الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعارُ ودثارُ ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعدُ :
أيها المباركون نستأنف دروسنا في هذا
المسجد المبارك، ولقاء اليوم يحمل عنوان: العجلة في القرآن الكريم
وهذه المفرده وردت كثيرا في القرآن لكنني كما تبين لكم في طريقة تدريسنا في هذا المسجد أننا نختار آيات في الغالب نُعرّج فيها على تِلكُمُ
المفردة وما صاحبها من آيات.
قال أصدق القائلين: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}
العرب جرى في مفهوم كلامها أن الإنسان إذا غلب عليه طبعٌ ما يقولون له: كأنك مخلوقٌ منه، وإلا فالأصل أن أبانا آدم خُلق من طين، وبعض
اللغويين أغرب وأبعد فقال: إن العجلة بمعنى الطين واحتج بقول القائل عن النخل: والنخلُ بين الماءِ والعجلِ، أي: بين الماءِ والطين، لكن
مثل هذا بعيد جدا إمرارُه على القرآن. لكن ما قاله الزَجّاجُ وغيره وتبعهُ عليه الكثيرون من أن المعنى جُبل الإنسان -طُبع- على العجلة،
وبعض رواة الأخبار يقولون - والعلم عند الله- أن الله لما خلق آدم ونفخ فيه من روحه سَرت الروح في عينيه، فأبصر آدم -عليه السلام- ثمار الجنة ثم سَرت الروح إلى جوفه فاشتهى تلك الثمار فأراد أن يقوم ليأكل منها قبل أن تصل الروح إلى قدميه فوقع. قالوا: هذا معنى قول الله:{خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} لكن هذه أخبار جُلّها مأخوذ عن الإسرائيليات ولا أعلم أن شيئا من هذا يُرفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لكنني ذكرت
على منهجنا أننا نُبين ثم نُرجح فنقول كما قال الأولون من اللغويين وبعض أهل التفسير أن المقصود أن الإنسان جُبل على العجلة، وهذا في
المؤمنين وفي الكفار؛ ولهذا قال الله:{سَأُرِيكُمْ آيَاتِي}، والمعنى: أن الكفار كفرا وعنادا يستبطؤون العذاب {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء}، والمؤمنون لشدة بغضهم للكفار يستبطؤون العذاب يُريدون أن يكون هناك نصر قريب فكل من
الفريقين يستعجل العذاب مع اختلافٍ في السبب. وإنما دَفَع بني آدم إلى مثل هذا ما يلي:
أن الإنسان جِبِلّة إذا أُغضب وهو يقدر على أن ينتقم يُسارع بالانتقام، فهذا الكافر -وهذا والله من نفائس العلم- فهذا الكافر يرى أنه يعصي
الله ولا يرى عقوبةً تنزل عليه فيقول في نفسه لو كان الله قادرًا على أن يُعذبني لعذبني، فلم يبقَ إلا أن الله راضٍ عن صنيعي فأبقى علي.
الذي يدفع الكافر إلى أن يبقى على كفره يقول: لو كان الله قادرًا على أن يعذبني لعذبني، لكنه لم يعذبني وهذا دلالة على أن الله راضٍ عن صنيعي
، فهو من جهله جعل حاله مثل حال الخالِق. -الله جل وعلا- قادرٌ على أن ينتقم لكنه تبارك وتعالى حليم، ولهذا قال:{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ}
ذكر العذاب، ذكر السيئة في آياتٍ أُخر؛ ولهذا لما جهلَ بعض بني آدم فجعل حاله مثل حالِ الخالِق ضَلّ سواءَ السّبِيل، هذه الآية الأولى.
الآية الثانية في هذا المقام : قول الله -جلّ وعلا- {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى*قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}
معنى الآية: لما كان بنو إسرائيل في التِيه أمر الله موسى أن يختار سبعين رجلاً للميقات، قال ربنا :{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا} قبل أن يصلُوا إلى الميقات "إلى الجبل" انفرد موسى عنهم وتركهم وتعجّل أن يأتيَ إلى ربه لأن موسى قد علم حفاوة الله به في المقام
الأول فعجِل إلى الميقاتِ الثاني ولم يأتِ مع قومه سبقهم إلى الميقات قال له أرحم الراحمين وأصدق القائلين: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى} لم يذكر السبب، تأَدب مع ربه {قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي} معنى "على أَثَرِي" كأنهم قريبون جدًا، أي: على خًطواتِ قدمي، يعني لم يبعُد بعد أن تذهب آثار قدمي إلا وهم عابرون، ثم قال يستجدي رحمة ربه {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} فظن -عليه السلام- أن هذه العجلة
محمودة ، لكن الله عاتبه معاتبة لطيفة قال له {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} فلما تَعجّلتَ عن قومك أضلهم السامري لأنك عَجِلت وتركتهم وراءك، فبين له -جلّ وعلا- أن عجلته هذه من غير أن يُصرّح له بها -لمقامه عند الله- فيها شيءٌ من المعاتبة عليه مع
كمال أدبه أنه قال لربه {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} بعض أهل العلم يُبقي الآية على ظاهرها ويقول : إن العجلة محمودة في الطاعة، لكن
الصواب أن يُقال: إنه لابُد من مُراعاة مقتضى الحال.
تبقى مسألة: الله يقول -نص الآية- {قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي} يُوجد "هاء" في اللغة اسمُها "هاءُ التنبيه" في غير القرآن يُقال : هاهُم هؤلاء على
أثري ، موسى قال : {هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي} ولم يقل: هاهم ، من غَلب على عِلمِه الصناعة النحوية يقول: هذا دليل على أن هاء التنبيه يجوز
إبقاؤها ويجوز حذفها، هل هذا صحيح؟ صحيح بكل ما ورد في القرآن {قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَاؤُنَا}.
مَن غلَب على علمهِ الصنَاعة الروحية للقرآن ينظر بالإيمان لا يقف عند هذا الحد، قال ابن هُبيرة -رحمه الله- : "الأصفياء لا يمكن أن يخاطبوا
بهاء التنبيه، الله أجلّ من أن يُنبّه" فموسى لأنه من الأصفياء ما قال "هاهم" لم يأتِ بهاء التنبيه، فالله -جل وعلا- لا يُخاطب بمثل هذا ، {قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي} فإن احتج عليك قائل بقول الله في النحل {قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَاؤُنَا} وجيءَ بهاءِ التنبيه فإن هذه الآية على ألسنة
الكفار ليست على ألسنة الأصفياء، فالأصفياء -جعلنا الله وإياكم منهم- يتأدبون في خطابهم مع ربهم جل وعلا. وقد قلنا مرارا إنّ مِما يُسمع من الناس أنهم يقولون : اللهم يسر ولا تُعسر ، وليس بمثل هذا يُدعى إنما يُقال "اللهم يسّرني لليسرى وجنبني العسرى" لا تسند
مثل هذا إلى الله ، قل "اللهم يسّرني لليسرى وجنبني العسرى". فهذا الصفي وهو من أَجَلّ الأصفياء موسى -عليه السلام- {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} {قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} وقلنا بعض العلماء أخذ الآية على ظاهرها وقال إن العجلة تجوز في بعض هذه المواطن -والعلم عند
الله- لكن ما وقع لبني إسرائيل من بعد ذهاب موسى دلالة على أنه يجب مراعاة مقتضى الحال.
الآية الثالثة التي فيها ذِكر العجلة، قول الله -جل وعلا- {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} والآية في سورة البقرة في ذكر مناسك الحج.
قال ربنا: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} كان الجاهليون يجعلون من أيام منىً لشيئين: المفاخرة بالآباء، ومغازلة النساء ، مغازلة النساء عندما يرمين الجمرات، والفخر بالآباء في اجتماعاتهم، الخيام تُنصب في منىً ثم يتفاخرون. ولهذا قال الله في آياتٍ قبلها :{كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}.
هنا قال جل وعلا: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} في القرآن أيام معدودات وأيام معلومات. فيه خلاف طويل ولكن الجملة الراجح -والعلم عند الله- الأيام المعدودات: أيام التشريق الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر. والأيام المعلومات: يوم النحر، والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، هذه أيام التشريق الناس فيها مع أيام العيد في ضيافة الله فلا يجوز صومها، لا يُصام يوم النحر ولا يُصام -على الصحيح- أيام التشريق إلا لمن لم يجد هديًا فيصوم ثلاث أيام في الحج رخّص له بعض الفقهاء.
لما كان الناس في ضيافة الله كان حقا عليهم أن يُكثروا من ذكره مع أن ذكر الله على كل أحوال العبد لكنه يتأكد في أيام التشريق {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}.
ثم قال عز وجل: (فَمَن تَعَجَّلَ) -وهذا مناسبة الحديث أننا نتكلم عن العجلة- {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} الحادي عشر والثاني عشر {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ} أي بقي إلى اليوم الثالث عشر (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) أي أن العبرة بالتقوى لكن قول الله {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} التخيير يدل على الإباحة، لكن لو سألنا سائِل: أيهما أفضل؟ يكون الجواب قطعا: التأخير، لسببين :
الأول: لأنه من تأخر سيكون أكثر عبادة، ومن كان أكثر عبادة كان أفضل ممن أقل عبادة.
الثاني: لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، النبي -عليه الصلاة والسلام- تأخر بقيَ لليوم الثالث، فنبينا -عليه السلام- رمى الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم الثالثة في أول أيام التشريق، ثم رماها كذلك في اليوم الثاني فكان يرمي ثم يُصلي الظهر، ثم بعد ذلك في اليوم الثالث رماها وخرج من منىً وأتى بما يُعرف الآن بـ "المعابدة" وكانت تسمى بـ "خيث بني كنانة" وقال -عليه الصلاة والسلام- (إنا نازلون غذا في خيث بني كنانة) فنزل في خيث بني كنانة -عليه الصلاة والسلام- وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء كل صلاة في وقتها يقصر في الرباعية، ثم اضطجع -صلوات الله وسلامه عليه- إلى قبيل الفجر، ثم أتى مكة، أي: المسجد الحرام فطاف في البيت سبعا قبل أن يصلي الفجر ثم صلى بالناس الفجر ومضى قافلا إلى المدينة.
نعود للآية : فالتعجل هنا رخصة مِن مَن؟ رخصة من الله، لكن الله -جل وعلا- قال {وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} فقيّد ذلك بالتقوى، وقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في قول الله -جل وعلا- {لِمَنِ اتَّقَى} وقوله {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وأحسن الأجوبة في هذا : ما ذكره بعضهم من أنهم كانوا في زمن الجاهلية يجعلون هذه الأيام للمفاخرة ولمغازلة النساء فيكون المعنى أن البعض يتعجل لا يريد أن يُشارك ، أن يذكر أيام الجاهلية، يتعجل في يومين والآخر يبقى، فبين الله -جل وعلا- أنه لك أن تتعجل ولك أن تبقى لكن دع عنك ما كان يُصنع في الجاهلية وأبقي على تقوى الله وأكثِر من ذكره {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} ثم قال ربنا: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} "تحشرون" أي: تُجمعون.
أيام الحج تُذكر بالحشر وبقدَر الله ، قال عليه الصلاة والسلام: (بُنيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقامِ الصلاة
وإيتاءِ الزكاة وصوم رمضان) وقال في الآخِر (وحج بيت الله) ، متى مات صلى الله عليه وسلم؟ بعد حجّة الوداع، فكأن حجّه خاتمة الأركان وخاتمة بقاءه في الدنيا -صلوات الله وسلامه عليه- فكان آخر عهده بالدنيا أن حجّ البيت -صلوات الله وسلامه عليه- وقد أعلمه الله وهو في عرفة أنه لن يعود إلى عرفة
فكان كلما خطب ودع الناس قائلا: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، أما وإنكم ستُسألون عني، فما أنتم قائلون) . مكث ثلاثة وعشرين سنة
يدعوا إلى الله، آواه غار وأُدميت عقبه، ودخل مكة وقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) ، وطاف بالبيت وقال (خذوا عني مناسككم) وهو لا يدري متى سيموت
ثم أعلَمه ربه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. أنتَ بعثت لتُبلغ الدين والدين قد كمُل -بنص القرآن- فعلِم -عليه الصلاة والسلام- أن بقاءه في
الدنيا قليل، فودع الناس وقال: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) وقفل -صلى الله عليه وسلم- راجعا إلى المدينة . وأنا وأنت والمسلمون المعاصرون
لم يرَ أحد منا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا على يقين أن في قلبك شوقا لأن تراه، ضرب موعدا هو: الحوض، كلما التزمت هديه وسنته
كنت قريبا من أن ترِد حوضه ، يخرج الناس عطشى ما أحوج إلى أن يسقيهم الله من يد نبيه، ويخرج الناس عُراة ما أحوج أن يكسوهم ربهم،
ويخرج الناس تدنو منهم الشمس ما أحوج أن يظلهم الله تحت ظل عرشه.
هذه المطالب العظام التي يتعلق بها قلب كل مؤمن ومؤمنة، أما الدنيا فخذ منها بقدر ما يكفيك ويعينك على طاعته.
اللهم إنا نسألك نورا نهتدي به ونسألك رزقا نكتفي به، وصلى الله وسلم على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق