الأربعاء، 1 يناير 2014

المرحلة الرابعة / (معرفة دلالة الجملة وما يتعلق بها)

د.محمد بن عبد العزيز الخضيري



إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يُضلل فلا هادي له وأشهد ألّا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
المرحلة الرابعة: قال: معرفة دلالة الجملة وما يتعلق بها.
الجُمل في اللغة العربية له دلالات فالجملة الإسمية لها دلالة والجملة الفعلية لها دلالة والتقديم له دلالة والتأخير له دلالة وهكذا. هذه الدلالات مهمة جدا. فمثلا: قول الله -عز وجل- (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) هذه لها دلالة ليس أمرا مجردا قد يأتي ويدل على طلب الفعل، قد ياتي ويدل على التهديد .
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) هل هذا للتخيير؟ لا، هذا للتهديد مثلما تقول لواحد من الناس اعمل ما شئت فأنا لك بالمرصاد. هل تريد أن تقول له اعمل ما شئت بالفعل؟ لا، إنما تهدده . فهذه تُسمّى دلالات.
قال: الجمل لها أثر في إدراك أكمل المعاني ومعرفة أتمّ أوجه التفسير عند الكلام على تفسير كتاب الله -عز وجل-.
ثم قال: سنقصر الكلام في هذه المرحلة على مبحثين:
المبحث الأول: دلالة الجملة الإسمية والفعلية.
الجملة الإسمية هي التي تبدأ بالإسم مثل: محمد كريم، الله ربنا، محمد رسول الله. هذه جملة اسمية فهي تبدأ بإسم. هذه الجملة الإسمية يقول العلماء: تدل على الثبوت والدوام. فأنا الآن لما أقول [سعد كريم] لا أريد أن تفهموا أنه كريم الليلة فقط وغدا قد يتحول إلى بخيل،لا ، ما دمت قلت [سعد كريم] عبرت بالجملة الإسمية فإن هذا الوصف ثابت له ، مُلازم له، مُستقر عليه .
[محمد رسول الله] هل هو رسول في ساعة دون ساعة؟ لا، الرسالة معه -عليه الصلاة والسلام- حتى لقي ربه فهو رسول الله دائما حتى نلقاه على الحوض -بإذن الله عز وجل- فنشرب من يده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها -أسأل الله لي ولكم ولوالدينا وللمسلمين أن نُمكّن من هذه الشربة العظيمة- هذا دلالة الجملة الإسمية.
دلالة الجملة الفعلية: يقول العلماء تدل على التجدد والحدوث [ضرب محمد سعدا] الضربة وقعت وانتهت لأنها جملة فعلية، فالجملة الفعلية تدل على حدوث الشيء ثم انقطاعه ويتجدد بعد ذلك. أما الجملة الإسمية لا، تقول فلان كريم أو شجاع أو إنسان، هذه الأشياء مستمرة معه.
يقول: من أمثلة ذلك: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هذه جملة إسمية فالحمد كله ثابت مستقر لله -عز وجل- دائما وأبدا. لم يقل [نحمد الله رب العالمين] أراد أن يُبيّن أن الحمد ثابت لله ومستقِر، ولو قال [نحمد الله رب العالمين] يعني نحن نجدد الحمد لله مرة بعد أخرى كلما تجددت لنا نعمة جددنا الحمد ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث (إن الحمد لله) يعني الحمد كله ثابت لله ثم يقول (نحمده) نحن نُجدد الحمد له مرة بعد أخرى كلما تجددت نعمة أو اندفعت نقمة، ففعلي أنا مرة بعد أخرى وما يستحقه الله أن الحمد ثابت له مستقر له.
/ ثم قال: (اللَّهُ الصَّمَدُ) صمدية الله تأتي في حين دون حين أم ثابتة مستقرة لله؟ ثابتة مستقرة لله.
/ (يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ﴿١٥﴾ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) قال جاء بالجملة الفعلية (يَصْلَوْنَهَا) للدلالة الفعلية على زمن الاسطلاء مع تقوية الوعيد (يَصْلَوْنَهَا) في ذلك الوقت (يَوْمَ الدِّينِ) في تلك اللحظة يصلونها، يتجدد لهم الصلي ثم عُطفت عليها جملة إسمية (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) الاسطلاء في نار جهنم يُجدد لهم (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) فيتجدد الصلي بعد أن يُلبس ثوب جديد من اللحم وغيرها -نسأل الله العافية والسلامة- يبدأ الصلي من جديد (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) لتنضج مرة أخرى وتُصلى مرة أخرى -نسأل الله العافية- أي تُشوى في نار جهنم. ثم قال (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) هذه جملة إسمية ، هل سيخرجون من النار؟ لا، لن يخرجوا فهم ثابتون مستقرون دائمون في نار جهنم .
/ (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ﴿١﴾ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴿٢﴾ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) فالتساؤل يتجدد في الصباح يسألون وفي المساء يسألون وبعد أسبوع يسألون فهم يتساءلون هل سيكون بعث أو لن يكون بعث فالتساؤل يتجدد لهم بين الفينة والأخرى لكن اختلافهم في البعث مستقر ودائم وثابت ولذلك قال (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ) جاء بجملة فعلية ثم قال (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) جاء بجلة اسمية لأن الاختلاف باقي ودائم .
/ (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿٢٦﴾ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) التصديق بيوم الدين يتفاوت لدى المؤمن أحيانا كأنك ترى الجنة والنار من شدة تصديقك بيوم الدين، وأحيانا تقول: ساعة لقلبك وساعة لربك وتنسى الآخرة، وتنسى إن كل الساعات لله -عز وجل- من الغفلة التي تحصل لك، فالله يقول إن المؤمنين (يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) يتجدد لهم التصديق فمرة يزيد ومرة يخف قليلا ثم يزيد وهكذا يحدث لهم تصديق بعد تصديق. الآن لو كلمتكم عن الجنة وعن النار وآياتها يزيد عندكم التصديق وتخرجون كأنكم على جناحي طائر من شدة العلو الذي يحصل للإنسان عندما يتذكر هذه المعاني ثم إذا جلس الإنسان على البحر وإلا شاهد -مثلا- بعض الثمثيليات وبعض المشاهد السخيفة وغيرها نسي الآخرة، ولذلك -رحمة بنا- قال (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) ثم قال (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) جاء بالجملة الإسمية لأن إشفاقهم من العذاب دائم ، باقٍ لا يتخلف، لو تخلف نسوا الآخرة .
/ (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) جاء بجملة إسمية للدلالة على أن هذه البراءة ثابتة وباقية ودائمة إلى يوم القيامة. لكن لو صلحنا صُلح مع إسرائيل خلاص نُخرِّب هذه البراءة؟ ما نخربها، باقية، ولو إن إسرائيل فتحت مصانع لنا في بلادنا وأكرمتنا وأعطتنا من خيرات الدنيا نخرِّب هذه البراءة؟ ما نخرِبها، باقية، البراءة باقية إلى يوم الدين.
/(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) قال العلماء: سلام إبراهيم أبلغ من سلام الملائكة ، لماذا؟ لأن الملائكة قالوا (سَلَامًا) أي [نُسلِّم عليك يا إبراهيم سلاما] هذه جملة فعلية يعني ياتي سلامنا مرة بعد أخرى -يتجدد- أما إبراهيم ماذا قال؟ قال (سَلَامٌ قَوْمٌ) يعني السلام ثابت عليكم مستقر معكم. أيهما أبلغ؟ الذي ياتي ويذهب أم الثابت والمستقر؟الثابت والمستقر. ولذلك في قصة يحي قال (يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) وتعرفون أن أخذ الكتاب أحيانا يكون الإيمان قوي فيقوى الإنسان في الأخذ، أحيانا يضعف قليلا فيقِل واحيانا يضعُف فيقِل فيحتاج إلى أن يُجدد إيمانه حتى يأخذه بقوة قال (خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أما السلام فهو ثابت عليه يوم وُلد ويوم يموت ويوم يُبعث حيا.
ثم ذكر أمثلة في قول الله -عز وجل- (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) ...الخ
المبحث الثاني: دلالة التقديم والتأخير في الجملة:
التقديم: أن يُقدم الشيء المؤخر. الذي في العادة يكون مؤخرا.
التأخير: أن يُؤخر الشيء الذي يكون في العادة مُقدما.
هذا له معنى في كلام العرب وله دلالة ومعنى في كلام الله -عز وجل- فما يؤخر شيء مُقدم ولا يُقدم شيء مؤخر إلا لمعنى. قال: وفوائد ذلك لا تنحصر. قال الجرجاني في [دلائل الإعجاز]: "هو باب كثير الفوائد، جمّ المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية، لا يزال يفتَر لك عن بديعة ويُفضي بك إلى لطيفة" قال: ومن فوائد ذلك بيان الأهم، من فوائده الحصر، الاختصاص،مراعاة الفاصلة ونحو ذلك من الفوائد.
دعونا نأخذ بعض الأمثلة:
/ بيان الأهم : أن الله يُقدم شيئا ليُبين الأهم (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ..) بدأ بالآباء لأنهم هم أصل الإنسان وعصبية الإنسان لآبائه أشدّ من عصبيته لغيره واهل الجاهلية كانوا يفخرون بالآباء، فالله -عز وجل- يقول إن كان هؤلاء الآباء أحبّ إليكم من الله ورسوله فتربصوا بالعذاب فبدأ بهم لأنهم يفخرون بهم كثيرا ويعتدُّون بهم ولا يريدون أن يتركوا ماهم عليه لأجل ما كان عليه آباؤهم، ثم انتقل إلى الآبناء لأن الأبناء هم أقرب الناس إليك بعد آبائك، ثم انتقل إلى الإخوان لأنهم هم المحيطون بك والنُظراء، ثم انتقل إلى الزوجات. لماذا الزوجات؟ لأن الزوجة أجنبية عنك فعصبيتك لها أخفّ من عصبيتك لآبائك وأبنائك وإخوانك. وانظروا هذا -يا إخواني- في [سورة المعارج] قال الله -عز وجل- (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ) الآن العذاب يتمنى أن يفتدي منه بالأبناء لشدة رغبة الإنسان فيهم ومحبته لهم ولُصوقه بهم، يتمنى أن يجعل هؤلاء الأبناء فداء له عن العذاب (بِبَنِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ) الزوجة
 (وَأَخِيهِ) الأخ فبدأ بالأشد قُربا من شدة زهده في كل شيء حتى أنه مستعد إن هؤلاء الأبناء الذين يُفدِّيهم في حياته ومستعد يُقدم من أجلهم كل شيء إذا جاء العذاب يوم القيامة يود ان يجعلهم فداء له عن العذاب. في [سورة عبس] قال: (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) بدأ بالأخ لأن حياء الإنسان من أخيه أشدّ حياء من أبنائه، الآن لو يقول لك ابنك اعطني نقود لأشتري بها تقول له ابتعد، استحِ على وجهك لن أعطيك شيء، لكن لو جاء أخوك وقال: يا أبو فلان أنا داخل على الله ثم عليك أريد سلف ثلاثة آلآف دينار تستحي منه، ولذلك قال (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ*يَوْمَ يَفِرُّ) لأنه في يوم القيامة ينظر رأى أخاه فرّ بسرعة لأنه يستحي من أخيه،(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) جعل الصاحبة والبنين في آخر شيء وفي الافتداء جعلهما أول شيء.
قال: إفادة أيضا من طريقة العرب في التقديم والتأخير إفادة الاختصاص أوالحصر.
/ لاحظوا قول الله -عز وجل- في سورة الفاتحة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أصلها (نعبدك ونستعينك) ولكن قُدمت الكاف وجيء معها بـ"إيّا" فصارت (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فقُدِم ما حقه التأخير لماذا؟ قال: لإفادة الحصر يعني لا نعبد إلا أنت ولا نستعين إلا بك ولذلك فسّر بعض السلف (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) قال: معناها لا إله إلا الله، يعني لا معبود إلا الله لأن هذا التقديم دلّ على الحصر.
/ ومثله: قول الله -عز وجل- في سورة الشرح قال (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَبْ) لماذا لم يقل [ارغب إلى ربك]؟ لأنه إذا قلت (إِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَبْ) دلّ ذلك على الحصر يعني: ارغب إلى ربك لا إلى أحد سواه.
/ في سورة الإخلاص قال الله -عز وجل- (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) من يقول لي ما أصل هذه الكلمة لو رتبناها الترتيب المعروف في كلام العرب؟
الجواب: [ولم يكن أحدٌ كفوا له] "له" التي جاءت في الآية في الأول الأصل أنها في آخر شيء، و"أحد" التي جاءت في الأخير الأصل أنها تأتي في أول شيء (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) أصلها [لم يكن أحدٌ كفوا له] لماذا هذا؟ قال: للدلالة على الحصر وأنه ليس أحد مُكافئا ولا ندا ولا نظيرا لله -عز وجل-. فإن فهمت ما حقه التقديم والتأخير يدل على الحصر فهمت معنى عظيما في كتاب الله -عز وجل- وهو كثير جدا. (لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) ليست مثل [تُحشرون إلى الله] يعني إلى الله لا إلى غيره تُحشرون.
/ قال: ومن أمثلة ذلك: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ) لِم لم يقل بل فاعبد الله؟ ليقول لك اعبد الله وحده دون أحد سواه.
قال: ومن فوائد التقديم والتأخير التنبيه على السببية.
/ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قُدمت العبادة على الاستعانة أيهما أول إن الله يُعينك فتعبُد أو إنك نعبد فيُعينك الله؟ الأصل إن الله يُعينك فتعبد لكن قيل لك يا عبد أُعبد ليُعينك الله على كل شؤونك. فقدم العبادة التي هي في الأصل في الوقوع في الحياة بعد لأنه لا أحد يستطيع أن يعبد إلا بعد أن يُعينه الله، فيقول لك لا يا عبدي اعبدني وأنا أُعينك على كل شيء، على عبادتي وعلى ما تريد يا عبدي.
/ (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) أيهما أهمّ حفظ الفرج وإلا غضّ البصر؟ حفظ الفرج، لماذا قُدِم غضّ البصر؟ لأنه هو السبب في حفظ الفرج فمن غضّ بصره حفظ فرجه، ومن ضيع بصره وصار ينظر يمين وشمال وفي الشاشات وفي الأسواق يرتاد الأسواق ليلا ونهارا فقد لا يحفظ فرجه -نسأل الله العافية-.
/ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) لماذا قدّم التوابين على المتطهرين؟ قال: فإن التوبة سبب للطهارة.
وأيضا من فوائد التقديم: التقديم لأجل التنويه والتشريفومن أمثلة ذلك:
/ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) بدأ بالقراءة ليُبين لك أهميتها وأن الأمة لا تشرُف إلا بالقراءة وأن هذه الأمة أمة علم وليست أمة جهل فأول آية أُنزلت عليها اُفتتحت بقوله (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).
/ قال الله -عز وجل- (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) قال البخاري: "باب العلم قبل القول والعمل" إنك تعلم قبل أن تقول أو تعمل أخذها من قوله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) جعل الاستغفار بعد العِلم.
/ قال الله -عز وجل- ( الرَّحْمَٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ) قدم عِلم القرآن على خلق الإنسان ليُبيّن لك أن حياتك إنما تكون بالقرآن وأنك لن تسعد ولن تحيا حياة حقيقية تستمع بها بإنسانيتك إلا إذا تعلمت القرآن وسرت على هديه.
أيضا يكون من فوائد التقديم: التقديم للتحذير.
/ قال الله -عز وجل- (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) لماذا قدم الأموال؟ لأن الفتنة بالأموال أشد وألصق من الفتنة بالأولاد ولذلك قال الله -عز وجل- (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا).
/ أيضا قوله (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) لماذا قدم الظالم لنفسه؟ للتحذير منه، لكثرة وقوع العباد في ظلم أنفسهم ولأن أكثر المسلمين هم من صنف الظالم لنفسه وأقلّ منهم المقتصدون الذين يفعلون الواجبات ويتركون المحرمات ولا يفعلون النوافل فهؤلاء أقلّ من الظالمين لأنفسهم، وأقلّ من المقتصدين السابقون بالخيرات الذين يفعلون الواجبات ويتركون المحرمات ويفعلون السُنن والمُستحبات ويتركون المكروهات والمشتبهات فهؤلاء سابقون وهم أقل من المقتصدين، فقدم الظالم لأجل التحذير لكثرة وقوع ذلك الظلم من الناس فاحذروا أيها المسلمون.
/ كذلك قول الله -عز وجل- (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) استعاذوا من الصغيرة قبل الكبيرة لأنهم عرفوا أنهم على خطأ فالصغيرة بالنسبة لهم في ذلك الوقت ستكون شر ووبال، الآن رأينا الصغائر فكيف لو رأينا الكبائر قد سُجلت في صحائفنا يا ويلنا.
قال: وهذا الباب واسع وهو مبسوط في كتب علوم القرآن. وعلينا أن نتعرف عليه ومن أمثلته ذكرته اليوم في أحد المساجد قدم الله -عز وجل- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أمور أهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) فقدم  الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله ليُبين لك أنه مهم جدا وأن الخيرية لهذه الأمة لا تكون إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس لأنه أهمّ من الإيمان وإنما ليُبرز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال في سورة التوبة (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) قال الشيخ ابن باز -رحمه الله- "لا أعلم شعيرة قدمها الله على الإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك لبيان شرفه وعظيم فضله".
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته وأن يُفقِهنا في الدين وأن يُعلمنا تأويل الكتاب المبين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.                                                      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق