه الناشئة يُمكن أن لا تكون من دون نوم في العشر الأواخر من رمضان أما العشرين الأُول منه فيأتي الإنسان بناشِئة الليل.
قال ربنا (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا(٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا) يوجد جسد كل أحد له جسد يحتاج لأن يشقى، يكُد يبحث عن قوتِه وقوت أبنائه وأهله ومن يعولهم، ويحتاج هذا الجسد في الوقت نفسه أن ينجو من عذاب النار فيختصم أمام جسدك مطلبان: طلبك للعيش والرزق وهذا حق، وخوفك من عذاب النار وهذا حق فالتوفيق بينهُما كيف يكون ؟! بالآية هذه (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا(٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا) تجعل نهارك للخلق وتجعل ليلك للخالق، تجعل جسدك ينصَبُ في النهار إكراماً لنفسك وقوتِك وأهل بيتك، وتجعل جسدك ينصَبُ في الليل إجلالاً لربك. هذا هو المراد الأعظم من قول الله -جل وعلا-(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا(٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا).
حتى تكون هُناك عناية، قُدرة، إقبال على قيام الليل لابُد من قوتٍ في النهار قال -جلَّ وعلا- (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) التبتُل : الانقطاع إلى الشيء. هو التبتُل الانقطاع لكن لما قال (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) عرفنا أنه انقِطاعٌ إلى الله (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا).
ثم وصف ذاته العلية قال (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) إن علِمت يا عبدنا أن لا إله إلا نحنُ نخفِض ونرفع، ونقبِضُ ونبسُط، ونحكُم ما نشاء ونفعلُ ما نُريد، فليس لك عنَّا حَيدة أبداً ولهذا أمر الله نبيه بالانقطاعِ إليه -جل جلاله- والمقصودُ: أن الإنسان أُمر بحفظِ جسده لكِنه لن يحفظ جسده من شيءٍ أعظم من النار ولن يكون ذلكم الحفظ إلا بالوقوف بين يدي الله الواحد القهار.
بعدها -في السورة التي بعدها- قال -جل وعلا- (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) هُناك كُسوة -ثياب- لاصقة بالبدن هذه تُسمى شِعار، وثياب على الثياب التي لاصقة بالبدن وهذه تُسمى دِثار فقال ﷺ لمَّا أراد أن يمدح الأنصار قال (الأنصارُ شِعار والناسُ دِثار). لمَّا جاءه المَلَك ورأى المَلًك وَجِل -خاف- فدخل البيت يقول لزوجته دثروني دثروني لمَّا قال لها دثروني دثروني كان عليه ثياب أو لم يكُن ؟! كان لكنه كان يحتاج إلى مزيدِ ثياب، مزيد كساء، مزيد غِطاء حتى يلتم بدنُه بعضه على بعض لأنه يرجُف، فدثَّرته خديجة -غطَّته- فأصبح مُدَثِراً وأصلُها مُتدثر لكن هذا تخفيف فأنزل الله -جل وعلا- عليه قوله (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ناداه بالوصف الذي هو فيه (قُمْ فَأَنْذِرْ) قال العُلماء: نُبئ النبي ﷺ بإقرأ وأُرسل بالمُدثر لأن إقرأ ليس فيها دعوة لتبليغ الدين لكن (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (٢) قُمْ فَأَنْذِرْ) هذه فيها الأمرُ بالدعوة إلى الدين فقال بعضُ العلماء إنه نُبئ بإقرأ ﷺ وأُرسل بالمدثر.
حتى يقوم بالرسالة على أكمل وجه بيَّن له الطريق وأوضح له المحجَّة فقال له (قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) وهذا الذي يُبنى عليه كُل شيء لابُد أن تعتقِد أنه لا أحد أكبرُ من الله فكيف تدعو إلى الله وأنت في قلبك أنَّ أحداً أكبر من الله؟! مُحال فأول الخُطوات أن تعلم وأن تكون على يقين أنه لا أحد أكبرُ من الله فإذا كان لا أحد أكبرُ من الله وعلِمت هذا يقيناً أعانك هذا على أن تدعو إليه.
(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) حملُها على الوضوء صعبٌ جداً لأن هذا من أول ما أُنزل لكِن المقصود: هذا كلامٌ كِناية في اللغة أن يكون الإنسان نقياً تقياً عفيفاً يُسمى طاهر الأثواب قال أبو تمَّام:
مضى طاهِر الأثواب لم تبقَ روضةٌ ** غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبرُ
عليك سلامُ الله وقفاً فإنني ** رأيتُ الكريم الحُرّ ليس له عُمرُ
موضوع الشاهد قوله طاهر الأثواب يعني نقياً عفيفاً.
(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) كُل ما فيه دنس وخنن وفجور فأهجُره هجراً كامِلاً.
ثم قال له (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) هذه مرَّت معنا. مرَّت معنا ونُعيدها إجمالاً بمعنى: لا تُعطي أحداً مالاً رجاء أن يُكافئك بأكبر منه فإنَّ مقام النبوة يُجلّ عن مِثل هذا، ولهذا لمَّا أراد أن يُهاجر عرض عليه أبو بكرٍ الناقة من غير ثمن فأبى ﷺ وأخذها من أبي بكر وهو أبو بكر أخذها بثمن صلوات الله وسلامه عليه.
ثم هذا كُله يحتاج إلى صبر، لن تصبر إلا إذا كان صبرك لله فقال له (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) فتلَبَّس ﷺ بهذا كُله وقام به أكمل قيام وبلَّغ دين الله ونصح الأُمة ومُنذ أن قال الله -جل وعلا- له (قُمْ فَأَنْذِرْ) إلى أن وقف على بغلتِه يومَ حجَّة الوداع وقال (ألا هل بلَّغت) وشهِدوا له الصحابة وكانوا أكثر من مئةِ ألفٍ أسمعهُم الله صوته فكان يرفع إصبعه إلى السماء ثم ينكُتُها إلى الأرض ويقول (( اللهم فاشهد )) ونحنُ لم نحضُر ولم نشهد ذلك المحفل لكن نشهدُ أن نبينا ﷺ بلَّغ عن الله رسالاته ونصح له في برِيَّاته.
فإن جاءك مغلوبٌ على عقله وقال لك كيف تشهد وأنت لم ترى؟!
قل لهُ إنَّ الخليل إبراهيم قال (قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) فقَبِل الله شهادته مع أنَّ إبراهيم لم يرَ خلق السماوات ولا خلق الأرض لكِن هذا أمرٌ ينقُله الأخيار بعضُهم عن بعض ثابِتٌ في الكتاب أنًّ نبينا ﷺ بلَّغ رسالة ربه على الوجه الأكمل والنحو الأتم جعلنا الله وإياكم من أتباعه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق