الثلاثاء، 12 نوفمبر 2013

الوقفــ الثانية ــة من جـ 22 / مع قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا..) الآيات



الوقفة الثانية : مع قول الله -جل وعلا- : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) إلخ الآيات .
 كانوا يقولون لا يتوارى موسى عند اغتساله إلا لداء فيه فرموه بداءٍ معيّن ، فاغتسل ووضع ثيابه على حجر ، فإذا بالحجر بعد أن فرغ من غُسله يجري فأخذ موسى يجري وراء الحجر حتى وصل إلى الملأ من بني إسرائيل فرأوا جسده على أحسن ما خلق الله، فكان في جريان الحجر بثيابه تبرئة من الله له. قال الله -عز وجل- بعدها : (وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا) ولا ريب أن من أعظم الدلائل على أنه كان وجيهاً عند الله أنه قال عنه ربه : (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي) فأكرم الله -عز وجل- هارون بالنبوة كرامة لموسى ، أكرم الله هارون بالنبوة والرسالة كرامة لموسى ، هذا معنى قول الله -جل وعلا- : ( وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ). وموسى -عليه السلام- كان فيه شيئٌ من السُّمرة ، ولهذا لمّا أمره الله -جل وعلا- أن يُخرج يده قال له : (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) لأن كونها بيضاء مُنيرة تخالف هيئة جسده من هنا تكون الآية.
 قال الله -جل وعلا- : ( وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ) ما القول السديد ؟ القول السديد إن كان في أمر الدين فهو ذكر الله ، وإن كان في أمر الدنيا فهو الذي يدل على كمال عقل صاحبه ، والمقصود من ذلك القول أن يكون القول مما يُرفع أو يكون به صلاح الدنيا والدين ، والإنسان مخبوء تحت لسانه ، قال الشافعي :
 لسانك لا تذكر به عورة امرءٍ ** فكلّك عورات وللناسُ ألسنُ
وعينك إن أبدت لك معايباً ** فقل ياعينُ للناسِ أعينُ .
 على أنه ينبغي أن يُعلم أن من عدم القول السديد ما يُسارع الناس فيه من الخنا والفجور والطرائف البذيئة وما أشبه ذلك -عياذاً بالله- مما يتلبّس به بعض من لا خلاق له . ومن القول السديد : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونُصح الناس ، وأعظمه كلمة التوحيد لا إله إلا الله . على أن الإنسان وإن قرأ في القرآن ما يدعوه إلى صالح العمل فليعلم أن التوفيق من الله .
تسمعون بأديب اسمه ابن مِسكوَيه ، اتخذه أحد الخلفاء العباسيين مُؤدِباً لولديه، فكان الولدان يجلسان عنده ويتلقيان منه العلم والأدب فكان في ذات يوم وهو يُدرّسهم ضحى أخبرهم بأن الإنسان قد يعثر برجله فلا يلبث أن يقوم، فإذا عثُر بلسانه فقد يكون في عثرة لسانه هلاكه ، وأخذ يحذرهم من عثرة اللسان وأن الإنسان ينبغي عليه أن يحتاط في قوله، ما إن جاء آخر النهار إلا وجاءه الخليفة وكان يجلّه لأنه مؤدب ولديه فجلس عنده ، وبينما هو جالس عند الخليفة دخل ولدا الخليفة ، فالخليفة لمّا رأى ولديه أُعجب بهما ، -وهو عباسي من آل البيت- فالتفت إلى ابن مسكويه وقال : يا ابن مسكويه ، قال : نعم ، قال : أيهما أفضل ابناي أم الحسن والحسين ؟ فابن مسكويه كل مِسكة عقل في عقله ذهبت لأن السؤال غير مقبول ، فقال : أيهما أفضل ابناك أم الحسن والحسين ؟ قال : نعم ، قال : والله لقمبر -وقمبر هذا خادم علي- لقُمبر خادم علي أفضل منك ومن ابنيك ، فلما قال له إن قُمبر أفضل منك ومن ابنيك اشتاط الخليفة غضباً، ودعى جنده وأمرهم أن يُخرِجوا لسانه من قفاه ، فمات من ساعته ، موضع الشاهد أين ؟ هو قبل قليل قبل ساعات يشرح للصبيين أن الإنسان ينبغي أن يحتاط حتى لا يقع من عثرة في لسانه ، ثم آخر النهار يموت هو بعثرة في لسانه ، الله أعلم بصلته مع ربه ولا ندخل في هذا الباب أبداً ، لكن الكلم مع الناس يحتاج إلى مزيد عقل ، لكن الآية تقول : ( وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ).
 كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُعلم علياً في دعاءه أن يقول : "اللهم ارزقني الهدى والسداد" . فالإنسان حتى في طلبه ، في رغبته ، في حاجته لا يُحسن كيف يُعبّر عنها ، والمُوفّق الله والكلمة أحياناً تخرج فينفع الله -جل وعلا- بها .
 يقولون أن أحد الخلفاء صعد على منبر وقام يخطب متكئاً على عصا ، وكان أول يوم له ، وهو يتكلم سقطت العصا ، فارتُجَّ عليه ونظر الناس إليه نظرة تشاؤم ، يعني أن مُلكك لا يدوم لأن العصا سقطت فقال له أحد الناس يريد أن يُخفف المُصاب عليه :
فألقت عصاها واستقر بها النوى ** كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر
 فجاء البيت برداً وسلاماً على الخليفة لأنه قلبها من التشاؤم إلى التفاؤل وأكمل الخليفة خطبته وأكرم ذلك بعد أن فرغ من خطبته . القضية كلها: أن الإنسان يتقي الله في قوله (وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ). إن تم هذا قال رب العالمين -وهذا جواب الأمر- ( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) وهذا ( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُم ) هو التوفيق ( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) لن يخلو أحد من ذنب ، ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) علّق الله الفوز الحق العظيم على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
 ثم قال أصدق القائلين : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ ) واختلف الناس بالمقصود بالأمانة ، والذي يغلب على الظن عندي أن المراد بها التكليف عموماً ، عرضها الله -جل وعلا- على السماوات والأرض والجبال وقال -جل وعلا- : ( فَأَبَيْنَ ) أي فامتنعن (َ أَنْ يَحْمِلْنَهَا ) أي الأمانة ، ( وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ) أي أن السماوات والأرض والجبال أشفقن من حملها ، فقول الله -جل وعلا- : ( وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ) دليل على أن إباءهم كان إشفاقاً لا استكباراً ، أن امتناعهم كان إشفاقاً لا استكباراً ، بخلاف ما مرّ معنا من أن إبليس أبى واستكبر، ( فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا ) ثم قال -جل وعلا- : ( وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ) أي أمانة التكليف ( إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولَاً ) ظلوماً لنفسه وهذا جنس الإنسان الكافر ظلوماً لنفسه جهولاً بربه ، لمَ قلنا ظلوماً لنفسه ؟ لأنه يعجز أحد أن يظلم الله -عز وجل- ( وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) .
 ثم قال الله عز وجل : (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) ذكر الله -جل وعلا- الطوائف الثلاث المنافقين وأهل الإشراك والمؤمنين ، فحكم بالعذاب على أهل النفاق وعلى أهل الإشراك وقدّم أهل النفاق لأنه قال -جل وعلا- في سورة أخرى -والقرآن يعضد بعضه بعضاً -: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) والنفاق هذا كان على زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان يُظهر بعضهم الإيمان وهو يُبطن الكفر مع أنه يرى النبي -عليه الصلاة والسلام- ويسمع قوله لكن الهداية من الله .
 ثم لما ذكر أحوال أهل العذاب أردف بذكر أحوال أهل النعيم فقال -جل وعلا- : (وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) وتوبة الله على عبد تعني رحمة الله -جل وعلا- بذلك العبد وقبُول عمله وعفو ذنبه ومحو زللـه وهذا كله من دلائل غفران الله -جل وعلا- لذلكم العبد ورحمته به ولهذا قال الله : ( وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) وهما اسمان عظيمان لربنا تبارك اسمه وجل ثناؤه.
هذه آيات ختم الله جل وعلا بهن سورة الأحزاب ، تحدثنا عنها إجمالاً في وقفتنا الثانية من الجزء الثاني والعشرين ، وننتقل بكم -إن شاء الله- إلى الوقفة الثالثة.
-------------------------------------
 شكر الله لمن قامت بتفريغ الحلقة ونفع بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق