الاثنين، 18 نوفمبر 2013

الوقفــ الثانية ــة من جـ 23 / من سورة الصافات



هذه الوقفة الثانية مع الجزء الثالث والعشرين وهي من سورة الصافات
قال ربنا -جل ذكره- : (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ) ظاهرٌ أن الخطاب هنا عن خليل الله إبراهيم بعد أن كسر الأصنام ، جمعه أولئك الرهط على ملأ من الناس وحاكموه فلما تبيّن لهم أنه هو الذي هدم الأصنام وكسرها حكموا عليه بأن يُلقى في النار فأخبرنا الكبير المتعال بالأمر كله حتى نتّعظ ونتدبّر فقال أصدق القائلين : ( قَالُوا ) أي قومه وأبوه (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ) جاء في بعض الآثار أن الله -جل وعلا- لمّا أمر القوم إبراهيم أن يُلقى في النار وردَ أن مَلَك القطر ميكال كان يعلم أن الله -جل وعلا- لن يأذن للنار أن تمس إبراهيم وأنه لا سبيل لهؤلاء القوم على خليل الله فلم يقع في خَلَده إلا أن الله -جل وعلا- سيأمره أن يُنزل القطر -الماء- من السحاب على النار فينجو إبراهيم فأصخى أذُنَه ينتظر الأمر بأن يهطل المطر على النار فيطفأها فلا سبيل لهم على إبراهيم بالنار ، لكن لكرامة إبراهيم عند ربه ولما أنه لا أحد في قلب إبراهيم إلا الله لم يجعل الله لأحد منّة على إبراهيم ، قال أصدق القائلين : (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) وفق قواعد النحو ( يَا نَارُ ) هذه تسمّى عند النحويين نكرة مقصودة أي النار التي حول إبراهيم (كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ) قالوا أحرقت قيده ، وقد أُلقيَ في النار عرياناً مقيّداً فأحرقت النارُ قيده ولم تصل إلى جسده ، فبينما هم ينظرون إذا بخليل الله يخرج يمشي على قدميه ( فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ) فتركهم (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي سيزدني هدى .
 ثم توسّل إلى ربه لأن زوجه سارة لم تكن تُنجب (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) ولن ندخل في الخلاف حول الذبيح لكن الذبيح أحد أبنائه قال : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) والمشهور أنه إسماعيل ، قال الله -جل وعلا- (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا) أي حين (بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) الطفل وهو رضيع كله مشقة ، متى يزداد تعلق الوالد بولده ؟ إذا گبُر وأقبلت منفعته وأصبح الأب يعتمد عليه ويرجوه ويؤمِّل فيه فيما يدخل فيه الأمل والرجاء ، قال ربنا : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) إذا بإبراهيم يرى رؤيا أنه يُؤمر بذبح ولده .
الوحي مراتب : أعظمها أن يُكلم الله جل وعل العبد
 وثانيها أن يأتي المَلَك إلى النبي إلى العبد
والثالثة أن يُنفَث في روعه
وأقلها قدراً وإن كانت وحياً هو مقام الرؤيا
فجاء التكليف بأضعف مقامات الوحي ، وعلى الجانب الآخر جاء التكليف بأصعب التكاليف وهو ذبح الابن ، فنوح -عليه السلام- فَقَدَ إبنه لكن الإبن أصرّ لا باختيار نوح ، وإبراهيم كفر أبوه لكن باختيار الأب -باختيار آزر- لا باختيار إبراهيم ، وهذا النبي يُؤمر بذبح ابنه( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَام أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ) ولم يشاور إبراهيمُ إبنَه إسماعيل إلا كرامة له ، لا على أنه إذا اعترض إسماعيل سيعترض إبراهيم ، هذا الإبن الصالح رُبّيَ في حجور الصالحين ( قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) وقد قلنا مراراً شتان بين قول افعل ما تريد وافعل ما تؤمر، يوجد إلى اليوم أبناء لو أن آباءهم طالبوهم بأن يذبحوا أنفسهم قَبِلُوا انتصاراً لأبيه ، بل يوجد من الجنود من يصنعها من أجل قائده ، لكن هذا ليس عبادة ، ليس تعبداً ، ليس لله فيها شيء ، فلهذا قال اسماعيل : ( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَر) أي : ما أمرك الله به حتى يدخل هو في الأجر ويصبح الأمر منه ومن أبيه تعبّداً لله ( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَر سَتَجِدُنِي) وعلّق الأمر بالمشيئة تبرّكاً واستعانة ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) قال أصدق القائلين : (فَلَمَّا أَسْلَمَا) أسلما بألف التثنية ، أسلم إبراهيم نفسه لله بأن قَبِل أن يذبح ولده ، وأسلم إسماعيل نفسه لله بأن قَبِل أن يذبحه والده (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) وفي هذا -فيما قالوا- حتى لا تقع العينان بعضهما على بعض (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) وأراد أن يُمِر المُدية -أي السكين- عليه وقد أخرج إبراهيم من قلبه حب ابنه امتثالاً لأمر الله ، فلما أخرج من قلبه حب ابنه امتثالاً لأمر الله لم يكن لله حاجة أن يُهرق دم إسماعيل فلم تمضِ ..... وهو شيخ قد شارف المائة واحدودب ظهره والمُدية في يده وابنه مضطجع على الأرض يريد أن يكتب الفراق بينهما بيديه ،ثم أي فرحة هذه وهو يسمع نداء رب العالمين -جل جلاله- (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين) وسمّى الله -ولا أحد أعظم من الله- هذا البلاء بأنه بلاء مبين قال الله : (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) وهذا من أعظم البلاء -نسأل الله لنا ولكم العافية- لكن رفيع المقامات وجليل الدرجات وقول الله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) ، ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) لا يمكن أن يقع إلا بهذا ،الجنة والقُرب من الله درجة عالية لا يُنال إلا بالصعود (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) فدينا من ؟ فدينا إسماعيل (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) فجعل الله -جل وعلا- النحر سُنّةً ماضية في الأمم بعده ، قال الله -تبارك وتعالى- : (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ ) ممن ؟ من الله، (سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) فمن يريد أن يدعو الله فليدعو كما دعا سليمان (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) . من الشرف الذي أتبوأُه وتتبوأه أن الله -جل وعلا- سمّانا مؤمنين وسمى إبراهيم من المؤمنين فنحن وإبراهيم تحت تسمية واحدة وإن شطّ الأمر بين درجتنا ودرجته لكن كما قيل :
ومما زادني شرفاً وتيهاً ** وكدت بأخمصِي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك ياعبادي ** وأن صيّرت أحمد لي نبيّاً .
قال الله : (إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) فالحياة كلها ابتلاء إما بعطية أو بأخذ ولابد من المصير إلى الله ، ويوم القيامة يوفي الله الصابرين ، قال الله جل وعلا : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) هذه الوقفة الثانية مع الجزء الثالث والعشرين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق