السبت، 3 أغسطس 2013

الوقفــ الأولى ــة من جـ16 / مع خبر ذي القرنين


الحمد لله على فضله والصلاة والسلام على خير خلقه وبعد:
 فهذه وقفاتٌ ثلاث مُتتابعاتٌ بإذن الله مع الجُزء السادس عشر من كلام رب العالمين -جل جلاله- الوقفة الأولى مع قول الله جل وعلا (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا*إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) إلخ ما جاء في هذه السورة المباركة .
(وَيَسْأَلُونَكَ) أي يا نبينا ، والسائلون أُختُلف فيهم والصواب : أن اليهود طلبت من قُريشٍ أن تسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- جُملةً من الأسئلة من جُملة تلك الأسئلة أن يسألوه عن ملِكٍ طوَّاف في غابرِ الأزمان ، وهم أرادوا ذا القرنين فقال ربُ العالمين (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا) و"من" هُنا بعضيَّة ، فالقرآن ليس كِتاَب تاريخ وإنما ما مضى من التاريخ وكان في القُرون يؤخذ منه ما ينفع الناس ويكون عوناً لهم على طاعة ربِهم إِدِّكاراً واعتباراً وعِظةً .
(وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا*إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) الجِذر اللُغوي للميم والكاف والنون يُفيد التمكُن ومنه قول الله -جل وعلا- (ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)  وقال الله عن النُطفة وهي في الرحم (فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ) قال هُنا (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) فالذي مكَّن له هو ربُه فذو القرنين عبدٌ مهما بلغ مُلكه والله يقول (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء) .
(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) قُلنا إنَّ السُنن لا تتبدل ولا تتغير ، ثمةَ أسباب بينَّها له وأوضحناها له فأخذ بها ولهذا قال الله مُثنياً عليه (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) وذُو القرنين سُئل عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- من حال نبوته فقال (لا أدري أكان ذو القرنين نبياً أم لا) ، فقوله -عليه الصلاة والسلام-  (لا أدري أكان ذو القرنين نبياً أم لا) يجعلُنا عند الآيات التي يظهر فيها مُخاطبة الله لذي القرنين نتوقف فإن كان نبياً فيكون الخِطاب عن طريق الوحي ، وإن كان غير نبيٍّ فيكون الخِطابُ -غالباً- عن طريق نبيٍ مع ذي القرنين كما وقع لِطالوت مع نبيه (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) فالنبي كان مع طالوت في زمنه ويأتمر مع جُنده لكنه كان هو الذي يُخبره عن الله ، وكذلك ذو القرنين -إن قُلنا إنه نبي- فهو عن طريق الوحي ، عن طريق جبريل ، وإن قُلنا إنه غير نبيٍ فإنه عن طريق نبيٍ يكون معه في زمانه .
قال الله تعالى (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا*فَأَتْبَعَ سَبَبًا*حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) "مغرب الشمس" تُفيد شيئاً ولا يلزم أن تُفيد آخر ، فالذي تُفيده أنه توجه ناحية المغرب وقول الله -جل وعلا- (فَأَتْبَعَ سَبَبًا*حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا) أي الشمس (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) لا يدل على أن الشمس تغرُب في عينٍ حمئة لكن ذا القرنين وصل بجُنده إلى مكانٍ فيه عينٌ حمئة ووجد الشمس تغرُب فيه ، وهذا أمرٌ بدهي فمن يكون في الصحراء يراها تغيب في الصحراء ، ومن يكون مُطلا على البحرِ يرى الشمس تغيب في البحر ، ومن كان في زُمرة جِبال يرى الشمس تغيب في الجِبال.
 (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) حتى يقوم مُلك على أشُدِّه -وهذا من الأسباب التي ذكرها الله من قبل- لابُد أن يخاف من يُسيء ويُكافأ من يُحسن والا لا يستقيم مُلك فقال ذو القرنين (قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا) يوجد في القرآن -أيُها المبارك- مُنكر ويوجد نُكر وفرقٌ بين النُكر والمُنكر ، فالنُكر هو : الشيء المُستعظم الذي يتهوَّل المرء عند سماعه ولو كان حقاً ، أمَّا المُنكر فهو: الباطل ضد المعروف والحق ، في وصف المتقين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وفي وصف المُنافقين يأمُرون بالمُنكر وينهون عن المعروف ، لكن ذا القرنين هُنا قال (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا) أي مُستعظماً لا عذاباً باطلاً لأن عذاب الله حق ، والله لا يُعذِب بباطل .هذا ظاهر هذا معنى كلمة نُكرا .
 (فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) سنُخفف له القول ونُعينه على ماهو فيه قال ربُنا (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا) أخذ بأسباب، لم يذكُر الله لنا هذه الأسباب لكنها أعانت هذا العبد الصالح والملِك المُطيع إلى أن يصل إلى  مقصوده ويعبُد ربه حتى أخبر الله -جل وعلا- أنه قال (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) بعد أن ذكر قوماً لم نجعل لهم من دونها ستراً قال (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا) إما لقلة عقولهم أو لغُربتهم على الناس وعدم اختلاطِهم بهم (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ) من الذي قال؟ هؤلاء القوم الذين نعتهم الله بأنهم لا يكادون يفقهون قولا (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) الخرج: العطية ، ما يُعطى مُقابل عمل وهذا من دلالة أنهم لا يكادون يفقهون قولاً لأنهم ضُعفاء عجِزوا على أن يرُدوا يأجوج ومأجوج ومع ذلك يقولون لذي القرنين رُد عنا يأجوج ومأجوج ونُكافؤك ، والمُكافأة لا تكون من الأدنى إلى للأعلى فلا يقول أحدٌ لأميرٍ ما أو لوجيه كبيرٍ غنيٍ ثري اصنع لي معروفاً وأُعطيك مالاً هذا لا يتأتى عقلاً ، ولهذا قال الله -جل وعلا- عنهم قبل ذلك (لّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا) .
(قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ) الصواب أن يأجوج ومأجوج قبيلتان من نسل يافث بن نوح -على نوحٍ السلام- كانوا يُفسدون في الأرض ، والله -جل وعلا- هُنا يقول (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) ما أنا فيه من التمكين خيرٌ مما ستُعطوني من عطاء على ما سأقوم به ثم طلب منهم الإعانة فاستغل أبدانهم لمَّا رأى قلَّة عُقولهم فطلب زُبر الحديد أي قِطعه ثم مازال يأتي بالحديد مع النُحاس المُذاب حتى صنع سداً سماه هو ردماً فردم ما بين السدين وحال بين يأجوج ومأجوج أن يأتوا إلى أُولئك الأقوام (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) وهؤلاء يأجوج ومأجوج خُروجهم في آخر الزمان -كما هو معلوم في السنة الصحيحة وفي القرآن- من علامات الساعة الكُبرى قال الله (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) وقال (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) وهؤلاء -الصواب- أنهم اليوم في مكانٍ لا يعلمه إلا الله وإن قال قائل إن التقنية الحديثة بلغت مبلغاً لكن التقنية مهما بلغت فهي جُهدٌ بشري لا يُمكن أن يكتمل ، وظاهر القرآن وظاهر السنة على أنهم في ردمٍ خفي لا يعلمه إلا الله ، وأن الله كتب لهم يوماً يخروجون فيه وهم قبائل كُثر ما زالوا يتناسلون ويتناكحون ويزدادوا فيخرُجوا ، والأحاديث كُلها في هذا الباب تدُل على مِثل هذا ، جُملة ما دلت عليه الأحاديث أنهم يحفِرون حتى يرون شُعاع الشمس فيأتي عليهم يوم يقول القيّم عليهم غداً إن شاء الله فيأتون غدا فيجدونه كما تركوه قال ربُنا (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ) يعيثون في الأرض فساداً ، يكون عيسى والمؤمنون الذين معه في الأرض فيفر عيسى بالمؤمنين إلى جبل الطور ، ثم إنهم يعيثون في الأرض فساداً ويشرب أولهم بحيرة الطبرية ولا يجدُ الآخِر منها لهم منها شيء ، ثم بعد ذلك يدعوا عليهم عيسى دعوة أولى بأن يموتوا فيُصيبهم نغف في رِقابهم فيموتون فَرسَا -أي قتلى-   كموتة رجلٍ واحد ، ثم يدعو عليهم مرة أخرى فيُرسل الله طيراً كِباراً كأسنمة البُخت تحملهم تُلقيهم في البحر فتُصبح الأرض نتنة من أجسادهم فيُنزل الله -جل وعلا- مطراً ليس لأهل زرعٍ ولا لأهل ضرع فيغسل الأرض من نتنهم فينزل عيسى والمؤمنون الذين معه إلى الأرض وقد قال -صلى الله عليه وسلم- إن المؤمنين آنذاك ليُوقِدون من قِسي يأجوج ومأجوج سبع سنين ، وهذا يدُل على أنهم كثيروا العدد وأنهم لهم قوة آتاهم الله -جل وعلا- إياها لكن إن الله على كل شيء قدير ، سبحان من خلقهم ، سبحان من جعل خُروجهم حكمة ، وسبحان من أهلكهم هلكة رجُلٍ واحد ، وهذه كُلها من أمارات الساعة . قال الله عن ذي القرنين (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) لو فرضنا أن هذا هو السد فإن ثقب السد أصعب من صُعوده ، جاءت بلاغة القرآن ، العرب تقول:  الزيادة في المبنى زيادة في المعنى ، فقال الله (فَمَا اسْطَاعُوا) بالتخفيف بدون التاء (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ) أي ما اسطاعوا أن يصعدوه ، هم الآن خلف السد فعجزوا أن يصعدوه ، وقال بعدها إنهم حاولوا نقبه فعجزوا ولا ريب أن الصُعود أيسر من النقب لأن هذا ممتد فقال -جل وعلا- (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) فناسب أن يقول في الصعود والظهور التخفيف وناسب أن يقول في النقب التثقيل فزاد بالتاء والعرب تقول الزيادة في المبنى زيادة في المعنى (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) وهم كما بينَّا علامة من علامات الساعة هذا خبر ذي القرنين على وجه الإجمال في كلام الله . في الوقفة الثانية إن شاء الله سنقف مع زكريا عليه والسلام ومع يحيى صدر سورة مريم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق