د. محمد بن عبد العزيز الخضيري
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين أما بعد :
أيها الأحبة هذا هو المجلس الثاني من مجالس هذه الدروس التي نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يبارك لنا فيها جميعا وهي
شرح مقاصد السور وقد بيّنا في المجلس بعض المقدمات المهمة حول هذا العلم والمقصود به ، تعريفه والفرق بينه وبين موضوعات السور
ونحو ذلك ، واليوم نتحدث في قضيتين مهمتين :
القضية الأولى: هي قضية تأصيل علم مقاصد السور وبيان أنه علم معتبر وأن له أصلا عند
السلف الصالح ، وأنه ليس من بدع الزمان وليس من الأمور التي اخترعها الناس من دون أن يكون لهم فيها سابق علم أو سابق علماء بحثوا هذا الأمر
وتكلموا فيه يقول البقاعي - رحمه الله - مؤكدا في كتابه (مصاعد النظر في مقاصد السور) "وقد كان أفاضل السلف يعرفون هذا العلم بما في سليقتهم
من أفانين العربية ودقيق منهاج الفكر البشرية والنوازع العقلية ثم تناقص العلم حتى انعجم على الناس وصار حد الغرابة كغيره من الفنون"
مثل علم النحو والإعراب كانت معلومة عند العرب وكانوا يعرفونها ولكن لم تكن مقننه ولم تكن لها مقدمات ولم يكن هناك أحد يُميزها عن سائر فنون العلم
فكذلك هذا العلم كان معروفا عند السلف الصالح وكانوا يُعنون به ولم تكن عنايتهم به كعنايتهم ببيان آيات القرآن وفهم ما أنزل الله - سبحانه وتعالى - من الكتاب
ولكن كانت لهم عناية كما سنبين بعد قليل . ومما يدل لهذا الأمر :
- الأول : بناء القرآن على مقاصد عامة ترجع إليها معاني سوره وآياته فنلاحظ أن القرآن بُني على مقاصد عامة وأن القرآن جاء يدور حول هذه المقاصد
ويؤكدها بأنواع المؤكدات من ذلك : مقصود التوحيد لله - عز وجل - تجده بين ، واضح وظاهر في كتاب الله - عز وجل - من أول القرآن إلى آخره
هذا المقصود جاء القرآن ببيانه بألوان وأساليب منوعة مختلفة ولذلك نجد أن القرآن يؤكد على التوحيد بطرق متعددة جدا مرة يذكر الأنبياء ودعوتهم ، ومرة يذكر مآل أو حُجج
المشركين ويرد عليهم ، ومرة يضرب الأمثال في هذا الباب ويُبين أن التوحيد هو المقصود ، ومرة يأمر ومرة ينهى ومرة يقُص ، كل هذا يدور حول مقصود واحد .
كذلك تعبيد الناس لله - سبحانه وتعالى - هذا مقصود أيضا من مقاصد سور القرآن . فإذا عرفنا أن القرآن قد بُني على مقاصد وأن جميع آياته تدور حول هذه المقاصد
وتؤكدها عرفنا أن مقاصد سور القرآن هي جزء من مقاصد القرآن ، وأن القرآن قُسم على سور وكل سورة منه تنحو بطريقة معينة إلى تحقيق مقصد أو أكثر من مقاصد القرآن العامة .
- الثاني مما يدلنا على تأكيد وتأصيل هذا العلم : تقسيم القرآن إلى آيات وسور فالآيات مُقسم على آيات وسور وتقسيمه على آيات وسور يدلنا على هذا الأمر يقول صاحب الكشاف - الزمخشري - في فوائد تفصيل القرآن وتقطيعه سورا يقول " فإن قلت ما فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سورا ؟ قلت ليست الفائدة في ذلك واحدة " ثم عدد بعض الفوائد في تقطيع القرآن على سور قال " ومنها أن التفصيل بحسب تلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها لبعض وبذلك تتلاحق المعاني والنظم" . يعني أن كل معنى يُجمع في مكان معين ويُحدد فتبدأ السورة به وتنتهي أيضا به، وتؤيد بعدد من القصص وذكر للأنبياء وأخبارهم مع أممهم، وذكر لأمثال متعددة ، وأوامر ونواهي ، ومحّاجة ومجادلة وغير ذلك مما يؤيد هذا المقصود ويدعمه دعما واضحا . فأنت عندما تنظر مثلا إلى سورة الكافرون تجد أن هذه السورة جاءت لبيان إخلاص الدين لله تعالى من أولها إلى آخرها يقول الله - عز وجل - (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ*لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ*وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ*وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ*وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ*لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) انظر للسورة التي بعدها (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) موضوع آخر وقضية أخرى ، فهذه السورة انتظمت مقصودا معينا وهو توحيد العبادة لله - عز وجل - ونفي جميع المعبودات من دون الله وأن دين الله الذي بُغث به الأنبياء لا يمكن أن يلتقي مع دين المشركين في منتصف الطريق وليس هناك حل متوسط يمكن أن يلفق دين التوحيد بدين الشرك بل (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) انظر كيف جُمع هذا المقصود الذي هو أحد مقاصد القرآن العامة في سورة لها بداية ولها نهاية ، ولها آيات كل آية تأخذ حيزا من هذا المقصود وتحققه ، وهكذا عندما تنظر مثلا إلى سورة القيامة التي تحدثت عن القيامة ، أو سورة الانشقاق التي تحدثت عن أهوال واحداث يوم القيامة ، وهكذا مثلا عن سورة الشمس التي تحدثت عن تزكية النفس وكيف أن الله - سبحانه وتعالى - أكد هذا المقصود بأقسام كثيرة وقال - بعد أن ذكر تلك الأقسام الكثيرة (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) ثم ذكر بعد ذلك قصة ثمود وإذا تأملت ما مناسبة هذه القصة لمقصود هذه السورة والمُقسم عليه في هذه السورة وجدت أنه متلائم (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا*كَذَّبَتْ ثَمُودُ) بأي شيء؟ بسبب طغواها ، كذبت هذه الأمة بسبب طغيانها لأنها لم تزكِ أنفسها ، لم تخف من الله ، لم تتذكر اليوم الآخر ، لم تقنع بالأدلة التي جاء بها نبيها صالح - عليه الصلاة والسلام - لقد جيئ لهم بآية من أعجب الآيات التي أيد بها الله - عز وجل - الأنبياء وهي الناقة التي تخرج من صخرة وتسقي أمة كاملة بحليبها لها شرب - تشرب في يوم - فتسقيهم من لبنها ويشربون هم من يوم آخر ، آية عجيبة ومع ذلك كذبت هذه الأمة لأنها لم تزكِ أنفسها لله ولذلك كانت العقوبة (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا*وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا) أي لا يخاف العاقبة مما أنزل بهذه الأمة لأنه بيده ملكوت كل شيء وهو القادر على كل شيء وهو الذي يعلم كيف تنزل هذه العقوبة وماهي آثارها ونتائجها ، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون . ملوك الأرض قد يُنزلون عقوبة بأمة من الأمم ولكنهم يتوقعون ردة فعل قد تقضي على ملكهم وقد تُدخلهم في بلابل وحروب وفتن ومشاكل لا يعلم علمها إلا الله - سبحانه وتعالى - . فانظروا يا إخواني كيف أن السورة كلها جاءت لتحقق مقصودا من مقاصد القرآن العظيمة وتُهيئ لهذا المقصود بمقدمات ونهايات وأمثلة وشواهد ، وضرب بشواهد تاريخية ، وما أسباب اختيار هذا الشاهد دون غيره لأنه مثال ظاهر ، ولأنه مثال يصلح لهذه الأمة التي بُعث فيها محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن ثمودا هذه التي ضُرب بها المثل قريبة من ديار القوم الذي أُنزل عليهم القرآن وهم أهل مكة يعرفون ديارهم ويمرون بهم في كل رحلة يذهبون بها إلى شمال الجزيرة العربية أو إلى بلاد الشام ، تذكروا أنكم تمرون بهؤلاء ، وأن سر العقوبة العظيمة التي حلّت بهم أنهم ما استجابوا ، ما أذعنوا وأطاعوا ، ما اتقوا الله ، ما خافوا منه ولا من عقوبته بعد أن جاءتهم الآيات بينات وهكذا أنتم أيها الأمة إن لم تستجيبوا لما أنزله الله عليكم على هذا الرسول الكريم وتُذعنوا وتصدقوا وتطيعوا فليحِلن بكم ما حلّ بهم . يقول "مما يؤكد هذا أن كلمة سورة أيضا تعني أنها بمثابة سور يُحيط " يحيط بشيء معين وهكذا السورة فإن لها بداية ونهاية وأنها محيطة بشيء معين محدد ، قد يتعدد هذا الشيء وقد يتحدد.
يقول البقاعي - رحمه الله - "السورة تمام جملة من المسموع يحيط بمعنى تام بمنزلة إحاطة السور بالمدينة" . ويقول ابن عاشور في التحرير والتنوير "السورة قطعة من القرآن معينة بمبدأ ونهاية تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام ترتكز عليه معاني آيات تلك السورة " انظر "في غرض تام ترتكز عليه معاني آيات تلك السورة" ومما يؤكد هذا أن الله - عز وجل - لما تحدى العرب بأن ياتوا بمثل هذا القرآن تحداهم أن يأتوا بسورة ، (بسورة مثله - بسورة من مثله - بعشر سور مثله مفتريات) فتُذكر السورة في مقام التحدي لماذا؟ لأن السورة يقع بها الإعجاز ، الإعجاز في الألفاظ ، الإعجاز أيضا في المعاني والإحاطة بالمقاصد والموضوعات .
قال ابن عاشور "وإنما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار سورة من الآيات" يعني لم يُذكر ثلاث أو أربع أو خمس آيات من سورة "لأن من جملة وجوه الإعجاز أمورا لا تظهر خصائصها إلا بالنظر إلى كلام مستوفى في غرض من الأغراض" فالسورة تأتي لتستوفي معنى من المعاني وتؤكد عليه وتأتي بكل ما يُكمّل ذلك المعنى .
قال "وإنما تنزل سور القرآن في أغرض مقصودة فلا غنى عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض واستيفاء الغرض المسوق له الكلام .
- الثالث مما يؤكد ويؤصل لهذا العلم : أن هذا القرآن نزل مُحكما قال اللهُ – عزّ وجلّ -(الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) ، اسمعوا ماذا يقول ابن كثير –رحمه الله – في (بيانِ إحكامِ القرآن) قال: "أماَّ قوْلُهُ (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) أي: هي محكمةٌ في لفظِها، مفصَّلةٌ في معناها، فهو كاملٌ صورة ومعنى هذا معنى ما رُوِيَ عن مجاهد وقتادة واختاره جرير". إذا قوله ( أُحْكِمَتْ) هذا الإحكام لابد أن ينتظم أمرين :
- إحكام الألفاظ بحيث يكون في قمة البلاغة والجزالة، والقوّة والتّرابُط اللفظي والسلاسة، وجرْس هذه الكلمات لذيذ في الأسماع تطرب له القلوب وأيْضاً قمّة في إحكامِ المعنى، بحيث لا يمكن أن تستدرك على المعنى الّذي جاء في الآيةِ، أو في السّورة أن تستدرك عليه بوجهٍ من الوجوه، فهو يأتي مكتمل من جميع جوانبه لا ينقص من زاويةٍ من الزّوايا بما يُناسِب غرض السّورة الّتي جاء فيها وسنبيّن ونؤكد ذلك في بعض الشّواهد التي ستأتي بعد قليل.
- الرّابع ممّا يُؤصِّل لهذا العلم : ظهور الفرق بين السّور المكيّة والمدنيّة؛ فأنت تستطيع أن تعرف أنّ هذه السّورة مكيّة، وهذه السّورة مدنيّة من النّظر إلى موضوعاتِها، ممّا يدلّ على أنّ القرآن بُنِيَ على موضوعات ومقاصد محدّدة كلُّ سورةٍ قد أخذت بجزء من ذلك المقصود أو بثغرةٍ من ثغراتِ مقاصد القرآن واستوفتها من جميع زواياها.
انظر مثلاً: عندما تقرأ: (عَمَّ يَتَسَاءلُونَ *عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ *الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) لا تشكّ بأن هذه السّورة مكيّة.
وعندما تقرأ: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ * فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ * ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا ) لا تشكّ في أنّ هذه السّورة مكيّة.
وعندما تنظر إلى قولِ الله – عزّ وجلّ -، أو إلى سورةِ النّساء الّتي اُفْتُتِحَت بقولِ الله – عزّ وجلّ - (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا *وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ....) تستمرّ الآيات تنزل على هذا المنوال إلى أن يأتي في آخر آية من الآيات فيقول: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ .... ) الخ الآية، لا تشكّ أنّ هذه الآيات لا يمكن أن تكون نزلت بمكّة، بل هي نزلت في المدينة. عرفنا: أنّ القرآن بمكّة يناقش موضوعات محدّدة، وفي المدينة يُناقش موضوعات أخرى لا تليق إلاّ بالمدينة وللمؤمنين الّذينَ كانوا مع رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، فهي تُعالج مشاكل وقضايا المجتمع المسلم بخلاف مكّة تُؤسِّس العقيدة، وتُؤكِّد القضايا الأصليّة الّتي بُنِيَ عليها هذا الدّين. إذًا: نحن أمام قرآن قد فُصِّل في المعاني، أُحكِم في هذه المعاني، وهذا بيِّن من تقسيمات هذه السّور.
- الخامس ممّا يُؤصِّل لهذا العلم، ويُبَيِّن أنَّهُ ليس بدْعاً من القول: نزولُ القرآن على حسبِ الأحوالِ والحوادث ، لقد كان نزولُ القرآنِ مُنَجَّماً حسب ما تقتضيهِ الحوادث، والنّوازل، وما يتناسب مع الظّروفِ والأحوال، وما يتواكب مع المراحل الّتي مرّت بها الدّعوة، ثمّ جاء ترتيبُهُ في المصحف حسب ما كان في اللَّوْحِ المحفوظ؛ ولهذا كان النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كُلّ ما نزلت عليه آية يقول: " ضَعوا هذه الآية في المكانِ الّذي يُذْكَرُ فيه كذا وكذا " وهذا كلُّه بأمرٍ من اللهِ - سبحانه وتعالى - ، وهذا دليلٌ ظاهر على مقاصد السُّور حيثُ أنّ هذا التنجيم كان لحِكَمٍ عظيمة، منها:
- أن تنزلَ السُّوَر أو الآيات لغرضٌ معيَّن حسب ما تقتضيه الحال، وهذا مُؤكِّدٌ لتضمُّنِ السُّوَرِ للمقاصد، فالآيات تنزل؛ لِتُعالج مشكلة معيَّنة، فالنّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: " ضَعوها في المكان الفلاني " ؛ لأن هذا المكان هو أنسبُ شيْءٍ يُلَبّي أو يتناسب مع هذا الحَدَث. لماذا لم تُرَتَّب آيات القرآن ترتيباً تاريخيّاً بحيث كلّ ما نزلت آيات تأتي بعدَ الآيات الّتي قبلها وهكذا إلى أن ينتهي القرآن ؟ لا، بل ضعوا هذه الآيات في المكان الّذي يُذكَرُ فيه كذا وكذا، وهذا يدلّ على أنَّ كلّ آية من الآيات وُضِعَت في المكان المناسبِ لها من السّورةِ الّتي هي فيها؛ لِتُحَقِّقَ جزْءً من مقصودِ تلك السّورة.
- السّادس ممّا يُؤكِّد ويُؤصِّل لهذا العلم: تسميةُ السُّوَر.
من أعظمِ الدّلائل كما يقول الدكتور - محمد الرّبيعة - على مقاصِدِ السُّوَر وضعُ أسماءِ السُّوَر بما يرمُزُ لمعانيها الدّالّة على المقصَدِ منها . وقد اختلف العلماء هل أسماء السُّوَر توقيفية أو اجتهاديّة ؟ ولا شكّ عندنا أنّ جزءً منها تَوقيفي؛ كفاتحة الكتاب، وأمّ الكتاب، وأمّ القرآن، والبقرة، وآل عمران، والكهف، والفلق، أو المعوّذتين، وعدد من سُوَر القرآن قد جاء النّصّ في السُّنّة النّبويّة على أسمائها وبقيت أسماؤها إلى اليوم محفوظة، فهذه توقيفِيّة بلا إشكال، أو بإجماعِ العلماء، وهناك سُوَرٌ أخرى فيها محلُّ إشكال، لكن السيوطي – رحمه الله – في (الإتقان) وهو الكتاب المعروف الواسع في علوم القرآن يقول: " ثبت – يعني عنده – أنّ جميعَ أسماءِ السُّوَر بالتّوقيف من الأحاديثِ والآثار" فهو يرى أنّ أسماء السُّوَر توقيفِيّة، وأنّ هذه الأسماء الّتي بين أيْدينا مأخوذة من كلامِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - وكلامِ أصحابِهِ.
وقد أبان هذا الأمر البقاعي – رحمه الله – بالتجرِبة، في كتابِه (نَظْمُ الدُّرَر) فقال:
"وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورةِ سبأ في السّنةِ العاشرة من ابتِدائي في عملِ هذا الكتاب أنَّ اسمَ كُلِّ سورةٍ مُتَرْجِمٌ عن مقصودها؛ لأنَّ اسمَ كُلِّ شَيْء تظهَرُ المناسبةُ بينَهُ وبَيْنَ مُسمّاه الدّالّ إجمالاً على تفصيل ما فيه" فهو يرى أنّ اسم السّورة ما اختير على نحْوٍ معيَّن إلاّ لأنّه يدلّ على مقصودِها ويرمُزُ له، سواءً كانت دلالتُهُ مباشرة ؛ مثل سورة الإخلاص، وسورة أم الكتاب أو أمّ القرآن، أو كانت فيها إشارة إلى المقصود، وفيها نوع من أنواع الرّمزية لهذا المقصود؛ كسورة البقرة، فإنّك عندما تنظر إلى مقصود سورة البقرة، هو: أنّها سورة جامعة لمعاني الشّريعة؛ كما قلنا في الدّرس الماضي هي: كليّة الشريعة، ما مناسبة تسمية هذه السّورة بالبقرة ؟ المناسبة بعد التأمُّل تظهر في أنَّ اللهَ – عزّ وجلّ – أراد أن يُبَيِّن لنا أنّ أمَّة بني إسرائيل سُلِبَت الخلافة في الأرض؛ لأنّها كانت تتأبّى على الطّاعة وكانت لا تُطيعُ الأنبياء، ولا تنقاد بأمرِ الله – عزّ وجلّ – إلاّ بمشقّة وكُلفة، وعُسُر ظاهر، ولذلك سلب الله - عز وجل - منهم الخلافة في الأرض، والتّفضيل على العالمين، فيا أمّة محمّد احذَروا أن تكونوا مثلهم، وأدلّ ما يدلّ على ذلك قصّة البقرة، فإنَّ قصّة البقرة – يا أحبابي – ظاهرة في هذا الموضوع لمّا قال موسى لبني إسرائيل (أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا) طيب، ما شأنُكم في لونِها وما هي و (إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) اذْبَحوا بقرة ، أيُّ بقرة ؟ أسرعوا بالاستجابة واذبحوا أي بقرة،ولذلك النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - في صُلح الحُدَيْبِيَة لمّا كان معَهُ الصّحابة قد أحْرَموا كانوا يتشّوَّفونَ لأن يؤدّوا العمرة، فَمنِعوا بسبب بنود الصُّلح الجائر الّذي أوْقَفَهم وأنّهم لا يمكن أن يُؤدّوا العمرة إلاّ من عامٍ قابل، قال للصّحابة أحلوا، فتوقَّفوا ، فدخَلَ مُغْضَباً، وقال : " هَلَكَ أصحابي" كيف نبيُّهم يأمرهم بأن يحلّوا ولا يحلّوا ، فقالت له: أمُّ سَلَمة: " احلِقْ أنت يا رسولَ الله! حتى يحلِقوا " ؛ لأنّهم كانوا يتشوَّفون أن يُؤدّوا العمرة، ويتمنَّون أن يأتي شيْءٌ ينقض هذا الأمر، فخرج رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - وأمر بأن يُحْلَقَ رأسُه، فَحُلِق ، فَتَتابَعَ النّاسُ على ذلك حتى كادوا أن يقْتَتِلوا. فانظروا كيف هدد النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - بوقوعِ الهلاك على أصحابه لمّا تخلَّفوا عن الاستجابة، وتباطئوا عنها ، يعني فترة يسيرة جدّاً .
انظر ماذا يفعل بني إسرائيل؟ ماذا فعلوا ؟ يقول لهم اذبحوا بقرة (قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن....) إلخ ما ذكر، ولذلك هذه القصّة من أعجب ما فيها – تأمَّلوا هذا يا إخواني – وهو أمرٌ يخفى على كثير ممَن لا يتأمَّلون ولا يتدبّرون في كتابِ الله – عزّ وجلّ – إن سبب القصّة وبدايتها جاءت في نهايتها، والعادة أنّ القصّة تُذكَرُ البداية في البداية والنّهاية في النهاية، ولا تُقلَبُ الأحداث، فموسى يقول: اذْبَحوا بَقَرَة، لماذا يا موسى اذبحوا بقرة ؟ ما هو أصلُ المشكلة ؟ لماذا أمَرْتَ قومَكَ أن يذْبَحوا بقرة ؟ قال الله في نهاية القصّة: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) ، فقال لهم موسى: (اذْبَحوا بَقَرة) ثمّ لمّا ذبحوها، قال لهم: اضْرِبوا بعضها ببعض، أو اضربوا الميِّتَ ببعضِها (كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، فأوَّلُ القصّة مذكورٌ في آخرِها، ما هو السّرّ ؟ لماذا يُؤخَّرُ أوَّلُها ليُجْعَلَ في آخِرِها ؟ حتى يُبَيَّن هذا المقصود وهو: أنّ أُمّة موسى أُمّة عصيّة أبيّة لا تُريد أن تستجيب لأوامر الأنبياء، ولا تنقاد لهم ، لاحظتم هذا المقصود فلمّا أراد أن يُظهر لنا هذا الأمر، قدّم هذا الأمر وبدأ به، وترك سبب القصة وأصلها وبدايتها وأجّلها إلى الأخير، وإلاّ ما شعرتم الآن لماذا يأمر موسى قومه أن يذبحوا بقرة ؟ ما فكّرتم في هذا الأمر؟
ثم يأتي الجواب في آخر القصة: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) ما هو أصل القصّة ؟ قُتِلَت نفس في بني إسرائيل، فأصبحوا ، وأخذ بنو إسرائيل يتّهم بعضهم بعضاً مَن الّذي قتل هذا الرّجل، وأصبح أوْلِياءُ الدّم يُطالِبون بأن يُبْحَث عن القاتل، ويتَّهِمونَ أُناساً بِأعيانِهِم، فوقف بنو إسرائيل ليقْتَتِلوا، فقيل: كيف تقتتِلون وتختلِفون وفيكم نبيٌّ يُوحى إليه؟ فارفعوا أمرَكم إلى نبيِّكم، فرفَعوا الأمرَ إلى موسى، فأوْحى اللهُ إليه أن مُرْ بني إسرائيل أن يذبَحوا بقرة، ثمّ يضرِب الميِّتَ ببعْضِها، فسَيُعلِمهم الله – عزّ وجلّ – مَن هو القاتل؟ فقال لهم: اذبحوا بقرة. قالوا : (أتّتَّخِذُنا هُزُواً) ؟ نحن أتينا نسألك مَن القاتل تقول لنا: اذبحوا بقرة، قال : أعوذُ باللهِ أن أكونَ مِنَ الجاهلين . فلمّا عَلِموا أنَّ موسى جادّ، وأنَّهُ لم يكُن يُهْزَأ، وَحاشاه مِن أن يهْزَأ في مثلِ هذا الأمرِ العظيم، بدؤا يتباطئون: معقول يُأمَر من قِبَل الله بذبح بقرة باكتشاف القاتل إلاّ وهذه البقرة من نوع خاص، ما هي أي بقرة؟ .
انظروا – يا إخواني – إلى طريقة هؤلاء في استجابتهم لأوامرِ الله وأوامرِ رسولِهِ صلّى الله عليه وسلّم . (قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ) فلمّا قالوا ذلك، وشدَّدوا على أنفُسِهم ولم يستجيبوا من أوَّلِ وهلة شدَّد الله عليهم، فاحذَروا يا أمَّةَ محمَّد! أن تكونوا مثلهم! ولذلك قال النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم مرَّةً لأصحابِه: (إنَّ اللهَ كتب عليكم الحجّ ، فَحُجّوا) قام رجل من بين النّاس فقال: أَفي كُلِّ عامٍ يا رسولَ الله، فغضب النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم وقال ( لو قلتُ نعم لوجبت، ولو وجبت لَما استَطَعْتُمْ ذَروني ما تركتكم) يعني: (إنَّ اللهَ كتب عليكم الحجّ فحُجّوا) خلاص إذا أدَّيْت هذا الحجّ مرّةً فقد أدَّيْتَ ما أُمِرْتَ به، هل قلت عليه لكم: " إنَّ اللهَ كتبَ عليكم الحجّ كُلَّ عامٍ فَحُجّوا " فلماذا تُنَقّرون، وتُدَقِّقون في أمرٍ لو شئت لنقّرْتُ فيه ودقَّقت (ذَروني ما تركتم) أسرعوا وبادروا بالعمل والاستجابة . وهذا الأمر – يا إخواني – وهو تسمية السُّوَر يُؤكِّد ما ذكرْنا من أنَّ مقاصد سُوَر القرآن معروفة معلومة.
انظر مثلاً: إلى سورة الفاتحة تُسَمّى أُمَّ القرآن، وكلمة أُمَّ القرآن ليست موجودة في سورة الفاتحة ، فكيف اُختير اسم أُمَّ القرآن لسورةٍ ليس فيها هذا اللّفظ؟ لو كانت أسماء السُّوَر أسماءَ عَفْوِيَّة يُراد بها التّمييز المُجَرَّد، ما قيل لسورةِ الفاتحة الفاتحة أو أُمّ الكتاب، أو أُمَّ القرآن، أو الشّافية، أو الكافية، أو الصّلاة، أو غير ذلك من الأسماء الّتي سُمِّيَت بها هذه السّورة، ممّا يَدُلُّك على أنّ كُلَّ سورةٍ سُمِّيت باسمٍ، فإنَّ هذا الاسم مقصودٌ فيها ويَدُلُّ على مقصودِها، وسَنُبيِّن – إن شاء الله – في الدّروس القادمة، لماذا سُمِّيَت سورة الفاتحة بِأُمّ القرآن، وما صِلَةُ ذلك بمقصودِها ؟.
وانظروا – يا إخواني – إلى سورة الصّمد تُسمّى سورة الإخلاص، هذا الاسم لسورة الصّمد ليس مذكوراً فيها (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) فلم تذكُر كلمة الإخلاص في هذه السّورة، ومع ذلك سُمِّيَت سورة الإخلاص، لماذا ؟ لأنَّهُ نُظِرَ في الإسم إلى المعنى الّتي تضمَّنَتْهُ هذه السّورة، فهذه السّورة خالصةٌ في ذكرِ اللهِ – عزّ وجلّ – تُحَقِّقُ الإخلاص في قلبِ العبد، فمَن صدَقَ فيها، وفهِمَ معناها، وقام بمقتضاها، فهو من أهلِ الإخلاص ولا بُدّ، ولذلِك يُلاحظ أن هذه السّورة تُقرأ في أوْقات ومناسبات يُراد بها تأكيدُ الإخلاص، فهي تُقْرَأ في بداية اليوم : في الصّباح، وفي المساء، وتُقْرَأ في ركعتَيْ الفجر، وتُقرَأْ في ركعتَيْ المغرب البَعْدِيَّتَيْن، وتُقْرَ آخر ما يقْرَأهُ الإنسان في يوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ؛ كأنَّهُ تأكيدٌ على أمرِ الإخلاصِ في أوَلِ النهار وآخِرِهِ، وتُقرَأ بعد الطّوافِ في البيت، لماذا؟ لأنَّ الإنسان إذا طاف في البيت يُمكن أن يُقال: أنَّهُ يعبُدُ البيت ولا يعبدُ ربَّ البيت، فيقولُ العبد: لا عبادةَ لي إلاّ لله، ولا ربَّ لي إلاّ الله، ولا أتَقَرَّبُ لِأَحَدٍ سِواه، فهو يُؤكِّد هذا المعنى، ولاحِظوا لعظمة المعنى الّذي جاءت به هذه السّورة يقرَأُها الإنسان في دُبُرِ كُلِّ صلاة، فهذا يدُلُّنا على أنّ هذه السّورة لها مقصود، وأنّ هذا الاسم ما وُضِع لها عبث.
وقد يرِد على هذا إشكال وهو: أنّ بعض السُّوَر لها أسماء متعدِّدة فما هو الجواب؟
نقول: إنَّ هذه الأسماء المتعدِّدة تدُلّ إما على موضوعاتٍ في السّورة تخدِم المقصود، أو كُلُّها تُشير إلى المقصود، فمثلاً: عندما تأتي إلى سورة الحمد يُقال: سورة الفاتحة، يقال سورة الصّلاة، وأمّ القرآن، وأمُّ الكتاب، السّبع المَثاني، فهذه الأوْصاف لا تجد أنَّها تتعارض، بل كُلُّ واحدٍ منها ينظُر إلى موضوع السّورة من وجهٍ معيَّن، أو يدلّ على شيْءٍ ممّا يُمَيِّزُها عن بقيّةِ سوَرِ القرآن.
أيْضاً ممّا يُؤصِّل لهذا العلم ويُؤكِّدُه: الأحاديث الواردة في فضائلِ السُّوَر، وتخصيصُ بعضِها بأوْقاتٍ معيَّنة. فلماذا يُفاضَل بين سُوَرِ القرآن ؟ لأنَّ مقصود هذه السّورة أعظم من مقصود هذه السّورة؛ فسورةُ الفاتحة أعظم من سورةِ النِّساء؛ لأنَّ المقصود في سورةِ الفاتحة أعظم من المقصود في سورة النِّساء، ولا يعني ذلك أنَّ هذا التّفضيل يعني أنّ المفضول في مرتبةٍ سافلة، لا ، كُلُّ كلامِ اللهِ عالي، وكُلُّهُ في الغاية من الكمال والإحكام والدِّقّة والبلاغة والعلوّ والرِّفعة في المعنى والمقصد، ولكنَّهُ يتفاضل، ولذلك قال النَّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: (ألا اُعَلِّمُك أعظمَ سورةٍ في القرآن) يقوله لأحدِ الصّحابة – رضوان الله تعالى عليهم - ممّا يدلّ على أنّ سوَرَ القرآن تتفاضل؛ كما أنَّ آيات القرآن تتفاضلُ أيْضاً، فهناك أعظم آية في القرآن؛ لأنَّ المقصود في هذه الآية أعظم من مقصود الآيات المجاوِرةِ لها، فسورة البقرة تجاوزت المئتين آية، وفيها آية أعظم آياتِ القرآن كلِّها على الإطلاق. انظُر إلى السُّوَر الّتي جاءت في جزْءِ عمَّ ! كثيرة جدّاً، ولكن أبلغ هذه السُّوَر وأعظمُها ما كان مقصودُه أعظم من بقيّة مقاصد تلك السُّوَر، سورة الإخلاص والمُعَوِّذَتَيْن، وسورة الكافرون، والزلزلة ... ونحوِها وردت فيها أحاديث وفضائل خاصّة تدُلّ على أنَّ هذه السُّوَر لها مقاصد، وأنَّ مقاصد القرآن ليست على مرتبةٍ واحدة، وأنَّ السّورة تفضُل بمقصودِها، السّورة تفضُل بما فيها من المقصود، فإن كان مقصودُها توحيدُ اللهِ – عزّ وجلّ – ازدادت الفضيلةُ فيها، وإن كان مقصودها مثلاً ذكرُ أخبار – مثلاً – الأُمم الماضية، أو التأكيد على شأن الضُّعفاء، أو بيان – مثلاً – المعاملات الماليّة، أو بيان بعض الأحكام والمسائل الزَّوجِيّة، فإنَّ أمرَ التّوحيدِ أعظمُ من ذلك، وأمرُ الإيمانِ بالآخِرة أعظمُ من هذه الأمور الّتي بيَّنّاها.
ممّا يُؤكِّد على هذا الأمر، وهو: أنَّ سُوَرَ القرآن لها مقاصد، ويُبَيِّن أنَّ للمقاصِدِ أصلاً: تَكرارُ القصصِ في السُّوَر. فإنَّ القِصّة الواحدة تُكَرَّر في عدد من السُّوَر، وتَكرار هذه القصّة في سُوَرٍ متعددة تُلاحظ أنَّهُ يختلف من سورة إلى سورة، ففي هذه السّورة يُذكَر جانب من القصّة، وفي هذه السّورة يُذْكَر بأسلوبٍ آخر مُغايِرٍ للقصّةِ الّتي وردت في السّورةِ الأخرى. انظر – مثلاً – إلى قصّةِ موسى – عليه السّلام -، تكرَّرَت في تسعِ سُوَر من القرآن الكريم، هذه السُّوَر التّسع ذُكِر في كلّ سورة ما يُناسب مقصود تلك السّورة. فمثلاً في سورة البقرة: ذكر الله – عزّ وجلّ – ما أنعم به عليهم، وما أمرَهم به، وكيف قابلوا هذه النِّعَم وجحدوها؛ حتى سلَبَهم الله – عزّ وجلّ – التّفضيل على العالمين، وبيَّن مخازيهم، وبيَّن الإشكالات الكثيرة الّتي ظهرت منهم؛ حتى فضحهم الله – عزّ وجلّ – بمعاصيهم، وقتلِهم للأنبياء وكفرِهم بآيات الله إلى آخرِ ما هنالك، وهذا مناسبٌ لمقصودِ السّورة. في سورةِ الأعراف ذُكِرَت قصّة موسى – عليه الصلاة والسّلام – مع قوْمِه بما يُناسب بداية أمر بني إسرائيل؛ لأنَّ سورة الأعراف سورة مكيّة، وسورة البقرة سورة مدنية. ففي سورة الأعراف ذُكِرَت البدايات، وكيف نشأت هذه الأُمّة؟ وكيف قامت؟ وماذا حصل لهم حتى أنجاهم اللهُ – عزّ وجلّ – من عدُوِّهم. في سورة البقرة ذُكِرَت مخازي بني إسرائيل في عهدِ موسى إلى عهدِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم؛ حتى قال الله – عزّ وجلّ – في حقهم (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فيذكر الله – عزّ وجلّ – أنّ هذه الأُمّة قد طُمِسَت بصائرُها، وقد علا على قُلوبِها الرّان – نسأل الله السلامة والعافية – بسببِ طغيانِهم، ولذلك يقول هنا انظر إلى المخالفة في الألفاظ بحسب المناسبة والمقصود.
في سورةِ الأعراف يقول: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا)
وفي سورة البقرة يقول: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) .
في سورة الأعراف: "انبَجَسَتْ" وفي سورة البقرة : "انفَجَرَتْ" ؛ لأنَّهُ لمّا كان يُعَدِّد النِّعم يُناسب الانبجاس الّذي هو أوّلُ الانشقاق أو الانفجار؟ الانفجارّ حتى يُبَيِّن أنّ الله أنعم عليهم حتى كفروا تلك النّعم، فسَلَبَهم الخلافة، وبدَّلَهم بأُمّةِ محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم الّتي أطاعت وانقادت واستجابت بأمرِ الله - عزّ وجلّ -. ففي سورة البقرة يذكر الانفجار الّذي هو شدّة جريان الماء وانبعاثه من الصّخر. في سورةِ الأعراف؛ لأنّها سورة مكيّة ذكر الانبجاس، والانبجاس أوّلُ الانشقاق، فأوّل ما تنشق الصخرة يُسمّى هذا انبجاسا قال: (فَانبَجَسَتْ)، وفي سورة البقرة : (فَانفَجَرَتْ). إذاً : (انفجرت ، انبجست) يدُلاّنِ على مقصودٍ واحد، وهو الانشقاق، لكنَّ الانبِجاس، هو: أوّلُ الانشقاق، والانفجار هو غايتُهُ ومنتهاه . ذُكِر هذا هنا، وهذا هنا لمناسبة كلِّ واحدٍ منهما للمَقامِ الّذي ذُكِرَ فيه.
أيْضاً ممّا يُؤصِّل لهذه المقاصد الآثار الواردة عن السّلف في بيانِ المقاصد ، وهذا يمكن أن نذكُرَهُ من عدَّةِ وُجوه:
الوجه الأوَّل: ما ورد عنهم من تحديدٍ لغرَضِ السّورةِ بالتعبيرِ عنها بوصفٍ أو اسم دال على الغرض فقد يرِد عنهم – رضي الله تعالى عنهم – ما يدُلّ على وصفِ السّورة باسم، أو وصف يُمَيِّزُها، ويَدُلُّ على مقصودِها، ومن ذلك: ما ذكروا في سورة التّوبة، أخرج البخاري عن سعيد بن جُبَيْر، قال: قُلْتُ لابنِ عبّاس سورةُ التّوبة. قال: " التوبة هي الفاضحة " . انظروا: يصفُها بأنّها الفاضحة. ليُدَلِّل على مقصودِها قال: "ما زالت تنزل ومنهم، ومنهم؛ حتى ظنّوا أنَّها لم تُبقِ أحداً منهم إلاّ وَذُكِرَ فيها". فهي سورةٌ نزلت في فضحِ المنافقين، فابن عبّاس يصف سورة التّوبة بأنّها الفاضحة. من أين جاء بهذا الوصف في هذه السّورة ؟ لمّا علِمَ أنَّ مقصودَها هو الحديث عن المنافقين، كشف مخازيهم، بيان أوصافهم، قال: هي الفاضحة، وهذا الحديث رواه البخاري .
ونقل السّيوطي عن عِكرِمة قال : قال عُمَرُ – رضي الله عنه – "ما فُرِغَ من تنزيل براءة – يعني سورة التّوبة – حتى ظنَّنّا أنَّهُ لم يبقَ مِنّا أحدٌ إلاّ سينزِلُ فيه، وكانت تُسمّى الفاضحة" يعني: كانت تُسمّى عندَ الصّحابةِ في عهدِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم الفاضحة؛ لكثرة ما ورد فيها من فضائح للمنافقين، ومنهم، ومنهم، ومنهم، ومنهم، ومنهم؛ حتى خشِيَ الصّحابة على أنفُسِهم أن تُكْشَف أستارُهم أو تُهْتَك.
وسمّاها ابن عُمَر ( بالمُقَشْقِشة ) كما نقل السيوطي عن زيد بن أسلم (أنَّ رَجُلاً قال لعبدِ اللهِ بن عُمَر: سورةُ التّوبة ، فقال ابن عمر: وأيَّتُهُنَّ سورةُ التّوبة ! ؟ فقال: براءة. ، فقال ابنُ عمر: وهل فعل بالنّاسِ الأفاعيل إلاّ هي ؟ واللهِ ما كُنّا نَدْعوها إلاّ المقشقِشة) . وجهُ تسميتها بذلك؛ لأنّها تُبَرِّئُ من النِّفاقِ والشرك، وكلا التّسمِيَتَيْن دالَّتَيْنِ على الغرض، وهو كشفِ أحوالِ النّاس، ومواقفهم من الدّين والقتالِ في سبيله، ولذلك سُمِّيَت بالتّوبة؛ إشارةً إلى حال المؤمنين، وسُمِّيَت بالفاضحة إشارة إلى حال المنافقين، وسُمِّيَت براءة إشارة إلى حال المشركين، وهذانِ الأثَران، وهما الأثر عن ابنِ عُمَر وابنِ عبّاس من أهمِّ الآثار الدّالّة على علمِ مقاصِد السُّوَر. فتأمَّل سؤالَ سعيد بن جُبَيْر لابن عبّاس عن السورة، وجواب ابن عبّاسٍ له باسمٍ دالٍّ على غَرَضِها. وتأمَّل: سؤال الرَّجُل لابنِ عُمَر عن السّورة، وجواب ابن عُمَر له باسمٍ دالٍّ على غرِضِها. وهذا يُؤكِّد: أنَّ أغراضَ السُّوَر متقرِّرَة لدَيْهِم، ورُبَّما عبَّروا عنهُ بِوَصفٍ أو باسم، ولذلك وصفوهما باسمٍ غيرِ اسمِها المشهور. ومن الأمثلة على هذا: ما ورد عن قتادة وعن علي بن زيد وعن الكَلْبي أنَّهم قالوا: (سورةُ النَّحل هي سورةُ النِّعَم؛ لكثرةِ تَعْدادِ النِّعَمِ فيها ) . فتسميتُها بذلك ظاهرٌ من كوْنِها تُرَكِّزُ على هذا المعنى، وهذا ما نُسَمّيه بالغرَضِ والمقصَد.
الثاني ممّا ورد عن السَّلف: ما ورد عنهم من بيانٍ لغرَضِها صريحاً؛ كالقصّة الّتي ذكرناها في الدّرس الماضي في تفضيلِ ابنِ عبّاس، وجعْلِهِ مع أشياخ الصّحابة، فقد أخرج البخاريُّ عن ابنِ عبّاسٍ – – قال: كان عُمَر يُدْخِلُني مع أشياخِ بدر، فكأنَّ بعضَهم وجد في نفسِه، فقال: لِم يُدْخِلُ هذا معنا ولنا أبناءُ مثلُه؟ فقال عُمَر: إنَّهُ مِمَّن قد عَلِمْتُم، فدعاهم ذات يومٍ فأدخَلَهُ معهم، فما رُؤيتُ أو فما رأيْتُ أنَّهُ دعاني فيهم يومَئذٍ إلاّ لِيُرِيَهم يعني: ليُرِيَهم فضلي عليهم ومنزلتي في علمي بالقرآن. فقال: ما تقولون في قولِ اللهِ – عزّ وجلّ – (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) فقال بعضُهم: أُمِرْنا أن نحمَدَ الله، ونستغفِرَهُ إذا نُصِرْنا، وَفُتِحَ علينا، وسكت بعضُهم فلم يقُل شيْئاً. فقال لي: أكذلك تقول يا ابنَ عبّاس؟ فقلتُ: لا . فقال: ما تقول ؟ قلتُ: هو أجَلُ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم أعْلَمَهُ له. قال: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) فذلك علامةُ أجلِك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) فقال عُمَرُ بن الخطّاب: لا أعلَمُ منها إلاّ ما تقول ) أخرجه البخاري .
فانظروا كيف أنّ عُمَر سأل الصّحابةَ عن مغْزى السّورة، ومراد اللهِ فيها وهو مقصَدُها، وهذا يدلُّ على تَقَرُّرِ مقاصِدِ السُّوَرِ عندَهم بفهمهم الثّاقب. وتأمَّل كيف تفاوت فهمهم لغرض السّورة، وهذا دليلٌ على تفاوتِ النّاسِ في فَهْمِ الغَرَض، فمنهم: مَن يَفْهَمُهُ فَهْماً عامّاً، ومنهم مَن يفهمُهُ فهْماً دقيقاً . قال الشّاطبي – رحمه الله –: "ظاهِرُ هذه السّورة: أنَّ الله أمر نبيَّهُ عليه الصّلاةُ والسّلام أن يُسَبِّحَ بحمْدِ رَبِّهِ ويستغفِرَه إذا نصرَهُ اللهُ وفتح عليه، وباطِنُها أنَّ اللهَ نعى إليه نفسَه" . وبالتأمُّلِ في هذه السّورة وغرَضِها نجدهُ في تبشيرِ اللهِ لنصْرِ الدّينِ وتمامِهِ، وبيانِ ما يُشْرَعُ معه، وهذا الغرض متوجِّهٌ ابتداءً لرسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم؛ لإبلاغِهِ لِتمامِ رسالته وتبليغه، وإعلامِهِ بِقُرْبِ أجلِه، وهذا ظاهرٌ في ألفاظِ السّورة، وهو ما فهِمَهُ ابنُ عبّاس، وهو متوجِّهٌ عموماً لعامّةِ الأُمّة من جهة أنَّهُ تبشيرُ النّصر، والفتح الدّائم للأُمّة، وبيان ما يُشْرَعُ معه، ولذلك جاء التّعبيرُ بصيغةِ المستقبل (إذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْح) وهذا ما فهِمَه كِبارُ الصّحابةِ حين قالوا: (أُمِرْنا أن نحمَدَ اللهَ ونستغفِرَهُ إذا نُصِرْنا، وفُتِحَ علينا ) . قال ابنُ كثير: "فسَّرَها بعضُ الصّحابة بكثرةِ الذّكرِ والاستغفارِ عند الفتح والنّصر، وفسَّرَها ابنُ عبّاسٍ، بأنَّها نُعِي إلى رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أجلٌه فيها، وأقرَّهُ على ذلك عمر بن الخطّابِ" ولا منافاة بين أن يكون أمر بذلك عندَ ذلك ونُعِيَ إليهِ روحُهُ الكريمةُ أيْضاً، ولهذا كان عليه الصّلاةُ والسّلام يظهَرُ عليه الخضوعٌ جدّاً عند النّصر؛ كما رُوِيَ أنَّهُ كان يومَ الفتح – فتح مكة – داخلاً إليها من الثنيّة العُليا، وإنَّهُ الخاضِعُ لِرَبِّه؛ حتى إنَّ عثنونه لَيَمسُّ موْرِكَ رحلِه) يعني : يكادُ ذقنه وأسفلُ وجهه يلمَسُ مورِكَ الرّحل من شكرِهِ وخضوعِهِ لله – عزّ وجلّ - .
ومن الأمثلة على هذا أيْضاً وهو تصريحٌهم بالمقصد: ما ورد عن ابنِ عبّاس – رضي الله عنه – في سورةِ الليل؛ كما ذكر ذلك السُّيوطي – رحمه الله – في الدُّرّ المنثور قال : "وأخرج ابنُ مَرْدَويه عن ابنِ عبّاسٍ قال: "إنّي لأقولُ هذه السّورة نزلت في السّماحةِ والبُخل" يعني: سورة الليل" . ولذلك لمّا تتأمّل هذه السّورة من أوَّلِها إلى آخِرِها تجد أنّها في أمر الإنفاق والشُّحّ في المال وعدمِ الإنفاقِ منه .
وكذلك ما ورد عن عَمْرِ بن دينار في سورةِ التّكاثر؛ كما أورد ذلك القرطبي – رحمه الله – عنه، قال: "وعن عَمْرِ بن دينار قال: حلف أنَّ هذه السّورة نزلت في التُّجّار" . وبالتأمُّل: نجد أنّها واردةٌ في شأنِ التّكاثر في الأموالِ والأوْلاد ونسيان الآخرة، وهذا حالُ كثيرٍ من التُّجّار، وهو ما رمز إليه عمرو بن دينار - رحمه الله - .
وكذلك ما ورد عن محمّد بن فضل قال: "سورةُ الإخلاص؛ لأنَّهُ ليس فيها إلاّ التّوحيدُ فقط" .
الثالث ممّا يُبَيِّن لنا حرص السّلف على هذا الأمر، ما ورد عنهم من الأمر بمراعاةِ المقصودِ من كلامِ الله بالنّظرِ لموضِعِ الآيةِ وسِياقِها، فقد كان السّلف يُؤكِّدون على مَن يُريد أن يفهم القرآن أن يفهم السِّياق. انظر فيمَ نزلت الآية ، يعني: لا تفهم الآية فهماً مقطوعاً عمّا قبلَها وعمّا بعدها فإنّ هذا لا يليقُ بك، فمثلاً عندما تقرأ قولُ الله – عزّ وجلّ – في سورةِ النّور قال: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ....) إلى أن قال: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أنت لو قلت توبوا إلى اللهِ جميعاً أمرٌ بالتوبةِ في كلِّ مَيْدان وفي كلِّ مكان، وعلى كلِّ مؤمن في كُلِّ ساعة لكان صحيحاً، لكن لو غفلت عن المقصود الّذي سيقَ الأمرُ بالتّوبةِ من أجلِهِ في هذا الموطن لَكُنْتَ مُقَصِّراً، فإنَّ التّقصير في أمر الاستئذان، وأمر غضّ البصر، وحفظ الفرج، ورعاية المؤمنة لحفظِ زينَتِها، وعدمِ إبدائها إلاّ لمَن أمر الله ممّا يكثُرُ وقوعُهُ من النّاس، وهذا تعلمونَهُ، كلٌّ واحد منّا يعلمُهُ من نفسِه، كم من مرّةٍ أفْلَتْنا أبصارَنا، ولم نَغُضَّها عمّا حرَّمَهُ اللهُ علينا أليس كذلك ؟ فالله – عزّ وجلّ – في هذا الميدان يقول: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) يعني: احذَروا أن تقعوا في هذا الأمر، وإذا وقعتم فعليكم أن تُبادِروا بالتوبة فإنَّ هذا من المعاصي ومن الذّنوب، كيف استفدنا أنّها من الذّنوب؟ أنه قال في ختام الآيات (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
تأمَّلوا – يا إخواني -: لو قال إنسان (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا) هذا أمرٌ بالتوبةِ عندما يعصي الإنسانُ ربَّهُ في كُلِّ حال لكان الكلامُ الّذي يذكرُهُ صحيحاً، لكن عندما أقول هذا أمرٌ عامٌّ للتوبة، وهو أيْضاًّ خاصٌّ بما جاءت الآياتُ فيه وهو: عندما يخل الإنسان بالاستئذان في الدّخولِ على الآخرين، والإطلاع على عوراتهم، وعندما لا يَغُضُّ بصره ، وعندما لا يحفظُ فَرْجَه، وعندما لا تُراعي المؤمنة أمرَ الحجاب أو تُقَصِّرُ فيه، فيجبُ علينا أن نتّقِيَ اللهَ وأن نُبادِرَ إلى التّوبةِ في هذه الأمور. هذا نظرٌ إلى ماذا ؟ إلى المقصود في الآيات، نحن الآن عملنا بالآية بمقصودٍ معيَّن فأعملنا ذلك، ولذلك كان السّلف يُؤكِّدون في فهمِ الآية على النّظر إلى مقصودِها؛ حتى إنّ أسماءَ الله – عزّ وجلّ – تُفَسَّر بحسَبِ أيْضاً المقصود ،بحسبِ السياق الّذي وردت فيه، (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) سميعٌ لكلامِكم إذا جادلتم رسولَ الله واشتكَيْتُم إلى الله، بصيرٌ بكم مطَّلِعٌ على أحوالِكم لا يَخْفى عليه من شأنِكم شيء، وهذه القضيّة الّتي حصلت لخوْلة بنت ثعلبة مع زوْجِها أوْس بن الصّامت لم تخفَ على الله، فقد سمع الله – عزّ وجلّ – قولَها ورأى حالَها عندما جاءت إلى رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم. لكن لو قلت: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي: يسمَعُ كُلَّ الأصوات، ويرى كلَّ المبصرات ما كان فيه والدّلالة على المعنى ومراعاة السياق ما في تفسيرِنا قبل. يقول عمر بن الخطّاب: "إنَّ هذا كلامُ الله عزّ وجلّ فضعوهُ على مواضعه، ولا تتَّبِعوا فيه أهواءكم". وقال ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: "إذا سألَ أحدُكم صاحِبَهُ كيف يقرأ آيةَ كذا وكذا، فَلْيَسَلْهُ عَمّا قبلَها" . وقال مسلم بن يسار: "إذا حدَّثْتَ عن اللهِ حديثاً فقف حتى تنظُرَ ما قبلَهُ وما بعَده".
أيْضاً ممّا يُؤكِّد عناية السّلف بهذا الأمر: ما ورد عنهم في المعرفة بأحوالِ السّورة فيم أُنزِلَت . يقول ابن مسعودٍ – رضي الله عنه – "واللهِ الّذي لا إلهَ غيْرُه ما نزلت سورةٌ من كتابِ الله إلاّ وأنا أعلَمُ أيْنَ نزلت، ولا نزلت آيةٌ من كتابِ الله إلاّ وأنا أعلَمُ فيم نزلت، ولو أعلمُ أنَّ أحداً أعلم منّي بكتابِ الله تبلُغُهُ الأبل لَرَكِبْتُ إليه" .
تأمَّلوا قولَهُ: "ولا نزلت آيةٌ من كتابِ الله إلاّ وأنا أعلَمُ فيمَ نزلت" في أيِّ شيْءٍ نزلت . هذا يدُلُّنا على أنَّهم كانوا يتتبّعون مقاصد القرآن ومقاصد الآيات، ويعرفون في أيِّ شيْءٍ تتحدَّثُ آياتُ كتابِ اللهِ – عزّ وجلّ - . كذلك ما رُوِيَ عن مجاهد أنَّهُ قال: "لقد عَرَضْتُ القرآنَ على ابنِ عبّاسٍ ثلاثَ عَرَضات أقِفُ عندَ كُلِّ آيةٍ أسألُهُ فيمَ أُنْزِلَت وفيمَ كانت" يعني: في أيِّ شيْءٍ كانت، ما هو مقصودُها ؟ . وعن نافِعٍ قال: "كان عمر بن الخطّاب – رضي الله عنه – إذا قرأ القرآن لم يتكلَّم حتى يفرُغَ منه، فأخذتُ عليه يوماً فقرأ سورةَ البقرة حتى انتهى إلى مكانٍ قال: تدري فيمَ أُنزِلَت؟ قلت: لا، قال: أُنزِلَت في كذا وكذا ثمّ مضى" . فهذا كله يَدُلُّ على أنَّ الصّحابة كانوا يُعْنَوْنَ بالقرآن، وفيمَ أُنْزِل؟ وما هي المقاصد الّتي جاء لتحقيقِها ؟.
أمّا موضوعُنا إن شاء الله في الدّرسِ القادم: الكلام على عناية المفسِّرين بهذا العلم، وبيان كيف أنّهم – – اعْتَنَواْ به، وما هو طريقة كلّ واحد منهم في الإشارة إلى هذا العلم، فمنهم مَن أشارَ إليهِ في كُلِّ سورة، ومنهم مَن اقتصر عليه فيمَ يظْهَرُ له في بعضِ السُّوَر أو عند بعضِ المناسبات، هذا ما سنُبَيِّنُهُ إن شاء الله في الدّرس القادم، ونسألُ الله تعالى التوفيقَ والسّداد.
لحفظ الدرس :
---------------------------------------
مصدر التفريغ / ملتقى أهل التفسير (بتصرف)
يقول البقاعي - رحمه الله - "السورة تمام جملة من المسموع يحيط بمعنى تام بمنزلة إحاطة السور بالمدينة" . ويقول ابن عاشور في التحرير والتنوير "السورة قطعة من القرآن معينة بمبدأ ونهاية تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام ترتكز عليه معاني آيات تلك السورة " انظر "في غرض تام ترتكز عليه معاني آيات تلك السورة" ومما يؤكد هذا أن الله - عز وجل - لما تحدى العرب بأن ياتوا بمثل هذا القرآن تحداهم أن يأتوا بسورة ، (بسورة مثله - بسورة من مثله - بعشر سور مثله مفتريات) فتُذكر السورة في مقام التحدي لماذا؟ لأن السورة يقع بها الإعجاز ، الإعجاز في الألفاظ ، الإعجاز أيضا في المعاني والإحاطة بالمقاصد والموضوعات .
قال ابن عاشور "وإنما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار سورة من الآيات" يعني لم يُذكر ثلاث أو أربع أو خمس آيات من سورة "لأن من جملة وجوه الإعجاز أمورا لا تظهر خصائصها إلا بالنظر إلى كلام مستوفى في غرض من الأغراض" فالسورة تأتي لتستوفي معنى من المعاني وتؤكد عليه وتأتي بكل ما يُكمّل ذلك المعنى .
قال "وإنما تنزل سور القرآن في أغرض مقصودة فلا غنى عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض واستيفاء الغرض المسوق له الكلام .
- الثالث مما يؤكد ويؤصل لهذا العلم : أن هذا القرآن نزل مُحكما قال اللهُ – عزّ وجلّ -(الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) ، اسمعوا ماذا يقول ابن كثير –رحمه الله – في (بيانِ إحكامِ القرآن) قال: "أماَّ قوْلُهُ (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) أي: هي محكمةٌ في لفظِها، مفصَّلةٌ في معناها، فهو كاملٌ صورة ومعنى هذا معنى ما رُوِيَ عن مجاهد وقتادة واختاره جرير". إذا قوله ( أُحْكِمَتْ) هذا الإحكام لابد أن ينتظم أمرين :
- إحكام الألفاظ بحيث يكون في قمة البلاغة والجزالة، والقوّة والتّرابُط اللفظي والسلاسة، وجرْس هذه الكلمات لذيذ في الأسماع تطرب له القلوب وأيْضاً قمّة في إحكامِ المعنى، بحيث لا يمكن أن تستدرك على المعنى الّذي جاء في الآيةِ، أو في السّورة أن تستدرك عليه بوجهٍ من الوجوه، فهو يأتي مكتمل من جميع جوانبه لا ينقص من زاويةٍ من الزّوايا بما يُناسِب غرض السّورة الّتي جاء فيها وسنبيّن ونؤكد ذلك في بعض الشّواهد التي ستأتي بعد قليل.
- الرّابع ممّا يُؤصِّل لهذا العلم : ظهور الفرق بين السّور المكيّة والمدنيّة؛ فأنت تستطيع أن تعرف أنّ هذه السّورة مكيّة، وهذه السّورة مدنيّة من النّظر إلى موضوعاتِها، ممّا يدلّ على أنّ القرآن بُنِيَ على موضوعات ومقاصد محدّدة كلُّ سورةٍ قد أخذت بجزء من ذلك المقصود أو بثغرةٍ من ثغراتِ مقاصد القرآن واستوفتها من جميع زواياها.
انظر مثلاً: عندما تقرأ: (عَمَّ يَتَسَاءلُونَ *عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ *الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) لا تشكّ بأن هذه السّورة مكيّة.
وعندما تقرأ: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ * فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ * ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا ) لا تشكّ في أنّ هذه السّورة مكيّة.
وعندما تنظر إلى قولِ الله – عزّ وجلّ -، أو إلى سورةِ النّساء الّتي اُفْتُتِحَت بقولِ الله – عزّ وجلّ - (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا *وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ....) تستمرّ الآيات تنزل على هذا المنوال إلى أن يأتي في آخر آية من الآيات فيقول: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ .... ) الخ الآية، لا تشكّ أنّ هذه الآيات لا يمكن أن تكون نزلت بمكّة، بل هي نزلت في المدينة. عرفنا: أنّ القرآن بمكّة يناقش موضوعات محدّدة، وفي المدينة يُناقش موضوعات أخرى لا تليق إلاّ بالمدينة وللمؤمنين الّذينَ كانوا مع رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، فهي تُعالج مشاكل وقضايا المجتمع المسلم بخلاف مكّة تُؤسِّس العقيدة، وتُؤكِّد القضايا الأصليّة الّتي بُنِيَ عليها هذا الدّين. إذًا: نحن أمام قرآن قد فُصِّل في المعاني، أُحكِم في هذه المعاني، وهذا بيِّن من تقسيمات هذه السّور.
- الخامس ممّا يُؤصِّل لهذا العلم، ويُبَيِّن أنَّهُ ليس بدْعاً من القول: نزولُ القرآن على حسبِ الأحوالِ والحوادث ، لقد كان نزولُ القرآنِ مُنَجَّماً حسب ما تقتضيهِ الحوادث، والنّوازل، وما يتناسب مع الظّروفِ والأحوال، وما يتواكب مع المراحل الّتي مرّت بها الدّعوة، ثمّ جاء ترتيبُهُ في المصحف حسب ما كان في اللَّوْحِ المحفوظ؛ ولهذا كان النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كُلّ ما نزلت عليه آية يقول: " ضَعوا هذه الآية في المكانِ الّذي يُذْكَرُ فيه كذا وكذا " وهذا كلُّه بأمرٍ من اللهِ - سبحانه وتعالى - ، وهذا دليلٌ ظاهر على مقاصد السُّور حيثُ أنّ هذا التنجيم كان لحِكَمٍ عظيمة، منها:
- أن تنزلَ السُّوَر أو الآيات لغرضٌ معيَّن حسب ما تقتضيه الحال، وهذا مُؤكِّدٌ لتضمُّنِ السُّوَرِ للمقاصد، فالآيات تنزل؛ لِتُعالج مشكلة معيَّنة، فالنّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: " ضَعوها في المكان الفلاني " ؛ لأن هذا المكان هو أنسبُ شيْءٍ يُلَبّي أو يتناسب مع هذا الحَدَث. لماذا لم تُرَتَّب آيات القرآن ترتيباً تاريخيّاً بحيث كلّ ما نزلت آيات تأتي بعدَ الآيات الّتي قبلها وهكذا إلى أن ينتهي القرآن ؟ لا، بل ضعوا هذه الآيات في المكان الّذي يُذكَرُ فيه كذا وكذا، وهذا يدلّ على أنَّ كلّ آية من الآيات وُضِعَت في المكان المناسبِ لها من السّورةِ الّتي هي فيها؛ لِتُحَقِّقَ جزْءً من مقصودِ تلك السّورة.
- السّادس ممّا يُؤكِّد ويُؤصِّل لهذا العلم: تسميةُ السُّوَر.
من أعظمِ الدّلائل كما يقول الدكتور - محمد الرّبيعة - على مقاصِدِ السُّوَر وضعُ أسماءِ السُّوَر بما يرمُزُ لمعانيها الدّالّة على المقصَدِ منها . وقد اختلف العلماء هل أسماء السُّوَر توقيفية أو اجتهاديّة ؟ ولا شكّ عندنا أنّ جزءً منها تَوقيفي؛ كفاتحة الكتاب، وأمّ الكتاب، وأمّ القرآن، والبقرة، وآل عمران، والكهف، والفلق، أو المعوّذتين، وعدد من سُوَر القرآن قد جاء النّصّ في السُّنّة النّبويّة على أسمائها وبقيت أسماؤها إلى اليوم محفوظة، فهذه توقيفِيّة بلا إشكال، أو بإجماعِ العلماء، وهناك سُوَرٌ أخرى فيها محلُّ إشكال، لكن السيوطي – رحمه الله – في (الإتقان) وهو الكتاب المعروف الواسع في علوم القرآن يقول: " ثبت – يعني عنده – أنّ جميعَ أسماءِ السُّوَر بالتّوقيف من الأحاديثِ والآثار" فهو يرى أنّ أسماء السُّوَر توقيفِيّة، وأنّ هذه الأسماء الّتي بين أيْدينا مأخوذة من كلامِ النّبيِّ - صلّى الله عليه وسلّم - وكلامِ أصحابِهِ.
وقد أبان هذا الأمر البقاعي – رحمه الله – بالتجرِبة، في كتابِه (نَظْمُ الدُّرَر) فقال:
"وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورةِ سبأ في السّنةِ العاشرة من ابتِدائي في عملِ هذا الكتاب أنَّ اسمَ كُلِّ سورةٍ مُتَرْجِمٌ عن مقصودها؛ لأنَّ اسمَ كُلِّ شَيْء تظهَرُ المناسبةُ بينَهُ وبَيْنَ مُسمّاه الدّالّ إجمالاً على تفصيل ما فيه" فهو يرى أنّ اسم السّورة ما اختير على نحْوٍ معيَّن إلاّ لأنّه يدلّ على مقصودِها ويرمُزُ له، سواءً كانت دلالتُهُ مباشرة ؛ مثل سورة الإخلاص، وسورة أم الكتاب أو أمّ القرآن، أو كانت فيها إشارة إلى المقصود، وفيها نوع من أنواع الرّمزية لهذا المقصود؛ كسورة البقرة، فإنّك عندما تنظر إلى مقصود سورة البقرة، هو: أنّها سورة جامعة لمعاني الشّريعة؛ كما قلنا في الدّرس الماضي هي: كليّة الشريعة، ما مناسبة تسمية هذه السّورة بالبقرة ؟ المناسبة بعد التأمُّل تظهر في أنَّ اللهَ – عزّ وجلّ – أراد أن يُبَيِّن لنا أنّ أمَّة بني إسرائيل سُلِبَت الخلافة في الأرض؛ لأنّها كانت تتأبّى على الطّاعة وكانت لا تُطيعُ الأنبياء، ولا تنقاد بأمرِ الله – عزّ وجلّ – إلاّ بمشقّة وكُلفة، وعُسُر ظاهر، ولذلك سلب الله - عز وجل - منهم الخلافة في الأرض، والتّفضيل على العالمين، فيا أمّة محمّد احذَروا أن تكونوا مثلهم، وأدلّ ما يدلّ على ذلك قصّة البقرة، فإنَّ قصّة البقرة – يا أحبابي – ظاهرة في هذا الموضوع لمّا قال موسى لبني إسرائيل (أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا) طيب، ما شأنُكم في لونِها وما هي و (إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) اذْبَحوا بقرة ، أيُّ بقرة ؟ أسرعوا بالاستجابة واذبحوا أي بقرة،ولذلك النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - في صُلح الحُدَيْبِيَة لمّا كان معَهُ الصّحابة قد أحْرَموا كانوا يتشّوَّفونَ لأن يؤدّوا العمرة، فَمنِعوا بسبب بنود الصُّلح الجائر الّذي أوْقَفَهم وأنّهم لا يمكن أن يُؤدّوا العمرة إلاّ من عامٍ قابل، قال للصّحابة أحلوا، فتوقَّفوا ، فدخَلَ مُغْضَباً، وقال : " هَلَكَ أصحابي" كيف نبيُّهم يأمرهم بأن يحلّوا ولا يحلّوا ، فقالت له: أمُّ سَلَمة: " احلِقْ أنت يا رسولَ الله! حتى يحلِقوا " ؛ لأنّهم كانوا يتشوَّفون أن يُؤدّوا العمرة، ويتمنَّون أن يأتي شيْءٌ ينقض هذا الأمر، فخرج رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - وأمر بأن يُحْلَقَ رأسُه، فَحُلِق ، فَتَتابَعَ النّاسُ على ذلك حتى كادوا أن يقْتَتِلوا. فانظروا كيف هدد النّبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - بوقوعِ الهلاك على أصحابه لمّا تخلَّفوا عن الاستجابة، وتباطئوا عنها ، يعني فترة يسيرة جدّاً .
انظر ماذا يفعل بني إسرائيل؟ ماذا فعلوا ؟ يقول لهم اذبحوا بقرة (قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن....) إلخ ما ذكر، ولذلك هذه القصّة من أعجب ما فيها – تأمَّلوا هذا يا إخواني – وهو أمرٌ يخفى على كثير ممَن لا يتأمَّلون ولا يتدبّرون في كتابِ الله – عزّ وجلّ – إن سبب القصّة وبدايتها جاءت في نهايتها، والعادة أنّ القصّة تُذكَرُ البداية في البداية والنّهاية في النهاية، ولا تُقلَبُ الأحداث، فموسى يقول: اذْبَحوا بَقَرَة، لماذا يا موسى اذبحوا بقرة ؟ ما هو أصلُ المشكلة ؟ لماذا أمَرْتَ قومَكَ أن يذْبَحوا بقرة ؟ قال الله في نهاية القصّة: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) ، فقال لهم موسى: (اذْبَحوا بَقَرة) ثمّ لمّا ذبحوها، قال لهم: اضْرِبوا بعضها ببعض، أو اضربوا الميِّتَ ببعضِها (كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، فأوَّلُ القصّة مذكورٌ في آخرِها، ما هو السّرّ ؟ لماذا يُؤخَّرُ أوَّلُها ليُجْعَلَ في آخِرِها ؟ حتى يُبَيَّن هذا المقصود وهو: أنّ أُمّة موسى أُمّة عصيّة أبيّة لا تُريد أن تستجيب لأوامر الأنبياء، ولا تنقاد لهم ، لاحظتم هذا المقصود فلمّا أراد أن يُظهر لنا هذا الأمر، قدّم هذا الأمر وبدأ به، وترك سبب القصة وأصلها وبدايتها وأجّلها إلى الأخير، وإلاّ ما شعرتم الآن لماذا يأمر موسى قومه أن يذبحوا بقرة ؟ ما فكّرتم في هذا الأمر؟
ثم يأتي الجواب في آخر القصة: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) ما هو أصل القصّة ؟ قُتِلَت نفس في بني إسرائيل، فأصبحوا ، وأخذ بنو إسرائيل يتّهم بعضهم بعضاً مَن الّذي قتل هذا الرّجل، وأصبح أوْلِياءُ الدّم يُطالِبون بأن يُبْحَث عن القاتل، ويتَّهِمونَ أُناساً بِأعيانِهِم، فوقف بنو إسرائيل ليقْتَتِلوا، فقيل: كيف تقتتِلون وتختلِفون وفيكم نبيٌّ يُوحى إليه؟ فارفعوا أمرَكم إلى نبيِّكم، فرفَعوا الأمرَ إلى موسى، فأوْحى اللهُ إليه أن مُرْ بني إسرائيل أن يذبَحوا بقرة، ثمّ يضرِب الميِّتَ ببعْضِها، فسَيُعلِمهم الله – عزّ وجلّ – مَن هو القاتل؟ فقال لهم: اذبحوا بقرة. قالوا : (أتّتَّخِذُنا هُزُواً) ؟ نحن أتينا نسألك مَن القاتل تقول لنا: اذبحوا بقرة، قال : أعوذُ باللهِ أن أكونَ مِنَ الجاهلين . فلمّا عَلِموا أنَّ موسى جادّ، وأنَّهُ لم يكُن يُهْزَأ، وَحاشاه مِن أن يهْزَأ في مثلِ هذا الأمرِ العظيم، بدؤا يتباطئون: معقول يُأمَر من قِبَل الله بذبح بقرة باكتشاف القاتل إلاّ وهذه البقرة من نوع خاص، ما هي أي بقرة؟ .
انظروا – يا إخواني – إلى طريقة هؤلاء في استجابتهم لأوامرِ الله وأوامرِ رسولِهِ صلّى الله عليه وسلّم . (قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ) فلمّا قالوا ذلك، وشدَّدوا على أنفُسِهم ولم يستجيبوا من أوَّلِ وهلة شدَّد الله عليهم، فاحذَروا يا أمَّةَ محمَّد! أن تكونوا مثلهم! ولذلك قال النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم مرَّةً لأصحابِه: (إنَّ اللهَ كتب عليكم الحجّ ، فَحُجّوا) قام رجل من بين النّاس فقال: أَفي كُلِّ عامٍ يا رسولَ الله، فغضب النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم وقال ( لو قلتُ نعم لوجبت، ولو وجبت لَما استَطَعْتُمْ ذَروني ما تركتكم) يعني: (إنَّ اللهَ كتب عليكم الحجّ فحُجّوا) خلاص إذا أدَّيْت هذا الحجّ مرّةً فقد أدَّيْتَ ما أُمِرْتَ به، هل قلت عليه لكم: " إنَّ اللهَ كتبَ عليكم الحجّ كُلَّ عامٍ فَحُجّوا " فلماذا تُنَقّرون، وتُدَقِّقون في أمرٍ لو شئت لنقّرْتُ فيه ودقَّقت (ذَروني ما تركتم) أسرعوا وبادروا بالعمل والاستجابة . وهذا الأمر – يا إخواني – وهو تسمية السُّوَر يُؤكِّد ما ذكرْنا من أنَّ مقاصد سُوَر القرآن معروفة معلومة.
انظر مثلاً: إلى سورة الفاتحة تُسَمّى أُمَّ القرآن، وكلمة أُمَّ القرآن ليست موجودة في سورة الفاتحة ، فكيف اُختير اسم أُمَّ القرآن لسورةٍ ليس فيها هذا اللّفظ؟ لو كانت أسماء السُّوَر أسماءَ عَفْوِيَّة يُراد بها التّمييز المُجَرَّد، ما قيل لسورةِ الفاتحة الفاتحة أو أُمّ الكتاب، أو أُمَّ القرآن، أو الشّافية، أو الكافية، أو الصّلاة، أو غير ذلك من الأسماء الّتي سُمِّيَت بها هذه السّورة، ممّا يَدُلُّك على أنّ كُلَّ سورةٍ سُمِّيت باسمٍ، فإنَّ هذا الاسم مقصودٌ فيها ويَدُلُّ على مقصودِها، وسَنُبيِّن – إن شاء الله – في الدّروس القادمة، لماذا سُمِّيَت سورة الفاتحة بِأُمّ القرآن، وما صِلَةُ ذلك بمقصودِها ؟.
وانظروا – يا إخواني – إلى سورة الصّمد تُسمّى سورة الإخلاص، هذا الاسم لسورة الصّمد ليس مذكوراً فيها (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) فلم تذكُر كلمة الإخلاص في هذه السّورة، ومع ذلك سُمِّيَت سورة الإخلاص، لماذا ؟ لأنَّهُ نُظِرَ في الإسم إلى المعنى الّتي تضمَّنَتْهُ هذه السّورة، فهذه السّورة خالصةٌ في ذكرِ اللهِ – عزّ وجلّ – تُحَقِّقُ الإخلاص في قلبِ العبد، فمَن صدَقَ فيها، وفهِمَ معناها، وقام بمقتضاها، فهو من أهلِ الإخلاص ولا بُدّ، ولذلِك يُلاحظ أن هذه السّورة تُقرأ في أوْقات ومناسبات يُراد بها تأكيدُ الإخلاص، فهي تُقْرَأ في بداية اليوم : في الصّباح، وفي المساء، وتُقْرَأ في ركعتَيْ الفجر، وتُقرَأْ في ركعتَيْ المغرب البَعْدِيَّتَيْن، وتُقْرَ آخر ما يقْرَأهُ الإنسان في يوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ؛ كأنَّهُ تأكيدٌ على أمرِ الإخلاصِ في أوَلِ النهار وآخِرِهِ، وتُقرَأ بعد الطّوافِ في البيت، لماذا؟ لأنَّ الإنسان إذا طاف في البيت يُمكن أن يُقال: أنَّهُ يعبُدُ البيت ولا يعبدُ ربَّ البيت، فيقولُ العبد: لا عبادةَ لي إلاّ لله، ولا ربَّ لي إلاّ الله، ولا أتَقَرَّبُ لِأَحَدٍ سِواه، فهو يُؤكِّد هذا المعنى، ولاحِظوا لعظمة المعنى الّذي جاءت به هذه السّورة يقرَأُها الإنسان في دُبُرِ كُلِّ صلاة، فهذا يدُلُّنا على أنّ هذه السّورة لها مقصود، وأنّ هذا الاسم ما وُضِع لها عبث.
وقد يرِد على هذا إشكال وهو: أنّ بعض السُّوَر لها أسماء متعدِّدة فما هو الجواب؟
نقول: إنَّ هذه الأسماء المتعدِّدة تدُلّ إما على موضوعاتٍ في السّورة تخدِم المقصود، أو كُلُّها تُشير إلى المقصود، فمثلاً: عندما تأتي إلى سورة الحمد يُقال: سورة الفاتحة، يقال سورة الصّلاة، وأمّ القرآن، وأمُّ الكتاب، السّبع المَثاني، فهذه الأوْصاف لا تجد أنَّها تتعارض، بل كُلُّ واحدٍ منها ينظُر إلى موضوع السّورة من وجهٍ معيَّن، أو يدلّ على شيْءٍ ممّا يُمَيِّزُها عن بقيّةِ سوَرِ القرآن.
أيْضاً ممّا يُؤصِّل لهذا العلم ويُؤكِّدُه: الأحاديث الواردة في فضائلِ السُّوَر، وتخصيصُ بعضِها بأوْقاتٍ معيَّنة. فلماذا يُفاضَل بين سُوَرِ القرآن ؟ لأنَّ مقصود هذه السّورة أعظم من مقصود هذه السّورة؛ فسورةُ الفاتحة أعظم من سورةِ النِّساء؛ لأنَّ المقصود في سورةِ الفاتحة أعظم من المقصود في سورة النِّساء، ولا يعني ذلك أنَّ هذا التّفضيل يعني أنّ المفضول في مرتبةٍ سافلة، لا ، كُلُّ كلامِ اللهِ عالي، وكُلُّهُ في الغاية من الكمال والإحكام والدِّقّة والبلاغة والعلوّ والرِّفعة في المعنى والمقصد، ولكنَّهُ يتفاضل، ولذلك قال النَّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم: (ألا اُعَلِّمُك أعظمَ سورةٍ في القرآن) يقوله لأحدِ الصّحابة – رضوان الله تعالى عليهم - ممّا يدلّ على أنّ سوَرَ القرآن تتفاضل؛ كما أنَّ آيات القرآن تتفاضلُ أيْضاً، فهناك أعظم آية في القرآن؛ لأنَّ المقصود في هذه الآية أعظم من مقصود الآيات المجاوِرةِ لها، فسورة البقرة تجاوزت المئتين آية، وفيها آية أعظم آياتِ القرآن كلِّها على الإطلاق. انظُر إلى السُّوَر الّتي جاءت في جزْءِ عمَّ ! كثيرة جدّاً، ولكن أبلغ هذه السُّوَر وأعظمُها ما كان مقصودُه أعظم من بقيّة مقاصد تلك السُّوَر، سورة الإخلاص والمُعَوِّذَتَيْن، وسورة الكافرون، والزلزلة ... ونحوِها وردت فيها أحاديث وفضائل خاصّة تدُلّ على أنَّ هذه السُّوَر لها مقاصد، وأنَّ مقاصد القرآن ليست على مرتبةٍ واحدة، وأنَّ السّورة تفضُل بمقصودِها، السّورة تفضُل بما فيها من المقصود، فإن كان مقصودُها توحيدُ اللهِ – عزّ وجلّ – ازدادت الفضيلةُ فيها، وإن كان مقصودها مثلاً ذكرُ أخبار – مثلاً – الأُمم الماضية، أو التأكيد على شأن الضُّعفاء، أو بيان – مثلاً – المعاملات الماليّة، أو بيان بعض الأحكام والمسائل الزَّوجِيّة، فإنَّ أمرَ التّوحيدِ أعظمُ من ذلك، وأمرُ الإيمانِ بالآخِرة أعظمُ من هذه الأمور الّتي بيَّنّاها.
ممّا يُؤكِّد على هذا الأمر، وهو: أنَّ سُوَرَ القرآن لها مقاصد، ويُبَيِّن أنَّ للمقاصِدِ أصلاً: تَكرارُ القصصِ في السُّوَر. فإنَّ القِصّة الواحدة تُكَرَّر في عدد من السُّوَر، وتَكرار هذه القصّة في سُوَرٍ متعددة تُلاحظ أنَّهُ يختلف من سورة إلى سورة، ففي هذه السّورة يُذكَر جانب من القصّة، وفي هذه السّورة يُذْكَر بأسلوبٍ آخر مُغايِرٍ للقصّةِ الّتي وردت في السّورةِ الأخرى. انظر – مثلاً – إلى قصّةِ موسى – عليه السّلام -، تكرَّرَت في تسعِ سُوَر من القرآن الكريم، هذه السُّوَر التّسع ذُكِر في كلّ سورة ما يُناسب مقصود تلك السّورة. فمثلاً في سورة البقرة: ذكر الله – عزّ وجلّ – ما أنعم به عليهم، وما أمرَهم به، وكيف قابلوا هذه النِّعَم وجحدوها؛ حتى سلَبَهم الله – عزّ وجلّ – التّفضيل على العالمين، وبيَّن مخازيهم، وبيَّن الإشكالات الكثيرة الّتي ظهرت منهم؛ حتى فضحهم الله – عزّ وجلّ – بمعاصيهم، وقتلِهم للأنبياء وكفرِهم بآيات الله إلى آخرِ ما هنالك، وهذا مناسبٌ لمقصودِ السّورة. في سورةِ الأعراف ذُكِرَت قصّة موسى – عليه الصلاة والسّلام – مع قوْمِه بما يُناسب بداية أمر بني إسرائيل؛ لأنَّ سورة الأعراف سورة مكيّة، وسورة البقرة سورة مدنية. ففي سورة الأعراف ذُكِرَت البدايات، وكيف نشأت هذه الأُمّة؟ وكيف قامت؟ وماذا حصل لهم حتى أنجاهم اللهُ – عزّ وجلّ – من عدُوِّهم. في سورة البقرة ذُكِرَت مخازي بني إسرائيل في عهدِ موسى إلى عهدِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم؛ حتى قال الله – عزّ وجلّ – في حقهم (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فيذكر الله – عزّ وجلّ – أنّ هذه الأُمّة قد طُمِسَت بصائرُها، وقد علا على قُلوبِها الرّان – نسأل الله السلامة والعافية – بسببِ طغيانِهم، ولذلك يقول هنا انظر إلى المخالفة في الألفاظ بحسب المناسبة والمقصود.
في سورةِ الأعراف يقول: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا)
وفي سورة البقرة يقول: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) .
في سورة الأعراف: "انبَجَسَتْ" وفي سورة البقرة : "انفَجَرَتْ" ؛ لأنَّهُ لمّا كان يُعَدِّد النِّعم يُناسب الانبجاس الّذي هو أوّلُ الانشقاق أو الانفجار؟ الانفجارّ حتى يُبَيِّن أنّ الله أنعم عليهم حتى كفروا تلك النّعم، فسَلَبَهم الخلافة، وبدَّلَهم بأُمّةِ محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم الّتي أطاعت وانقادت واستجابت بأمرِ الله - عزّ وجلّ -. ففي سورة البقرة يذكر الانفجار الّذي هو شدّة جريان الماء وانبعاثه من الصّخر. في سورةِ الأعراف؛ لأنّها سورة مكيّة ذكر الانبجاس، والانبجاس أوّلُ الانشقاق، فأوّل ما تنشق الصخرة يُسمّى هذا انبجاسا قال: (فَانبَجَسَتْ)، وفي سورة البقرة : (فَانفَجَرَتْ). إذاً : (انفجرت ، انبجست) يدُلاّنِ على مقصودٍ واحد، وهو الانشقاق، لكنَّ الانبِجاس، هو: أوّلُ الانشقاق، والانفجار هو غايتُهُ ومنتهاه . ذُكِر هذا هنا، وهذا هنا لمناسبة كلِّ واحدٍ منهما للمَقامِ الّذي ذُكِرَ فيه.
أيْضاً ممّا يُؤصِّل لهذه المقاصد الآثار الواردة عن السّلف في بيانِ المقاصد ، وهذا يمكن أن نذكُرَهُ من عدَّةِ وُجوه:
الوجه الأوَّل: ما ورد عنهم من تحديدٍ لغرَضِ السّورةِ بالتعبيرِ عنها بوصفٍ أو اسم دال على الغرض فقد يرِد عنهم – رضي الله تعالى عنهم – ما يدُلّ على وصفِ السّورة باسم، أو وصف يُمَيِّزُها، ويَدُلُّ على مقصودِها، ومن ذلك: ما ذكروا في سورة التّوبة، أخرج البخاري عن سعيد بن جُبَيْر، قال: قُلْتُ لابنِ عبّاس سورةُ التّوبة. قال: " التوبة هي الفاضحة " . انظروا: يصفُها بأنّها الفاضحة. ليُدَلِّل على مقصودِها قال: "ما زالت تنزل ومنهم، ومنهم؛ حتى ظنّوا أنَّها لم تُبقِ أحداً منهم إلاّ وَذُكِرَ فيها". فهي سورةٌ نزلت في فضحِ المنافقين، فابن عبّاس يصف سورة التّوبة بأنّها الفاضحة. من أين جاء بهذا الوصف في هذه السّورة ؟ لمّا علِمَ أنَّ مقصودَها هو الحديث عن المنافقين، كشف مخازيهم، بيان أوصافهم، قال: هي الفاضحة، وهذا الحديث رواه البخاري .
ونقل السّيوطي عن عِكرِمة قال : قال عُمَرُ – رضي الله عنه – "ما فُرِغَ من تنزيل براءة – يعني سورة التّوبة – حتى ظنَّنّا أنَّهُ لم يبقَ مِنّا أحدٌ إلاّ سينزِلُ فيه، وكانت تُسمّى الفاضحة" يعني: كانت تُسمّى عندَ الصّحابةِ في عهدِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم الفاضحة؛ لكثرة ما ورد فيها من فضائح للمنافقين، ومنهم، ومنهم، ومنهم، ومنهم، ومنهم؛ حتى خشِيَ الصّحابة على أنفُسِهم أن تُكْشَف أستارُهم أو تُهْتَك.
وسمّاها ابن عُمَر ( بالمُقَشْقِشة ) كما نقل السيوطي عن زيد بن أسلم (أنَّ رَجُلاً قال لعبدِ اللهِ بن عُمَر: سورةُ التّوبة ، فقال ابن عمر: وأيَّتُهُنَّ سورةُ التّوبة ! ؟ فقال: براءة. ، فقال ابنُ عمر: وهل فعل بالنّاسِ الأفاعيل إلاّ هي ؟ واللهِ ما كُنّا نَدْعوها إلاّ المقشقِشة) . وجهُ تسميتها بذلك؛ لأنّها تُبَرِّئُ من النِّفاقِ والشرك، وكلا التّسمِيَتَيْن دالَّتَيْنِ على الغرض، وهو كشفِ أحوالِ النّاس، ومواقفهم من الدّين والقتالِ في سبيله، ولذلك سُمِّيَت بالتّوبة؛ إشارةً إلى حال المؤمنين، وسُمِّيَت بالفاضحة إشارة إلى حال المنافقين، وسُمِّيَت براءة إشارة إلى حال المشركين، وهذانِ الأثَران، وهما الأثر عن ابنِ عُمَر وابنِ عبّاس من أهمِّ الآثار الدّالّة على علمِ مقاصِد السُّوَر. فتأمَّل سؤالَ سعيد بن جُبَيْر لابن عبّاس عن السورة، وجواب ابن عبّاسٍ له باسمٍ دالٍّ على غَرَضِها. وتأمَّل: سؤال الرَّجُل لابنِ عُمَر عن السّورة، وجواب ابن عُمَر له باسمٍ دالٍّ على غرِضِها. وهذا يُؤكِّد: أنَّ أغراضَ السُّوَر متقرِّرَة لدَيْهِم، ورُبَّما عبَّروا عنهُ بِوَصفٍ أو باسم، ولذلك وصفوهما باسمٍ غيرِ اسمِها المشهور. ومن الأمثلة على هذا: ما ورد عن قتادة وعن علي بن زيد وعن الكَلْبي أنَّهم قالوا: (سورةُ النَّحل هي سورةُ النِّعَم؛ لكثرةِ تَعْدادِ النِّعَمِ فيها ) . فتسميتُها بذلك ظاهرٌ من كوْنِها تُرَكِّزُ على هذا المعنى، وهذا ما نُسَمّيه بالغرَضِ والمقصَد.
الثاني ممّا ورد عن السَّلف: ما ورد عنهم من بيانٍ لغرَضِها صريحاً؛ كالقصّة الّتي ذكرناها في الدّرس الماضي في تفضيلِ ابنِ عبّاس، وجعْلِهِ مع أشياخ الصّحابة، فقد أخرج البخاريُّ عن ابنِ عبّاسٍ – – قال: كان عُمَر يُدْخِلُني مع أشياخِ بدر، فكأنَّ بعضَهم وجد في نفسِه، فقال: لِم يُدْخِلُ هذا معنا ولنا أبناءُ مثلُه؟ فقال عُمَر: إنَّهُ مِمَّن قد عَلِمْتُم، فدعاهم ذات يومٍ فأدخَلَهُ معهم، فما رُؤيتُ أو فما رأيْتُ أنَّهُ دعاني فيهم يومَئذٍ إلاّ لِيُرِيَهم يعني: ليُرِيَهم فضلي عليهم ومنزلتي في علمي بالقرآن. فقال: ما تقولون في قولِ اللهِ – عزّ وجلّ – (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) فقال بعضُهم: أُمِرْنا أن نحمَدَ الله، ونستغفِرَهُ إذا نُصِرْنا، وَفُتِحَ علينا، وسكت بعضُهم فلم يقُل شيْئاً. فقال لي: أكذلك تقول يا ابنَ عبّاس؟ فقلتُ: لا . فقال: ما تقول ؟ قلتُ: هو أجَلُ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم أعْلَمَهُ له. قال: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) فذلك علامةُ أجلِك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) فقال عُمَرُ بن الخطّاب: لا أعلَمُ منها إلاّ ما تقول ) أخرجه البخاري .
فانظروا كيف أنّ عُمَر سأل الصّحابةَ عن مغْزى السّورة، ومراد اللهِ فيها وهو مقصَدُها، وهذا يدلُّ على تَقَرُّرِ مقاصِدِ السُّوَرِ عندَهم بفهمهم الثّاقب. وتأمَّل كيف تفاوت فهمهم لغرض السّورة، وهذا دليلٌ على تفاوتِ النّاسِ في فَهْمِ الغَرَض، فمنهم: مَن يَفْهَمُهُ فَهْماً عامّاً، ومنهم مَن يفهمُهُ فهْماً دقيقاً . قال الشّاطبي – رحمه الله –: "ظاهِرُ هذه السّورة: أنَّ الله أمر نبيَّهُ عليه الصّلاةُ والسّلام أن يُسَبِّحَ بحمْدِ رَبِّهِ ويستغفِرَه إذا نصرَهُ اللهُ وفتح عليه، وباطِنُها أنَّ اللهَ نعى إليه نفسَه" . وبالتأمُّلِ في هذه السّورة وغرَضِها نجدهُ في تبشيرِ اللهِ لنصْرِ الدّينِ وتمامِهِ، وبيانِ ما يُشْرَعُ معه، وهذا الغرض متوجِّهٌ ابتداءً لرسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم؛ لإبلاغِهِ لِتمامِ رسالته وتبليغه، وإعلامِهِ بِقُرْبِ أجلِه، وهذا ظاهرٌ في ألفاظِ السّورة، وهو ما فهِمَهُ ابنُ عبّاس، وهو متوجِّهٌ عموماً لعامّةِ الأُمّة من جهة أنَّهُ تبشيرُ النّصر، والفتح الدّائم للأُمّة، وبيان ما يُشْرَعُ معه، ولذلك جاء التّعبيرُ بصيغةِ المستقبل (إذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْح) وهذا ما فهِمَه كِبارُ الصّحابةِ حين قالوا: (أُمِرْنا أن نحمَدَ اللهَ ونستغفِرَهُ إذا نُصِرْنا، وفُتِحَ علينا ) . قال ابنُ كثير: "فسَّرَها بعضُ الصّحابة بكثرةِ الذّكرِ والاستغفارِ عند الفتح والنّصر، وفسَّرَها ابنُ عبّاسٍ، بأنَّها نُعِي إلى رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أجلٌه فيها، وأقرَّهُ على ذلك عمر بن الخطّابِ" ولا منافاة بين أن يكون أمر بذلك عندَ ذلك ونُعِيَ إليهِ روحُهُ الكريمةُ أيْضاً، ولهذا كان عليه الصّلاةُ والسّلام يظهَرُ عليه الخضوعٌ جدّاً عند النّصر؛ كما رُوِيَ أنَّهُ كان يومَ الفتح – فتح مكة – داخلاً إليها من الثنيّة العُليا، وإنَّهُ الخاضِعُ لِرَبِّه؛ حتى إنَّ عثنونه لَيَمسُّ موْرِكَ رحلِه) يعني : يكادُ ذقنه وأسفلُ وجهه يلمَسُ مورِكَ الرّحل من شكرِهِ وخضوعِهِ لله – عزّ وجلّ - .
ومن الأمثلة على هذا أيْضاً وهو تصريحٌهم بالمقصد: ما ورد عن ابنِ عبّاس – رضي الله عنه – في سورةِ الليل؛ كما ذكر ذلك السُّيوطي – رحمه الله – في الدُّرّ المنثور قال : "وأخرج ابنُ مَرْدَويه عن ابنِ عبّاسٍ قال: "إنّي لأقولُ هذه السّورة نزلت في السّماحةِ والبُخل" يعني: سورة الليل" . ولذلك لمّا تتأمّل هذه السّورة من أوَّلِها إلى آخِرِها تجد أنّها في أمر الإنفاق والشُّحّ في المال وعدمِ الإنفاقِ منه .
وكذلك ما ورد عن عَمْرِ بن دينار في سورةِ التّكاثر؛ كما أورد ذلك القرطبي – رحمه الله – عنه، قال: "وعن عَمْرِ بن دينار قال: حلف أنَّ هذه السّورة نزلت في التُّجّار" . وبالتأمُّل: نجد أنّها واردةٌ في شأنِ التّكاثر في الأموالِ والأوْلاد ونسيان الآخرة، وهذا حالُ كثيرٍ من التُّجّار، وهو ما رمز إليه عمرو بن دينار - رحمه الله - .
وكذلك ما ورد عن محمّد بن فضل قال: "سورةُ الإخلاص؛ لأنَّهُ ليس فيها إلاّ التّوحيدُ فقط" .
الثالث ممّا يُبَيِّن لنا حرص السّلف على هذا الأمر، ما ورد عنهم من الأمر بمراعاةِ المقصودِ من كلامِ الله بالنّظرِ لموضِعِ الآيةِ وسِياقِها، فقد كان السّلف يُؤكِّدون على مَن يُريد أن يفهم القرآن أن يفهم السِّياق. انظر فيمَ نزلت الآية ، يعني: لا تفهم الآية فهماً مقطوعاً عمّا قبلَها وعمّا بعدها فإنّ هذا لا يليقُ بك، فمثلاً عندما تقرأ قولُ الله – عزّ وجلّ – في سورةِ النّور قال: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ....) إلى أن قال: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أنت لو قلت توبوا إلى اللهِ جميعاً أمرٌ بالتوبةِ في كلِّ مَيْدان وفي كلِّ مكان، وعلى كلِّ مؤمن في كُلِّ ساعة لكان صحيحاً، لكن لو غفلت عن المقصود الّذي سيقَ الأمرُ بالتّوبةِ من أجلِهِ في هذا الموطن لَكُنْتَ مُقَصِّراً، فإنَّ التّقصير في أمر الاستئذان، وأمر غضّ البصر، وحفظ الفرج، ورعاية المؤمنة لحفظِ زينَتِها، وعدمِ إبدائها إلاّ لمَن أمر الله ممّا يكثُرُ وقوعُهُ من النّاس، وهذا تعلمونَهُ، كلٌّ واحد منّا يعلمُهُ من نفسِه، كم من مرّةٍ أفْلَتْنا أبصارَنا، ولم نَغُضَّها عمّا حرَّمَهُ اللهُ علينا أليس كذلك ؟ فالله – عزّ وجلّ – في هذا الميدان يقول: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) يعني: احذَروا أن تقعوا في هذا الأمر، وإذا وقعتم فعليكم أن تُبادِروا بالتوبة فإنَّ هذا من المعاصي ومن الذّنوب، كيف استفدنا أنّها من الذّنوب؟ أنه قال في ختام الآيات (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
تأمَّلوا – يا إخواني -: لو قال إنسان (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا) هذا أمرٌ بالتوبةِ عندما يعصي الإنسانُ ربَّهُ في كُلِّ حال لكان الكلامُ الّذي يذكرُهُ صحيحاً، لكن عندما أقول هذا أمرٌ عامٌّ للتوبة، وهو أيْضاًّ خاصٌّ بما جاءت الآياتُ فيه وهو: عندما يخل الإنسان بالاستئذان في الدّخولِ على الآخرين، والإطلاع على عوراتهم، وعندما لا يَغُضُّ بصره ، وعندما لا يحفظُ فَرْجَه، وعندما لا تُراعي المؤمنة أمرَ الحجاب أو تُقَصِّرُ فيه، فيجبُ علينا أن نتّقِيَ اللهَ وأن نُبادِرَ إلى التّوبةِ في هذه الأمور. هذا نظرٌ إلى ماذا ؟ إلى المقصود في الآيات، نحن الآن عملنا بالآية بمقصودٍ معيَّن فأعملنا ذلك، ولذلك كان السّلف يُؤكِّدون في فهمِ الآية على النّظر إلى مقصودِها؛ حتى إنّ أسماءَ الله – عزّ وجلّ – تُفَسَّر بحسَبِ أيْضاً المقصود ،بحسبِ السياق الّذي وردت فيه، (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) سميعٌ لكلامِكم إذا جادلتم رسولَ الله واشتكَيْتُم إلى الله، بصيرٌ بكم مطَّلِعٌ على أحوالِكم لا يَخْفى عليه من شأنِكم شيء، وهذه القضيّة الّتي حصلت لخوْلة بنت ثعلبة مع زوْجِها أوْس بن الصّامت لم تخفَ على الله، فقد سمع الله – عزّ وجلّ – قولَها ورأى حالَها عندما جاءت إلى رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم. لكن لو قلت: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي: يسمَعُ كُلَّ الأصوات، ويرى كلَّ المبصرات ما كان فيه والدّلالة على المعنى ومراعاة السياق ما في تفسيرِنا قبل. يقول عمر بن الخطّاب: "إنَّ هذا كلامُ الله عزّ وجلّ فضعوهُ على مواضعه، ولا تتَّبِعوا فيه أهواءكم". وقال ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: "إذا سألَ أحدُكم صاحِبَهُ كيف يقرأ آيةَ كذا وكذا، فَلْيَسَلْهُ عَمّا قبلَها" . وقال مسلم بن يسار: "إذا حدَّثْتَ عن اللهِ حديثاً فقف حتى تنظُرَ ما قبلَهُ وما بعَده".
أيْضاً ممّا يُؤكِّد عناية السّلف بهذا الأمر: ما ورد عنهم في المعرفة بأحوالِ السّورة فيم أُنزِلَت . يقول ابن مسعودٍ – رضي الله عنه – "واللهِ الّذي لا إلهَ غيْرُه ما نزلت سورةٌ من كتابِ الله إلاّ وأنا أعلَمُ أيْنَ نزلت، ولا نزلت آيةٌ من كتابِ الله إلاّ وأنا أعلَمُ فيم نزلت، ولو أعلمُ أنَّ أحداً أعلم منّي بكتابِ الله تبلُغُهُ الأبل لَرَكِبْتُ إليه" .
تأمَّلوا قولَهُ: "ولا نزلت آيةٌ من كتابِ الله إلاّ وأنا أعلَمُ فيمَ نزلت" في أيِّ شيْءٍ نزلت . هذا يدُلُّنا على أنَّهم كانوا يتتبّعون مقاصد القرآن ومقاصد الآيات، ويعرفون في أيِّ شيْءٍ تتحدَّثُ آياتُ كتابِ اللهِ – عزّ وجلّ - . كذلك ما رُوِيَ عن مجاهد أنَّهُ قال: "لقد عَرَضْتُ القرآنَ على ابنِ عبّاسٍ ثلاثَ عَرَضات أقِفُ عندَ كُلِّ آيةٍ أسألُهُ فيمَ أُنْزِلَت وفيمَ كانت" يعني: في أيِّ شيْءٍ كانت، ما هو مقصودُها ؟ . وعن نافِعٍ قال: "كان عمر بن الخطّاب – رضي الله عنه – إذا قرأ القرآن لم يتكلَّم حتى يفرُغَ منه، فأخذتُ عليه يوماً فقرأ سورةَ البقرة حتى انتهى إلى مكانٍ قال: تدري فيمَ أُنزِلَت؟ قلت: لا، قال: أُنزِلَت في كذا وكذا ثمّ مضى" . فهذا كله يَدُلُّ على أنَّ الصّحابة كانوا يُعْنَوْنَ بالقرآن، وفيمَ أُنْزِل؟ وما هي المقاصد الّتي جاء لتحقيقِها ؟.
أمّا موضوعُنا إن شاء الله في الدّرسِ القادم: الكلام على عناية المفسِّرين بهذا العلم، وبيان كيف أنّهم – – اعْتَنَواْ به، وما هو طريقة كلّ واحد منهم في الإشارة إلى هذا العلم، فمنهم مَن أشارَ إليهِ في كُلِّ سورة، ومنهم مَن اقتصر عليه فيمَ يظْهَرُ له في بعضِ السُّوَر أو عند بعضِ المناسبات، هذا ما سنُبَيِّنُهُ إن شاء الله في الدّرس القادم، ونسألُ الله تعالى التوفيقَ والسّداد.
لحفظ الدرس :
---------------------------------------
مصدر التفريغ / ملتقى أهل التفسير (بتصرف)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق