الثلاثاء، 12 نوفمبر 2013

الوقفــ الثالثة ــة من جـ 22 / مع قوله تعالى ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )



 هذه الوقفة الثالثة من الجزء الثاني والعشرين وهي عند مقطع آية قال ربنا : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) الخشية هي : الخوف المقترن بالإجلال ، والأسلوب في الآية أسلوب حصر فقصر الله -جل وعلا- خشيته الحقة على العلماء ، والعلماء جمع عالِم ، والمراد به هنا : العلماء العاملون
 فبادره وخذ بالجد فـيـه *** فإن أتــاكه الله انتفعــــــت
 فإن أوتيت فيه طويل باع *** وقال الناس إنك قد رؤست
 فلا تأمن سؤال الله عنــه *** بتوبيخ علِمت فهل عمِلــت
 والأمة -أمة المسلمين- عَرَفت عبر تاريخها الممتد الطويل علماء كُثُر منّ الله عليهم بالربانية في العلم ، والله قال في كتابه : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلم ) والصواب في تفسير الآية: أن الراسخ في العلم ما اجتمعت فيه أربعُ خصال : التقوى فيما بينه وبين الله ، والزهد فيما بينه وبين الدنيا ، والتواضع فيما بينه وبين الناس ، والمجاهدة فيما بينه وبين النفس أي بين نفسه ، وقول الله -جل وعلا- : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) هذا تكليف عظيم وهو تشريف في الوقت نفسه لكل من حمل العلم الشرعي في قلبه ، ولابد من أن يقترن العلم بالعمل ، وقد قلنا أن ثمة آيات ثلاث هي التي تجعل قلوب العلماء تجلّ: قول الله -تبارك وتعالى- : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) ، وقول الله -جل وعلا- حكايةً عن شعيب : ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ) ، وقول الله -جل وعلا- تأديباً لعباده : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ). والعلم نور يقذفه الله -جل وعلا- في قلب من يشاء ، لكن يحتاج من يطلبه إلى عقلٍ يُرزَق به كيف يَقبل العلم ، أما أن يأتيَه إنسان ثم يريد أن يَبُزَّ أقرانه لتوّه ، أو ما أن يبدأ يطلب العلم حتى يتقلّد صِبغة الإنكار العليا ، فيأتي لمسائل حارت فيها أفهام ، وزلّت فيها أقدام وسكت عنها كبار أهل العلم والعقل والفضل ثم يريد أن يخوض فيها هذا أول المهالك ، وقد مرَّ -ربما- معنا أن أبا حنيفة -رحمة الله تعالى عليه- كان له تلميذ يقال له أبو يوسف ، وكان أبو حنيفة كلما شعرَ أو رأى في أحد طلابه قدرة أذِن له أن يُعلّم ، وكان أبو يوسف أنجبَ طلابه ، ولكن أبا حنيفة لم يأذن له ، فبقدر الله مرض أبو يوسف فعاده أبو حنيفه فوافق أن أبا حنيفة لما زاره كان أبو يوسف في شدة المرض، فخرج من عنده وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون لإن مات هذا الغلام ليفقدن العلم أحد رجالاته لقد كنت أعده للناس من بعدي وخرج، عاد الطلاب إلى أبي يوسف وقالوا له : إن الإمام يقول له كذا وكذا وكذا ، مالبث أبا يوسف أن بريء، فلما بريء لم يعد للحلقة واتخذ لنفسه حلقة في مسجد آخر ، فبينما أبوحنيفة يُدرِّس قال : ماذا فعل الله بأبا يوسف ؟ قالوا : بريء ، قال : أين هو ؟ قالوا : اتخذ حلقة في مسجد بني فلان ، فأقام أحد الطلاب وقال : اذهب إليه وقل له أن غسّالاً أُستودِع ثوباً من رجل ليغسله ، فلما جاء الرجل ليأخذ الثوب أنكر الغسال أن يكون قد أخذ شيئاً ، وبعد ذلك تاب الغسال فاستدعى صاحب الثوب وأعطاه الثوب مغسولاً ، فهل له أجرة أو ليس له أجرة ؟ فإن قال لك : له أجره فقل له : أخطأت ، وإن قال لك : ليس له أجره قل له : أخطأت ، فأخذ الشاب القول من الإمام وذهب إلى الحلقة، فَرغَ أبو يوسف من الدرس قال له الخبر ، مكث أبو يوسف قليلاً قال : ليس له أجرة ، هذا مالئ يده من الجواب ، قال له : أخطأت ، قال : نعم نعم له أجرة ، قال له : أخطأت وخرج ، ففطن أبو يوسف أن هناك أحداً بعثه فعاد إلى الحلقة ، فلما عاد وجلس تحت قدمي أبا حنيفة كما كان يجلس قال له أبو حنيفة : يا أبا يوسف أعادتك إلينا مسألة الغسّال ، ثم قال له : كان ينبغي يابني أن تسأل من سألك إن كان الغسال كان نوي سرقة الثوب قبل أن يغسله فليس له أجرة لأنه عندما غسله غسله لنفسه ، وإن كان غسل الثوب ثم رآه نظيفاً ناصعاً أبيضاً أعجبه فسرقه فله أجرة لأنه عندما غسله غسله لصاحبه، ثم قال له كلمة معناها أنك تريد أن تطير قبل أن تُريّش ، وهذا أكبر داء يُبتلى به طالب العلم ، الله يقول عن أنبياءه : ( بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ ) فمن قرأ كتباً ، وقابل علماء وطاف دياراً واستمع ليس كمن لتوّه دخل خِضَم العلم ، من الناس أو ينبغي أن يُعرف أن العلم ثلاثة أشبار : شبر إذا دخله أحد ظن أنه قد علم ، وإذا دخل الشبر الثاني تحيّر ، فإذا بلغ الشبر الثالث تبيّن له أنه لا يعلم شيئاً ، وأن العلم بحراً حقا،ً وواسع جداً ، ليس كل أحد مُؤهل أن يتكلم فيه ، وعلى هذا الوصية الحقة بأن يمكث الإنسان دهراً يجمع ويستمع ويخالط أهل العقل ، والناس على أضرُب ، فمن الناس من عقله أكبر من علمه، ومن الناس من علمه أكبر من عقله ، ومن الناس من يكون عقله مقارباً لعلمه ، لكن العقل لابد منه ، ولا يمكن أن يتصدر للناس من يوردهم المهالك دون يشعر ، دون أن يفقه حقيقة القرآن أو حقيقة السنة ، وغياب الخشية لأنه لوعلم العلم حقاً لعِلم أن أعظم العلم المعرفة بالله ، والعلم بالله أعظم دافع على أن المرء لا يتجرأ على الفُتيا ، ومالك -رحمه الله- وهو مالك قال الشافعي : "إذا ذُكر العلماء فمالكٌ النجم" ما أكثر ما كان يقول في مجلسه لا أدري وهو مالك ، ومع ذلك يأتي من صغار الناس -من صغار الطلبة- من ينكر المسألة ولا أين المصلحة في القول على غيره وهو لتوه لم ينضج عوده ولم يستقم على سوقه ، والمقصود حتى لا نُعنّف على أحد أن العلم الحق هو علم الخشية ، فإذا فرغنا من علماء الأمة نقول لكل أحد يسمعنا : كل من أطاع الله وخشيه فهو عالم بمقدار طاعته ، وكل من عصى الله فهو جاهل بمقدار معصيته ، وإلا كل من أطاع الله فهو عالم حقاً، يقال أن الإمام أحمد -رحمه الله- قيل له في رجل ما كان لديه كبير علم سأله ابنه أو أحد الناس قال له : يا أبا عبد الله إنا نراك تبجّل فلاناً وليس معه من العلم كبير علم ؟ قال : يا بني معه العلم كله ، معه رأس العلم معه خشية الله ، وكفى والله بخشية الله علماً ، كفى بخشية الله -تبارك وتعالى- علماً لأن الإنسان في قبره لن يُسأل مسائل نحوية ولا بلاغية ولا ما يُتفكّه به اليوم علمياً في المجالس ، إنما يُسئل عن صالح عمله أو عن سيء عمله ، والمقصود إذا كان عمله مقترناً بالخشية فقد نجا بصرف النظر عن المتون التي يحفظها والتي يجهلها وإن كان عمله غير مقترن بالخشية فقد هلك، فخشية الله -جل وعلا- هي رأس العلم كله ، وقد مر معنا (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) والله -جل وعلا- جعل خشيته أعظم صفة لأنبيائه قال الله : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا ) كيف يجعل الإنسان في نفسه تلك الخشية ؟ القرآن وقراءة السيرة ، لكن قراءة القرآن والنظر في المصحف وتدبر الآيات وقراءة ما أثنى الله به على نفسه أعظم ما يورث الخشية في القلب (أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۚ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) يجتمع في هذه الآيات أمران أولاها : هذه الأفعال لا يقدر عليها إلا الله ، والآخر : أن هذا القول هو قول الله وكلامه ، فلا يمكن لأحد أن يقوله البتة ، هذا كلام الله يتمدح به ويتمجد ويثني به على ذاته العليّة ، من لم تصل به هذه الآيات إلى الخشية وأضرابها من القرآن لا يمكن أن تصل الخشية إلا قلبه والعلم عند الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق