الاثنين، 30 ديسمبر 2013

( تفسير سورة الأنعام من الآية 12-36 )/ دورة الأترجة

د.مساعد الطيار



بسم الله الرَّحمن الرحيم، الحمدُلله ربِّ العالمين،والصَّلاةُ والسَّلام على أشرف الأنبياء والمُرسلين نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبِه والتَّابعين، نُكمِل من الآية (12) من سورة الأنعام.
 قراءة من كتاب ( كَلِمَات القرآن):
 بسم الله الرّحمن الرحيم، الحمدلله ربّ العَالمين،والصَّلاة والسلام على أشرف خَلقِ الله أجمعين.اللَّهُم اغفر لنا ولشيخنا أجمعين.
قال صاحب كلمات القرآن في تفسير الآية الثانية عشرة (قُل لِمَن ما في السَّموات والأرض قُــل لــلــَّه) قَضَى وأوجبَ تَفُضُّلاً وإحساناً على نفسه الرَّحمة، (ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لاريب فيه) الذِّين أهلكُوها وغَبَنُوها بالكُفر فهم لا يُؤمنون، وله ما استقرَّ وحَلَّ في اللَّيل والنَّهار وهو السَّميع العليم، قل أغير الله أتَّخِذُ ربّاً معبوداً وناصِراً مُعيناً مُبدعُ ومخترعُ السَّموات والأرض، ويرزُقُ عباده ولا يَطعَمُ ، قل إنِّي أُمرتُ أن أكونَ أوّل من خَضع لله بالعبودية وانقاد، ولا تكونَنَّ من المُشركين. {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)} .
قراءة من التَّـفسير الــمُيَّسر( التَّفسير الإجمالي):
 قُـل أيُّها الرَّسول لهؤلاءِ المشركين لِمَن مُلكُ السَّموات والأرضُ وما فِيهِنّ، قُل هو لله كما تُقِرُّون بذلك وتعلمُونه فاعبدوه وحده، كَتَبَ الله على نفسه الرَّحمة فلا يُعَجِّل على عباده بالعُقوبة، لَيَجمَعنَّكم إلى يوم القيامة الذِّي لا شَكَّ فيه للحِساب والجَزاء الذِّين أشركوا بالله أهلكُوا أنفسهم فهُم لا يُوَحِدُون الله، ولا يُصَدِّقُونَ بِوَعده ووعيده ولا يُقِّرُون بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلَّم، ولله مُلكُ كُلِّ شيء في السَّموات والأرض سَكَنَ أو تحرَّك، خَفِيَ أو ظَهُر، الجميع عبيدُه وخَلقُه تحت قهره وتصرُّفه وتدبيره.وهو السَّميع لأقوالِ عباده، العَليمُ بِـحركَاتهِم وسَرائِرهم. قُل أيُّها الرَّسول لهؤلاء المُشركين مع الله تعالى غيره أغيرَ الله تعالى أتّخذُ وليّاً ونصيراً وهو خالقُ السَّمواتِ والأرض وما فِيهنّ. وهو الذِّي يَرزُقُ خَلقه ولا يرزُقه أحد، قل أيُّها الرَّسول إنِّي أُمِرتُ أن أكُونَ أوَّل من خَضَعَ وانقاد له بالعُبودية من هذه الأُمّة، ونُهيتُ أن أكُونَ من المشركين معه غيره، قل أيُّها الرَّسول لهؤلاء المُشركين مع الله غيره، إِنّي أخافُ إن عصيتُ ربّي فخالفتُ أمره، وأشركتُ معه غيرَهُ في عبادته أن يُنزِلَ بي عذابٌ عظيم يوم القيامة، من يَصرِف اللهُ عنهُ ذلك العذاب الشَّديد فقد رَحِمَه، وذلِكَ الصَّرفُ هو الظَّفَرُ البيِّنُ بالنَّجَاةِ من العذاب العظيم.
تعليق الشّيخ: بسم الله، الحمدلله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله..
 أحببتُ أن أُنبِّه على فَائدة هذه الطَّريقة، الفائدة المرجوة من هذه الطريقة لو اتُبعت جيدا هِي فِكرة أن يَستمِعَ الطَّالب لتفسيرٍ كامل للقرآن،وأنا أدعو إلى هذه الطَّريقة بأن يكون هُنَاك تفسير مُختصر يعني يُقرأ ويكون الهَدف من قراءته هو سَماَعُ التَّفسير،وأنا على يقين أنّه إذا تمَّ ذلك – بأن قُرِئ التَّفسير كامِلاً مسموعاً- في جَمَاعة وهم حاضرون ويُتابعون ، أنَّهم سيَخرجُون بفائدة، طبعا أقلّ فائدة هي أنهم يقرؤن تفسيرا كاملا، فهَذا الذِّي جَعَلني أَحرِص على أن نقرأ من الغريب ثم ننتقل إلى التفسير الميسر. قراءة التفسير الميسر كامل سواء من التفسير الميسر أو غيره أرى أنه مهم جدا بهذه الطريقة، لو حَصَل أَن تُرتَّب جَلسَات خاصَّة لِمثل التَّــفسير الــمُيَسَّر أو تفسير الجَلالين أو زُبدة التَّفسير أو غيرها من التَّفاسير المختصرة التّي يـُمكن أن تُؤخَذ في نهارٍ واحد،فهذا مَكسَب كبير جِدّاً جِدّاً، تصور نفسك تمر على تفسير القرآن كاملا من خلال تفسير في يوم واحد وهذا مطلب .ولعَلِّي أردتُّ  أن أُقَارب هذه الفكرة وأُبرِزهَا وإن كان بعض الإخوة عنده عليها تحفظ لكن أرجو أن يكون المقصد منها واضحا. 
 عندنا في قوله الله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} لو رجعنا إلى التّفسير المُيسَّر يقول: "قل أيُها الرَّسول" طَبعاً وبعض المفسِّرين يقولون (قُـل) لمن يَصلُح له الخِطَاب، لهؤلاء المُشركين لمن مُلك السَّموات والأرض وما فيهِنّ قل هُو الله كما تُقِرِّون بذلك وتَعلَمُونه وهذه قاعدة في الاحتجاج في ذِكر ما يُسَلِّم به الخَصم، والاِنتقال ممَّا يُسَّلِم به إلى تقرير القَضِيَّة المُختَلَف فيها. فالله سبحانه وتعالى هنا يقول (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يعني قُـل لهؤلاء الكُفَّار، لــِـمَن ما في السَّموات والأرض؟ طبعاً جوابُهم هُم سيقولون ماذا؟ لله،لأنّهم يُوافقُون على هذه الحقيقة. يقول بعد ذلك: "فاعبدوه وحده" يعني إذا كُنتم تُقِرِّون بأنّ له ما في السّموات والأرض فإذاً هو المستحق للعبادة. وهذا الأسلوب تكرَّر في القرآن في مواضع من الآيات وهُو الاستدلال بالرُّبوبية على الأُلوهية،وليسَ المراد من ذكر الرُّبوبية مُجرَّد الرُّبوبية فقط، بل المُراد ما يستلزِم ذلك وهو عبادةُ الله سبحانه وتعالى وحده، ولذا أَخطأَت بعض الطَّوائف في التّوحيد لمَّا وقفت على توحيد الرُّبوبية،لأنَّ توحيد الرُّبوبية يستلزم توحيد الأُلُوهية، فالتّركيز على توحيد الرُّبوبية على أنَّه مطلب هذا فيه تقصير.ولهذا بعض المُعاصرين لــَمَّا كَتَبَ في توحِيد الخَالِق ركَّزَ على جانب توحيد الرُّبوبية، وكأنَّه يُناقِش مَلاحِدَة يُريد منهم أَن يُثبِتُوا وجُودَ الصَّانع – يعني وُجُود الله سبحانه وتعالى – وهذا المَطلب قد قرَّرهُ القُرآن وانتهى منه وليس هو المطلب الذِّي يُوقَف عِنده.بل لابد من الاعتناء بتوحِيد الأُلوهية. ولهذا -مع الأَسَف- تجِد أن بعض من يُقرِّر التَّوحيد على هذا الأُسلُوب يقع عنده أخطاء في العبادة يعني توحيد العِبادة،أو أحياناً قد يقع عنده تَـهوين لبعض الأَفعال التِّي تُخالِف توحيد العبادة، ولاشَكَّ أنَّ هذا تقصير في جانب إِدارك التَّوحيد من خلال القُرآن وليس من خِلال قضيِّة أن نقول (توحيد الرُّبوبية- توحيد الأُلوهيّة – توحيد الأسماء والصِّفات) لا، بل من خِلال القرآن نفسه، لـم يأتِ في القُرآن توحيد الرُّبوبية والمُراد منه فقط توحيد الرُّبوبيّة، بل أتى للدِّلالة على ما يستلزمه من توحيد الأُلوهية.
 يقول الله سبحانه وتعالى (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) هنا الآن حينما نأتِي لهذا الخِطاب، من الذِّي ألزم نفسه؟ هُوَ الله سبحانه وتعالى يعني (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أيّ ألزمَ نفسه سبحانه وتعالى الرَّحمة. فهذا أمرٌ من الأمور المتعلِّقة بالله سبحانه وتعالى ولا يجوز لكائنٍ من كان أن يَحرِفَ أو يَصرِف هذا الخَبر ويقول من الذِّي يُلزِمُ الله. لأنّ الله سبحانه وتعالى هو الذِّي ألزم نفسه بهذا الكتاب كما أخبر الرَّسول صلى الله عليه وسلّم: (إنّ الله كتَب في كتابٍ هو عنده فوق العرش إنَّ رحمتي سبقت غضبي) فإذاً المقصود من ذلك أنَّه -كما جاء في الخِطاب- أنّه كَتَبَ هو سبحانه وتعالى على نفسه الرَّحمة (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) والذِّين خسروا أنفسهم هم المُشركون الذِّين لم يُوَّحِدوا الله سبحانه وتعالى، ولم يعبدوه، ولم يُصَّدِقوا بِنُبُوَّةِ محمد صلى الله عليه وسلّم، فكأنَّه خطابٌ لهؤلاء الكُفّار الذِّين كانُوا بين ظهرَانيّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم .
(وَلَهُ) أَيّ لله سبحانه وتعالى الذِّي بدأ الحديث عنه بقوله (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يعني (وَلَهُ) أي لله (مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) قالوا: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) في النَّسخة المطبوعة متكوب الحليم والصَّواب العليم وليس الحليم. قالوا: وهُو السَّميع لأقوال عباده العليم بحركاتهم وسكنَاتهم، هُنا ذُكِر عندنا اللَّيل والنَّهار، فهل ترتيب السَّميع العَليم من باب اللَّف والنَّشر الــمُرتَّب؟ معنى اللَّف والنَّشر الــمُرتَّب: أن تُذكَر أشياء ثُمَّ تُذكَر بعدها أشياء مُتعلِّقة بها على نفس التـَّرتيب.إذا رَجَّعنا السَّميع إلى اللَّيل، والعَلِيم إلى النَّهار يكون هذا لَفّ ونَشَر مُرتَّب. إذا كانَ هذا على مَذهب (اللَّف والنَّشر الــمُرَّتَب).لماذا؟ لأنَّ الآن اللَّيل، ما هِي الحاسَّة التّي تعمل أكثر؟ السَّمع. والنَّهار يقع معه العَليم ، لكن لا يعني عدم العكس،لا يعني أنَّ العَليم لا تصلُح للَّــليل، والسَّميع لا تصلُح للنَّهار.لا، ولكن قُلنا من باباللَّف والنَّشر الــمُرَّتَب من باب البلاغة في اختيار الأنسَب فقط. وإلاّ فهُو سبحانه وتعالى له ما سكن في اللّيل وهو سميعٌ عليمٌ بما يحصُل في اللَّيل، وله ما سكَنَ في النَّهار وهو سميعٌ عليمٌ بما يحصُل في النَّهار. لكن المقصود الآن هو الإشِارة إلى ما يَتَعلَّق باللَّف، والنَّشر، المُرَتَّب إذا كانت الآية جاءت على هذا الأُسلُوب البَلاغي.
 (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ)
قوله (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) هل هناك آيات تُشير إلى قوله (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) أيّ لا يحتاج إلى أن يَستطعِمَ خَلقه كقوله (ما أريدُ منهم من رِزقٍ وما أُريدُ أن يُطعِمُون) فهذا إشارة إلى معنى قوله (وَلَا يُطْعَمُ) لأنَّه سبحانه وتعالى هو الغَنيُّ الكامِل هُوَ يُطعِم ولكن سبحانه وتعالى لا يُطعَم فليس فقيراً محتاجاً،بل المُحتَاج هو من يُطعَم وهُم العِبَاد، فالعِبَاد هم الفُقراء، والله سبحانه وتعالى له الغِنَى المُطلَق.
 قال الله (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) ونحنُ نعلَم أنَّ الخِطاب في قوله (أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) المُراد بهذا المَوجود في الخِطَاب.(وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الخِطاب مُوجَّه لِـــمَن؟ للرَّسول صلى الله عليه وسلَّم. فَمعنىَ الآية: قُــل إنِّي أُمرتُ أن أَكُــون أوَّل من خَضَع وانقاد له بالعُبُوديّة ، ونُهيتُ أن أكُــون من المشركين معه غيره.
هذه الآيات وما بعدها من الآيات نُلاحِظ أنّها تُركِّز على جَانِب التَّوحيد. ولِهَذا سننظُر في الآيات القَادمة ونحن نُناقش قَضِيَّة مَوضُوعات السُّورة ما هُو الموضوع الكُلِّي الذِّي تدور حوله السُّورة، هل هُناك مَوضُوع كُلِّي يُمكن أن يُستنبط؟ ثمّ هذه الموضوعات التَّفصيلية ما علاقتها بهذا الموضوع الكُلِّي،ولعلَّنا نقف عندها بإذن الله تعالى.
 هذه الآن مرتبطة بقضيّة التَّوحيد، ولهذا في قوله سبحانه وتعالى (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) التِّي هي قضيِّة التّوحيد، يعني لا يمكن أَن أتخِّذَ من دونِ الله سبحانه وتعالى وليِّاً، لماذا؟ لأنَّه فاطر السَّموات والأرض،أيّ مُنشئهُمَا ومُبدعِهُمَا سبحانه وتعالى. ثم قال(وَهُوَ ُيُطْعِمُ) أيّ يُوصِلُ الطَّعامَ إلى خَلقه، أيّ يرزُقُهُم (وَلَا يُطْعَمُ) أيّ لا يحتاج إلى أن يُرزَق – سبحانه وتعالى- كما في آية الذَّاريات.
 (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لاحِظوا الخطاب مُوَّجه لمن؟ للنَّبي صلى الله عليه وسلَّم، ونحن نعلم يقيناً أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم وإن كان يخاف على نفسه- أنَّه لا يقع منه الشِّرك، فإذا كان يُوَّجَه إلى من عَلِمنا أنَّه لن يقع منه الشِّرك، فكأَنّه لازم الخبر ما هُو؟ أنتم أيضاً لا تكونُوا أيُّها الــمتَّـــبِعُون له من المُشركين، هذا لازم الخبر. يعني الآن هو مَنهي صلى الله عليه وسلّم قال (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وإبراهيم عليه الصلاة والسلام ماذا قال؟ (واجنُبني وبنيَّ أن نعبُدَّ الأصنام) أيّ (اُجنُبني) أدخَلَ نفسه (وبنيّ أن نعبُدَ الأصنام) وهذا من كمال معرفة الأنبياء بربِّهم أنَّهُم يخافُون على أنفسهم حتى وهُم أنبياء فما بالُكَ بغيرهم. فإذاً لازم الخبر هنا: إذا كان الذِّي يُنهَى عن ذلك هو من لا يُتصَّور وقوع هذا الأَمر به فإنَّ غيره من بابٍ أولى وهذا لازِم قوله (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
(قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) لاحِظوا الآن الذِّي يتكلَّم على أنّه الرَّسُول صلى الله عليه وسلَّم، يعني محمد صلى الله عليه وسلّم يقول لمن يسمع هذا الخِطاب (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) مع أنَّهُ لا يُتصَوَّر منه أن يقف في موقف العَاصي لرَّبه سبحانه وتعالى.(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) أي عذاب هذا اليوم العظيم (فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ). فإذاً أيضا عندنا  لازم الخبر في قوله (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وحاشاه صلى الله عليه وسلّم أن يقع منه هذا العِصيان يعني العصيان المُتعمَّد هذا لا يمكن أن يقع من النّبي صلى الله عليه وسلّم ومع ذلك يُوَّجَه له الخطاب بهذا وهو المقصود- كما قلت لكم - لازمُه، إذا كان هذا في جَنَابه صلى الله عليه وسلَّم فما بالُك بمن الأصل فيه أنّه يقع منه الخطأ وهم غيره من البشر.
 قوله (أوّل من أسلم) بما قيل في هذه الآيات لأنّه ليس مُشرِكاً، فالأنبياء كانُوا يتخوَّفُون على أنفسهم من الشِّرك كما في دعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام (واجنُبني وبَنيَّ أن نعبُدَ الأصنام) فإذا كان أصحاب الكمالات هؤلاء عليهم الصلاة والسلام يتخوَّفُون على أنفسهم من الشِّرك فغيرهُم من باب أولى. ولهذا بعض من ينزعِج من مسألة التوحيد، وإذا قُلت له التَّوحيد أوَّلاً أو كَذَا انزعج فهذا يُخالِف منهج الأنبياء، ولهذا مثل هؤلاء الأحسن بهم أن يُدعَوا إلى كتاب الله أنه يقرأ مثل هذا الدعاء لماذا يقول إبراهيم عليه الصلاة والسَّلام (واجنُبني وبَنيَّ أن نعبُدَ الأصنام) يعني هل له كلام ...، لا، هو عليه الصَّلاة والسّلام يتخوَّف على نفسه فمن باب أولى غيرهم من البَشر.
 قراءة من كتاب" كلمات القرآن":
  (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) وَمَنْ بَلَغَه القُرآن إلى قيام السّاعة (أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).
 قراءة من التَّفسير الــمُيسَّر( التَّفسير الإجمالي):
 وإن يُصِبكَ الله تعالى أيُّها الإنسان بشيءِ يَضُرَّك كالفَقر والمرض، فلا كاشِفَ له إلاّ هُو وإن يُصِبكَ بخير كالغِنى، والصِّحة فَلا رَادَّ لفضله، ولا مانع لِقضائه فهو جلَّ وعلا القَادر على كُلِّ شيء، والله سبحانه هو الغَالِب القَاهر فوق عباده خَضَعت لُهُ الرِّقاب وذَّلَت له الجبابرة، وهو الحَكيم الذِّي يَضَعُ الأشياءَ مواضِعها وَفقَ حكمته، الخَبير الذِّي لا يخفى عليه شيء، ومن اتَّصَفَ بهذه الصِّفات يجب ألاَّ يُشرَك به، وفي هذه الآية إثبات الفَوقية لله تعالى على جميع خَلقِه، فَوقيةً مُطلقةً تليق بجَلاله سبحانه. قل أيُّها الرَّسُول لهؤلاء المشركين أيُّ شيءٍ أعظَمُ شهادةً في إِثبات صِدقي فيما أخبرتكم به أَنِّي رسولُ الله، قُل الله شهيدٌ بيني وبينكُم أيّ هُوَ العالِم بما جــِئتُكُم به وما أنتم قائلونه لي. وأَوحَى الله إليَّ هذا القُرآن من أجل أن أُنذِرَكُم به عَذابه أن يَحِلَّ بكم، وأُنذِرَ به من وصل إليه من الأُمم إنَّكم لَتَقِرُّون أنَّ مع الله معبوداتٌ أخرى تُشركُونها به، قل لهم أيّها الرَّسول إنّي لا أشهد على ما أقررتم به،إنّما الله إله واحدُ لا شريك له وإنِّي بريءٌ من كُلِّ شريك تعبدونه معه.
 تعليق الـــشِّيخ:
قوله سبحانه وتعالى (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أيضاً هذا الخِطاب الآن مُوجَّه للرَّسول صلى الله عليه وسلّم. لاحِظُوا في التَّفسير الــمُيَّسر قال: وإن يُصِبكَ أيُّها الإنسان بشيءٍ يَضُّرُك كالفَقر،هنا الآن يدُلّ على أَنَّ هناك مُشكلة عندنا في قضيِّة فهم المعنى، الآن لو رجعنا إلى الآيات. لاحظُوا الضمائر وقضيِّة الضَّمائر قضيِّة مُهمَّة جِدّاً ويجب الانتباه والالتفات لها.
(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أيّ قل يا محمد أغيرَ الله. إذا رجعنا إلى سياق تفسير (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ) في التفسير المُيسَّر نَجِد أنَّهم أَجمَلُوها ولم يذكروا الخِطاب مُوجَّه لمن، لكن لاحظ بعدها: قل أيُّها الرَّسُول إنّي أمُرت أن أكُونَ أوَّلَ من خَضَعَ وانقاد، الخطاب كُلُّه الآن مع الرَّسُول صلى الله عليه وسلّم، بعدها قال (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الضَّمير هنا يرجع لمن؟ بعدها قال (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) قال (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ) جعلوها للإنسان والصَّواب أنّها للرَّسُول صلى الله عليه وسلّم لأنه (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) وهذا المعنى صحيح ليس فيه إشكال (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فإذاً كُلّ الخِطَاب الآن من قوله (قُل أغيرَ الله..)  إلى (فهُو على كل شيءٍ قدير) هو خِطاب مُوَّجه للنَّبي صلى الله عليه وسلّم، ولا يعني كَون الخِطاب مُوَجّه للنَّبي صلى الله عليه وسلَّم أنّه لا يشملُ غيره لأنَّ هذه ليست من خَصَائص النَّبي صلى الله عليه وسلّم (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ليست من خصائص النَّبي صلى الله عليه وسلّم، ومعنى ذلك أنَّ الخِطاب مُوجَّه إليه أوّلاً، وهُو يَصلُح لغيره أيضاً. فإذاً نحنُ أخذنا من السِّياق والأحوال قضيّة العَلاقة بين الخِطاب والــمُخاطَب.
 لاحِظُوا الآن عندنا في قوله (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ)، (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) عندنا الآن مبنيّة للمَجهول -كما يُقال- أو مبنيِّة للمَفعُول لأنَّ المَقصود هو الصَّرف -ذاتُ الصَّرف- وليس المقصود من سيُصرَف عنه ليس المقصود -الشَّخص- المقصود ذات الصَّرف فإذا كان المقصود ذات الصَّرف فإنّه يجيئ على المبنيّ للمجهول، فإذا كانَ المَقصُود الشَّخص نفسه لَجَاء الفعل مبنيَّاً للمعلوم وذُكِرَ فاعله.
هنا أيضا نلاحظ تقديم " الضُّر" على "الخير" وهذا مَحلّ سُؤال: ما سبب تقديم الضُّر على الخَير؟ مع أنَّه – كما لاحظنا- أنَّ الخِطاب الآن هو مُنتقل مع النّبي صلى الله عليه وسلَّم، هل المَجال مجال تهديد لغيره صلى الله عليه وسلّم؟ لأنّه إذا كان يُخاطَب النَّبي صلى الله عليه وسلّم بهذا فما بالُك بغيره يكون فيه نوع من التَّهديد، أو غير ذلك؟ طبعاً يُنظَر ويُبحث.
 قوله (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) القَهر بمعنى الغَلبة، في التَّفسير المُيسَّر قال: "الغَالب القاهر فوق عباده" يعني معنى القهر الغلبة، القهر قد يكون قهر المكانة أوالقهر الــمُرتبط بمكان هنا الآن قهر المكان أو القهر المرتبط بمكان لو قال (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) طبعاً الفَوقية هنا عند من لا يرى العُلُّو سيجعلها فوقية مكانة، وليست فوقية مكان، والصَّحيح فوقية المَكان لأنَّه أخبر عن نفسه فقال (الرَّحمنُ على العرشِ استوى) والرَّسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنّ أعلى المخلوقات "العرش" فإذا كان أعلى المخلوقات العرش والله يقول (الرَّحمنُ على العرشِ استوى) فإذاً هو فوق هذا المكان، فهذا ثابتٌ بالقرآن من جهة، وبالسُّنة من جهة أخرى، والنُّصوص فيه كثيرة ولهذا القُرطبي -رحمه الله تعالى- مع أنَّ أصوله أشعرية- لــمَّا جاء عند هذه الآية لِتكاثُر النُّصوص ذهب إلى الإثبات في هذا. وهذه قضيِّة مهُمّة جِدّاً يجب أن ننتبه لها وهي: أنَّ كثرة النُّصُوص في قضيّة ما تدُلُّ على أنَّها حقيقة، وليست من باب المجاز. لو أثبتنا المجاز توارد النصوص وتكاثرها على شيء معين يدل على أنه حقيقة وليس مجازا. هذه قاعدة يُنتبه لها ، ولهذا النُّصوص المُرتبطة بالصِّفات الفِعلية -الاختيارية- لله سبحانه وتعالى كثيرة جِدّاً، فتكاثُر هذه النُّصوص الفِعلية لا يمكن أن تكون هذه النصوص الفعلية المتكاثرة التي تُثبت لله سبحانه وتعالى هذه الصفات لا يمكن أن تكون كُلَّها مجازات. فتكاثُرها دِلالة على أنَّها في الأصل حقيقة. ولهذا لو ذهبت تبحث فقط في الصِّفات الفِعلية في القُرآن التّي وصف الله بها نفسه فستجد نفسك أمام كَمّ هائل جِدّاً من الآيات. فلا يُمكن أن يكون هذا الكَمّ من الآيات في النِّهاية كُلُّه يُسَلَّط عليه التَّأويل بدعوى التَّــنزيل، فهذا من الأَدِّلة التَّي يُنتَبه لها حال المناقشة في هذه القَضَايا، يعني كَون يوجد بعض العلماء من أهل السُنَّة، ويقع عندهم تأويل في آية أو آيتين مثل ما وقع مثلاً من البغوي - رحمه الله- في الرَّحمة والغضب فأوَّلَهُما أو ذكَرَ لازِم الصِّفة، فهذا لا يعني أنَّ البغوي مُؤَّوِلٌ على الإطلاق، بل له نصوص واضحة في الإثبات، وأنَّه يَجب إِثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له نبيّه صلى الله عليه وسلِّم من غير تحريف، ولا تأويل، ولا تعطيل، معنى ذلك أنَّ القَاعدة العامَّة عنده هي هذه، لكن يُبحث عن سبب غفلته – رحمه الله تعالى- في هذا الموطن عن القاعدة العامّة التّي ساقها في غير ما موطن من تفسيره أو من شَرح السُّنة له، فإذاً المقصود إنّ تكاثُر النُّصوص في قضية ما يرفعُها عن أن تكون مجازاً مثل ما يتعلَّق بصفات الله سبحانه وتعالى .
 قال (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) الحكيم: يعني ذُو الحكمة، والخبير أَيضاً ذُو الخِبرة. ولكن أيضاً لاحِظ وأنت تنظر في سياق الآيات عن سبب اختيار (الحِكمة) (والخِبرة). طبعاً هنا الآن في الآية قال في التّفسير الميّسر: "وهو الحكيم الذِّي يضع الأشياء مواضعها وَفقَ حكمته، الخبير الذّي لا يخفى عليه شيءٌ" . قال: "ومن اتَّصف بهذه الصِّفات يجب ألاَّ يُشرَك به". كأنَّها إشارة إلى آيات الإشراك التّي قبلها. فإذاً لو أردنا أن نربِط نقول: إنَّ من حكمة الله وجود الكُفر لأنه مرتبط بالحكمة والحِكمَة هي قضية الابتلاء والامتحان. حكمة الله في الابتلاء والامتحان واضحة جدا. قد يقول قَائل: لماذا يخلُق الله سبحانه وتعالى الكُفُر وهو لا يَرضاه،وتُيَّسَر سُبُلُهُ للعباد؟ الجواب: النّبي صلى الله عليه وسلّم قال (حُفَّت النَّارُ بالشَّهوات) فهذا كُلُّه مُرتبط بحكمة الله سبحانه وتعالى،وهذا سِرٌّ لا يمكن أن يُدرَك لأنّه من الأُمُور المُرتبطة بالقَدر، ولو ذهبت تُفَكِّر ستصِل في النِّهاية إلى طريقٍ مَسدُود. ولهذا من لم يتَّوقَّف في القَدَر في الغَالِب أنّه يقع فيه ضلالِ في فهم كلام الله سبحانه وتعالى .
قال (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً) هذا سؤال؟ (قُلِ اللَّهُ) أيّ أنّ الله سبحانه وتعالى هو أكبرُ شيءٍ شهادة، (شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يعني منِ اتّخذ الله شهيداً فقد اتَّخذ عظيماً في هذا الأَمر فلا يُستشهَد به سبحانه وتعالى إلاَّ فيمَا كان حقَّاً وَصِدقاً.
قال (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) أيّ ومن بَلَغَه أيضاً القرآن وهذا يكون فتح لنا المجال بأنّ القرآن يبقى آية للنَّبي صلى الله عليه وسلّم حتّى بعد موته.
(أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) وهذا كلُّه في صُلبِ التَّوحيد، وهذه الآية لهَا ارتباط بالآية السَّابقة فيما يتعلَّق بقضيّة التَّوحيد. لاحِظ الآن كُلّ الخِطاب مع الرَّسُول صلى الله عليه وسلّم لا يزال قال (قُل الله شهيدٌ بَيني وبينكُم) (قُل لا أَشهَد قُل إنَّما هُو إلهٌ واحِد وإننِّي بريءٌ ممَّا تُشرِكُون) وهناك كان يقول له (أوَّلَ من أسلَم) (ولا تَكُوننَّ من المُشركين) وكُلَّها دائرة حول قضيِّة التّوحيد. نقف عند قوله (لأُنذِرَكُم بِهِ ومن بَلَغ) القُرآن كما نحن نعلم أنّه آيةُ النَّبي صلى الله عليه وسلّم على مَرِّ الأزمان. لكن هل يكفي القرآن لِأن يكون هُو النِّذارة والبِشارة للنّبي صلى الله عليه وسلّم اليوم،وبعد اليوم؟ الجواب: نعم.
 قد يقول قائل: كيف يكُونُ نذيراً لِقومٍ لا يعرفُون قراءته يعني لا يقرؤون القرآن كيف يكون نذيرا؟
هنا قضيِّة أيضا أحب أن ننتبه لها: أننّا حينما نأتي إلى مثل هذا السُّؤال، يجب قبل أن نسأل هذا السُّؤال أن نعلم أنَّ هَذا من حكمة الله أن جعل القُرآن بهذه المثابة وأنَّ الدَّعوة بالقرآن سَتُثمِر هذه النَّتيجة لأنَّه قال (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ). من لم يَبلغُه القرآن من خلال الشَّواهد التِّي أمامنا – وهذا مجال للبحث- فيمَن آمن وأسلم من الكُفَّار من الغَرب أو من الشَّرق ممن قرأوا شيئاً عن القرآن أو قرأوا القرآن نفسه -ترجمته طبعا- فإنَّ كثيراً منهم يُؤمنُون بسبب هذه التَّرجمات، بل إنَّ بعض التَّرجمات قد تكون مُحرَّفة ومع ذلك يَشَاء الله سبحانه وتعالى للبعض أن يهتدي حتى على هذه التَّرجمات المُحرَّفة. فإذاً – نحن بين أيدينا- كنزٌ عظيم جِدّاً في قضيِّة الدّعوة إلى الله وهو القرآن. بل إنَّ القرآن يكفي حتّى لو كانَ المُستمِع له غير مسلم يكفي فيه أن تتلُوَهُ، فتجد أنَّ حتى الكُفَّار يُذعِنون له، ويستَمِعُون له، ويُنصِتُون لأنَّه نمطٌ آخر لا يَعرفُـه البَشَرية، وليس من عمل البشر إطلاقاً . ولذلك أنا أذكر الشِّيخ محمد العريفي – متَّعَهُ الله بالعافية- ذكر قصَّةً له مع بعض النَّصارى أو غيرهم أنَّه استوقَفَه مرّة وتكلَّم معه بكلام عامّ، ثم قال لهم سأذكُر لكم كلاماً آخر. فبدأ يقرأ عليهم القُرآن ثمّ رجع مرَّة أخرى للكلام العادي. ثمّ سألهم: هل هناك فرق بين هذا الكلام والذي قبله؟ قالوا: نعم.هم لا يُدرِكُون الآن اللُّغة – وهذا صحيح لو أنت الآن جرَّبته ستجده، وكثير ممن جرّب هذا يجد أنَّ حتى الكُفَّار يُحِسُّون بوجُود فرق بين القُرآن إذا تُلِي وبين الكلام العَادي. وهذا داخِلٌ ضمن بلاغة القُرآن، وأنَّه حتّى مع الذِّين لا يعرفون لُغته يحصل لهم نوعٌ من التأثُر به وهذا لا يَكاد يُــوجد لكتابٍ غير القُرآن.
 قراءة من كتاب كلمات القُرآن:
 {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُن) معذِرَتُهُم أو عاقبةُ شِركِهِم (إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) وغابَ وزاَل (عنهم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي يَكذِبُون الأصنام وشفاعتُهُم. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ) أغطيةً كثيرة أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ صَمَماً وثِقَلاً في السَّمع (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا) أكاذيبهُم المُسطَّرة في كُتُبِهم.
 قراءة من التّفسير الــميَّسر ( التَّفسير الإجمالي):
الآية (20) الذِّين آتيناهم التَّوراة والإنجيل يعرفُون محمداً صلى الله عليه وسلّم بصفاتِهِ المكتوبة عندهم كمعرفتهم أبناءهم، فَكَمَا أنَّ أبناءَهم لا يشتَبِهُون أمامهم بغيرهم، فكذلك محمّد صلى الله عليه وسلّم لا يشتَبهُ بغيره لدِّقة وصفه في كُتُبهم، ولكنَّهم اتَّبعوا أهواءهم فَخسِروا أنفسهم حين كَفَرُوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم وبما جاء به.
 تعليق الشِّيخ:
 (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ) الضَّمير في (يعرفونه) هُنا أُعِيد إلى محمد صلى الله عليه وسلَّم – مع أنّه لم يُسبَق له ذِكر. فهل هَذا الأُسلُوب معروف ومُتدَاول عند العَرَب؟ الجواب: نعم. إذاً صار الضَّمير لا يَنصرف إلاَّ لواحد فعدم ذكره جائز ، لكن بعض المفَّسرين المتأخِّرين قال: (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ) أي يعرفون القرآن بناءً على قوله (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) لكنَّ الصَّواب والذِّي عليه جمهور مفسِّرين السَّلف أنَّ المراد به محمَّد صلى الله عليه وسلّم . فيكون (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ) أَيّ يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلّم كما يعرفون أبناءهم، ثم عادَ للكُفَّار فقال (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) إذاً كان الخِطاب رجع للكُفَّار. وإذا كان الخطاب ما زال في المؤمنين فمعنى ذلك أنّ قوله (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) بَدَل من قوله (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ). كأن معناه الذّين آتيناهم الكتاب هم الذِّين خَسروا أنفسهم بسبب عدم إيمانهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم.
 قراءة من التَّفسير المُيسَّر( التَّفسير الإجمالي):
الآية (21) لا أحدَ أشدَّ ظُلمًا مِمَّن تقوَّل الكذب على الله تعالى، فَزَعمَ أنَّ لهُ شُركاءَ في العبادة أو ادَّعى أنَّ له ولدًا أو صاحبة أو كذَّب ببراهينه وأدلته التي أيَّد بها رُسُله عليهم السَّلام (إنَّه لايُفلِحُ الظَّالمون) الذِّين افتروا الكذب على الله ولا يَظفَرون بمطالبهم التي في الدنيا ولا في الآخرة وليحذر هؤلاء المشركون المُكذِّبون بآيات الله تعالى يوم نحشُرُهم ثم نقول لهم أين آلهتكم التِّي كنتم تَدَّعون أنَّهم شُركاء مع الله تعالى ليَشفعوا لكم ثم لم تكن إجابتهم حين فُتِنُوا واختبُروا بالسُّؤال عن شركائهم إلا أنَّهم تبرَّءُوا منهم وأقسموا بالله ربَّهم أنَّهم لم يكونوا مُشركين مع الله غيره. تأمَّل أيُّها الرَّسول كيفَ كذَبَ هؤلاء المشركون على أنفسهم وهُم في الآخرة قد تبرؤا من الشِّرك وذهبوا وغابُوا عنهم وغاب عنهم ما كانوا يَظنُّونه من شفاعة آلهتهم, ومن هؤلاء المشركين من يستمع إليك القرآن أيُّها الرسول فلا يصل إلى قلوبهم لأنَّهم بسبب اتِّباعهم أهواءهم جعلنا على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوا القرآن، وجعلنا في آذانهم ثِقَلًا وصَمَمًا فلا تسمع ولا تعي شيئًا وإن يروا الآيات الكثيرة الدَّالة على صِدقِ محمد صلى الله عليه وسلم لا يُصدِّقوا بها حتى إذا جاءوك أيُّها الرسول بعد معاينة الآيات الدَّالة على صِدقك يخاصمونك يقول الذين جحدوا آيات الله ما هذا الذِّي نسمع إلاّ ما تناقله الأوَّلون من حكاياتٍ لاحقيقة لها .. لعلَّنا نقف عند هذا، وإن شاء الله نبدأ التّعليق في اللِّقاء القَادِم بإذن الله. سبحانك اللهُمَّ وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرُك ونتُوب إليك.
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمدلله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ..
طبعًا في اللِّقاء السَّابق كُنَّا ذكرنا ما كَتـَبه أصحاب التَّـفسير المُيسَّر في قوله سبحانه وتعالى (ومَن أظلمُ ممَّن افترى على الله كَذِباً أو كذَّب بآيته إنَّهُ لايُفلِح الظَّالمون) وهذا أسلوب أيضًا من أَسَالِيب القُـرآن في قوله (ومَن أظلمُ) لأنَّ قوله (من أظلم) وردت في غيرِ ما آية فمعنى ذلك أنّه عندنا فيها احتمالان:
/ إمَّا أنَّهما في درجةٍ واحدة في الظُّلم يعني لا أَحَد أظلم ممن افترى على الله كَذِباً، لا أحدَ أظلم ممن منع مساجد الله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ) يعني كأنَّهم صاروا في رُتبة واحدة في الظُّلم.
/ أو أنَّ المُراد (ومَن أظلمُ ممَّن افترى على الله كَذِباً أو كذَّب بآيته) يعني أنَّه أظلمُ الكاذبِين في السِّياق (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أظلَم مَن يمنع النَّاس من عبادة ربِّهم هو من يمنع مساجدّ الله، أظلم الكاذبين هو من افترى على الله كذباً أو كذب بآياته فيكون أظلم من جنس ما ذكره الله سبحانه وتعالى في الآية. فاحتمال أن تكون هذه واحتمال أن تكون تلك.
 قال الله سبحانه وتعالى (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أيضًا هذه وردت في غير ما آية قال (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) يعني معذرتهم فجعل المعذرة بمعنى الفتنة قال (إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) يعني يُقسمُون أنَّهم ما كانوا أهل إشراك رجاءَ أن يكون هذا الكَلام عُذرًا لهم، ومُنقِذًا لهُم من عذاب الله سبحانه وتعالى، ولكن الله سبحانه وتعالى قال (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ ۚ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) لأنَّهم هم يقولون (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) بألسنتهم يعني (يحلفون له كما يحلفون لكم) فنفس الطَّبع فيهم موجود حتى في يوم القيامة يظنُّون أنَّ هذا سينفعُهُم فيكذِبُون على الله سبحانه وتعالى ويقولون (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) وهم إنَّما يَكذِبُون على أنفسهم.
 قال(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ۖ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) الوَقر: الذِّي هُو الصَّمَم الشَّيء الذِّي يُثقِلُ الأُذن بحيث لا تَسمع, الأكِنَّة: الأغطية الكِنان بِمَعنى الغِطاَء والغِشَاء، فإذًا الآن هم أُصِيبوا في قلوبهم بهذا الكِنَان الذِّي يُغطِّي قُلُوبَهُم فلا يصلُ إليه شيء لايفقه، وفِي الآذان وَقر.
 قال (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) يعني من كان حاله هكذا مهما يرى من الآيات فإنَّه لا يؤمنُ بها (حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) مثل ما إذا ذُكِرَ عن بعض كُفَّار قريش أنَّهم في مُجادلتهم للنَّبي صلى الله عليه وسلم يَخرجُوا منه ويقولون ماسمعناه منك إنَّما هو أساطير الأوَّلين وهُم لاشك في هذا يعلمون أنَّهم هم أوَّلُ الكاذبين، ويعلَمون أنَّ غيرهم يعرف أنَّهم يكذبُون.ولكن هذه طبيعة فيمن يُجادِلُ الحَقّ وهو يعلم أنَّه حقّ. يعني من يُجادل الحقّ وهُو يعلم أنَّه حقّ هو أوَّل من يعلم أنَّه على باطل بل أنَّه يعلم أن غيره يعلم أنه هو أيضًا على باطل ولهذا تجد أنَّ أرضيَتُه ضَعيفة ومُهترأة ومُهتزة وليست بِقَويِّة كما ذكر الله سبحانه وتعالى هنا أنَّهم في النهاية لمَّا عجزوا عن أن يُبينُوا عن هذا الكتاب ويؤمنوا به قالوا أساطير الأولين فحملُوه على أنَّه من الأشياء التي سطَّرها الأوَّلون وأنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أخذها.
من باب الفائدة -هذه فائدة يُنتبه لها أيضًا- من الطَّريف أنَّ أغلب ما يذكُره المُستشرقون من نقدٍ للقرآن أو لمحمد صلى الله عليه وسلم نجد أنَّ أصوله موجودة في القرآن, فبعض المستشرقين يدَّعي أو يزعُم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو صاحب هذا القرآن وهو الذِّي ابتدعه وابتكره ولا عَلاقة لله سبحانه وتعالى به هكذا يدَّعون، ثم يدَّعي أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أخذ هذا الكتاب من أُناس سبقوه وأنَّه اطَّلَع على تُراث اليهود وتراث النصارى وتُراث، وتُراث وجمَّع منها ووضَعه، هي نفس قوله سبحانه وتعالى (إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وهم كرَّرُوها ولكن بأُسلوب آخر, وإلا النَّتيجة واحدة (إنَّما يُعلَّمه بشر) نفس الفِكرة هم ادَّعوا أنَّه تعلَّم من بحيرى وادَّعُوا أنه تعلَّم من ورقة بن نوفل، وادَّعوا أنه تعلَّم من أمية بن أبي الصَّلت يعني دعاوى كثيرة جدًا وهي نفسها، نفس الدَّعوة يُكرِّرها المُستشرقون وينشرونها مرة أخرى, فالقرآن قَلَّ شيءٌ إلا وذكره فيما يتعلَّق بهذه القضايا التي هي قضايا الدَّعاوى على النَّبي صلى الله عليه وسلم.
 قراءة من كتاب كلمات القرآن:
 وهم يَنهَونَ عنه ويتباعدون عن القُرآن بأنفسهم وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ولو ترى إذ عُرِّفُوها أو حُبِسُوا على مَتنها فقالوا يا ليتنا نُرَد ولا نكذِّب بآيات ربنا ونكون من المُؤمنين (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿٢٨﴾ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ولو ترى إذ حُبِسُوا على حُكمِه تعالى للسؤال (قَالَ أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا ۚ قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) فجأة من غير شعور (قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا) قصَّرنا وضيَّعنا في الحياة الدنيا (وَهُمْ يَحْمِلُونَ) ذنوبهم وخطاياهم (عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ ۚ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ).
قراءة من التَّفسير المُيسَّر( التَّفسير الإجمالي):
  وهؤلاء المُشركون يَنهون النَّاس عن اتِّباع محمد صلى الله عليه وسلم، والاستماع إليه ويبتعدون بأنفسهم عنه وما يُهلكون بِصَدِّهم عن سبيل الله إلا أنفسهم، وما يَحسُّون أنَّهم يَعملون لِهَلاكها ولو ترى أيُّها الرسول هؤلاء المُشركين يوم القيامة لرأيت أمرًا عظيمًا وذلك حين يُحبَسُون على النَّار ويشاهدون ما فيها من السَّلاسل والأغلال ورأوا بأعينهم تلك الأمور العِظام والأهوال، فعند ذلك قالوا يا ليتنا نُعادُ إلى الحياة الدنيا فنصدِّق بآيات الله، ونعمَل بها ونكون من المؤمنين. ليس الأمر كذلك بل ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صِدقِ ما جاءت به الرُّسل في الدُّنيا وإن كانوا يُظهرون لأَتباعه خِلافَه، ولو فُرِضَ أن أُعيدوا إلى الدُّنيا فأُمهِلُوا لرَجعوا إلى العناد بالكُفر والتَّكذيب وإنَّهم لكاذبون في قولهم لو رُددنا إلى الدُّنيا لم نُكذِّب بآيات ربِّنا وكنَّا من المؤمنين .
 تعليق الشِّيخ:
 قوله سبحانه وتعالى (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ۖ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) هذه الآية إن شاء الله سنعمل عليها تطبيقًا في قضية الدِّلالة على المعنى، كيفية الوصول إلى المعنى، فأتركها إلى ذلك الوقت -إن شاء الله- بعد ثلاثة دروس -إن شاء الله- أو الدرس الثالث من هذا الدرس سنقف عندها ونناقِش سَويٍّا قضيِّة الوصُول إلى المعنى لأن فيها أكثر من قول .
 يقول الله (وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) هذا طبعًا من الخِطابات أيضًا التي يكون فيها نوع من التَّهويل عدم ذكر جواب (لو) قالوا لتذهب فيه النَّفس أيَّما مذهب ولذا قال (وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) قال لرأيت شئيًا عظيمًا. وترَكَك أنت تتخيَّل وتتصوَّر هذا المَشهد الكبير جدًا إذا وُقِف الكُفَّار والعياذ بالله على النَّار -أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينقذني وإيَّاكم ووالدِينا وأهلينا منها-، (فَقَالُوا) يعني لمَّا عاينوا (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ) تَمنِّي (وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) طبعًا لاحظ الآن هذا الاستطراد (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) استطرادٌ فيهِ إطالة في الخِطَاب من باب الاستعطاف.
 يقول الله سبحانه وتعالى (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) أريد أن نَقف عند هذا المقطع، ولاحظوا الآن - وهذه قضية أيضًا جيِّد لو تُبحَث، بعض المُستشرقين الذِّين اطَّلعوا على القُرآن وقرأُوه كأنَّهُم نظروا إلى هذا المَلحظ وهو أنَّ المُتحدِّث بهذا القُرآن واثِق تمام الثَّقة ممَّا يقول أيّ غير متردد، لأنه يقين فهو كلام الله سبحانه وتعالى. لكن ذلك الغَربيّ الذِّي لايُؤمن بأنَّه كتاب الله سبحانه وتعالى تستوقفه مثل هذه اللَّفتة فيقول هذا الخِطاب الذِّي في القرآن خطاب إنسان واثق من خبره، ليست المَسألة عندنا هنا فحسب بل إنَّه سبحانه وتعالى يعلم بالشَّيء كيف سيكون لو كان وهذا مثال لها، لأنَّ الله سبحانه وتعالى قال (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) يعني ما هذه النَّفس التِّي يتكلَّم عنها الله سبحانه وتعالى، وقد عَاينت العذَاب أمامها والله سبحانه وتعالى يقول لا فائدة من هذا التَّمني الذِّي تمنَّوه (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) كأنَّه يقول لا فائدةَ من هذا التَّمني لماذا؟ لأنَّ هذه النُّفوس الخبيثة – نفوس هؤلاء الكُفَّار- لو عادَت إلى الدُّنيا بعد أن عاينت العذاب سترجع إلى ما كانت عليه ولهذا قال (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) فحكم عليهم بالكذب، فإذًا هذا مجرد تمني. وأنا أقول: أنه أيضًا قد يقع أحيانًا من المُسلم شيء شبيهٌ بهذا. إذا كان المسلم صاحب ذنوب وكثرُت ذنوبه ثُمَّ أُصيب بمرض، أو أصيب بآفة أو بشيء من ذلك تجد أنَّه يُلِّح على الله سبحانه وتعالى بالدُّعاء في أنَّه إن شَفَاه الله سبحانه وتعالى لا يعود أبدًا إلى تِلكَ المعاصي، فإذَا شفَاهُ الله سبحانه وتعالى طبعًا النَّاس على أقسام لكن بعضهم تجِد فيه هذه الصِّفة أوَّل أَمرِه وهُو مَا أحسن ما يكون بعد الشِّفاء، ثُمَّ يَبدأ يَضعُف شيئًا فشيئًا حتى يَعود لمَا كان عليه سابقًا. وهذا الحقيقة يدعوا إلى تأمُّل أنَّ الله سبحانه وتعالى خلَق هذه النَّفس البشرية وجعل فيها طبيعة عجيبة جدًا يعني هذه الطبيعة التي تَجُرُكَ إلى المَعاصي جرَّاً، طبيعة غريبة جدًا. فنحن مع يقيننا بما في كتاب الله ومع ذلك لا نَفتأ نعصي الله مرَّة بعد مرَّة بعد مرَّة، ونحن نقرأ كتاب الله ونعلم ماذا أمامنا، فهذه النَّفس سبحان الله بالفعل عجيبة وغريبة وكُلّ إنسان يسأل الله سبحانه وتعالى العِصمَة والخَاتِمَة الحَسَنة والمغفرة.
قال (وَقَالُوا) أيَّ هؤلاء القَوم الذِّين تكلَّم عنهم (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) أيّ قالُوا في الدُّنيا وهذا الكلام في الآخرة . قال قالوا في الدنيا (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).
 قال (وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ) هناك (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) وهنا (وُقِفُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ)(أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا) ولاحظ الآن خطاب المُقابل الله سبحانه يقول (أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ) ما اكتَفُوا وقالوا (بَلَىٰ) بل أقسموا قالوا (بَلَىٰ وَرَبِّنَا) (قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) .
قراءة من التَّفسير المُيسَّر ( التَّفسير الإِجمالي):
 وقال هؤلاء المُشركون المُنكرون للبَعث ما الحياةُ إلاَّ هذه الحياة التي نحن فيها وما نحن بمبعوثين بعد موتنا، ولو تَرى أيُّها الرسول مُنكري البعث إذ حُبِسوا بين يدي الله تعالى لقضاءه فيهم يوم القيامة لرأيت أسوأ حَال إذ يقول الله جلَّ وعلا (أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ) أيَّ أليس هذا البعث الذي كنتم تنكرونه في الدنيا حقًا (قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا) إنَّه لحق قال الله تعالى (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أيّ العذاب الذِّي كنتم تُكذِّبُـون به في الدُّنيا بِسببِ جُحُودكُم بالله تعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. قد خَسر الكُفار الذِّين أنكروا البَعث بعد الموت حتى إذا قامتِ القيامة وفُوجئوا بسوء المصير نادَوا على أنفسهم بالحَسرة على ما ضيَّعوه في حياتهم الدُّنيا وهم يحملون آثامهم على ظهورهم فما أسوأ الأحمال الثَّقيلة السَّيئة التي يحملونها .
تعليق الشِّيخ:
 طبعًا تلاحظون الآن الخِطاب كُلُّه مُوجَّه مع الكُفَّار وهي مرتبطة بقضية من قضايا اليوم الآخر، وما يَحصُل من الكُفَّار في هذا اليوم يقول الله سبحانه وتعالى (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ ۚ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) وهذا وإن كان خطابًا للكفار إلا أنَّه ما يخرج من الدُّنيا أحد إلا وقد أصابته الحسرة المؤمن أن لا يكون قد أَحسن، والمُحسن ألا يكون قد زاد، والكافر أيضًا أن يكون قد خرج وصار فيه تأويل لقول الله سبحانه وتعالى (كَلاَّ لمَّا يَقضِ مَا أَمَـرَه).
يقول الله سبحانه وتعالى (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) هذا المَقطع الآن لو جعلته في كل صباح أمام عينيك يقول الله (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) انظر كم من اللَّهو واللَّعب الذي يحصل عندنا حتى قد يكون أحيانًا عند بعض الفضلاء، وهذا كُلُّه من الغَفلة. يقع سؤال هنا: أنَّه قدَّم اللَّعب على اللَّهو، فقال (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أيُّهُم أعمّ اللَّعب أم اللهو؟ اللَّهو أعمّ من اللَّعب.
 أيُّهُم أكثر اللَّعب أو اللَّهو؟ أيضًا اللَّهو, فإذًا الآن قدَّم الأقل،تدرَّج من الأقل إلى الأكثر، حَسَب السِّياق، يُقدَّم اللَّهو على اللَّعب حسَب السِّياق.
في سورة الجمعة (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا) بعدها قال (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ)  قدَّم التجارة في الأوَّل لأنَّها كانت هي السَّبب فأخَّرّ اللَّهو, فلمَّا جَاء قوله (قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ) الذِّي هو الأغلب، (وَمِنَ التِّجَارَةِ) هي الأخصّ فما عند الله خيرٌ من اللَّهو ليشمل جميع النَّاس والتِّجارة ليشمل بعضُهم، يعني أخصّ فقدَّم الأعم على الأخصّ، وهذا كله مرتبط بالسياقات .
 قراءة من كتاب كلمات القرآن :
 قد نعلمُ إنَّه ليَحزنك الذِّي يقولون فإنَّهُم لا يُكذِّبُــونك ولكن الظَّالمين بآياتِ الله يجحدون. ولقد كُذِّبت رُسُلٌ من قَبلك فصَبرُوا على ما كُذِّبُوا وأُوذُوا حتى أَتَاهم نَصرُنا ولا مُبَدِّلَ لآياتِ وعدهِ بنصرِ رسُلِه. وقد جاءك من نبأِ المُرسلين. وإن كانَ شقَّ وعظُمَ عليكَ إعراضُهُم فإن استطعتَ أن تبتغي سَرَبًا فيها ينفُذُ إلى ما تحتها أو سُلَّماً في السَّماءِ فتأتيهم بآية ولو شاء الله لَجَمعهم على الهُدى فلا تكونَنَّ من الجاهلين.
 قراءة من التّفسير الإجمالي ( التّفسير المُيسَّر):
  وما الحياةُ الدُّنيا في غالِبِ أحوالها إلاَّ غُرُورٌ وباطِل، والعمل الصَّالح للدَّار الآخرة خيرٌ للذِّين يخشون الله فيتقون عذابه بطاعته واجتناب معاصيه، أفلا تعقلون أيُّها المُشركون المُغترُّون بِزينة الحياة فتُقدِّموا ما يبقى على ما يفنى، إنَّا نعلم إنَّه لَيُدخل الحزن إلى قلبك تكذيب قومك لك في الظَّاهر فاصبر واطمئن فإنَّهم لا يُكذِّبُونك في قَرارة أنفسهم بل يعتقدون صدقك ولكنَّهم لظلمهم وعدوانهم يجحدون البراهين الواضحة على صدقك فيُكذِّبونك فيما جئت به.ولقد كذب الكفار رسلًا من قبلك أرسلهُم الله تعالى إلى أُمَمهم وأُوذوا في سبيله فصبروا على ذلك ومضوا في دعوتهم، وجهادهم، حتى أتاهم نصر الله ولا مُبدِّل لكلمات الله وهي ما أنزل على نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم من وعده إيَّاه بالنَّصر على من عاداه، ولقد جاءك أيُّها الرسول من خبر من قبلك من الرسل وما تَحقق لهم من نصر الله وما جرى على مُكذِّبيهم من نقمة الله منهم وغضبه عليهم. فلك فيمن تقدَّم من الرُّسل أسوة وقدوة وفي هذا تسلية للنَّبي صلى الله عليه وسلم. وإن كان عظُم عليك أيها الرسول صدود هؤلاء المشركين وانصرافهم عن الاستجابة لدعوتك فإن استطعت أن تتِّخذ نفقًا في الأرض أو مصعدًا تصعد فيه إلى السماء فتأتيهم بعلامةٍ وبرهان على صحة قولك غير الذي جئناهم به فافعل، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى الذي أنتم عليه ووفَّقهم للإيمان ولكن لم يشأ ذلك لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى فلا تكونَنَّ أيُّها الرسول من الجاهلين الذِّين اشتد حزنهم وتحسَّروا حتى أوصلهم ذلك إلى الجزع الشديد.
 تعليق الشِّيخ:
قوله سبحانه وتعالى (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) هذه قضية مرتبطة بعمق النفوس يعني من الذي يستطيع أن يدرك ما في النفوس، أولًا نفس محمد صلى الله عليه وسلم والحُزن الذِّي يُصيبه صلى الله عليه وسلم من عدم إيمان قومه وهو يحمل الهُدى والنُّور وهؤلاء يَردُّونه ويَصُّدُونه ولايقبَلُون ما جاء به. وهذا عزيز جدًا جدًا على النفس. وأنت لو جربت هذا حينما تُرشد أحدهم إلى الطريق الصحيح وتجده يعني يتنكَّب الطريق الخطأ تجد أن في نفسك عليه حسرة كيف أنت تُرشده إلى الطَّريق الصَّواب ولا يسمعُك. فإذًا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش هذه الحالة العجيبة في أنه يرى قومه يذهبون إلى النَّار ولا يستطيع أن ينقذهُم فكان يحزن وهذا من كرم نفسه صلى الله عليه وسلم وإلا كان يمكن أن يقول ( إن عليك إلا البلاغ ) وينتهي. بالمقابل نجد أنَّ الله سبحانه وتعالى يتكلَّم عن الكُفَّار قال (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ) فهُم يؤمنون بما جئتَ به (وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) إذًا هم عندهم كُفُر الجُحُود، فهُم موقنون بأنَّك نبيّ ومُوقنون بما جئتَ به ولكنَّهم عانَدُوك وجُحَدُوك من الذِّي يستطيع أن يعرف أنَّ هَذا الكفر هو كفر جُحُود وأنَّهُم وإن كَانوا في الظَّاهر يكذِّبُونه إلاَّ إنَّه في الباطن يوقنون بما جاءَ به؟ هو الله سبحانه وتعالى. وهذا مبحث مهم جدًا أن ننتبه له في الحَديث عن خفايا النُّفوس في القرآن نجد شيئًا عجبًا مثل في سورة آل عمران والله سبحانه وتعالى يتكلم عن (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) (هَمَّتْ) أيّ وقع في النفس.من الذي استطاع أن يصل إلى هذه النفوس ويُخبِر عنها؟ هو الله سبحانه وتعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم لا يعرف عن هذا الأمر حتى يأتيه الوحي فيخبُره بهذا، فإذًا هذا المبحث مبحث مهم جدًا وهو يدل على سَعَة علم الله سبحانه وتعالى وأيضًا خبرته سبحانه وتعالى في معرفة خفايا هذه النَّفُوس لأنه هو خالقها وهو بارئها فهو أدرى بها. (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) هذا الخطاب دائمًا إذا جاء يكون فيه تسلية، وأنا أذكر أحد الإخوة يقول: دخلت على إنسان أُصيب بالسرطان يقول كان رجل كبير في السِّن، وواضح عليه الهمّ والحُزُن ممَّا هو فيه يقول فقصَصَت عليه قصة أيوب عليه الصلاة والسَّلام على حسب ما جاء في الروايات يقول ما خرجت منه إلا وجهُهُ يتهلَّل. يقول فيما بعد أرسل لي مع أحد أبناءه أن تلك القصة أثَّرت عليه تأثيرًا كبيرًا جدًا ودفعته إلى الصبر واحتمال الأذى. وهذه إذًا الفكرة أو القاعدة أنه حينما يُذكَر ما أُصيب به من كان قبلنا كما الآن محمد صلى الله عليه وسلم يُنبَّه على أنَّه ما أصِبت بِه من تكذيب قومك قد حصل لمن هم قبلك هذا يكون فيه نوع من التَّسلية والتَّطمين له صلى الله عليه وسلم ولذا قال (فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا) أيّ أن هناك هَمّ مشترك وهناك طريق واحد مشترك وهو أن من سلك طريق الأنبياء وهو خاتمهم صلى الله عليه وسلم فإنه يحصل له الأذى والتَّكذيب (فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) ومعنى ذلك أنَّ القاعدة أن أتباع الأنبياء إذا بالفعل صبروا على ما أُوذُوا واحتمَلُوا هذا الأذى ودَعُوا إلى الله سبحانه وتعالى فإنَّ النِّهاية لهُم لأنَّه لامُبدِّلَ لكلماتِ الله. فإذًا الآن الخلل الواقع هو في التَّطبيق، وإلاَّ لو حَصَل ما ذكَره الله سبحانه وتعالى فإنَّه في النِّهاية سيكون ما ذكره الله سبحانه وتعالى من نَصر أتباع الأنبياء.(وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أيّ ما ذكرناهُ لك من نصرهم على أقوامهم.
يقول (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ) أيّ إن كان كبيرٌ على نفسك إعراض قومك وأنت تحمل لهم الهُدى وأنت على يقين مما مَعَك (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) تجعلهم يذعنون لما معَك فافعل، وهل يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك؟ لا, الآيات إنَّما هي من الله سبحانه وتعالى (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أيّ لو شاء الله سبحانه وتعالى لجمَع هؤلاء الكفار كلهم على الهدى يعني قادر سبحانه وتعالى على أن يجعل جميع أهل الكرة الأرضية على الإسلام، ولكن هذا المطلب في أن يجعل كُلّ أهل الكرة الأرضية على الإسلام كمَا أخبر سبحانه وتعالى قال (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) فإن أحد طلبه فإنَّه يدُل على جهَالة لأنَّ من حكمة الله سبحانه وتعالى أن قَسَمَ النَّاس إلى مُؤمن وإلى كَافر وخالَف بين طبائع النّاس، فلا يمكن أن تتفق طبائع الناس بعضها مع بعض ولهذا أيّ مطلب من المّطالب التي ستكون بهذه المثابة بأّن يُطلب أن يكون النَّاس كلهم على شكل واحد، وعلى هيئةٍ واحدة، وعلى خُلقٍ واحد فإنَّ هذا مطلب يعتبر من مَطالب الجاهلين ولذا قال الله سبحانه وتعالى لنبيه (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ). لماذا لا تكونَنَّ من الجَاهلين؟ لأن هذا الطَّلب في أن يَكونوا جميعًا على الهُدى مخالفٌ لِسُنَّة الله سبحانه وتعالى ولا يُمكن أن يكون.
 لو نحن أخذنا هذه الآيات -الآيات المُرتبطة بدعوة النَّبي صلى الله عليه وسلم- من قوله (قد نعلمُ إنَّه لَيَحزُنُك الذِّي يقولون فإنَّهم لا يُكذِّبُونك) واجتهدنا في تطبيقها على حال النِّبي صلى الله عليه وسلم وسيرته فإننَّا سنجد أمثلة كثيرة جِدّاً جِدّاً من أحوال هَمِّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وغَمِّه بسبب قومه وعدم إيمان قومه وبسبب هدايتهم له صلى الله عليه وسلم .
 قال بعدها سبحانه وتعالى (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ۘ وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) لعلنا نقف عند هذه الآية ببعض الفوائد:
 لمَّا قالَ الله سبحانه وتعالى (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) تعقيب على المَاضي من ذكر الكُفَار الذِّين لم يستجيبوا للرسول صلى الله عليه وسلم فأخبر الله سبحانه وتعالى إنَّما تقع الاستجابة من الذِّين يسمعُـون أيّ من أهل السَّماع الحقيقيّ وليس فقط أهل السَّماع العابِر.
ثم قال (وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ) أيّ المَوتى بالكُفر يبعثُهم الله سبحانه وتعالى (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أو المَوتى أيّ الذَّين يموتون على الكفر يبعثهم الله (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) في هذه الآية عندنا وقف لازم وهذه مسألة لا بأس أن نُعرِّج عليها .
 هذا الوقف اللازم (مــــ) لماذا وضَعَهُ من وضَعَه على (يَسْمَعُونَ) .ما الجواب؟
 لو وَقَفنا على (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَىٰ) وقَعَ الإشكال، ولهذا هذا مما يُستدرك على الوقف اللازم .الصَّحيح أنَّ هذا ليس محلاًّ للوقف اللازِم طبعًا أول من وضع هذا الوقف هو السَّجَوَندِي في كتابه (الوَقــَف والابتداء) فليس دقيقًا أن يُوضَع الوقف اللاَّزم (مــــ) على (يسمعون) لماذا؟ لأنَّ هذا يمكن يُسمَّى (وقَـف بيان) ولا يُسمَّى (وَقف لازم) كيف ذلك؟ أنَّ الوقف يُبيِّن المَعنى فهو (وقف بيان), الخَلَّل الذِّي يقع فيما لو وقفنا على (الموتى) وقلنا (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَىٰ) ثم وقفنا لأنَّ الآن جعلنا الموتى يَسمعُون أمَّا إذا قرأناها كاملة كل جُملة مُنفصلة (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ۘ وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ) فهي جملة مستقلة لا يقع فيها لبس, فلا يقع اللَّبس إلا إذا وقفنا على (الموتى), وعلى طريقة السَّجَوَندِي المفترض أن يضع على (الموتى) (لا) بحيث أنَّه لو وقَف على الموتى وقعَ الإشكال (لا تقف) أمَّا بهذه الطريقة فإنَّها يُمكن تسمى (وقف بيان) وهو بديل عن الوَقف اللازم . طبعًا مَرَّ علينا وقف آخر لكن لم نَقِف عنده لكن هذا كان فرصة في أن نُنَبِّه على بَعض الوقوف , طبعًا الوقوف اجتهادية، ولهذا بناءً على كونها اجتهادية فلا يقع إشكال في كَون الوَاحد يَستدرك على بعض الوقوف الموجودة في المصحف، لأنَّ أغلبها أو قُل نسبة ستين بالمائة (60)% منها أصولها يرجع إلى كتاب السَّجَوَندي (الوقف والابتداء) فإنّها اجتهاد رجل واحد ثم تتابعت عليه أعمال العلماء خُصوصًا في المصاحف الهندية بالذات،وبعض المصاحف التي طبعت في تركيا اعتمدوا على وقوف السَّجَوَندي , لو وصلت ليس فيه شيء، الصَّحيح أنّ الوصل ليس فيه شيء، يعني لو وُضِع (ج) هنا لكان أولى. أو وقف بيان. ولعلَّنا نقف عند هذا الحدّ. سُبحانك اللَّهم وبُحمدك نَشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتُوب إليك.






---------------------------------
مصدر التفريغ: ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق