الاثنين، 18 نوفمبر 2013

الوقفــ الأولى ــة من جـ 23 / عند قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)


 الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله ، هذه وقفات مع الجزء الثالث والعشرين من كلام ربنا -جل وعلا- وهذه الوقفة الأولى: وهي عند قول الله -جل وعلا- من سورة يس : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِين ٌ* وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ).
قال أهل العلم -رحمهم الله- من قبلنا : أن سبب نزول هذه الآية أن العاص بن وائل السهمي جاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- في أول أيام البعثة ، والبعثة كانت قائمة على أصول ثلاث : التوحيد والنبوات والمعاد ، وكانت قريش وكفارها ومن حولهم يزعمون أنه لا بعث ولا نشور ، قال ربنا -جل وعلا- : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ۚ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ) فجاء هذا الرجل بعظام قد أرِمَت لموتى قد مضوا ووضعها ممزوجة بتراب في يده ، ثم قَدِم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال :  يامحمد أتزعم ان ربك يحيي هذه بعد موتها ؟ ثم نفخها ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : (نعم ويدخلك النار) ولهذا مات هذا الرجل على كفره ، فلما قالها أنزل الله -جل وعلا- قوله : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ ) فهي من حيث السبب المقصود بها العاص، ومن حيث العموم كل إنسان كافر وكل من هو أهل للخطاب القرآني ممن يتبجح بمثل هذا.
(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ ) هي مني الرجل (فَإِذَا هُوَ) بعد أطوار دلّت عليها سور أُخر (فَإِذَا هُو خَصِيمٌ مُبِينٌ) (خَصِيمٌ مُبِينٌ) خصيم: صيغة مبالغة من خَصَمَ فإذا به يُحاجّ عن نفسه ويدافع ، بل الكافر -عياذاً بالله- يُخاصم ويجادل ربه .
 (فَإِذَا هُو خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا ) بأنه حمل تلك العظام التي أرِمَت وأخبر أن الله عاجز عن إحيائها ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا ) قال ربنا : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ ) لوتذكّر النشأة الأولى وأنه لم يكن شيئاً مذكوراً لما جَرؤ على مثل هذا القول لكنه نسي خلقه الأول فدفعه هذا إلى ما قال(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) هو قالها استكباراً قال أصدق القائلين : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ) من الذي أنشأها أول مرة ؟ الله تبارك وتعالى، والجنين في بطن أمه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يتكون عظماً ثم يُكسى هذا العظم لحماً، قال الله : (فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) ولمّا عَلِم -جل وعلا- أن لا أحد له قدرة على هذا قال: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقينَ)ِ، هنا قال -جل وعلا: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ ) أي -جل ذكره- (بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) ليس خلقه لبني آدم فقط بل كل خلقٍ اللهُ خالقه وهو -جل وعلا- عليم بذلك الخلق (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) فلمّا أقام الحُجّة على هذا ضرب له مثلاً ممن هو مشاهدٌ عياناٍ ، قال -جل وعلا- : (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا ) العرب كانت تأتي بنوعين من النبات : المَرخ والعِفار ، وهذه تدب فيها النار سريعاً فتُوقد منها ، فالله يُخاطبهم بما شاع في بيئتهم " في كل شجر نار واستمجد المرخ والعِفار" يعني بلغت الذروة والمجد في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار ، فالله يقول : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا) فالشجر الأخضر الأصل أنه ممزوج ماء ولا سبيل  إلى النار مع الماء لكن الله -جل وعلا- بقدرته جعله حطباً (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا ) المعنى: جمع الله بين الضدين والنقيضين ، والجمع بين النقيضين دلالة على القدرة ، قال الله في النور : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أخبربعد ذلك أن هذا السحاب كما ترى يقع منه أربعة لا تجتمع : فمن برقه يكون النور ، ومن تراكمه يحجِب الشمس والقمر فتكون الظُلمة ، فاجتمع النور والظلمة بسبب السحاب .
 ومن جريانه يكون الماء ، ومن صواعقه يكون النار ، والنار والماء لا يجتمعان .
 فجمع الله في مخلوق واحد نوراً وظلمةً وماءً وناراً ولا يقدر على هذا إلا الله ، وما قاله الله في النور قال بعضه هنا في يس قال -جل ذكره- : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) ثم أقام الحُجة (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) إذلالاً لهم لم يجعلهم يجيبوا ، قال: (بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) لأن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) فأجاب نفسه بنفسه قال : (بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ).
ثم بيّن كمال قدرته وجليل عظمته فقال -جل ذكره- : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ ) والوقوف هنا جميــل (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ولم يقل -جل وعلا- في حق عيسى فكان لأنه انتهى وإنما جاء بصيغة الفعل المضارع لأن الله عندما يقول (فَيَكُونَ) كأن المتلقي يتخيل أن الشيء يقع أمامه ، يتصوّر وقوعه أمامه (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
من كان صادق الظن بربه يعلم عظَمة ربه -جل وعلا- وأن الرب -تبارك وتعالى- إذا أراد شيئاً أن يقول له كُن فيكون عَظُمَ يقينه بخالقه تبارك وتعالى ، وأصبح وهو يرفع يديه في الدعاء على يقين بأن الله يُجيب من دعاه، ولا ينبغي لمؤمن أكرمه الله بأن آتاه في قلبه ما يعينه على أن يدعو ربه أن يُسيء الظن بخالقه ، وأخصّ بالذكر من مَنّ الله عليه بالوقوف في عرفة فإن الوقوف في عرفة شرف -وأي شرف- فلا ينبغي لمؤمن منّ الله عليه بالوقوف في عرفة، فإن الوقوف في عرفة شرف وأي شرف ، فلا ينبغي لمؤمن منَّ الله عليه بالوقوف في ذلك المقام وهو يرفع يديه أن يسيء الظن بربه في ذلك الموقف ،كما الدعاء في ثلث الليل الآخِر ، كما الدعاء السجودا كما الدعاء عند نزول القطر ، بل الدعاء في كل آنٍ وحين لابد أن يستصحب المرء مثل هذه الآيات (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
ثم قال -جل وعلا- : (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) نزّه ذاته العليّة عن كل عيب ونقص (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) ملكوت: زيادة التاء هنا على مُلْك وهي زيادة يراد بها المبالغة ، فملكوت كل شيء بيده -جل جلاله- ، ثم قال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ولهذا قيل :
ولو إنا إذا مِتنا تْرِكنا ** لكان الموت غاية كل حيّ
 لكنا إذا مِتنا بُعثنا ** ونُسأل بعدها عن كل شيء
 فقال ربنا هنا -جل وعلا- : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) حتى يُذكّر عباده -كما مرّ معنا في لقاءات سبقت- بالرجوع إليه تبارك وتعالى وأن هذا حقٌ ويقين لا فرار للخلق عنه أبداً ، واستحضار في النفس هول ذلك اليوم يُعين ، قالوا بأن المهدي الخليفة العباسي دخل مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان من أشد ملوك بني العباس وكان معه جنوده وخدمه وحاشيته وكأنه أراد أن يفرُغ المسجد له ليتفقده ، فلما دخل كان ابن أبي ذئب -أحد علماء المدينة- جالساً يقرأ القرآن فمرّ المهدي من جواره فقال الخدم والحشم : قم هذا أمير المؤمنين ، فقال ابن أبي ذئب : إنما يقوم الناس لرب العالمين ، فهمَّ الخدم أن يبطشوا به فقال المهدي : دعوه فوالله لقد وقف شعر رأسي مما قال .
 لكن قراءة نصٍ من حياة السلف مثل هذا لابد أن يُقرأ صواباً ، هذا في مسجد لا يتكلم عنه وهو في قصر الخليفة فإن الأحوال تختلف وإجلال من أجلّه الله أو من آتاه بعض الفضل مما جاء به الدين ، لكن هذا في مسجد والمساجد بيوت الله (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) . والمقصود: أن حتى ندعوا الله -تبارك وتعالى- بقلبٍ يغلب عليه الوجل منه لابد أن يكون هناك استصحاب لمثل هذه الآيات التي يُخبر الله -جل وعلا- فيها عن جليل قدرته وعظيم عطائه وكريم إحسانه تبارك اسمه وجل ثناؤه .
هذه الوقفة الأولى من الجزء الثالث والعشرين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق