الثلاثاء، 19 نوفمبر 2013

الوقفــ الثالثة ــة من جـ 23 / مع قوله تعالى (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ..) من سورة ص


هذه الوقفة الثالثة مع الجزء الثالث والعشرين وهي من سورة ص
عند قول الله -جل وعلا- : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) .
مرَّ معنا في الوقفة الثانية في سورة الصافات خبر إبراهيم وإسماعيل ، والآن نتحدث عن خبر نبي عُرف بالصبر واشتُهر به وهو أيوب عليه السلام ، وعلى المشهور أنه أحد أنبياء بني إسرائيل ابتلاه الله -جل وعلا- بمرض فنفرَ منه أو تخلى عنه كثير من أهله وبقي على هذا الحال ثمانية عشر عاما ، ويُقال أن رجلين -كما ورد في الحديث الصحيح- (رجلين من بني إسرائيل لما رأوا أن أيوب -عليه السلام- أبطأ مرضه قال بعضهم لبعض : والله لا أرى أيوب أصابه هذا البلاء إلا لشيء أتاه ، فرجعا إليه وأخبراه، فقال نبي الله : والله لا أدري ما تقولان لكنني والله أمرُّ على الرجلين يقسمان بالله في شيء واحد فأعلم أن أحدهما يكذب على الله فأكفِّر عنه وأتصدّق إجلالاً لله أن يُحلف بالله كذباً) ودعاه إلى أن يقول هذا ويُفصح عنه ما اتهمه الناس فيه ، ونظير هذا في أخبار الصحابة أن عثمان -رضي الله عنه وأرضاه- أخذ يذكر بعض مناقبه لمّا طوّق الخوارج بيته وأخذوا يطلبون منه أن يتخلى عن الخلافة فكان يقول أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من يشتري بئر رُومه وله الجنة ؟ فاشتريته) وأخذ يعدد مناقبه -رضي الله عنه وأرضاه- ، فصنيع عثمان من قِبَل صنيع أيوب.
قال الله -جل وعلا- : (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) في قوله : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ) تأدباً مع الله، وإلا الذي يصيب بالمرض ويشفي هو الله.َ (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) فخرج ذات يوم لبعض حاجته ومعه زوجته وكانت قد أغضبته يوماً فحلف أن يجلدها أو يضربها مائة جلدة ، فخرجت به ذات يوم ليقضي بعض شأنه وهي تقوده فلما أراد أن يذهب -يبعد عنها- لبعض حاجته تركها وذهب، وهو في الطريق مازال يتوسل إلى ربه فقبل أن يصل إلى المكان الذي يريده قال له ربه : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ) فركض فنبع ماءٌ من تحت قدميه فقال له ربه : (هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) فاغتسل فبريء ظاهره ، وشرب فبريء باطنه وعوفي فقام كأحسن خلق الله خِلقَه، وقضى حاجته وعاد، فلما عاد رأته زوجته وقد أبطأ عليها فلم تعرفه فقالت : ياعبد الله أما رأيت نبي الله ذاك المُبتلى فإنك من أشد الناس شبهاً به إذ كان صحيحاً ؟
قال : أنا أيوب .
 قال الله -جل وعلا- : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) ظاهر القرآن -والعلم عند الله- أن الله ردَّ له من مات من أهله (رَحْمَةً مِنَّا) هذه لأيوب (وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) أي لمن لجأ إلينا كما لجأ أيوب (وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) ، (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا) الضغث: الشيء المجموع المختلِط ، لمّا كان قد أقسم أن يجلدها أوجد الله -جل وعلا- له عذراً فأخذ مائة من جريد النخل مجتمعة مع بعضها بعض صغاراً وكباراً غلاظاً وخفافاً حتى تصبح ضغثا. حتى عدّها مائة فضربها على ظهرها ضربة واحدة (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ).
 ثم ذكر الله سبيل إكرامه لهذا العبد الصالح قال: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) سنقف ثلاث وقفات:
(إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا) ذكر الله الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعاً ومدح به أولياءه الخُلَّص ، وقد قال عمر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- "وما أُعطي ابن آدم شيئا أوسع من الصبر". وهو عند العلماء على أقسام ثلاثة :
 صبرٌ على طاعة الله
 وصبرٌ عن معصيته
 وصبرٌ على قضائه وقدره .
 والصبر أعظم رداء يتحلى به المرء لأنه لا سبيل من الأوبة إلى الله فالإنسان يتجمّل بالصبر حتى يلقى الله ، ولا راحة للمؤمن دون لقاء الله .
 ثم قال -جل وعلا- : (نِعْمَ الْعَبْدُ) وفق الصناعة النحوية نِعمَ هذه فعلٌ ماضٍ يفيد المدح ، يقول النحاة إنه فعل جامد أو ناقص التصرف لا يأتي منه فعل أمر ، أو لا يأتي بعضهم يقول فعل مضارع ، الذي يعنينا أنه فعل جامد، وهو صيغ من صيغ المدح مدح الله به هذا العبد الصالح (نِعْمَ الْعَبْدُ ) معنى الكلام نِعْمَ العبد أيوب . ليس سهلاً ولا يسيراً أن يقول الله جل وعلا عن عبد من عباده إنه نِعمَ العبد ، هذه منزلة عالية ونحن لا نعلم لأي مدىً وصلت سريرة أيوب حتى يقول ربنا علام الغيوب عنه (نِعْمَ الْعَبْدُ) لكن الله تأديباً لنا وتعليماً أردف بعد ذلك بشيء نتمسك به في العمل قال : ( إِنَّهُ أَوّابٌ ) والأوبة هي الرجعة أي كثير التوبة والأوبة إلى ربه ، كل بني آدم خطّا. ، كلنا نتلبّس بالمعاصي كلنا تأتي منا الذنوب ، لكن المؤمن شبهه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخيل الذي له مكان عُقِدَ فيه فهو مهما بَعُد سيرجع إلى مكانه الذي عُقد عليه رسَنه في الأول ، مهما بَعُد لا يذهب ، كذلك المؤمن يقع منه ما يقع لا يسلم من هذا أحد لكن الله -جل وعلا- قال : (نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ) لكن ذلك لا يعني أن لا يتعرض الإنسان لنفحات ربه فقد جاء في الخبر الصحيح أنه أطلّ على أيوب رجل جراد من ذهب ، رجل جراد يعني جماعة من الجراد ، والعرب تقول للطير سِرب وللجراد رِجل ، فمرَّ رجل جراد من ذهب فأخذ يحثو في حجره -عليه السلام- ويجمع الجراد إلى نفسه فقال له ربه : أي أيوب ألم أكن قد أغنيتك عما ترى ؟ قال : بلى يارب ولكن لا غِنى لي عن رحمتك.
 لا أحد يستكبر عن رحمة الله ، ولا أحد يستغني عن فضل الله ، فنحن جياع إلا أن يُطعمنا ربنا ، ونحن عطشى إلا أن يسقينا ربنا ، ونحن أهل ضلالة إلا أن يهدينا ربنا ، ونحن عراة إلا أن يكسونا ربنا ، وفي الحديث القدسي : (يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ، وكلكم عارٍ إلا من كسوته ، وكلكم ضال إلا من هديته ، ياعبادي إنكم تخطئون الليل والنهار وأنا اغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم ، ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على اتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ، ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل ذي سُئل مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما يُنقِص المخيَّط إذا أُدخل البحر) . فرب هذه سعة فضله ورحمته حقيق بالعبد أن يلجأ إليه كما لجأ إليه أيوب. والحمد لله رب العالمين .
-----------------------------------------
الشكر موصول لمن قامت بتفريغ وقفات هذا الجزء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق