د.محمد بن عبد العزيز الخضيري
(وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿٢٧﴾ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿٢٨﴾ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٢٩﴾ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴿٣٠﴾ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴿٣١﴾)
(وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿٢٧﴾ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿٢٨﴾ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٢٩﴾ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴿٣٠﴾ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴿٣١﴾)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه، أما بعد:
فهذا المجلس هو المجلس الثالث من مجالس تفسير سورة الزمر في هذه الدورة المباركة دورة الأترجة المقامة في جامع شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بحيّ الخليج في مدينة بريدة.
وقد وصلنا إلى قول الله في الآية 27 من سورة الزمر (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لما أنزل الله هذا الكتاب نوّع فيه الدلائل والبراهين والمواعظ والذكرى لئلا يبقى للناس حُجة فجعل الله الحقائق لها دلائل متنوعة ووسائل مختلفة تبين عن الحقيقة الواحدة فمثلاً التوحيد لما أمر الله به وجاء القرآن قاصداً إليه لم يأت بأسلوب واحد أسلوب الأمر أو النهي عن الضدّ بل جاء به عن طريق القصة ، وعن طريق المثل والمثل جاء منوعاً في كل مرة يأتي بنوع من أنواع المثل ، ثم جاء به عن طريق الأمر والنهي عن الضد وجاءت أساليب كثيرة جداً من أجل أن يقتنع العباد بالحق ويتضح لهم الحق فلا تبقى لهم حجة.
قال (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لعلهم يتعظون ولذلك تجدون حقائق القرآن تعاد وتُبدى كما قال في الآيات (مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) يُثنى فيه الوعد والوعيد ، الترغيب والترهيب ، المؤمنين والكافرين ، الناجين والخاسرين ، والهالكين والفائزين والأوامر والنواهي.
قال (قُرآناً عَرَبِيّاً) أي نزل بلغة العرب التي هى أفصح اللغات وأجمعها للمعاني.
(غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ليس فيه ميل ولا انحراف لا في ألفاظه ولا في معانيه، فمعانيه أفضل المعاني وألفاظه ملوك الألفاظ ولذلك العرب الذين يعتبرون هم سادة الفصاحة في العالم عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) ، قال الله -عز وجل- (لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي جعلناه على هذه الصفة عربياً غير ذي عوج رجاء أن يتقوا.
/ قال الله -عز وجل- (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ) تأملوا الآيات السابقة وما جاء فيها من الأمر بإخلاص الدين لله (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) ثم يذكر حجج المشركين ويرد عليها بآيات وأنواع من البراهين والدلائل.
ثم يأتي إلى هذا المثل الذي يقرر فيه حقيقة التوحيد والإخلاص فيقول (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ) أي عبدٌ كل له مُلّاك كل مالك يريد منه شيئاً (فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ) ، ورجل سالم وخالص لرجل ليس له أحد يأمره إلا ذلك الرجل الذي يملكه، هل بينهما فرق؟ الفرق كبير كذلك الفرق بين من يعبد آلهة متعددة ومن يعبد الله وحده (وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً) لا والله لا يستويان (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الحمد لله على بيان التوحيد وعلى وضوح الحق وعلى هذا المثل الذي بيّن الله به أمر التوحيد وثمرة الإخلاص وقُبح الشرك وثمرة الإعراض عن التوحيد. قال ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) أكثر هؤلاء ليس عندهم من العلم شيء إنما هم جُهال وإن ادعوا أنهم علماء إنما هم قليلو العقول عديمو الفقة وإن رأيتهم من أعقل الناس وأكثر الناس إبداعاً وصناعة واختراعاً ليس عندهم من العلم الحقيقي شيء لأنهم لا يفرقون بين التوحيد والشرك ولا بين من يعبد الله ومن يعبد صنماً لا ينفع ولا يضر ولا يدفع ولا يرفع ولا يغني من الحق شيئاً.
/ (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) يا محمد بعد أن بيّنا هذا البيان كلكم ستموتون وسترجعون إليَّ وأنا أحكم بينكم، وهذا ترهيب من الله لهؤلاء الكفار، هل تظنون أنكم بملككم وقدرتكم واستضعافكم لهذا النبي أن الحقيقة انتهت بهذا، لا، أنتم ستموتون وهو سيموت ثم تبعثون إلىَّ فأحكم بينكم فيما كنتم تختلفون.
/ قال (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) يعني ذلك اليوم هو الذي تُجلّى فيه الحقائق ويعرف فيه المُحِق من المبطل ، والظالم من المظلوم ، والمؤمن من الكافر ، والبرّ من الفاجر ، والصادق من الكاذب ، ومن اتبع الحق بعد أن علِمه ووقر في قلبه ومن مال عنه بعد أن اتضح له وبان له ذلك الحق.
ثم قال الله-عز وجل- مبيناً الفرق بين الطائفتين (فَمَنْ أَظْلَمُ) هذا أسلوب يأتي في القرآن للدلالة على تمام النفي لا أحد أشد ظلماً (مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ) كذب على الله بإدّعاء الولد والشريك له فقال لله شريك لله ولد لله صاحبة تُعبد من دون الله. (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) أي كذب بالوحي النازل أو كذب برسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهم افتروا على الله الكذب وجمعوا مع افترائهم على الله الكذب أنهم لما جاءهم الصدق كذبوا بالصدق سواء كان هذا الصدق هو محمد -صلوات ربي وسلامه عليه- أو القرآن أو هو هذا التوحيد والدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِين) بلى فيها مثوى ومأوى ومستقر لأولئك الذين كفروا وجحدوا وكذبوا بعد أن بانت لهم الحقائق واتضحت لهم الدلائل.
/ ثم على طريقة القرآن وهي المثاني يُذكر أهل الباطل ثم يذكر أهل الحق ، يذكر المكذبون ثم يذكر الصادقون قال (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) قيل الذي جاء بالصدق هو محمد -صلى الله عليه وسلم- والذي صدّق به هو أبو بكر . وهذا الأظهر أنه مثال وإلا (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ) تنطبق على كل من جاء بالصدق ، فالمؤمن جاء بالصدق وهي لا إله إلا الله هذه هي حقيقة الصدق ، ورسول الله جاء بالصدق وهو هذا الدين وهذا القرآن ، وجبريل جاء بالصدق وهو هذا الوحي الذي نزل به من عند الله ، (وَصَدَّقَ بِهِ) ما جاء بالصدّق وانحرف عنه بل أتبع ذلك بأن صدّق به لأن المنافق يأتي بالصدق لكنه لا يصدّق به ولا يؤمن به. قال (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ ) الصدق الخالص الذي ليس فيه كذب فيه ولا حيف ولا نقص ولا زيادة صدق تام موافق للواقع ولا يكون إلا هذا الحق الذي نزل به من عند الله. (وَصَدَّقَ بِهِ) آمن به واستسلم له (أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) هؤلاء الذين جاءوا بالصدق وصدقوا به هم المتقون، فلو قيل لك من هم المتقون؟ قل من جاء بالصدق وصدق به لأن الله عرفه بذلك هذه تعريفات قرآنية. مثل لو قيل من أولياء الله؟ تقول (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) فمن آمن واتقى كان من أولياء الله.
قال الله مبيناً جزاءهم (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ) والله إن هذه كافية! أي لهؤلاء الذين جاءوا بالصدق وصدقوا به لهم ما يشاؤونه عند الله فهم في دار يطلبون فيها كل ما يريدون وما تهواه أنفسهم فيُحقق لهم طلبهم. (ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ) وهذا يدلنا على أن أعظم أنواع الإحسان أن يكون الإنسان قد جاء بالصدق وصدّق به وهذا يشمل جميع أنواع الصدق (ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ) ومن الصدق أن تكون أفعال الإنسان موافقة لحاله فما يتظاهر بشيء من الذهد والورع والتقوى أكثر مما هو عليه بل علانيته كسريرته. بعض الناس عندما يكون أمام الناس ترى الوجل والخوف والخشية ولكنه إذا خلا بمحارم الله انتهكها هذا ليس من الصادقين لذلك لا يكون من أهل هذا الجزاء (ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ). والإحسان نوعان : إحسان في معاملة الخالق ، وإحسان في معاملة المخلوق ، أما الإحسان في معاملة الخالق فهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، يعني الإحسان في معاملة الخالق وعبادته مرحلتان أو نوعان النوع الأول وهو أعلاها أن تعبد الله كأنك تراه من شدة استحضارك لربك -سبحانه وتعالى- ، فإن لم تستطع هذه المرتبة فإنك تعبد الله وتستحضر أنه هو يراك ويراقبك فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وإحسان في معاملة المخلوقين وهو أن توصل إليهم ما يستحقون من البرّ والإكرام والاحترام والدعوة وغير ذلك على أحسن الوجوه وأتمها وأكملها كما قال الله (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) أمر بأن نأتي بكل شيء على وجه الإحسان ولذلك مهما فعلت في حق والديك فأنت تشك هل أنت وصلت لمرحلة الإحسان أم لم تصل؟
قال الله -عز وجل- (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) أي بعملهم وإحسانهم يكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ولذلك من أعظم فوائد العمل الصالح أن يكون كفارة فيقابل العمل السيئ بالعمل الصالح فيذهب العمل السيئ "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر" فجعل الله العمل الصالح كفارة كما أنه جعل البلاء الذي ينزل بالإنسان كفارة "ما يصيب المؤمن من هم ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه" .
قال (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي يجزيهم أجورهم يوم القيامة بأحسن عملهم فهم يعملون في الدنيا أعمالاً كثيرة منها أعمالهم لطلب الرزق ومنها زواجهم ومنها بناؤهم لبيوتهم هذه كلها أعمال لكن الله لا يجازيهم إلا بأحسنها وهي صلاتهم وزكاتهم وصومهم وبرهم وحجهم وقيامهم بأمر ربهم جل وعلا .
/ ثم إن المشركين هددوا النبي عليه الصلاة والسلام لما رأوه يجهر بهذه الدعوة التى فيها إعراض عن آلهتهم وأمر بالتوحيد فقالوا له نحن نخشى عليك من آلهتنا أن تصيبك بسوء فقال الله (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) بلى والله، إن الله يكفي عبده كل ضر يريده به أهل الشرك وأهل الكفر وأهل المعصية يكفيه الله ما أهمه من شأنهم فلو اجتمع من بأقطارها على أن يوصلوا إليه ذرة من أذى لم يردها الله له لم يستطيعوا أن ينالوه بسوء. ولذلك النبي -صلي الله عليه وسلم- اجتمعوا على بيته مئة شاب من أجلد شباب قريش مع كل واحد منهم سيف ينتظرون رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يخرج ليضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فألقى الله عليهم النوم فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بين أظهرهم وقد ألقى الله عليهم النوم فأخذ كفاً من حصى ووضعه على رؤوسهم حتى إذا قاموا عرفوا أنه قد أهينوا وأن رسول الله قد مرّ من بين أيديهم وأنه لم يصعد في السماء أو يذهب في الأرض وإنما خرج من بينهم. (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) ولذلك يقول ابن القيم كلمة جميلة "الكفاية التامة مع العبودية التامة والكفاية الناقصة مع العبودية الناقصة" كيف؟ "احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله" هذه هي الحقيقة فكلما ازدادت عبوديتك لله كانت الكفاية من الله لك أتم ، أو بالأحرى كانت الربوبية من الله لك أكمل ، كلما كانت العبودية منك لله أتم كانت الربوبية من الله لك أتم يعني يربيك الله وينعم عليك ويحرسك ويحفظك ويرعاك ويكلؤك. قال الله لنبيه موسى (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) لا تخف كن في أمان الله ، أنت الآن داخل على أعتى وأطغى ملوك الأرض ، جبار من الحبابرة ، ما استطاع فرعون أن يصل إليه بأدنى سوء ، ولما وصل موسى ومعه قومه إلى البحر (فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) ولذلك العبودية الكاملة تقتضي الربوبية التامة فإذا أردت الله أن يحفظك ويحفظ أولادك ويحفظ بيتك ومالك ويحفظ دينك ويحفظك من كل سوء أو شر كمل عبوديتك مع الله احفظ الله يحفظك ‘احفظ الله تجده تجاهك.
قال (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ) يخوفونك بهذه الأصنام هبل ومناة والعزى وغيرها أنها تصيبك بسوء. قال (وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) من أضلّه الله ما يجد أحداً يهديه، كيف تنفع هذه الأصنام أو تضر وهي مخلوقة أنتم تطعمونها وأنتم تحفظونها؟! قال (وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ) نسأل الله أن يهدينا جميعاً ، (أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ) بلى إن الله عزيز وذو انتقام ومن عزته أنه ينتقم ممن شاء من عباده لا يمنعه من ذلك مانع.
/ ثم قال مبيناً دليلاً من دلائل التوحيد وملقماً إياهم حجة من ألسنتهم (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) إذا لماذا أشركتم؟! إذا كان الله هو الذي خلق السماوات والأرض وأنتم تقولون أن هذه الأصنام لم تخلق سماء ولم تنشئ أرضاً فبأي حق جعلتم لها شيئاً من خصائص الربوبية ووجهتم لها شيئاً من العبودية من أين جئتم بهذا؟!
قال (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) هؤلاء الذين تدعون من دون الله ( إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ) لو أرادني الله بسوء هل هذه الأصنام ترفع عني ذلك السوء الذى نزل على من عند الله؟
(أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِه) هل يستطعن أن يمنعن شيئاً من رحمة الله التي يريدها بي.
(ِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) الله وحده كافيني هو متولي أمرى والقائم بي لا يَشركه أحد فهو كافيني وأنا متوكل عليه ، ولذلك عندما يأتي الحسب يأتي بعده التوكل ، ما دام الله هو كافيني فأنا أتوكل عليه (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) ما قال يتوكل المتوكلون عليه بل قال (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) يعنى عليه وحده لا على أحد سواه لأنهم يؤمنون بأن الحسب والكفاية منه وحده.
(قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) اعملوا على طريقتكم فأنا لا أملك لكم من الله شيئاً لا أستطيع أن أهديكم ولا أستطيع أن أغير قلوبكم ولن أغير من عملي شيئاً اعملوا وأنا سأعمل ، أنتم على دينكم وأنا على ديني ، أما أنا فلا يمكن أن أصنع خلطة من ديني ودينكم من أجل أن أقرب الأديان، لا، أنا لي طريقتي وأنتم لكم طريقتكم وهذان طريقاً لا يمكن أن يلتقيا (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ) ما يلتقي هذان الطريقان التوحيد والشرك.
قال (إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) فسوف يأتي اليوم الذي تعلمون فيه عاقبة هذا الشرك الذي وقعتم فيه. قال (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ) ستعلمون عاقبة كفركم إذا جاءكم ذلك العذاب ، سوف تكونوا عالمين عندما ينزل بكم عذاب يخزيكم ويحلّ عليكم عذاب مقيم ، وعذاب الخزي قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة لأن الله قد يعجّل العقوبة للكفار والمشركين في الدنيا فيكون عذاب الخزي في الدنيا معجلاً ويكون العذاب المقيم في الآخرة.
ثم قال الله -عز وجل- مبيناً ما أنزل على نبيه محمد من الهدى والحق (إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ٍ) فالمهمة التي كلفت بها يا محمد أن تتلقى هذا الوحي وأن تبلغه كما تلقيته، إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق الثابت الذي لا شك فيه ولا مرية فيه (فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) فإثم ضلاله وخزي ضلاله على تلك االنفس ولن يصيبك يا محمد من ضلاله شيء ، ولن يضرك هو بشيء لأنك أديت ما عليك وبلغت ما أُنزل إليك من وحي ربك. (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل) أي لست موكلاً على هدايتهم بل أمرهم إلى الله عز وجل .
/ (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) ربنا يتوفى هذه النفوس أي يستوفيها حينما يميتها وحينما ينيمها فالنوم موتة صغرى والموت موتة كبرى (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) هذه النفوس عندما تنام تكون معرضة لأن تعود مرة أخرى ولأن لا تعود ولذلك إذا نمت جهز نفسك أن تستقبل ربك فأنت في كل نومة قد تعود هذه الروح التي فارقتك أو قد لا تعود. ولذلك المسلم إذا قام من نومه قال الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور. قال الله في سورة الأنعام (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ* وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى) فكلنا إذا نمنا متنا لكن منا من تطير روحه ثم يأذن الله لها بأن تعود فيحيا ومنا من يُمسك الله الروح عنده فيقبضها قبضاً تاماً.
قال (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَاَ) يتوفى هذا وهذا فكلاهما يسميان وفاة، من مات موتاً حقيقياً فارقت روحه جسده ومن نام يُقال توفى.
قال (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) من قضى وقدر عليها الموت أمسك الله روحه عنده (وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى) إلى أن يأتي أجلها (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) .
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي في هذا الأمر الذي يقدره الله على كل واحد منا آية تُعلمه بأن الأمر كله بيد الله ولذلك عالم النوم عالم غريب جداً كيف أن الإنسان يدخل في عالم النوم في راحة ولذة وحبور وانشراح ويسافر سفرة طويلة ويلقى أناساً بعيدين ويرى في المنام الرؤيا المزعجة أو الرؤيا السارة ويعيش وبجواره أهله لا يعلمون عنه ، وقد يعلم شيئاً مما سيحدث له ولا يلزم من ذلك أن يكون مؤمناً بل قد يكون كافراً (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) فانظر هذه الرؤيا حددت مصير مصر الاقتصادي خمس عشر عاماً وصارت سببا في إنقاذ أمة بأكملها من مجاعة يمكن أن تحيق بها ولولا أن الله قيّض لهم يوسف يعبّرها لهم ويبين لهم حقيقتها لمرت عليهم ووقعوا في الكارثة من حيث لا يشعرون، من أين هذا؟ هذا عالم أرواح، هذا العالم الروحي الذى يخرج من هذا الحيز من هذه الأبدان فيطلع ويرى ويكتسب أشياء لا يكتسبها عندما يكون في الحالة الطبيعية التي هو عليها. وأنت تتعجب بالفعل كيف أنك ترى إنساناً من عشرين سنة ما رأيته تراه في المنام وتسلم عليه وتضحك معه ثم تقوم من النوم فتجده في أول لحظة تقوم فيها أمام عينيك كيف جاءك؟! كيف التقت هذه الأرواح وتعارفت ورأى بعضها بعضاً؟ ما تدري! ولذلك (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) نحن لا نعلم عن عالم الروح شيئاً ولا ندري ماذا يحصل في ذلك العالم ولذلك قال (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) عندما يأذن لها بالموت (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) أي التي كانت نائمة يتوفاها أيضاً لكنه يفرق بينهما (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) ويرسل الأخرى ويعيدها إلى البدن الذي فارقته فتعود لها الحياة من جديد (وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، والمؤمن يتعظ بالنوم فيرى أنه مثال مصغر للموت وهذا من جميل التفكر فالنوم موتة صغرى ولذلك على الإنسان إذا أراد أن ينام أن يستعد وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ قبل نومه آيات التوحيد آية الكرسي وسورة الإخلاص والمعوذات ، يجمع كفيه وينفث في يديه ثم يمسح بهما قفاه ومقدم جسده ووجهه وأعلى بدنه ثم ما استطاع من جسده ، يحيطها كلها بالتوحيد والتعويذ. ويقرأ أيضاً سورة الكافرون سورة التوحيد أيضاً يقرأ قل يا أيها الكافرون كما في حديث أبي نوفل الذي قال فيه: "إقرأ سورة الكافرون ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك" فهو يودع هذه الروح ويسلمها لله خالصة موحدة لا شرك فيها ولا شيء تتوجه إليه إلا الله. وفي حديث عبادة بن الصامت قال "إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضجع على شقك الأيمن ثم قل اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك والجأت ظهري إليك لا ملجأ ولا منجأ منك إلا إليك آمنت بكتابك الذى أنزلت ونبيك الذى أرسلت" هذا الكلام كله توحيد وتفويض واستسلام لله لأن الإنسان الآن يسلم الروح ولا يدري هل تعود الروح ويأذن لله بعودة هذه الروح للبدن أو لا يأذن ولذلك.
/ قال الله (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء) أي بل اتخذ هؤلاء الكفار من دون الله شفعاء، لاحظوا كل موضوعات السورة تدور حول التوحيد وإخلاص الدين لله. بل اتخذ هؤلاء الكفار من دون الله شفعاء يرجون شفاعتهم ويطلبون منهم أن يكونوا واسطة بينهم وبين الله (قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ) كيف تتخذونهم شفعاء وهم لا يملكون شيئاً من الأمر؟! (وَلَا يَعْقِلُونَ) أيضا ، ليس لهم شيئاً من العقل أيضاً!
(قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً) الذي يملك أمر الشفاعة فيعطيها من شاء ويأذن بها لمن شاء ويرضى أن يُشفع فيمن شاء هو الله. أمر الشفاعة لم يجعله الله لأحد إلا له ولذلك قال (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) وقال (اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) فلا يستطيع أحد أن يأخذ حق الشفاعة من الله بل هو لله يعطيه من شاء ، وإذا أعطاه من شاء فإنه لا يتيح له الفرصة أن يشفع فيمن يشاء بل فيمن يشاؤه الله بخلاف أهل الدنيا. الملك لا يدري من الذي سيدخل عليه شافعاً وما يدري إذا جاءه أحد قائلاً جئت أشفع في فلان هو ما رضي أصلاً بالشفاعة ولا رضي بمن يُشفع فيه ولو أنه رضي بالشفاعة قال يا فلان جئتك طالباً لا تردني قال أعطيناك ما طلبت قال أريد فلان أو تخلص فلاناً من القتل قال أُطلب كل شيء إلا هذا قال ما أريد إلا هذا، بقي في حرج عظيم. أما عند الله فلا، لا يمكن لأحد أن يشفع إلا بإذنه ولا يمكن أن يشفع ذلك الشافع إلا فيمن يرضى الله جل وجلاله هذه خصيصة لله. ولذلك قال (قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً) يملكها ويأذن بها ولا تكون إلا لمن يرضى .
(لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أتظنونه مثل ملوك الدنيا يُدخل عليهم بالشفاعة من غير إذنهم يشفع ويشفع فيمن لا يرضونهم، لا، (لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
/ قال الله (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ألا تعجبون؟! هؤلاء الذين يشركون مع الله أحد سواه إذا ذكر الله وحده فقيل لا إله إلا الله نفرت قلوبهم واشمأزت وكرهت هذا الذي تسمعه من الحق وهذا ديدن القلوب، ديدن القلوب أنها إذا أقبلت على الله تركت ما سواه وأنها إذا أقبلت على ما سواه زهدت في الله -جل جلاله- ولذلك ترى الآن كثيراً ممن يعبدون القبور إذا جاءوا للقبر ذلوا وخضعوا خشعوا وبكوا وارتعدوا وحصل منهم من الهيبة والخشية شيء لا يحصل منهم إذا وقفوا بين يدي الله لأن القلب إناء إن وضعت فيه توحيداً خرج مثله من الشرك ، وإن وضعت فيه شركاً وتعظيماً لغير الله خرج بقدره من تعظيم الله ولذلك انتبه
ولذلك بقدر ما تأخذ من السنة يخرج من قلبك البدعة.
وبقدر ما تحب من سنة نبيك تبغض من البدع المحدثة التي تُفترى على دين الله -عز وجل- وتقال على نبي الله صلى الله عليه وسلم.
وبقدر ما تقبل على الطاعة تكره المعصية.
وبقدر ما تستهين بالمعصية فتقترفها تكره من الطاعة مثلها.
ولذلك يقولون إن من يحب الغناء لا يأنس بالقرآن ومن يحب القرآن ويعظّمه لا يستلذ بالغناء لأنهم ضدان لا يجتمعان. ولذلك قال العلماء الغناء ينبت النفاق من أين ينبت النفاق؟ نقول له إذا أحبب الغناء كرهت القرآن وإذا كرهت القرآن هذا هو عين النفاق هذه هي بذرة النفاق كراهة القرآن هي بذرة النفاق.
قال (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ويضحكون، سبحان الله! هذا ديدنهم وهذه طريقتهم إذا ذُكر آلهتهم ، معبوداتهم ، معظموهم ، مقبوروهم ، سادتهم إذا بهم يُجلُونهم ويعظمونهم . واليوم نلاحظ هذا تجد المحاضر يقف أمام الناس يقول قال فلان وفلتان من الغربيين لكن إذا قيل قال الإمام أبو حنيفة ، الإمام مالك ، سفيان الثورى ، عمر بن الخطاب ، علي ابن أبي طالب ، سعد ابن عبادة ، قال ما هؤلاء؟ هذا إنسان أثري!! لكن لما يقول : وبهذا يقول البرت ، وإلا إينشتاين وإلا استيفن وإلا ديفيد وإلا جورج أو قاله فلان ابن فلان الفلاني -من الأسماء التى يلوك بها في لسانه- في كتابه كذا وكذا فهو يقولها بكل افتخار وبكل اعتزاز، سواء بسواء -يا أخي- بقدر ما تفخر بهؤلاء تزهد في الذين عندك من أسلافك من الصالحين وبقدر ما تفخر بالصالحين تزهد بغيرهم لأنك ترى أن ما عندهم من النور والإيمان واليقين والعلم ليس هو الذي عند غيرهم. قال الله (وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) .
أسأل الله بمنّه وكرمه أن يرزقنا فهم كتابه ، وأن يجعلنا من العلماء بهذا القرآن، اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وارزقنا علما ينفعنا، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وبهذا ينتهي هذا المجلس من مجالس تفسير سورة الزمر والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
لحفظ المقطع الصوتي :
--------------------------------
مصدر التفريغ (بتصرف يسير) :
http://www.tafsir.net/vb/forum32/thread28329-4.html#ixzz2R5JBgPJn
فهذا المجلس هو المجلس الثالث من مجالس تفسير سورة الزمر في هذه الدورة المباركة دورة الأترجة المقامة في جامع شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بحيّ الخليج في مدينة بريدة.
وقد وصلنا إلى قول الله في الآية 27 من سورة الزمر (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لما أنزل الله هذا الكتاب نوّع فيه الدلائل والبراهين والمواعظ والذكرى لئلا يبقى للناس حُجة فجعل الله الحقائق لها دلائل متنوعة ووسائل مختلفة تبين عن الحقيقة الواحدة فمثلاً التوحيد لما أمر الله به وجاء القرآن قاصداً إليه لم يأت بأسلوب واحد أسلوب الأمر أو النهي عن الضدّ بل جاء به عن طريق القصة ، وعن طريق المثل والمثل جاء منوعاً في كل مرة يأتي بنوع من أنواع المثل ، ثم جاء به عن طريق الأمر والنهي عن الضد وجاءت أساليب كثيرة جداً من أجل أن يقتنع العباد بالحق ويتضح لهم الحق فلا تبقى لهم حجة.
قال (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لعلهم يتعظون ولذلك تجدون حقائق القرآن تعاد وتُبدى كما قال في الآيات (مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) يُثنى فيه الوعد والوعيد ، الترغيب والترهيب ، المؤمنين والكافرين ، الناجين والخاسرين ، والهالكين والفائزين والأوامر والنواهي.
قال (قُرآناً عَرَبِيّاً) أي نزل بلغة العرب التي هى أفصح اللغات وأجمعها للمعاني.
(غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ليس فيه ميل ولا انحراف لا في ألفاظه ولا في معانيه، فمعانيه أفضل المعاني وألفاظه ملوك الألفاظ ولذلك العرب الذين يعتبرون هم سادة الفصاحة في العالم عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) ، قال الله -عز وجل- (لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي جعلناه على هذه الصفة عربياً غير ذي عوج رجاء أن يتقوا.
/ قال الله -عز وجل- (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ) تأملوا الآيات السابقة وما جاء فيها من الأمر بإخلاص الدين لله (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) ثم يذكر حجج المشركين ويرد عليها بآيات وأنواع من البراهين والدلائل.
ثم يأتي إلى هذا المثل الذي يقرر فيه حقيقة التوحيد والإخلاص فيقول (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ) أي عبدٌ كل له مُلّاك كل مالك يريد منه شيئاً (فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ) ، ورجل سالم وخالص لرجل ليس له أحد يأمره إلا ذلك الرجل الذي يملكه، هل بينهما فرق؟ الفرق كبير كذلك الفرق بين من يعبد آلهة متعددة ومن يعبد الله وحده (وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً) لا والله لا يستويان (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الحمد لله على بيان التوحيد وعلى وضوح الحق وعلى هذا المثل الذي بيّن الله به أمر التوحيد وثمرة الإخلاص وقُبح الشرك وثمرة الإعراض عن التوحيد. قال ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) أكثر هؤلاء ليس عندهم من العلم شيء إنما هم جُهال وإن ادعوا أنهم علماء إنما هم قليلو العقول عديمو الفقة وإن رأيتهم من أعقل الناس وأكثر الناس إبداعاً وصناعة واختراعاً ليس عندهم من العلم الحقيقي شيء لأنهم لا يفرقون بين التوحيد والشرك ولا بين من يعبد الله ومن يعبد صنماً لا ينفع ولا يضر ولا يدفع ولا يرفع ولا يغني من الحق شيئاً.
/ (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) يا محمد بعد أن بيّنا هذا البيان كلكم ستموتون وسترجعون إليَّ وأنا أحكم بينكم، وهذا ترهيب من الله لهؤلاء الكفار، هل تظنون أنكم بملككم وقدرتكم واستضعافكم لهذا النبي أن الحقيقة انتهت بهذا، لا، أنتم ستموتون وهو سيموت ثم تبعثون إلىَّ فأحكم بينكم فيما كنتم تختلفون.
/ قال (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) يعني ذلك اليوم هو الذي تُجلّى فيه الحقائق ويعرف فيه المُحِق من المبطل ، والظالم من المظلوم ، والمؤمن من الكافر ، والبرّ من الفاجر ، والصادق من الكاذب ، ومن اتبع الحق بعد أن علِمه ووقر في قلبه ومن مال عنه بعد أن اتضح له وبان له ذلك الحق.
ثم قال الله-عز وجل- مبيناً الفرق بين الطائفتين (فَمَنْ أَظْلَمُ) هذا أسلوب يأتي في القرآن للدلالة على تمام النفي لا أحد أشد ظلماً (مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ) كذب على الله بإدّعاء الولد والشريك له فقال لله شريك لله ولد لله صاحبة تُعبد من دون الله. (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) أي كذب بالوحي النازل أو كذب برسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهم افتروا على الله الكذب وجمعوا مع افترائهم على الله الكذب أنهم لما جاءهم الصدق كذبوا بالصدق سواء كان هذا الصدق هو محمد -صلوات ربي وسلامه عليه- أو القرآن أو هو هذا التوحيد والدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِين) بلى فيها مثوى ومأوى ومستقر لأولئك الذين كفروا وجحدوا وكذبوا بعد أن بانت لهم الحقائق واتضحت لهم الدلائل.
/ ثم على طريقة القرآن وهي المثاني يُذكر أهل الباطل ثم يذكر أهل الحق ، يذكر المكذبون ثم يذكر الصادقون قال (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) قيل الذي جاء بالصدق هو محمد -صلى الله عليه وسلم- والذي صدّق به هو أبو بكر . وهذا الأظهر أنه مثال وإلا (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ) تنطبق على كل من جاء بالصدق ، فالمؤمن جاء بالصدق وهي لا إله إلا الله هذه هي حقيقة الصدق ، ورسول الله جاء بالصدق وهو هذا الدين وهذا القرآن ، وجبريل جاء بالصدق وهو هذا الوحي الذي نزل به من عند الله ، (وَصَدَّقَ بِهِ) ما جاء بالصدّق وانحرف عنه بل أتبع ذلك بأن صدّق به لأن المنافق يأتي بالصدق لكنه لا يصدّق به ولا يؤمن به. قال (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ ) الصدق الخالص الذي ليس فيه كذب فيه ولا حيف ولا نقص ولا زيادة صدق تام موافق للواقع ولا يكون إلا هذا الحق الذي نزل به من عند الله. (وَصَدَّقَ بِهِ) آمن به واستسلم له (أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) هؤلاء الذين جاءوا بالصدق وصدقوا به هم المتقون، فلو قيل لك من هم المتقون؟ قل من جاء بالصدق وصدق به لأن الله عرفه بذلك هذه تعريفات قرآنية. مثل لو قيل من أولياء الله؟ تقول (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) فمن آمن واتقى كان من أولياء الله.
قال الله مبيناً جزاءهم (لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ) والله إن هذه كافية! أي لهؤلاء الذين جاءوا بالصدق وصدقوا به لهم ما يشاؤونه عند الله فهم في دار يطلبون فيها كل ما يريدون وما تهواه أنفسهم فيُحقق لهم طلبهم. (ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ) وهذا يدلنا على أن أعظم أنواع الإحسان أن يكون الإنسان قد جاء بالصدق وصدّق به وهذا يشمل جميع أنواع الصدق (ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ) ومن الصدق أن تكون أفعال الإنسان موافقة لحاله فما يتظاهر بشيء من الذهد والورع والتقوى أكثر مما هو عليه بل علانيته كسريرته. بعض الناس عندما يكون أمام الناس ترى الوجل والخوف والخشية ولكنه إذا خلا بمحارم الله انتهكها هذا ليس من الصادقين لذلك لا يكون من أهل هذا الجزاء (ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ). والإحسان نوعان : إحسان في معاملة الخالق ، وإحسان في معاملة المخلوق ، أما الإحسان في معاملة الخالق فهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، يعني الإحسان في معاملة الخالق وعبادته مرحلتان أو نوعان النوع الأول وهو أعلاها أن تعبد الله كأنك تراه من شدة استحضارك لربك -سبحانه وتعالى- ، فإن لم تستطع هذه المرتبة فإنك تعبد الله وتستحضر أنه هو يراك ويراقبك فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وإحسان في معاملة المخلوقين وهو أن توصل إليهم ما يستحقون من البرّ والإكرام والاحترام والدعوة وغير ذلك على أحسن الوجوه وأتمها وأكملها كما قال الله (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) أمر بأن نأتي بكل شيء على وجه الإحسان ولذلك مهما فعلت في حق والديك فأنت تشك هل أنت وصلت لمرحلة الإحسان أم لم تصل؟
قال الله -عز وجل- (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) أي بعملهم وإحسانهم يكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ولذلك من أعظم فوائد العمل الصالح أن يكون كفارة فيقابل العمل السيئ بالعمل الصالح فيذهب العمل السيئ "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر" فجعل الله العمل الصالح كفارة كما أنه جعل البلاء الذي ينزل بالإنسان كفارة "ما يصيب المؤمن من هم ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه" .
قال (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي يجزيهم أجورهم يوم القيامة بأحسن عملهم فهم يعملون في الدنيا أعمالاً كثيرة منها أعمالهم لطلب الرزق ومنها زواجهم ومنها بناؤهم لبيوتهم هذه كلها أعمال لكن الله لا يجازيهم إلا بأحسنها وهي صلاتهم وزكاتهم وصومهم وبرهم وحجهم وقيامهم بأمر ربهم جل وعلا .
/ ثم إن المشركين هددوا النبي عليه الصلاة والسلام لما رأوه يجهر بهذه الدعوة التى فيها إعراض عن آلهتهم وأمر بالتوحيد فقالوا له نحن نخشى عليك من آلهتنا أن تصيبك بسوء فقال الله (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) بلى والله، إن الله يكفي عبده كل ضر يريده به أهل الشرك وأهل الكفر وأهل المعصية يكفيه الله ما أهمه من شأنهم فلو اجتمع من بأقطارها على أن يوصلوا إليه ذرة من أذى لم يردها الله له لم يستطيعوا أن ينالوه بسوء. ولذلك النبي -صلي الله عليه وسلم- اجتمعوا على بيته مئة شاب من أجلد شباب قريش مع كل واحد منهم سيف ينتظرون رسول الله -صلي الله عليه وسلم- يخرج ليضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فألقى الله عليهم النوم فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بين أظهرهم وقد ألقى الله عليهم النوم فأخذ كفاً من حصى ووضعه على رؤوسهم حتى إذا قاموا عرفوا أنه قد أهينوا وأن رسول الله قد مرّ من بين أيديهم وأنه لم يصعد في السماء أو يذهب في الأرض وإنما خرج من بينهم. (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) ولذلك يقول ابن القيم كلمة جميلة "الكفاية التامة مع العبودية التامة والكفاية الناقصة مع العبودية الناقصة" كيف؟ "احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله" هذه هي الحقيقة فكلما ازدادت عبوديتك لله كانت الكفاية من الله لك أتم ، أو بالأحرى كانت الربوبية من الله لك أكمل ، كلما كانت العبودية منك لله أتم كانت الربوبية من الله لك أتم يعني يربيك الله وينعم عليك ويحرسك ويحفظك ويرعاك ويكلؤك. قال الله لنبيه موسى (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) لا تخف كن في أمان الله ، أنت الآن داخل على أعتى وأطغى ملوك الأرض ، جبار من الحبابرة ، ما استطاع فرعون أن يصل إليه بأدنى سوء ، ولما وصل موسى ومعه قومه إلى البحر (فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) ولذلك العبودية الكاملة تقتضي الربوبية التامة فإذا أردت الله أن يحفظك ويحفظ أولادك ويحفظ بيتك ومالك ويحفظ دينك ويحفظك من كل سوء أو شر كمل عبوديتك مع الله احفظ الله يحفظك ‘احفظ الله تجده تجاهك.
قال (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ) يخوفونك بهذه الأصنام هبل ومناة والعزى وغيرها أنها تصيبك بسوء. قال (وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) من أضلّه الله ما يجد أحداً يهديه، كيف تنفع هذه الأصنام أو تضر وهي مخلوقة أنتم تطعمونها وأنتم تحفظونها؟! قال (وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ) نسأل الله أن يهدينا جميعاً ، (أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ) بلى إن الله عزيز وذو انتقام ومن عزته أنه ينتقم ممن شاء من عباده لا يمنعه من ذلك مانع.
/ ثم قال مبيناً دليلاً من دلائل التوحيد وملقماً إياهم حجة من ألسنتهم (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) إذا لماذا أشركتم؟! إذا كان الله هو الذي خلق السماوات والأرض وأنتم تقولون أن هذه الأصنام لم تخلق سماء ولم تنشئ أرضاً فبأي حق جعلتم لها شيئاً من خصائص الربوبية ووجهتم لها شيئاً من العبودية من أين جئتم بهذا؟!
قال (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) هؤلاء الذين تدعون من دون الله ( إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ) لو أرادني الله بسوء هل هذه الأصنام ترفع عني ذلك السوء الذى نزل على من عند الله؟
(أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِه) هل يستطعن أن يمنعن شيئاً من رحمة الله التي يريدها بي.
(ِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) الله وحده كافيني هو متولي أمرى والقائم بي لا يَشركه أحد فهو كافيني وأنا متوكل عليه ، ولذلك عندما يأتي الحسب يأتي بعده التوكل ، ما دام الله هو كافيني فأنا أتوكل عليه (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) ما قال يتوكل المتوكلون عليه بل قال (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) يعنى عليه وحده لا على أحد سواه لأنهم يؤمنون بأن الحسب والكفاية منه وحده.
(قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) اعملوا على طريقتكم فأنا لا أملك لكم من الله شيئاً لا أستطيع أن أهديكم ولا أستطيع أن أغير قلوبكم ولن أغير من عملي شيئاً اعملوا وأنا سأعمل ، أنتم على دينكم وأنا على ديني ، أما أنا فلا يمكن أن أصنع خلطة من ديني ودينكم من أجل أن أقرب الأديان، لا، أنا لي طريقتي وأنتم لكم طريقتكم وهذان طريقاً لا يمكن أن يلتقيا (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ) ما يلتقي هذان الطريقان التوحيد والشرك.
قال (إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) فسوف يأتي اليوم الذي تعلمون فيه عاقبة هذا الشرك الذي وقعتم فيه. قال (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ) ستعلمون عاقبة كفركم إذا جاءكم ذلك العذاب ، سوف تكونوا عالمين عندما ينزل بكم عذاب يخزيكم ويحلّ عليكم عذاب مقيم ، وعذاب الخزي قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة لأن الله قد يعجّل العقوبة للكفار والمشركين في الدنيا فيكون عذاب الخزي في الدنيا معجلاً ويكون العذاب المقيم في الآخرة.
ثم قال الله -عز وجل- مبيناً ما أنزل على نبيه محمد من الهدى والحق (إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ٍ) فالمهمة التي كلفت بها يا محمد أن تتلقى هذا الوحي وأن تبلغه كما تلقيته، إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق الثابت الذي لا شك فيه ولا مرية فيه (فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) فإثم ضلاله وخزي ضلاله على تلك االنفس ولن يصيبك يا محمد من ضلاله شيء ، ولن يضرك هو بشيء لأنك أديت ما عليك وبلغت ما أُنزل إليك من وحي ربك. (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل) أي لست موكلاً على هدايتهم بل أمرهم إلى الله عز وجل .
/ (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) ربنا يتوفى هذه النفوس أي يستوفيها حينما يميتها وحينما ينيمها فالنوم موتة صغرى والموت موتة كبرى (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) هذه النفوس عندما تنام تكون معرضة لأن تعود مرة أخرى ولأن لا تعود ولذلك إذا نمت جهز نفسك أن تستقبل ربك فأنت في كل نومة قد تعود هذه الروح التي فارقتك أو قد لا تعود. ولذلك المسلم إذا قام من نومه قال الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور. قال الله في سورة الأنعام (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ* وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى) فكلنا إذا نمنا متنا لكن منا من تطير روحه ثم يأذن الله لها بأن تعود فيحيا ومنا من يُمسك الله الروح عنده فيقبضها قبضاً تاماً.
قال (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَاَ) يتوفى هذا وهذا فكلاهما يسميان وفاة، من مات موتاً حقيقياً فارقت روحه جسده ومن نام يُقال توفى.
قال (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) من قضى وقدر عليها الموت أمسك الله روحه عنده (وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى) إلى أن يأتي أجلها (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) .
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي في هذا الأمر الذي يقدره الله على كل واحد منا آية تُعلمه بأن الأمر كله بيد الله ولذلك عالم النوم عالم غريب جداً كيف أن الإنسان يدخل في عالم النوم في راحة ولذة وحبور وانشراح ويسافر سفرة طويلة ويلقى أناساً بعيدين ويرى في المنام الرؤيا المزعجة أو الرؤيا السارة ويعيش وبجواره أهله لا يعلمون عنه ، وقد يعلم شيئاً مما سيحدث له ولا يلزم من ذلك أن يكون مؤمناً بل قد يكون كافراً (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) فانظر هذه الرؤيا حددت مصير مصر الاقتصادي خمس عشر عاماً وصارت سببا في إنقاذ أمة بأكملها من مجاعة يمكن أن تحيق بها ولولا أن الله قيّض لهم يوسف يعبّرها لهم ويبين لهم حقيقتها لمرت عليهم ووقعوا في الكارثة من حيث لا يشعرون، من أين هذا؟ هذا عالم أرواح، هذا العالم الروحي الذى يخرج من هذا الحيز من هذه الأبدان فيطلع ويرى ويكتسب أشياء لا يكتسبها عندما يكون في الحالة الطبيعية التي هو عليها. وأنت تتعجب بالفعل كيف أنك ترى إنساناً من عشرين سنة ما رأيته تراه في المنام وتسلم عليه وتضحك معه ثم تقوم من النوم فتجده في أول لحظة تقوم فيها أمام عينيك كيف جاءك؟! كيف التقت هذه الأرواح وتعارفت ورأى بعضها بعضاً؟ ما تدري! ولذلك (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) نحن لا نعلم عن عالم الروح شيئاً ولا ندري ماذا يحصل في ذلك العالم ولذلك قال (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) عندما يأذن لها بالموت (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) أي التي كانت نائمة يتوفاها أيضاً لكنه يفرق بينهما (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) ويرسل الأخرى ويعيدها إلى البدن الذي فارقته فتعود لها الحياة من جديد (وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، والمؤمن يتعظ بالنوم فيرى أنه مثال مصغر للموت وهذا من جميل التفكر فالنوم موتة صغرى ولذلك على الإنسان إذا أراد أن ينام أن يستعد وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ قبل نومه آيات التوحيد آية الكرسي وسورة الإخلاص والمعوذات ، يجمع كفيه وينفث في يديه ثم يمسح بهما قفاه ومقدم جسده ووجهه وأعلى بدنه ثم ما استطاع من جسده ، يحيطها كلها بالتوحيد والتعويذ. ويقرأ أيضاً سورة الكافرون سورة التوحيد أيضاً يقرأ قل يا أيها الكافرون كما في حديث أبي نوفل الذي قال فيه: "إقرأ سورة الكافرون ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك" فهو يودع هذه الروح ويسلمها لله خالصة موحدة لا شرك فيها ولا شيء تتوجه إليه إلا الله. وفي حديث عبادة بن الصامت قال "إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضجع على شقك الأيمن ثم قل اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك والجأت ظهري إليك لا ملجأ ولا منجأ منك إلا إليك آمنت بكتابك الذى أنزلت ونبيك الذى أرسلت" هذا الكلام كله توحيد وتفويض واستسلام لله لأن الإنسان الآن يسلم الروح ولا يدري هل تعود الروح ويأذن لله بعودة هذه الروح للبدن أو لا يأذن ولذلك.
/ قال الله (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء) أي بل اتخذ هؤلاء الكفار من دون الله شفعاء، لاحظوا كل موضوعات السورة تدور حول التوحيد وإخلاص الدين لله. بل اتخذ هؤلاء الكفار من دون الله شفعاء يرجون شفاعتهم ويطلبون منهم أن يكونوا واسطة بينهم وبين الله (قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلَا يَعْقِلُونَ) كيف تتخذونهم شفعاء وهم لا يملكون شيئاً من الأمر؟! (وَلَا يَعْقِلُونَ) أيضا ، ليس لهم شيئاً من العقل أيضاً!
(قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً) الذي يملك أمر الشفاعة فيعطيها من شاء ويأذن بها لمن شاء ويرضى أن يُشفع فيمن شاء هو الله. أمر الشفاعة لم يجعله الله لأحد إلا له ولذلك قال (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) وقال (اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) فلا يستطيع أحد أن يأخذ حق الشفاعة من الله بل هو لله يعطيه من شاء ، وإذا أعطاه من شاء فإنه لا يتيح له الفرصة أن يشفع فيمن يشاء بل فيمن يشاؤه الله بخلاف أهل الدنيا. الملك لا يدري من الذي سيدخل عليه شافعاً وما يدري إذا جاءه أحد قائلاً جئت أشفع في فلان هو ما رضي أصلاً بالشفاعة ولا رضي بمن يُشفع فيه ولو أنه رضي بالشفاعة قال يا فلان جئتك طالباً لا تردني قال أعطيناك ما طلبت قال أريد فلان أو تخلص فلاناً من القتل قال أُطلب كل شيء إلا هذا قال ما أريد إلا هذا، بقي في حرج عظيم. أما عند الله فلا، لا يمكن لأحد أن يشفع إلا بإذنه ولا يمكن أن يشفع ذلك الشافع إلا فيمن يرضى الله جل وجلاله هذه خصيصة لله. ولذلك قال (قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً) يملكها ويأذن بها ولا تكون إلا لمن يرضى .
(لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أتظنونه مثل ملوك الدنيا يُدخل عليهم بالشفاعة من غير إذنهم يشفع ويشفع فيمن لا يرضونهم، لا، (لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
/ قال الله (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ألا تعجبون؟! هؤلاء الذين يشركون مع الله أحد سواه إذا ذكر الله وحده فقيل لا إله إلا الله نفرت قلوبهم واشمأزت وكرهت هذا الذي تسمعه من الحق وهذا ديدن القلوب، ديدن القلوب أنها إذا أقبلت على الله تركت ما سواه وأنها إذا أقبلت على ما سواه زهدت في الله -جل جلاله- ولذلك ترى الآن كثيراً ممن يعبدون القبور إذا جاءوا للقبر ذلوا وخضعوا خشعوا وبكوا وارتعدوا وحصل منهم من الهيبة والخشية شيء لا يحصل منهم إذا وقفوا بين يدي الله لأن القلب إناء إن وضعت فيه توحيداً خرج مثله من الشرك ، وإن وضعت فيه شركاً وتعظيماً لغير الله خرج بقدره من تعظيم الله ولذلك انتبه
ولذلك بقدر ما تأخذ من السنة يخرج من قلبك البدعة.
وبقدر ما تحب من سنة نبيك تبغض من البدع المحدثة التي تُفترى على دين الله -عز وجل- وتقال على نبي الله صلى الله عليه وسلم.
وبقدر ما تقبل على الطاعة تكره المعصية.
وبقدر ما تستهين بالمعصية فتقترفها تكره من الطاعة مثلها.
ولذلك يقولون إن من يحب الغناء لا يأنس بالقرآن ومن يحب القرآن ويعظّمه لا يستلذ بالغناء لأنهم ضدان لا يجتمعان. ولذلك قال العلماء الغناء ينبت النفاق من أين ينبت النفاق؟ نقول له إذا أحبب الغناء كرهت القرآن وإذا كرهت القرآن هذا هو عين النفاق هذه هي بذرة النفاق كراهة القرآن هي بذرة النفاق.
قال (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ويضحكون، سبحان الله! هذا ديدنهم وهذه طريقتهم إذا ذُكر آلهتهم ، معبوداتهم ، معظموهم ، مقبوروهم ، سادتهم إذا بهم يُجلُونهم ويعظمونهم . واليوم نلاحظ هذا تجد المحاضر يقف أمام الناس يقول قال فلان وفلتان من الغربيين لكن إذا قيل قال الإمام أبو حنيفة ، الإمام مالك ، سفيان الثورى ، عمر بن الخطاب ، علي ابن أبي طالب ، سعد ابن عبادة ، قال ما هؤلاء؟ هذا إنسان أثري!! لكن لما يقول : وبهذا يقول البرت ، وإلا إينشتاين وإلا استيفن وإلا ديفيد وإلا جورج أو قاله فلان ابن فلان الفلاني -من الأسماء التى يلوك بها في لسانه- في كتابه كذا وكذا فهو يقولها بكل افتخار وبكل اعتزاز، سواء بسواء -يا أخي- بقدر ما تفخر بهؤلاء تزهد في الذين عندك من أسلافك من الصالحين وبقدر ما تفخر بالصالحين تزهد بغيرهم لأنك ترى أن ما عندهم من النور والإيمان واليقين والعلم ليس هو الذي عند غيرهم. قال الله (وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) .
أسأل الله بمنّه وكرمه أن يرزقنا فهم كتابه ، وأن يجعلنا من العلماء بهذا القرآن، اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وارزقنا علما ينفعنا، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وبهذا ينتهي هذا المجلس من مجالس تفسير سورة الزمر والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
لحفظ المقطع الصوتي :
--------------------------------
مصدر التفريغ (بتصرف يسير) :
http://www.tafsir.net/vb/forum32/thread28329-4.html#ixzz2R5JBgPJn
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق