السبت، 3 أغسطس 2013

الوقفــ الثانية ــة من جـ16 / مع قوله تعالى (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا)


الوقفة الثانية مع قول الله -جل وعلا- (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) رحمة خاصة من الله إلى ولي من أوليائه ونبي من أنبيائه .
(ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) أي أذكر يا محمد ما رحم الله -جل وعلا- به عبداً من عباده هو زكريا وهو أحد أنبياء بني اسرائيل وهذا إجمال ، ثم جاء التفصيل (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا) الرجل إذا بلغ مرحلة متقدمة في العمر مع علوا الشأن دينياً -أنه نبي- وقد وَخَطَهُ الشيب بل اشتعل في رأسه ثمة أمور يرغبها في قلبه لكن يستحيي أن يجهر بها بين الناس ، لكن الله -تبارك وتعالى- يُحب من عِباده أن يسألوه ما عظُم أو ما قلّ ، ما استطاعوا أن يجهروا به وما لم يستطيعوا أن يجهروا به ، فلما كان لو سأل الله هذا وأخبر به الناس وقد كاد أن يُحدودب ظهره وبلغ من الكِبر عِتيَّاً لعابه الناس ورُبما شمت به الشامِتون لكن الله -جل وعلا- يقبل ولا يرُد ، ويستُر ولا يفضح ، فاتخذ مكاناً خفي وقال بصوت خفي يُناجي ربه العلي ربي (فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا) هذا الموقف منه -عليه الصلاة والسلام- ودُعاؤه قرنه بإظهار ضعفه وعجزه وانكساره إلى ربه -جل وعلا- (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا*إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا*قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) لأنه شارف على المئة (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) إذا كان هذا حالُك لماذا تدعو ؟! أتى بِشفاعة لا تُرد قال (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أنت عودتني أن تُجيب دُعائي فاعذُرني إن دعوتك في ساعة كهذه في طلبٍ كهذا ، لو رددتني من قبل وصددتني من قبل ولم أرَ منك إقبالاً عليّ لما دعوتك الآن لكن بعد أن ذكر إنكساره في جسده توسل إلى الله -جل وعلا- بما يجلب رحمته لأن الكريم يستحي أن يقطع عوائده هذا إن كان من الخلق فكيف بأرحم الراحمين -جل جلاله- وهنا قال زكريا في مُناجاته لربه (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) وهنا ينبغي للمؤمن أن يُنيخ مطاياه ويعلم أن الله -جل وعلا- أرحم بك من كل أحد فالدعوة قد لا تُجاب لكن ثق إن كُنت صادِقاً أن ما خبأه الله لك ربما كان أعظم مما سألته إياه (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) وأنا لي أبناء أعمام ، لي قرابة لا أرى منهم حرصاً على الدين وأخاف أن يضيع الدين بعدي قال (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي) والموالي هنا بمعنى العصبة والقرابة وأبناء العمومة ومنه قول العرب:
 مهلا بنينا مهلاً مواليناً ** لا تنبشوا بيننا ما كان مدفوناً
 (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا) لا تلد (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)  فما من سبب يمنع إلا وهو موجود لكن الذي يُسأل لا يمتنع عليه سبب قال الله -جل وعلا- (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا*وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا*يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) 
قال الله (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ) هذا ظاهره أن الله هو الذي كلَّمه لكن هذا بيَّنه الله في سورة أُخرى (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) المبشرون له هم الملائكة عن الله ، لكن هذا هو الفارِق أين وجدت الملائكة زكريا حتى تُبشره؟ قال الله (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) المُبشر الملائكة ، ناقل البِشارة الملائكة والمُبشر حقاً الله (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) هذا في آل عمران ونحن في مريم .
(يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى) ثم قال الله (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا) فالذي اختار له الاسم هو الله ، وبداهة عبدٌ مخلوق وإن كان نبياً مُكرماً إلا أن الذي سمّاه هذا الاسم هو الله ، بدهي أن يكون فيه من الخير مالا يكون إلا في القليل غيره ، بل رُوي من عدة أوجه -وهو مشهور بين أهل العِلم- أن هذا النبي لم يعصِ الله طرفة عين.
قال الله تعالى (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا) لا أحد تسمى بهذا الاسم من قبله ، هُنا رجع زكريا إلى بشريته وتذكر الأسباب المانعة من حمل زوجته فعاد إلى بشريته وضعفه (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) فجاء الجواب الربَّاني والأمر الإلهي (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ) والله يقول (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) .
(قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا*قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) وهذا دلالة على وجود القِياس فكيف تعجب أن يكون يحيى من امرأة عاقر وأنت أصلا خُلقت من غير شيء ، خلقك الله ولم تكن يوماً من الأيام شيئاً ومنه قول الله (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) فقال الله -جل وعلا- (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) ، فطلب آية (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) والمعنى: "سوياً" هذه حالٌ من زكرياً لا من الليالي والمعنى : أنت سوي الخلقة ليس فيك عيب ولا يعتريك نقص لكنك لا تُخاطب الناس ثلاثة أيامٍ في آل عِمران ، وهنا ثلاث ليالٍ بمعنى ثلاثة أيامٍ بلياليهن (ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا). (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ)  من أين؟ من المكان الذي بُشر به، وأين بُشر؟ في المحراب ولهذا قال الله (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ) "المحراب" غُرفة ينقطع فيها زكريا للعبادة غالباً تكون مرتفعة قليلاً ودليلها قول الله (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ) والمهم أن تكون هناك ناحية في البيت ينقطع الإنسان فيها للعبادة .
(فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ)  بأي شيء ؟! الآن هو ممنوع من أن يتكلم لكن على كُل أحواله لم يُعفَ من الأمر بتعظيم الله (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) فالتسبيح عبادة تعبد الله بها الخلق جميعاً ولهذا قال الله (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) . (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) دعاهم إلى التسبيح وهذا كُله هو فضل الله -جل وعلا- ورحمته على عبده زكريا التي ذكرها في صدر السورة إجمالاً ثم فصَّلها -تبارك وتعالى- فيما بعد ذلك.
 الوقفة الثالثة إن شاء الله عند قول الله (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق