الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شِعار ودثار ولواء أهل التقوى , وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله و اصحابه وسائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
أيها المباركون نستأنف دروسنا في هذا الجامع المبارك جامع القاضي بمدينة الرياض وكنا قد بينا في لقاءات سبقت ودروس مضت أن اللقاءات والدروس تتناول مفردات من القران الكريم فتكون هناك مفردتين في الغالب متضادتين أومتقابلتين ونستعين الله جل وعلا في بيان الآيات التي تضمنت هاتين المفردتين، وعنوان لقاء الليلة الزواج والطلاق.
وللزواج والطلاق طريقة للفقهاء في تناولها وهي طريقة جليلة بلا شك لكننا هنا نتحدث عن طريقة القرآن في الحديث عن الزواج والطلاق فنقول مستعينين بالله تبارك اسمه وجل ثناؤه :
الأصل في الزواج قول ربنا - تبارك وتعالى - (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء) وقبل ذلك نقول إن الزواج في كلام رب العالمين - جل جلاله - دلّ على مشروعيته العظمى وأنه من سنن الأنبياء , قال الله - عز وجل - : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) فقول الله -عز وجل- : (وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) مذكورة ضمن سنن الله - جل وعلا - على أنبيائه ومن ذلك قوله - تبارك اسمه وجل ثناؤه : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) وقوله تبارك اسمه وجل ثناؤه :(وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) وغير ذلك من الآيات الدالة على مشروعية النكاح مع اختلاف العلماء بعد ذلك في التفصيل الفقهي له . فإذا عدنا إلى الآية التي صدًرنا بها الحديث وهي قول الله - عز وجل - : (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء) فإن العلماء اختلفوا - مع اتفاقهم على مشروعيته - هل هو مستحب أو واجب أو مباح أو غير ذلك والحق أنه يُنظر إلى صاحب الحال - الرجل نفسه - فقد يكون في بعض أحواله واجبا عليه وقد يكون في بعض أحواله غير واجب عليه وهذا له متعلقات ليس هذا مقام التفصيل فيها لكنني أتحدث إجمالا عن الزواج في كلام رب العالمين جل جلاله .
/ سمى الله جل وعلا عقد النكاح ميثاقا غليظا , قال ربنا : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) والفقيه من يستصحب هذا الوصف القرآني عند الحكم على مسائل الطلاق و سيأتي إن شاء الله تعالى، هذا من حيث التأصيل الأول .
اختلف العلماء قلنا في وجوبه وبيّنا أننا نرجح أن هذا يتعلق بحال كل فرد ، هذا بالنسبة للرجل , أما بالنسبة للمرأة فالأظهر - وعليه جماهير العلماء من السلف و الخلف - وقد يكون إجماعا أنه يُقال لا يجب عليها الزواج والقائلون بهذا يحتجون بما رواه ابن أبي شيبة بسند حسن من حديث أبي سعيد - رضي الله تعالى عنه وأرضاه - أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : يا رسول الله إن ابنتي هذه تأبى أن تتزوج . فقال - صلى الله عليه وسلم - لها : أطيعي أباك , قالت
: يا رسول الله حتى أعرف ما حق الزوج . فقال لها - صلى الله عليه وسلم - لو كان به قرحة فلحستها - أي زوجته - أو أن منخريه سالا دما أو صديدا فلحستهما ما أدًت حقه . فقالت المرأة - الفتاة ،البنت - بعدما سمعت هذا ، قالت : والذي بعثك بالحق لا أتزوج , فقال - صلى الله عليه وسلم - (لا تُنكحوهن إلا بإذنهن) فهذه حجة من قال من جماهير العلماء من السلف والخلف على أن المرأة لا يجب عليها الزواج , لكن بلا شك إذا خافت على نفسها الفتنة فالأمر يختلف . لكنني أنا أتكلم هنا في التأصيل العام .
الخِطبة جاء بها الشرع و الموافقة عليها وعدٌ وليس عقدا , أي لا يترتب على الخطبة أثر , اللهم إلا أن يكون مروءة في إتمام ما وعد به.
وللخطبة في الشرع أحوال وصور: الحالة الأولى: وهي الأشهر وعليها عمل المسلمين أن يخطب الرجل المرأة من وليًها , والنبي - صلى الله عليه و سلم - طلب عائشة من أبيها أبي بكر - رضي الله عنه وأرضاه- .
الحالة الثانية : أن يخطب الرجل المرأة من نفسها إذا كانت رشيدة عاقلة لكن خطبته إياها من نفسها لا يعني ذلك أنها هي التي تتولى إتمام العقد والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعث حاطب بن أبي بلتعة ليخطب له أم سلمة , وبعث أسامة بن زيد ليخطب له زينب بنت جحش .
والحالة الثالثة : أن يعرض الولي ، ولي المرأة ،ولي الزوجة ،ولي الفتاة ،يعرض موليته على من يريد أن يُنكحها إياه , وهذا جاء به القرآن في خبر نبي الله موسى مع العبد الصالح قال : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) فهذا من الأدلة على جواز أن يعرض ولي المرأة المرأة على من يرغب أن يُنكحها إياه. هذه الأحوال في خطبة الرجل للمرأة كما بيًنا.
الحالة الخامسة : أن تعرض المرأة نفسها على الرجل هذا وإن دل الشرع عليه إلا أنه لا يحسُن القيام به خاصة في زماننا هذا لأنه قد يفقهه الرجل على غير مراده فيكون من الفتن ومن السوء ما الله - جل وعلا - به عليم . والناس قد يؤملون خيرا فيمن ظاهره الصلاح لكنه ينبغي للعاقل أن يحتاط لنفسه، أن يحتاط لعرضه ،وينبغي للمرأة أن تحتاط لنفسها، تحتاط لأهلها، تحتاط لعرضها . هذا ما يتعلق بالخطبة التي هي قبل الزواج .
/ ماذا يرى الخاطب من المرأة التي يرغب أن يخطبها ؟
أهل العلم متفقون تقريبا على أنه يرى وجهها وكفيها واختلفوا فيما زاد على ذلك والأظهر أن رؤية المخطوبة أذِن به الشارع أي جاءت الأحاديث بالترغيب به , فإذا كان كذلك فإن المرأة في النظر إليها حال كونها مخطوبة ، بمعنى حال كون الرجل يرغب أن يخطبها فإن من حقه أن يرى منها ما يدفعه إلى نكاحها ولهذا قال بعض أهل العلم يرى منها ما يغلب للمراة أن يراه منها محارمها ، ما يغلب على الظن أن محارمها يرونه منها قالوا يُقبل أن يراه الخاطب كالرقبة والذراعين والقدمين فقالوا هذا يُرى بإذن الشارع وبعض أهل العلم - وهذا عندي أرجح - يرى أن هذا يتم لكن لا يتم حال كونه يأتي إلى المنزل بمعنى أنه لو أتى الخاطب إلى بيت المرأة التي يريد خطبتها فله أن يرى وجهها وكفيها تدخل عليه بوجود محارمها فيرى وجهها وكفيها لكن إن أراد أن أن يرى ما زاد على ذلك فهو يحتال لنفسه , أو يبعث امرأة مأمونة من لدنه ترى ذلك وتخبره بها ، أما أن يكون ذلك بمحضر عام فيغلب على الظن أن كثيرا من أهل الفضل قد لا يقبل به وإن كان عدم قبوله لا يدل على أنه محرم والعلم عند الله .
ثم بعد ذلك يكون عقد الزواج وهذا العقد جاء الشرع بإعلانه حتى يُفرق ما بين السفاح والنكاح وإعلانه يكون بالإشهاد عليه والدعوة إلى وليمة تُعد له، أي لإظهار إقامته وعلى هذا سنه رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعه من الأصحاب والأخيار إلى يومنا هذا وعليه عمل المسلمين وإن كان الناس قد دخلهم من المبالغة في هذا الأمر ما دخلهم . نسأل الله لنا ولكم العافية .
إذا تم هذا كله، قلنا إن اللقاء ليس فقهيا ولكنه لقاء يتعلق بالتفسير، بالقرآن , ينبغي لكل من الزوج والزوجة أن يرقُب الله - جل وعلا - كل أحد منهما في الآخر بتقوى الله - تبارك اسمه وجل ثناؤه - حتى يتم لهما الحياة السعيدة والمطلب الحسن وعلى هذا يُوصى الكل بتقوى الله , لكننا نجمل بعض ما يكون معينا على هذا الأمر :
الأمر الأول : أن يُضمر الإنسان في قلبه عدم البغض و الخيانة مع من يألفه والزوجة أولى بهذا من غيرها ولا ريب أن السرائر والطوايا لها شأن عظيم في حال الناس في قرب بعضهم من بعض لأن الخيانة منبوذة على كل حال , مع أهل الكفر منبوذة فكيف بمن كتبها الله أن تكون في بيتك ،وكيف بمن كتب الله لك أن يكون معكِ في بيتِك .
عظًم الله - جل وعلا - حق الرجل وقال : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) وهذه القوامة ينبغي للمرأة أن تستصحبها وأن تعلم أن الله - جل وعلا - آتاها الرجل فتعرفُ فضل زوجها عليها كما مر معنا في الحديث الأول الذي ذكرناه من رواية أبي سعيد من ما رواه ابن أبي شيبة بسند حسن . وقد ذهب معاذ بن جبل الصحابي الجليل إلى الشام فرأى الناس يعظمون أساقفتهم من النصارى ويسجدون لهم - سجود تحية - وكان في قلب معاذ من الحب العظيم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أنه -بقدر الله- معاذ لم يشهد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة كان في اليمن والنبي أخبره وهو يودعه أنه سيأتي المدينة فلا يرى إلا قبره - صلى الله عليه وسلم - فبكى معاذ يومها، يوم أن ودعه رسول الله وهو غادٍ إلى اليمن فكأن بكاءه ذلك سبق بكاءه لو كان حاضرا يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، موضع الشاهد منه أن معاذا لما عاد من الشام لقي النبي - عليه الصلاة والسلام - ولا ريب أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - في عيني معاذ أكبر من رأي أولئك الأساقفة في أصحابهم وأتباعهم . فلما رأى النبي سجد له سجود تحية فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكمل معاذا سجوده وقال : يا رسول الله إنني قد أتيت الشام فرأيتهم يصنعون كذا وكذا فقال - صلى الله عليه و سلم - : (لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظيم حقه عليها) ولا يظنن أحد أن هذا يعني أن يكون للزوج تسلط غير شرعي على زوجته بل إن إكرامهن - أي النساء - من دلالة عقل الرجل و مروءته وتقواه خاصة إن كانت ليست بذات قوى، أي ليس لها إخوة ليس لها أب وما أشبه ذلك من النساء المنقطعات سواء عند زواجه منها أو بعد فإكرامها في هذا الباب أولى ،وقد مر معنا ومعكم في دروس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل خيبر منتصرا فُتحت خيبر كانت صفية بنت حيي بن أخطب وهي امرأة يهودية بنت زعيم يهود حيي بن أخطب و كانت من أجمل نساء العالمين وقعت بسهم أحد الصحابة فقيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا ينبغي أن تكون إلا لك فعوّض النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابي الذي وقعت صفية في سهمه ثم أخذها فأصبحت سبيا له ثم أعتقها و تزوجها من هنا أخذ العلماء دليلا على أن المرء له أن يتزوج موليته ، ودليله أيضا ما روي أن سعد بن أبي وقاص - رضي الله تعالى عنه وأرضاه - قالت له امرأة : إنه خطبني فلان وفلان وفلان أي ذكروني وقد ولّيتك أن تختار لي - يعني فوضتك أن تزوجني- فأعطته أمر نفسها و يظهر أن المرأة لم يكن أبوها أو أحد إخوتها أو أعمامها حيا فقال لها : أتقبلين بمن أختار لك؟ أي أن الأمر كله بعد الله لي أنا، نائب عنك ؟ فقالت : نعم . فقال : قد تزوجتك , فتزوجها هو , وهي قد أنابته ليختار لها فقبلت وتم العقد . فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ صفية على أنها سبي ثم أعتقها ثم تزوجها فلما كانت في ملكه أصبح هو وليها فتزوجها من نفسه عليه الصلاة والسلام وقلنا هذا دليل على أنه يجوز للرجل أن يتزوج مُوليته يعني من جعلته يتولى أمرها في النكاح , طبعا لابد أن تكون غير ذات محرم، فتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - صفية وهي من يهود، ثم أولم صلوات الله وسلامه عليه أي أقام طعام، ثم دخل بها المدينة وجعل لها حجرة ضمن حجرات أمهات المؤمنين ،وعلم النبي عليه الصلاة والسلام أنقطاعها وأنه لا أحد يدخل عليها من والد أو ولد لأنها قدمت من خيبر من يهود، فكان عليه الصلاة والسلام يُراعي غربتها ويعرف حقها , وقد مر معكم أنه عليه الصلاة والسلام في حديث الاعتكاف المشهور جاءته صفية فتحدثت معه وهو في المسجد فلما انقلبت إلى حجرتها تبعها ولما رآه الرجلان وأسرعا في الحديث قال : على رسلكما إنها صفية . وقالا له : يا رسول الله قولا معناه كيف مثلنا يقدح فيك أو يمكن أن يأتي على ذهنه على خلده شيء فيك ؟ فبيّن صلى الله عليه وسلم الأمر بقوله : (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) . ولهذا قال العلماء "رحم الله عبدا دفع المغبة عن نفسه" , والعاقل لا يٌعرٍض نفسه للشبهات، ولو وقع بينه وبين أخيه وبينه وبين جاره بينه وبين زميله ما يقع فإن عليه أن يتحرج و يبين الأمر و يدفع الشبهة حتى يكون على بينة من أمره .
كذلك ما يقال في الزواج مما يعين فيه أن الله تبارك وتعالى قال : (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) وهذا سيأتي في حال الطلاق ، لكن الإمساك بالمعروف المقصود أن الإنسان يعاشر زوجته بالمعروف كما تُلزم المرأة بأن تعاشره بالمعروف ،والكلِم الطيب واللفظ الحسن واحتمال الأذى وغض الطرف عن العثرات كل ذلك مما تُؤلف به القلوب , وينبغي أن يُعلم أنه مُحال أن يكون هناك بيت لا يخلو من أخذ وعطاء، من قول و فعل، من غضب ورضى، هذا لابد منه لكن إن وجد ذلك فإن الشرع قد أظهر لنا ما الطرائق المثلى لأن يتجنب المرء ذلك ،يخرج الإنسان إن رأى أن في بقائه ضرر , يجلس إن كان قائما ، يتوضأ إن خاف على نفسه أن تخرج منه كلمة غضب ،وأمثال ذلك من الطرائق، وليس ملزما بالبقاء وأن يملك قراره ، أمره ، لفظه خيرا له من أن يقول لفظا أو أمرا أو قرارا ثم يندم عليه .
وأعود فأقول فإن جماع الأمر كله تقوى الله وعدم إضمار النية غير المحمودة وهذا في كل شأنك ،وكل أمرك. الله يقول : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) وفي الحديث : (إنما الأعمال بالنيات) وكم غلبت نوايا طيبة نوايا ناس كان فيها ما فيها -عياذا بالله- من المكر والخداع وغير ذلك ويأبى الله إلا أن يتم نوره .
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضى وألبسني وإياكم لباسي العافية والتقوى وصلى الله محمد و آله والحمدلله رب العالمين .
________________________________
شكر الله لمن قامت بتفريغ الحلقة وجزاها عني كل خير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق