الأحد، 8 ديسمبر 2013

الوقفــ الأولى ــة من جـ 24 / مع قوله تعالى (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)


 الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ولواء ودِثار أهل التقوى ، وأشهد أن سيدنا ونبيّنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
هذا الجزء الرابع والعشرون ، والوقفة الأولى : من سورة الزمر قال الله -جل وعلا-(وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) سبب نزولها في الصدّيق أبي بكر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- فيندرج الصدّيق رضي الله عنه  بصورة أولية في الآية ، والأمة كلها تندرج وفق القاعدة المعروفة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولقوله -جل وعلا- ( أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون َ) السؤال مَن الصدّيق ؟
الصدّيق هو عبد الله ولقبه أو كنيته أبو بكر ، والصدّيق لقب وكُنّي بأبي بكر وليس له ولد اسمه بَكر لكن البَكر الفتيّ من الإبل ، الفتى من الإبل يسمى بَكر وهذا مشهور في لغة العرب ، وكُنّي بأبي بكرٍ قديماً قبل الإسلام واسمه عبد الله ، وكان فيه في جسمه شيء من النحافة وفي ظهره شيء يسير من التقوّس ، خفيف العارضين -رضي الله عنه وأرضاه- معروق الأجاشع أي -أن عروقه في يده ظاهرة- ناتئ الجبهة قليلاٍ ، هذا هيئته الخَلْقيّة ، أسلم وعمره ثمانية وثلاثون عاماً وكان مُلازماً للنبي -صلى الله عليه وسلم- صديقاً له قبل إسلامه، فما عُرض الإسلام على أحدٍ من الرجال إلا -ولو يسيراً- تردد لأنه أمر جديد عليه إلّا هذا المبارك -رضي الله عنه وأرضاه- وقد منّ الله عليه أن أباه وأمه وأبنائه وبناته جميعاً دخلوا في الإسلام ، وهذا لم يؤتاه أحد من الصحابة إلا هو -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- ، له خصائص أعظمها : تصديقه لله ولرسوله والآية شاهد ، ولما قيل له صبيحة المعراج إن صاحبك يقول ويقول ويقول قال : إن قالها فقد صَدَق .
كان -رضي الله عنه- رجلاً أسيفاً لا يملك دمعه إذا قرأ القرآن ، رجلاً أسيفاً لا يملك دمعهُ إذا قرأ القرآن ، فلما -قبل الهجرة- أذِن النبي -عليه الصلاة والسلام- بالهجرة إلى الحبشة أراد أن يخرج فقابله ابن الدِّغنّة -أحد زعماء قريش- وكان كافراً ولكنه كان سيداً مُطاعاً فقال : إلى أين يا أبا بكر؟ فأخبره أنه سيترك مكة ، فغضب هذا السيد وقال : إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرَج ، فقبِل الصدّيق أن يدخل في جواره ، فقام هذا الرجل في أندية قريش يخبرهم أنني قد أجرت أبا بكر ، وكان سيداً مُطاعاً فقبلت قريش جواره، فسكن معه واتخذ بيتاً ، فلما اتخذ بيتاً كان يخرج إلى ساحة بيته -بيت من حجارة يسير غير مبني بناء جدار- فيمكث فيه يصلي نافلة لم تكن الصلاة قد فُرضَت ببعض ما نزل من القرآن وكان الذي نزل شيءٌ يسير ، لكنه كان إذا صلى يبكي لا يملك دمعه فيجتمع صبيان قريش ونساؤهم وخدمهم ومواليهم بعضهم فوق بعض ينظرون إليه ويعجبون ، فخافت قريش أن هذا يُغير قلوب الناس على الدين فلجأت إلى ابن الدّغِنّة ونهته عن هذا الجوار ، فأخذ ابن الدّغِنّة يحاور أبا بكر فلما كأنه احتدّ عليه قال : تركت جوارك وقبلت جوار الله فأبدله الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عرض عليه الهجرة فهاجر مع نبيّنا -صلوات الله وسلامه عليه- ، اختفى مع النبي -عليه الصلاة والسلام- في الغار فأنزل الله بعدها في العام التاسع من الهجرة قوله -جل وعلا- : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ  وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا) جمهور أهل التفسير على أن المراد ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ) أنها نزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، وعندي أن هذا خلاف الصحيح، بل أن المقصود بالذي نزلت عليه السكينة هو أبو بكر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- والآية كالتالي : الآية أصلاً تُخبر من خذل النبي -صلى عليه وسلم- بأن الله يقول : إن لم تنصروا نبيّكم في ساعة العُسرة فالأصل أنني أبتليكم بالنُّصرة وإلّا أنا فالنبي أنا قد نصرته في موضعين اثنين : الموضع الأول عندما كان في الغار ، والموضع الثاني عندما كان في بدر ، هذا معنى اثنين ، وأما التفصيل فكالتالي :
( إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ ) أي هو وصاحبه ( إِذْ هُمَا ) أي الإثنان ( فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ ) من الذي يقول ؟ النبي -عليه الصلاة والسلام- ( لِصَاحِبِهِ ) من ؟ صاحبه أبو بكر ( لَا تَحْزَنْ ) أصابه الحزَن لا خوفاً على نفسه ولكن خوفاً على نبيّه -صلى الله عليه وسلم- ، وقال له نبيّه:( إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ) وهذا سبب دفع الحَزِن ، فكان هذا القول من النبي لأبي بكر بمثابة إنزال السكينة على قلبه ، لأن السكينة كانت على -النبي صلى الله عليه وسلم- قد حلّت قبل دخوله الغار ولهذا لم يُصبه الحَزَن ولم يخشَ إنما الذي أصابه الحَزَن وكان في حاجةٍ مُلحّةٍ إلى السكينة هو أبو بكر -رضي الله عنه- ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) ثم قال الله -وهذه الواو استئنافية- تفصّل ما قد سلف ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) متى هذا ؟ لا علاقة له بالغار ، انتهى الخطاب عن الغار ، هذا كان يوم بدر ، الجُند هنا هم الملائكة ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) فالملائكة نصرت النبي يوم بدرٍ دون أن تراها، من ؟ الملائكة ، لأنه بالعقل الله يقول يخاطب المؤمنين : ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) لا يُقال لم تروها إلا مع إمكان الرؤيا يعني أنتم حاضرون بدر والملائكة نزلت وأنتم لم تروها ، أما لو كانت كما قال أهل التفسير أنها عائدة إلى الغار هذا مُحال لأنه بدهي أن المهاجرين والأنصار لم يروا شيئاً يوم الغار لأنهم لم يكونوا موجودين فلا يُكلفون أن يروا الجنود .
 أما إذ قال قائل أن المقصود -كما قال بعض المفسرين- أنه بيض الحمام وبيت العنكبوت فهذا أدهى من الأول لأن بيض الحمام وبيت العنكبوت يُرى لا يسمّى جنوداً لم تْرى لأنها تُرى بالعين ، وإن قلنا بوجود بيض الحمام وبيت العنكبوت -على قول من قال- فهذه على وجودها فهي شيء يُرى بالعين ، والله -جل وعلا- يقول : ( وَأَيَّدَهُ ) أي النبي ( بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) وكان هذا يوم بدر ، فجملة الآية : أن الله -جل وعلا- يُخبر المؤمنين في ساعة العسرة أنني نصرت نبيي في موقفين في موقف الغار يوم أن دبَّ الحَزَن إلى صاحبه فثبته الله وثبّت صاحبه بإنزال السكينة ، والموقف الآخر يوم بدر يوم أن كان قليلاً فأيده الله -جل وعلا- بالملائكة جنداً من عند الله شهدوا المعركة ولم يرهم أحد .. هذا موقف. لكن أبا بكر في تاريخنا الإسلامي ما أنصفه الناس ، يجعلونه مثالاً للرجل الأسيف جملةً على إطلاقه وهذا غير صواب ، فقد كان أبو بكرٍ أعلم الناس وأشجع الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن الأدلة على هذا : أنه لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أبو بكر في السُنح -أي عوالي المدينة- فلما دخل على بيت عائشه بوصفه أبيها فوجد النبي -صلى الله عليه وسلم- ميتاً فعلم أنه ميت فقبّله بين عينيه وقال : طبت حياً وميتاً يارسول الله وأخذ يبكي ، ثم أنه -رضي الله عنه وأرضاه- انتهى مسألة البكاء معه وتفرّغ للأمة وخرج إلى المسجد فوجدهم يموج بعضهم في بعض ما بين متوقف ، وما بين منكر وما بين مصدق وقال : اسكت ياعمر ، فلم يجبه ، فصعد المنبر وقال -بعد أن حَمِد الله- أما بعد : فمن كان يعبد محمداً ، ولم يقل نبيّاً ولا رسولاً ولا خليلاً ولا حبيباً ولا شفيعاً حتى لا يثير العاطفة في الناس ، قال : "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" الأمر كما قالت عائشة أنهم كانوا كالشاة في الليلة المطيرة، لكن الله -جل وعلا- أنقذهم بالصدّيق ، برحمة من الله وفضله ،ثم نزل ، كان هذا يوم الإثنين بعد العصر ، ثم إنه صبيحة الثلاثاء بُويع ، ثم في ليلة الأربعاء دُفن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ثم في يوم الخميس خرج ماشياً إلى ناحية الشمال الغربي إلى الجرف ، إلى جند أسامة وسيّر الجيش -رضي الله عنه وأرضاه- ، لا يقدر على هذا إلا رجلٌ عظيم وهذا هو الخطأ في فهم سيرة الصحابة -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
من المؤسف أن بعض المؤرخين لا يضرب مثالاً لأبي بكر إلا في قضية بكاءه ، لكن البكاء محمود في موطنه وإلا ينبغي أن يُقتدى بالصحابة اقتداءً كاملاً ، كل حال ، كل موطن له موقف يخصه :
 وكنت جليس قعقاع بن عمر ** ولا يشقى بقعقاع جليس
ضحوك السن إن نطقوا بخيرٍ ** وعند الشر مِطراقٌ عبوسُ.
فلما آل الأمر إلى عمر قبل أن يموت -رضي الله عنه- أبو بكر وهو في مرض الموت جاءه المثنى يُراجعه في أمر حروب الردة ، ويريد جيشاً آخر يدعمه فقال لعمر وهو في مرض موته : اسمع يا عمر إن جاء الليل وأنا لم أمت فانفذ أمر المثنى في الليل ، وإن لم أمت إلا ليلاً فانفذ أمر المثنى في الصباح ولا تنشغلن بموتي وانظر كيف صنعت أنا -يتكلم عن نفسه- يوم مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هذا هو الصدّيق في مفهومه الحقيقي الذي يجب أن تقتدي الأمة به.
كل حال لها موضع أما أن يُفهم أن الصدّيق لا يفقه إلا البكاء ولا يُعرف إلا بأنه رجل أسيف ، هذا ظلم ٌ لشخصيته وإلا هو غني عن ذلك -رضي الله عنه وأرضاه- بما أفاء الله عليه وإلا الأمة يوم وفاة نبيها كانت تحتاج أعظم الحاجة إلى رجل عظيم وقد كان ذلك أبوبكر رضي الله عنه وأرضاه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق