هذه الوقفة الثالثة من الجزء الخامس والعشرين ونأخذها من سورة الدخان قال الله -جل وعلا- في صدرها (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)أمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
( حم ) هذه من الحروف المتقطعة التي اختلف الناس فيها.
(وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) لا خِلاف أن هذه الواو واو قسم لكن ما المراد بالكتاب المبين هُنا؟ يحتمل معنيين:
الجُمهور على أن المراد به القرآن، وقيل: إن المراد به الكُتب المنزلة السماوية قبل القرآن.
إذا قُلنا إن الكتاب المبين هو القرآن يُصبح المعنى إن الله يُقسم بالقرآن على أنه نزَّل القرآن.
وإذا قُلنا إنها الكُتب غير القرآن يُصبح المعنى إن الله يُقسم بالكُتب المُنزلة قبل القرآن على أنه هو الذي نزَّل القرآن ظاهِرٌ هذا.
(وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) القرآن يُجمع بعضه إلى بعد حتى يُفهم قال -جل وعلا- (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) إذاً ليلة القدر هي الليلة المباركة، وقال -جل ذِكره- (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) إذاً ليلة القدر وهي الليلة المباركة هي في شهر رمضان ظاهِرٌ هذا. قال عِكرمةُ -رحمه الله- إنَّ الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان وهذا القول لم يقُل به أحدٌ غيره -عفى الله عنه- والعُلماء سلفاً وخلفاً على عدم قبول رأيه لأن رأيه مُخالف لصريح القرآن (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) لكنني ذكرت رأيه حتى تعلم أن العُلماء وإن عظُموا وإن كبروا يقع منهم الخطأ والسهو ولا يُقلل ذلك من جليل مكانته وعظيم منزلتهم، عكرِمة من العُلماء المعروفين مولى ابن عباس -رضي الله تعالى عنهُما-.
قال ربُنا (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) هي قطعاً ليلة القدر، والجمهور على قول ابن عباس أنه نزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العِزة في السماء الدُنيا المعنى بالنزُول هُنا من اللوح المحفوظ إلى بيت العِزة في السماء الدُنيا.
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر قال الله -جل وعلا- (فِيهَا) أي في الليلة (يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) فعيل بمعنى مفعول والمعنى حكيم بمعنى مُحكم أي أن الله -جل وعلا- يقضي في هذه الليلة ما يكون لسنة كاملة من خيرٍ أو شر أو قبضٍ أو بسط أو حياةٍ أو موت وقد دلت سورة أُخرى وهي سورة القدر على فضل التعبُد في ليلة القدر قال الله -جل وعلا- (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي أن قيامها يعدل قيام ألف شهر يعني قيام ألف شهر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) وقالت له أُم المؤمنين -كما عند الترمذي- يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر ماذا أقول ؟ قال قُولي : (اللهم إنك عفو تُحب العفو فاعفو عني). ومن فِقه قيامها -مهم- : أول ما يُحرص عليه صلاة العشاء والفجر جماعة فلا تُطلب نافلة مع تضييع فريضة، أعظم ما يُطلب في ليلة القدر صلاة العشاء والفجر في جماعة، وما بينهما تقول أم المؤمنين: لا أعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام ليلة بأكملها فيقوم صلوات ودعاء وقراءة قرآن وذِكر مطلق لله -جل وعلا- فلو أخذ بحظ وافر مع صلاته العشاء والفجر في جماعة تلك الليلة فقد نال خيرا عظيما والمُوفق من وفقه الله وسلامة النية وحُسن المقصد من أعظم ما ترجح به الأعمال الفاضلة.
قال ربنا -جل وعلا- (يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ*أمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) ثم قال (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي بعثنا الرسل وأنزلنا من قبل معهم الكتب كل ذلك رحمة من الله بالناس هذا أحد عِلل أو أسباب إرسال الرسل لكنه ليس لوحده وإنما المراد كذلك من إرسال الرسل إقامة الحُجة على العباد بدليل قول الله -جل وعلا- في النساء (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) وقوله -جل وعلا- في الإسراء (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) .
مر معنا أن المباركة تكون في الأشخاص وتكون في الليالي وتكون في الأماكن لكن ليلة القدر هي أعظم الليالي بركة على الإطلاق. قلنا قا ربنا (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) مع أن القرآن أُنزل بشارة ونذارة لكن ذُكرت النذارة هنا دون البشارة لأن هذه سورة مكية والمخاطبون بها يغلب عليهم العصيان والبعد عن الله بالكلية فهم إلى الإنذار أحوج منهم إلى البشارة.
هل ليلة القدر كانت في الأنبياء قبل؟ نعم، هذا الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة أما ما يُروى عن مالك -رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم- تقاصر عمر أمته ثم إنه اُعطي هذه الليلة، فهذا الأثر مرجوح بأثر أصحّ منه وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل: هل ليلة القدر تكون مع الأنبياء أم تُرفع إذا ماتوا؟ فأخبر أنها لا تُرفع. وهذا يدلّ على أن ليلة القدر كانت في شرع من قبلنا ومع الأنبياء الذين بُعثوا قبل رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه-.
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)أمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
قوله -جل وعلا- (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) فيه دلالة على أن الإنسان من أعظم طرائق رحمة الله التي يجب أن يتعرض لها هي مواسم الطاعات التي أتاحها الله -جل وعلا- لعباده أن يتقربوا إليه فيها كرمضان على وجه العموم وليلة القدر على وجه الخصوص في الشهر نفسه، وكعشر ذي الحجة وكغيرهما من العبادات كصوم يوم عاشوراء. هذه من دلائل رحمة الرب -تبارك وتعالى- وإلا لو لم تكن من دلائل رحمته لما قال -جلّ اسمه وتباركت أسماؤه- (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وقوله -جل وعلا- (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) كم ستُرفع في تلك الليلة المباركة من دعوات، لا يسمعها إلا الله. والعاقل ينبغي أن يعلم أن فضائل الأعمال اختلف فيها العلماء أيها أفضل؟ وتقعيد المسالة لنفسك ولغيرك يُعينك على الطاعة.
قال بعض العلماء: إن أفضل الأعمال ما خالف الإنسان فيه هواه لأن مجاهدة النفس أمر مطلوب.
وقال آخرون: إن أفضل الأعمال ما كان متعديا لن الذي يُجاهد نفسه أفضل منه من كان عمله الصالح متعديا. وقيل غير ذلك. لكن أين الصواب؟
الصواب -الذي لا محيد عنه- أن أفضل الأعمال هذه قاعدته : (أفضل الأعمال ما يُمليه الوقت ويقتضيه الحال) إذا أدرك من يفقه عن الله كلامه هذه القاعدة سينجو وسيُفلح . ما معنى القاعدة؟ إن أقبل عليك ضيف فما الذي يُمليه مقتضى الحال؟ إكرام الضيف. فإكرام الضيف في حقك -بالنسبة لك- هاهنا أفضل الأعمال.
جار لك مات فيقتضي الحال شهود جنازته فلا تُقدم عليه عملا آخر.
ليلة القدر ماالذي يقتضيه واقع الحال؟ قيامها.
شهر رمضان ما الذي يقتضيه واقع الحال؟ صيامه.
يوم النحر ما الذي يقتضيه واقع الحال؟ النحر . فلو جاء إنسان بعد أن أشرقت الشمس -يوم الحجّ الأكبر،يوم عيد الأضحى- فلما همّ بأن ينحر أضحيته قال له آخر -لم يبلغ مبلغه من العلم- قال له: أنا أريد أن أصلي، الان طلعت الشمس وانتهى وقت النهي وأريد أن أتنفل والله يقول (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال لربيعة بن كعب الأسلمي (فأعني على نفسك بكثرة السجود) أنا سأصلي من هنا حتى تتوسط الشمس كبد السماء. أيهما أفضل من نحر أم من صلى؟ من نحر، لأن من نحر راعى مقتضى وواقع الحال. إذا الإنسان راعى واقع الحال ومقتضاه يستطيع -برحمة الله- إن وُفق للعمل أن تجري أقدامه مع الجميع، ومعنى أن تجري أقدامه مع الجميع أي يكون له حظ مع المجاهدين وحظ مع الصائمين وحظ مع المنفقين وحظ مع القانتين وحظ مع العلماء، يستطيع أن تجري أقدامه مع الجميع لأنه كان يفقه مراعاة الواقع ومراعاة مقتضى الحال. هذا الضابط في معرفة فضائل الأعمال. فلما قال -صلى الله عليه وسلم- (من قام ليلة القدر..) فقهنا أنه لا يوجد عمل ليلة القدر أفضل من قيامها وأن حقها أن تُقام ولا يعني ذلك ألاّ يتصدق الإنسان أو أن يزور فيها لا حرج لكن إن ضُيق عليك فالله الله في قيامها.
لو جاء إنسان ليلة العيد فإننا نقول له أوتر وترا يسيرا كما توتر طول العام واستعد ليوم العيد حتى تقوم نشطا وتُصلي مع المسلمين ثم تذهب إلى قرابتك وتفعل وتصنع مراعاة لمقتضى الحال في يوم العيد. ظاهر هذا.
إذا الإنسان ألمّ بفقه المسائل وأصولها وقواعدها -ولو كان من عوام المسلمين- يستطيع بعد ذلك أن يرقى في سلم الدرجات ويُنافس في الطاعات وهذا المعنى الحقيقي فيمن يعبد الله على بيّنة ويعبد الله -جل وعلا- على بصيرة ويعبده -تبارك وتعالى- على بيّنة من ربه وعلى بصيرة منه كما حررنا.
قال الله -جل وعلا- كما بيّنا (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) هذا كله صدر سورة الدخان يتكلم عن تلك الليلة المباركة التي أنزل الله -جل وعلا- فيها القرآن على عبده ورسوله محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- وكانت تلك الليلة في شهر رمضان. هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله حول الجزء الخامس والعشرين من كلام الله وفي اللقاء القادم -إن شاء الله- نستفتح الوقفات في الجزء السادس والعشرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق