الخميس، 5 يونيو 2014

الوقفــ الأولى ـــة من جـ (29)/ وقفات متنقلة في بعض الآيات


بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
 ونحنُ بحمد الله في الجزء التاسع والعشرين وهذه وقفات ثلاث معه:
 ونُدرك في الوقفة الأولى أن هذا الجزء متعدد السور -كما مر معنا- في الجزأين اللذين قبله ولِهذا تكون الوقفات متنقلة في بعض الآيات.
/ ففي سورة تبارك يقول -جل وعلا- عن أهل النار ( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ*فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) 
السؤال: هل كانوا يسمعون أم لا ؟ 
الجواب: قطعاً كانوا يسمعون لكِنَّهم لم يكونوا يسمعون سمع انتِفاع، فمِن سَنن القُرآن أنَّ الجارحة سمعاً كانت أو بصراً أو غيرها إن لم تنفع صاحِبها في الآخرة فكأنها غيرُ موجودة، فنفى الله عنهُم السمع. والمُراد بالسمع المنفي سمع الانتِفاع يعني لم يكونوا ينتفعون بما يسمعون هذا في تبارك .
/ في القلم قال جلَّ ذكره ( ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) فأقسم الله -جل وعلا- هُنا بالقلم
فأيُ قلمٍ هذا الذي أقسم الله به؟
قال بعضُ العُلماء: جِنس القلم.
وقال بعضُهم إنما يعود للقلم الذي قال فيه ﷺ في الحديث (إنَّ أول ما خلق الله القلم) وقيل غير ذلك.
 لكن ينبغي أن يُعلم أنَّ بعض العُلماء يقول: أنَّ الأقلام ثلاثة:
- القلم الأول الذي خلقه الله الذي فيه الحديث
- والنوع الثاني الأقلام التي بيدِ الملائكة
- والنوع الثالث الأقلام التي بيدِ سائر الناس أو بيدِ الناس.
القلمُ الأول، والأقلام التي بيد الملائكة، والقلم الذي بيد سائر الناس.
العرب جاء في مُعلَّقة لبيب أنه قال وهو يصِف أثر السيُول على الديار قال:
وجَلَ السيُول عن الطُلُول كأنها ** زُبرٌ تجِدُ مُتونها أقلامُها
أنت تعلم أنَّ السيل إذا جاء على منطِقة كأنه يُعيد صياغتها فيظهرُ أثر السيل فيها، وهذا البيتُ في الذروة من التشبيه. طبعاً لبيد هو الشاعرُ الوحيدُ من أصحاب المُعلَّقات الذي أدرك الإسلام وأسلم، والأعشى أدرك الإسلام ولم يُسلم.
هذا البيت يقولون إنَّ الفرزدق -الشاعر المعروف- مرَّ في أحد أحياء الكوفة بجوار مسجد فإذا برجُل يُنشد قصيدة لبيد فلمَّا وصل هذا البيت سجد الفرزدق فقيل له يا أبا فراس بعد أن رفع لمَ سجدت قال أنتم تسجدون عند جيِّد القرآن وأنا أسجُد عِند جيِّد الشعر.
 تفقه منها أن الفرزدق -عياذاً بالله- كان رقيق الدين في حين أن جرير كان قوي الديانة إذا ما قورن بالفرزدق.
 من يطلب العلم، يتصدر للناس، يسوسهم لابُد أن يكون على حالة إطلاع على أحوال الناس حتى يُفرق في ماذا يأخُذ منهم، فالفرزدق يؤخذ منه لُغته بفصاحته ولولا الفرزدق -يقولون- لذهب ثُلث لغة العرب لكن ما يؤخذ منه ديانة. وعُمر بن عبد العزيز لما ولِي الخلافة قال له وزيره الشُعراء بالباب قال مالي بهم حاجة. قال هذا ديدن الملوك من قبلك فقال من بالباب؟ فقيل كُلما ذُكر له شاعر ذكر عيباً قادِحاً في دينه -طبعاً المسجد يُنزه عن هذه الأبيات ما تُقال- حتى وصل إلى جرير قال إن كان ولابُد فهذا.
فلمَّا عُرض عليه الفرزدق رفض أن يقبله أن يدخل عليه، ولمَّا عُرض عليه الأخطل وعُرض عليه غيرُهما رفض، فلمَّا قال إن كان ولابُد فهذا فدخل عليه جرير، فلما دخل عليه جرير أخذ يمدحه فقال: يا جرير اتق الله ولا تقُل إلا حقَّا ثم أعطاه عطيَّة من ماله فلمَّا خرج جرير وإذا بالشُعراء عند باب القصر قالوا ما وراءك قال: جئتُكم من أميرٍ -يعني أمير المؤمنين- يُعطي المساكين ويمنع الشُعراء، يعني أعطاني لأني مسكين لم يُعطني لأنني شاعر.
 نعود للآية: في الأقلام نحنُ عرَّجنا إلى هذا أدبياً من أجل الأقلام.
 قال الله في سورة القلم ( مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) "ما" هذه نافية وهي عند النحويِّن أُخت أو تعمل عمل ليس لكِن السؤال: مامعنى بنعمةِ ربك ؟ هو المراد قوله ما أنت بمجنون اتهموه بالجنون فالله يقول ما أنت بمجنون لكن جيء بقول (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ)  بين "ما" و"أنت" وما بين (بِمَجْنُونٍ)  تحتمِل معانٍ:
 يُمكن أن يكون المعنى الباء باء القسم فيُصبح يُقسم الله بنعمته على أنَّ محمداً غير مجنون واضح؟ يعني ما أنت ونعمتِنا بمجنون.
 وممكن أن تكون الباء باء السبب فيُصبح المعنى ما أنت بسبب نعمتِنا عليك بمجنون.
ويُمكن أن تكون الباء باء الإلصاق يُصبح المعنى ما أنت وأنت مُتلبِس بنعمة النبوة ونعمة الله عليك بمجنون إذ لا يتَّفق نعمة النبوة وهي أعلى المقامات مع حال الجنون. ظاهِرٌ هذا .
فإطلاعك على المفردات ومعاني اللغة يُعينك على فهم كلام رب العالمين جل جلاله.
في سورة المعارج قال -جل وعلا- (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلَّا ۖ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ) قال مشارِق وقال مغارِب.
لمَّا نأتي للمُزَّمِل يقول فيها (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ)
في الرحمن قال فيها (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ)
في سورة الرحمن كان الخِطاب للمثنى (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) للجن والإنس فثنَّى المشرقين والمغربين قال (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ)
 في المُزَّمل يتكلم عن التوحيد وإفراد الله -جل وعلا- بالعبادة فقال (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أفرد (لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا)
في سورة المعارج التي بين أيدينا يتكلم عن جماعات، عن فِرق (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ) جماعات فلمَّا ناسب الحال ذلك قال (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) فرَّق.
 والمعنى في كُل الأحوال واحد فليس ثمة إلا مشرق ومغرب لكن ثنَّهُما بإعتبار الشتاء والصيف، وجمعها بإعتبار تعدُد إشراق الشمس وتعدُد غروبها هذا كُله ما تُرشد إليه السور من هذا الجزء المبارك الجزء التاسع والعشرين ولاحظنا أننا اعتمدنا فيه في هذه الوقفة على قضية اللغة وأثرها في فهم كلام الله تبارك وتعالى.
 أحياناً تأتيك آلة أُخرى وهي آلة الإطلاع على السيرة، وأحياناً تأتيك آلة أُخرى ويكون الخطاب فيها وعظاً فتجعل الآية إلى أُختها من كلام الله فتفهم مُراد الله تبارك وتعالى من كلامه.
 من آيات هذا الجزء قول الله جل وعلا في سورة نوح (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا) هُنا أصل الكلام "من ما" و"من" هُنا للتعليل، للسبب والمعنى: بسبب خطيئاتهم أُغرقوا فأُدخلوا ناراً. والسورة تتحدث عن قوم نوح (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا)  أُغرقوا بسبب الذنوب وحلَّ عليهم العذاب بسبب دعوة نوح . وللحياة الدُنيا صِله بالآخرة فلمَّا يأتي أهل الموقف لِنوح ويقولون له أنت أول رُسل الله إلى الأرض يقول قد كانت لي دعوة فدعوت بها على قومي.
 قد يقول قائل هل يجوز أن أدعوا بمثل هذا الدُعاء والله يقول في كتابه (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)؟ نقول لا يجوز، لأن نوح أوحى الله إليه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، أما نحن فلا نملك هذا. نوحٌ علِم بوحي الله إليه أنه لن يؤمن أحد بعد الذين آمنوا وقال عن الذين آمنوا معه (وما آمن معه إلا قليل) لأجل ذلك دعى عليهم (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا*إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا*رَبِّ اغْفِرْ لِي) بدأ يُرتب الحقوق والقُرآن أعظم مُعلم قال (رَبِّ اغْفِرْ لِي) لا أحد أحق به من نفسه ( وَلِوَالِدَيَّ) لعظيم حقِهما (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا) من جاورني وأكل طعامي وأضافني وأضفته ليس كسائر الناس (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا) نسأل الله العافية .!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق