الوقفة الثانية من الجزء الخامس والعشرين من سورة الزُخرف عند قول الله -جل وعلا- : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) نزدلف إلى تفسير الآية.
- (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ) أسلوب شرط
(يَعْشُ) بمعنى يقصد وتأتي متعدية إما بـ"إلى" وإما بـ"عن"
فإذا قُلت عشوتَ -تتكلم عن أحد الناس- أو تتكلم عن نفسك تقول عشوتُ إلى نار فُلان أي قصدت نار فُلان رجُل من العرب كريم مُوقد نار فتقول أنت عن نفسك "عشوتُ إلى نار فُلان" أي قصدتُ نار فُلان يعني مجلسهُ، فإن أدبرت عنه وجعلته وراء ظهرك وسئلت تقُول عشوتُ عن نار فُلان ما معنى: عشوتَ عن ؟! أعرضت، وإذا قُلت "عشوت إلى" بمعنى قصدت.
قال العلي الكبير هُنا (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ) أصبح المعنى ومن يعرض عن ذكر الرحمن (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ) لا يظُنن أنه سيجدُ سعادة هاهُنا أو هُناك بل ما الواقع له يارب؟ قال -جل ذكره- (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ).
تعرفون البيضة، البيضة بياضُها أحياناً يأتي عليه قِشر أو القشر الأبيض نفسه إذا قشرت القشر يأتي البياض ثم بعد البياض يكون الصفار لو نظرت إلى البيضة حال استوائها لوجدت عليها قشر ثم البياض ثم الصفار هذا البياض الذي إذا استوت البيضة وأردت أن تأكُلها قشرته وأخرجتهُ يُسمى في اللغة: قيض -بالقاف- هذا القيض مستولي استيلائاً كبيراً على البيضة لأنه يُحيط بها من جميع الجهات والعربُ تقول "استيلاء القيضِ على البيض" من هذا المعنى استُل الفِعل (نُقيض) واضح.
من هذه المفردة، من هذا الجذر استُل الفعل نُقيّض فقال الله -جل وعلا- (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا) المعنى المُتقارب اليسير الفهم يعني نُتح له شيطاناً لكن نُتح لا تؤدي المعنى الذي يُراد من معنى تسلط الشيطان على من أعرض عن ذكر الرحمن واضح الآن. فيُصبح من أعرض عن ذكر الرحمن والتمس سعادة في غير ذِكر الرحمن الله -تبارك وتعالى- يُسلط عليه شيطاناً يُلازمه فيستولي الشيطان على فِكر وعقل وجوارح ومشاعر ذلك الذي أعرض عن الذِكر كاستيلاء القيض على البيض ظاهرٌ هذا.
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)
تحتمِل (فهو) أي: الإنسي قرينٌ للشيطان
وتحتمِل (فهو) أي : الشيطان قرينٌ للإنسي والمعنى مُتقارب، لِمَ المعنى مُتقارب؟
لأن لفظ كلمة (قرنَ) تدُل على المزج والاشتراك فمثلاً نحن نعرف في أحكام الحج يوجد حج مُفرد ، ويوجد حج تمتع تحُجّ ثم تفصل ثم تعتمر، أو تعتمر ثم تفصل ثم تحج وهذا هو التمتُع، باقي حال ثالثة في الفقه إسمُها حج قِران ما معنى حج قِران جمعَ قرنَ ما بين الحج والعمرة لهما طواف واحد وسعيٌ واحد لهذا سُمي هذا النُسك نُسك "قِران" لاقترانِ بعضِهما ببعض.
هُنا مِثلها (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) فيُصبح هذا الشيطان مُلازِماً للإنسي والإنسيُ -عياذاً بالله- تابِعٌ للشيطان فيقع بينهُما الاقتران فلا يُمكن أن ينجُم عن هذا الاقتران صالحُ عمل، مُحال.
قال الله -جل وعلا- ( نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ*وَإِنَّهُمْ) لأن "من" تحتمل الجمع "من" تُطلق على الإفراد وتُطلق على الجمع.
(وَإِنَّهُمْ) أي الشياطين (لَيَصُدُّونَهُمْ) أي الإنس (عَنِ السَّبِيلِ) أي عن السبيل الواضح الحق (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) وأعظمُ البلاء: أن يظُن الإنسان أنه على هُدى وهو على باطِل.
قال ربُنا بعدها (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا) متى يكون هذا؟ يوم القيامة
(حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي يقُول التابع -وهو الإنسي- للمتبوع وهو الشيطان.
(حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) يعني بُعد ما بين المشرقين، قد يقول قائل إن المشرقين هُنا من جهة واحِدة قال بعضُ العُلماء يعني مشرق الصيف ومشرق الشتاء، وليس بين مشرق الصيف ومشرق الشتاء كبيرُ بُعد لكن هذا من باب التغليب وقد مر معنا في لقاءاتٍ سلفت مسألةُ التغليب فقُلنا: مثلاً الله -جل وعلا- يقول (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) من الأبوان ؟ آدم وحواء وأنت تقُول سلمتُ على أبوَيّ تقصِد أبوك وأُمك لكنك تقُول الأبوان لأن الذكر أفضلُ من الأُنثى فلأجل هذا ما قُلت الأُمهان يبقى السؤال هُنا: فبُعد المشرقين لِمَ لم يقُل الله فبُعد المغربين؟! المشرق مُذكر والمغرب مُذكر فلا يُجد أحد أكبر من الآخر على أي أساس غُلِّب المشرقين؟
الجواب ظاهِرٌ جِداً النبي صلى الله عليه وسلم أخبر قال في الشيطان إن الشمس تُشرق بين قرني شيطان جهة المشرق هذا الذي جعل بعض العُلماء يقول لأجل ذلك قال هُنا (بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ)، (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ).
قال الله بعدها (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ)
وهذا يدُل على أنهُما مُشتركان في العذاب، والعذاب لا يكون إلا في النار.
نجم عن هذه الأمور ثلاث أحوال -بالعقل بالاستِنباط-
الحالة الأُولى: حال تسلُط في الدُنيا من الشيطان على الإنسي وهذا معنى (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا.
الحالة الثانية: حال تنافُر وذلك يوم الحشر، حال تنافُر ما بين الإنسي والجني (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) هذه حال تنافُر.
الحالة الثالثة: حال اشتراك واقتران في العذاب في نار جهنم.
إذاً كم حالة ؟ ثلاث ما بين الإنسي والشيطان هذه واضحة.
قول الله -جل وعلا- (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ)
من أعظم آيات الله تخويفاً لِمَ؟
لأنه في كُل الثقافات المُعاصرة العربية والعجمية -بس الصياغة تختلف- يقولون الموت مع الجماعة رحمة فأي مصيبة تعُم تهُم، فصلٌ دراسي فيه أربعون طالباً نجح تسعةٌ وثلاثون منهم وواحدٌ أخفق لا يجدُ وجهاً يُقابل به أباه ويقول له الفصل كُله نجح إلا أنا، لا يوجد وجه لكن لو أن الفصل من الأربعين لم ينجح إلا اثنان أو لم ينجح إلا واحد هذا الذي أخفق من جُملة الثمانية والثلاثين سيذهب إلى أبيه يختالُ في مشيته يقول ليس لوحدي كل الفصل راسب هذا مما يُخفف الوطأة في الدنيا وهذا أمر كل الثقافات متفقة عليه لكنه يوم القيامة يمنع الله جل وعلا الاستفادة منه حتى أهل النار وهم يرون ما يرون من عذاب غيرهم لا يُخفف ذلك من عذابهم شيء لأن كل أحدٍ في النار يظُن أنه أشد أهل النار عذاباً حتى أهونهم يظن أنه أشد أهل النار عذاباً فإذا ظن أنه أشد أهل النار عذاباً لا يقع في قلبه أي تخفيف مما يرى، على النقيض من في الجنة يظن أنه أفضلها نعيماً فلا يجد في قلبه غِلًّا ولا حسداً على أحد.
نبقى عند قوله جل وعلا (حَتَّىٰ) حتى هذه كفائدة نحوية أتعبت النحويين لأن ما بعدها يصح رفعه ويصح نصبه ويصح جره ولا يوجد شيء عندهم ما بعده يصح عليه الأوجه الثلاثة حتى قالوا عن أحد النحاة أظنه أبا عَمْرو بن العلاء: "أموت وفي نفسي شيء من حتى" يعني حاولت أن أجد مخرجاً، أن أجد سبيلاً أن أجد غاية لِمَ حتى تصنع هذا الصنيع لم يجد فقال: "أموت وفي نفسي شيء من حتى".
المقصود: أحياناً إن منّ الله عليك بعلم لابد أن تعرف بأي أرضٍ تُنزِله فليس كل أحد مؤهل أن يحمله عنك، ثم إن الناس يخاطبون بما ينفعهم أعطي الناس ما يحتاجون لا ما يريدون حتى يبقى لك ما تعيش به في الناس .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق