الأحد، 1 سبتمبر 2013

الوقفــ الثانية ــة من جـ 19 / مع قوله تعالى (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ ..)


هذه الوقفة الثانية من الجزء التاسع عشر والوقفة الثالثة ستكون تبعاً لها قال الله -جل وعلا- (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) سليمان عليه السلام آتاه الله مُلكاً عظيماً على دعوة دعاها هذه الدعوة ظهر فيها فقهه (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) حتى لايكون عُلوه في الدُنيا على حسب عُلوه في آخرته (وَهَبْ لِي مُلْكًا لّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) هُنا قال الله (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ) "اللام" حرف جر و"سُليمان" اسم مجرور لكنها جاءت بالفتحة لأن "سُليمان" اسمٌ ممنوعٌ من الصرف مختومٌ بالألف والنون ، ويُمكن أن يُقال لأنه اسمٌ غير عربي لكن مفردته عربية . ذكر الله الجن والإنس والطير رتَّبهم حسب القوة .
ثم قال بعدها بآيات (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) من تولى مُلكاً يأخُذه بحقه ومن دخل في أي أمر يأخُذه بحقه ، (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ)  أي موقع الطير من جُنده فوجد الهُدهُد غائباً (فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) "أم" بمعنى:"بل" بل كان من الغائبين ، (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا) حتى يتَّعِظ به غيرُه وإلا لو عفى عنه لجاء غداً وليس في الجيش أحد ، (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ)  قيل له يا نبي الله أيُ عذابٍ يُساوي الذبح؟ قال أجعله مع قومٍ لا يعرفون له قدراً ، ولهذا الشافعي كان يقول "أأنثر دري بين سارِحةٍ الغنم" المقصود: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) أي : إلا إن جاء بعُذر وكُل عاقل يجعل لنفسه طريق رجعة ولا يجعل كلامهُ يُغلق على نفسه الأبواب وهذه صنعها الأخيار طالوت يقول (إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) ويعقوب يقول (إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ) تترُك طريق رجعة ، هُنا قال هذا النبي الكريم والملِكُ الجليل قال (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) يأتيني بعُذر، ببرهانٍ مقبول (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) يعني ماهي إلا زمنٌ قليل وإذا بالهدهد بين يديه (فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍما الذي يُنطق الإنسان؟ عِلمه ، علم الهُدهد ما لم يعلمه سُليمان فحُق للهُدهُد أن يقول ما يقول أمامَ سُليمان ، وهذه الآية -ولها نظائر ستأتي- من أعظم الآيات الدآلة على عِلمِ الله لأن سُليمان يَركبُ الريح وعجِز أن يعرف مملكة بكامِلها ، ومن نظائِرها أن إبراهيم عليه السلام ذبح لأضيافه ولم يدري أنهم ملائكة ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان المُنافقون بعضُهم في المدينة معه يأكُلون معه ويشربون ويدخُلون مسجده ولا يدري أنهم منافقون ، الله -جل وعلا- يقول (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) حتى يعلم الناس أنه لا أحد يعلم الغيب إلا الله ، فإذا كان هذا في حق أنبياء الله فكيف ينسب أحدٌ لوليٍ أو لصاحب قبرٍ أو لأي أحد أنه يعلم الغيب (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (قُل لّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) .
نقول هُنا (فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ*إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) لاحظ الآن قال (عرش عظيم) لكن في شيء اسمه نسبة ، بعد قليل سيقول (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) صحيح أنه عرّف ونكّر في الأول لكن عظمة عرش بلقيس بالنسبة لعُروش المُلوك من أهل الدُنيا .
(إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ) نعم لفظ "كل" من ألفاظ العموم لكن هُنا المعنى وأُوتيت من كُل شي يُعطاه المُلوك عادةً وإلا بلقيس ليس كُل شيءٍ في الدُنيا عندها إنما ما جرت العادة أن الملوك يملكونه فهو عندها . (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) ثم غلبت عليه الفطرة التي فطر الله خلقه كلهم عليها وهي معرفته قال (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ) فهذا هُدهُد -طائر- بالفِطرة تعجب من هذا الصنيع أن أحداً يرزُقه الله ويعبد غير الله ، يخلُقه الله ويعبد غير الله ، ولا أحد يخلق ولا يرزق إلا الله. (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ) ثم أخذ يُنكر عليهم ، والقرآن كل أحدٍ يُريد نفعاً فيه ، لمَّا أراد أن يُبين عظمة ربه قال (أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) ما قال الله الذي يخلق السماوات ، الذي يخلق الأرض ، كل أحد يعرف الله بالطريقة التي مكَّنه الله بها . سآتي بمِثال من الناس : لو أن إنساناً ذهب برفقة أهله إلى رحلة برية ثم لمَّا وصل واستقر به الحال فتح لهم متاع السيَّارة وقال أخرِجوا أغراضكم العجوز الشايب الطاعن في السن ينزل المركى ينزل -التكَّاية- لأنه يحتاجها ، الابن يُنزل شيئاً يلعب به ، رجُلٌ يُحب الشاهي والقهوة يُنزل القهوة والشاهي ، هذا الهُدهُد لمَّا جاء يُعرف بربه هو يعرف أن الله يُطعمه الحب فلمَّا أراد أن يُعرف بربه عرَّفه بالطريق التي عرف الله بها قال (أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) ثم أنكر عليهم، لمَّا أنكر عليهم وألقى هذا القول على سُليمان تريث سُليمان فلم يقبله ولم يرُده (قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) لأن أي خبرٍ غير خبر الله ورسُوله يحتمل الصدق والكذب (سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) ثم كتب كِتاباً (اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) أخذ الهُدهُد الكِتاب وهو يعرف مملكة سبأ ذهب إليهم أتى إلى بلقيس وضع الكِتاب بأدب كما يصنع الدُبلُماسيون اليوم ، العرب تقول إن عقل الرجُل يُعرف من ثلاثة : من رسوله الذي يُرسله - ومن كتابه الذي يكتُبه أي الرسالة - ومن هديته التي يُهديها فيُعرف عقله من هديته أو من رسوله أو من كِتابه .
فأخذ هذا الرسُول أخذ الكِتاب من سُليمان ووضعه في ناحيةٍ وتنحى فلمَّا أخذت بلقيس الكِتاب وقرأته أو قرأه مترجمٌ لها قالت (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ) طبعاً بلقيس عرب ، هؤلاء عرب اليمن العرب تقول لكُل شيء نَفُسْ إنه كريم الله يقول (مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) وقال (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) يجعلون كلمة "كريم" لكُل شيٍ نَفُسْ وعظُم وجلّ في أعيُنهم أيّا كان حاله ن أيّا كان نوعه فقال هُنا -جل وعلا - (أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ) ثم قرأت الكتاب قالت (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ*أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) إذا قدَّرنا أن الكِتاب في أوله (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فيكون سُليمان قدَّم اسمه على اسم الله لأنه يُخاطب قوماً وثنيين لا يعرفون الله ، ليسوا أهل كِتاب ، ويُحتمل أن الآية أنها قالت (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ) يعني عليه ختم سليمان وإن أوله (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ*أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فاستشارت من حولها (مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ) يعني نكون جميعاً على بينة وبصيرة منه وهذا يدٰل على كمال عقلها (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ*قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً) هذا كلام من؟! كلامُ بلقيس ، (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) هذا كلام من ؟! كلام الله المعنى: أن الله صدَّقها فيما قالت وكُلٌ كلام الله لكن الأول محكيّ ، الله -جل وعلا- صدَّقها فيما قالت وهذا أمرٌ مُشاهد ، أيُ أحد يملك أرضاً ويغزو قوماً أول شيء يفعله يذهب بالذين كانوا قبله هذا لا يحتاج إلى تأمُل ن يُذهب الذين كانوا قبلهم ، لمّا كان -صلى الله عليه وسلم- نبيُنا ، نبياً غير ملك كان إذا آمن أحد ممن بُعث إليهم أبقاه على حاله لأنه نبي وليس ملِك .
(قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ*وَإِنِّي) أي بدا لي (مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم) أي إلى سُليمان (بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ)  متأملة صابرة (بِمَ) استفهامية لهذا كُتبت على أدنى (بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَعلى ردة فعل المرسلين من أرسلتهم ن من بعثتهم بم يرجعون سأتخذ قراري وأقول أمري (فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) أخذت كمَّا من الهدايا واختارت عُقلاء من الرجال ثم بعثتهم إلى أرض سُليمان ومملكته حتى يُؤتوها بالخبر اليقين .
في الوقفة الثالثة إن شاء الله تعالى سنُبين خاتمة القصة . ‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق