الأحد، 1 سبتمبر 2013

الوقفــ الأولى ــة من جـ 19 / مع قوله تعالى (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ..)


بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن وآلاه وبعد : فهذا وقفات ثلاث مع الجزء التاسع عشر نبدأ بالوقفة الأولى عند قول الله -جل وعلا- (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ*وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ*يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ*إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) إلخ الآيات في نبأ إبراهيم عليه السلام.
 بدأنا بهذه الآية عمداً لأن القرآن يجب -وهو كذلك- أن يُصدق بعضه بعضاً ، الدُعاء هُنا كان قبل أن ينهاه الله على أن يدعو لأبيه ، وقع هذا الدُعاء من إبراهيم قبل أن ينهاه الله أن يدعو لأبيه وإنما كان يُبين مرحلة من المراحل التي كان يعيشها إبراهيم والله -جل وعلا- علم أنه قد يحتج أحدٌ بهذا فقال (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) فهذا الدُعاء من إبراهيم هو والذي في سورة إبراهيم (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) فهذا كله مرحلة زمنية عاشها إبراهيم (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ*وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ*يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ*إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) الآية ظاهرة المعنى لكن ماهو القلب السليم ؟! أفضل ما قيل فيه : القلب السليم هو الذي سلِم من الشرك ومُلئ بالتوحيد ، وسلِم من البدعة ومُلئ بالسنة ، وسلِم من الغل والحسد والبغضاء وملئ بحب الخير لعباد الله المؤمنين. (إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
 قال الله بعدها وهي في الشُعراء (وَأُزْلِفَتِ) أي قُرِّبت ولذلك سُميت مزدلفة مزدلفة لأنها تُقرب الحاج من عرفة إلى منى ، (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ*وَبُرِّزَتِ) أي أُظهرت (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ) جمع "غاوٍ" من ضل عن سبيل الله (وَقِيلَ لَهُمْ) أي هؤلاء الغاوين (أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ*مِن دُونِ اللَّهِ) وقلنا هذه الأسئلة تُحمل على التوبيخ (هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْيَنتَصِرُونَ) وقطعاً (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ) كما قال الله .( فَكُبْكِبُوا فِيهَا) الكبكبة هي: الإلقاء مرة بعد مرة قال حسان -رضي الله عنه- في قتلى بدر،  قتلى بدر تعرف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في بدرٍ قُتل من أهل الإشراك سبعون فهؤلاء السبعون أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يُلقوا في قليب بدر، والقليب البئر المتروكة مهجورة من قديم ،ويُقال بعضها مطوية وغير مطوية المهم أن هناك بئراً في بدرٍ أمر الله رسوله أو إن النبي -عليه الصلاة والسلام- ألقى فيها ، فلمَّا ألقاهم فيها أخذ يُناديهم وقال يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة ، يا أبا جهل -سمَّى بعضهم- هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً ، فقال له عُمر يارسول الله أتُخاطب أقواماً قد جيفوا قال والله ما أنت بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يملكون جواباً قال حسَّان في هذا أبيات :
طرحناهم كباكب في القليب يُناديهم ** رسول الله لمَّا طرحناهم كباكب في القليب
ألم تجدوا كلامي كان صدقاً ** وأمر الله يأخُذ بالقلوب
فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا ** أصبت وكنت ذا رأي مصيبِ
والقائل حسَّان وحسان خزرجي -رضي الله عنه وأرضاه- عاش ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام وكان في الجاهلية يقدُم على المناذرة والغساسنة ملوك الشام ويمدحهم وهو القائل لمَّا دخل على مُلوكهم يتذكر :
  لله دَرُّ عِصَابَة ٍ نادَمْتُهُمْ، **يوْماً بجِلّقَ في الزّمانِ الأوَّلِ
أوْلادُ جَفْنَة َ حوْلَ قبرِ أبِيهِمُ ** قبْرِ ابْنِ مارِيَة َ الكريمِ، المُفضِلِ
    يُغشَوْنَ، حتى ما تهِرُّ كلابُهُمْ ** لا يسألونَ عنِ السوادِ المقبلِ
   بِيضُ الوُجُوهِ، كريمَة ٌ أحسابُهُمْ ** شُمُّ الأنوفِ، من الطّرَازِ الأوّلِ
   يسقونَ منْ وردَ البريصَ عليهمِ ** بَرَدَى يُصَفَّقُ بالرّحِيقِ السَّلسَلِ
هذا الصحابي الجليل عُمِّر فلمَّا جاء الإسلام ودخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة كان عُمره ستين عاماً فأسلم فما منَّ الله عليه بالشعر الذي كان يتخذه مع الملوك مدح به النبي -صلى الله عليه وسلم- ولهذا لمَّا دخل -عليه الصلاة والسلامُ- مكة عام الفتح قال ماذا قال حسَّان في هذا فقيل له إنه قال :
  عدمنا خيلنا إن لم تروها ** تُثير النقع موعِدها كُداءُ
  يبارين الأسنة مُصغِياتٍ ** على أكتافها الأَسَلُ الظِماءُ
  تظلُ جيادُنا متمطراتٍ ** تُلطمُهُنّ بالخُمرِ النِساءُ
إلى أن قال:
  وجبريلٌ أمينُ الله فينا ** وروح القدس ليس له كِفاءُ
وقال يُخاطب أبا سُفيان ابن الحارث :
 أتهجوه ولست له بِكُفء ** فشرُّكُما لِخَيرِكُما الفِداءُ
هذا الشطر قيل أنه أعدل بيتٍ قالته العرب "فشركُما لِخيركُما الفداءُ"
 فمن يهجو رسول الله منكم ** ويمدحه وينصره سواءُ
 فإن أبي ووالده وعرضي ** لعِرض محمدٍ منكم وِقاءُ
 فلمَّا مات -صلى الله عليه وسلم- رثاه بقوله :
 بطيبة َ رسمٌ للرسولِ ومعهدُ ** منيرٌ، وقد تعفو الرسومُ وتهمدُ
 بها حجراتٌ كانَ ينزلُ وسطها ** مِنَ الله نورٌ يُسْتَضَاءُ، وَيُوقَدُ
 معالمُ لم تطمسْ على العهدِ آيها ** أتَاهَا البِلَى  فالآيُ منها تَجَدَّدُ
 عرفتُ بها رسمَ الرسولِ وعهدهُ ** وَقَبْرَاً بِهِ وَارَاهُ في التُّرْبِ مُلْحِدُ
 وَمَا فَقَدَ الماضُونَ مِثْلَ مُحَمّدٍ ** ولا مثلهُ حتى القيامة ِيفقدُ
 صلَّى الإلهُ ومنْ يَحُف بِعْرشه ** والطَّيبُون على المُبَارك أحمَدُ 
صلوات ربي عليه ،قال الله هنا (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ*وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ*قَالُوا) أي أهل النار (وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ) وهذا -والعِياذُ بالله- غاية النَّكال هم الآن اجتمعوا في النَّار ومع ماهم فيه من النَّكال ليس بينهم أُلفة يقول الله في (صٓ) (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) هُنا قال (وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ) قالوا (تَاللَّهِ) هؤلاء الضُعفاء يقولون يُقسمون بالله قالوا (تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) متى؟ (إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) يقولون لما كانوا يعبدون من دون الله (وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ) ثم قالوا (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ*وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) لاحظ: لُغوياً الآن "شافعين" جاءت جمع و "صديق" جاءت مفردة لأن المُخاطب بهذا الكَلِم العرب ، فالشفاعة غير الصداقة ، فطالبٌ ما يُعاقبه معلم فيقف عند غُرفة المدير عشرات المُدرسين يُريدون أن يكسبوا أجراً يشفعون له ، رجُلٌ تتعطل سيارته في طريقه كثيرٌ من الناس يشفعون له ويُعينونه حتى يمضي ، فالشفاعة في النَّاس كثيرة من قديم لكن ما العزيز؟ الصداقة بل كانت العرب لا تؤمن أن هُناك صديقاً يُمكن أن يكون وفياً يقول أحدُهم :
   لمّا رأيتُ بَني الزّمانِ وما بهِم ** خلٌّ وفيٌّ، للشدائدِ أصطفي
 أيقنتُ أنّ المستحيلَ ثلاثة ٌ ** الغُولُ والعَنقاءُ والخِلّ الوَفي
 يعني يقولون غول لكن لا حقيقة للغول ، ويقولون عنقاء طائرٌ كبيرٌ يصنع ويفعل لكن لاحقيقة له ، ويقولون صديقٌ وفي لكن حسب قول الشاعر لا حقيقة له مع أن الأخيار في الدُنيا كثير لكن عاملهم الله لُغة ولفظاً فيما نشأوا عليه (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ*وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) وهذا ديدنُ القرآن حتى لمَّا ذكر الله في سورة النور قال (أَوْ صَدِيقِكُمْ) مع أن كل ما قبلها جمع وأفرد الصديق هذه الوقفة الأولى من الجزء التاسع عشر والعلم عند الله .
ونأخُذ إن شاء الله تعالى في الوقفة الثانية خبر نبي الله سُليمان الذي كُنا قد أرجأنا الحديث عنه في الجزء السابع عشر . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق