الجمعة، 16 نوفمبر 2012

الحلقــ الرابعة عشرــة / آية (83) من سورة الصافات



الحمد لله وإن كان يقِلُّ مع حق جلاله حمد الحامدين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد :
 أيها المباركون كنا في اللقاء الماضي قد انتهينا من قول الله - جل وعلا - (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَالآيات التي بعدها تحدثت عن نبي آخر وهي قول الله - جل وعلا - (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) فقوله - سبحانه - (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِعائد على نوح ، فالأجزاء من الآية بدأت بالثناء على نبي وبمدح نبي آخر فالآية تضمنت ثناءين ، ثناء على نوح وثناء على إبراهيم ، أما الثناء على نوح فإنه من الشرف لنوح أن يقال عن رجل في مقام إبراهيم أنه من شيعة نوح ، ومن الثناء على إبراهيم أن يُبين أنه سائر على خطا أهل التوحيد من قبله هذا معنى الآية (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ) أي من شيعة نوح (لَإِبْرَاهِيمَ) ، وإبراهيم أحد رسل الله العظام وهو أبو الأنبياء وكما قلت في اللقاء الأول لن أستطرد في الأخبار القصصية وإنما أنا أتحدث في بعض الأحايين عن حل الإشكالات العلمية وهذا هو المهم .
/ قال ربنا (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ*إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ*إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ*أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ*فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ*فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ*فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ)
سقيم : هنا بمعنى عليل - مريض - ، المرض يطلق في القرآن ويراد به : المرض الحسي والمرض المعنوي فيقال لمن سقُم بدنه مريض ، ويقال لمن ضعُف دينه مريض (أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا) لكن لا يقال سقيم بطرائق القرآن إلا لمن ضعف بدنه وجسده .
الذي نريد أن نقف عنده من الذي قال إني سقيم ؟
 إبراهيم ، ولم يكن إبراهيم يومها سقيما ووقع منه أن كسّر الأصنام وحطمها لما جاء أهلها يسألونه قال كما قال الله  - جل وعلا - في الأنبياء (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) ونحن نعلم أن كبيرهم لم يفعلها وأن الذي حطّم الأصنام هو إبراهيم ، إذا إبراهيم قال ماهو خلاف الواقع وماهو خلاف الواقع يسمى كذب .
 نأتي لواحدة أخرى في السنة وهو أن إبراهيم لما خاف على سارة من الملك الطاغية قال له من هذه ؟ قال هذه أختي وهي لم تكن أخته كانت زوجته ، الآن - ترى هذا والله من نفائس العلم إن فقهته - كم كذبة ؟ واحدة قال إني سقيم ، ثانية قال بل فعله كبيرهم ، والثالثة قال هذه أختي.
  الآن لم قال إني سقيم ؟ حتى يبين لهم الدين حق .
 لم قال بل فعله كبيرهم هذا ؟ حتى يبين لهم الدين.
 لم قال هذه أختي ؟ حتى يحافظ عليها .
إذا هذه الثلاث اثنتان في ذات الله والثالثة ليست في ذات الله محضا إنما خوفا على عرضه ، يوم القيامة يقال له - وهو نبي الله - أنت خليل الله فاشفع لنا عند ربك فيقول (لست بذاك إنما كنت خليلا من وراء وراء) ماالذي قصر بإبراهيم ؟ أن الثالثة لم تكن في ذات الله ، الآن بالله إذا هذا حال إبراهيم - حتى تعرف أن كل شيء عند الله وإن كان بالفضل يكون بالعدل - ما يمكن أن يستوي عند الله أحد يعمل وأحد لا يعمل مع أن إبراهيم أكرم الخلق على الله بعد نبينا ومن يقرأ القرآن يرى الثناء العاطر العظيم من الرب الكريم على هذا الخليل المبارك ومع ذلك هذه جعلته يقول (وإنما أنا خليل من وراء وراء) ، إذا هؤلاء الذين يريدون المنازل العالية ويريدون المتاجرة مع الله الباب مفتوح لكن دونه خرط قتاد يحتاج إلى إنسان بحق ليس في قلبه إلا الله ومع هذا لا يقال عن إبراهيم إن هذا ذنب أو هذا كذب لكن حتى يصبح نبينا - صلى الله عليه وسلم - أرفع قليلا يقع من إبراهيم هذا الأمر - بقدر الله - وهذا كما بيّنا من نفائس العلم حتى وأنت تسير في الحياة تمضي إلى الله تتدارك مثلها لا يأتيك أحد ويقول هذا ما يضر هذه من الصغائر هذه ... هذه ...  هذه...  هذه ... حتى يجد الإنسان نفسه في آخر الطريق لكن إذا وقعت استغفر الله ولا تيأس لكن إذا كانت الهمة عالية وتريد عظائم الأمور فالمسألة تختلف كثيرا وما يقال في حق العلماء ، وما يقال في حق من يريد أن يرث علم الأنبياء ويتصدر بالناس أو يتولى محرابا أو منبرا أو يظهر في الشاشات أو يؤلف كتبا فهذا في حقه أعظم فإن ما عند الله لا يُطلب إلا بطاعته ، ينظر الإنسان في الرغبة فإن كانت الرغبة عنده يريد من الله خيرا محضا لا ينشده غيره فليعلم أن هذا لا يمكن أن يُنال إلا بطاعة الله المحضة ولا يؤثر ولا يقدم من أراد هذا أحدا على الله ، وفي الأثر لما سأل موسى ربه - مر معنا هذا -  لم إبراهيم يثنى عليه هذا الثناء؟ قال له ربه : (إن إبراهيم ما خُيّر بين اثنين أنا أحدهما - يعني شيء في ذات الله - إلا اختارني ) ، وعمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة جاء إلى أحد الحرس - شُرط في القصر - فقال عينتك حاجبا لي - يعني أشبه ما يعرف الآن بالحارس الشخصي -  ثم قال له : أوتدري لم اخترتك؟ قال : الله أعلم يا أمير المؤمنين ، قال : رأيتك تصلي في مكان تظن ألّا يراك فيه أحد . فهذا حاجب - حارس في قصر - ما خرج يوما وقال للناس اتقوا ربكم ، أو تصدّر أو قبّلَ الناس رأسه ومع ذلك كان يتوخى أماكن ومواطن يصلي فيها بحيث لا يراه الناس فقُدّر لعمر بن عبد العزيز قبل أن يتولى أن يراه فجعله - لفقه عمر - يعرف أن هذا فيه من الخشية وفيه وفيه - فقدمه ، قربه مع مؤهلاته الأخر وهو أصلا كونه يعني سيافا عند خلفاء من قبله فجعله حاجبه، والمقصود من هذا : كلما عظمت الرغبة لا بد أن يعظم أمران : النية والعمل لكن مع ذلك لا تفهم الأمر بضده فتأتي لآحاد المسلمين وتكلفهم مالا يطيقون وتقول كان إبراهيم ، كان أبوبكر ، كان عمر ، هذا فيه إجحاف بحقهم لأن ليس كل أحد مؤهلا لأن يكون على ذلكم المقام الرفيع فالله - جل وعلا - يقول (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ*جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) وقد مر معنا أن هذه عائدة على الثلاثة .
 لا بد أن يجتمع فيمن تريد أن تعلمه عقل وإيمان يستطيع معه أن يحمل ذلكم العلم الذي تريده لكن إن كان من أمامك لم يبلغ هذه الدرجة في العقل وليس له من الإيمان ما يمكن أن يحمل معه علما كبيرا فلا يجوز أبدا أن تلقنه علما أكبر من عقله فينجم عن ذلك مضرة على الناس وأنا أذكر لكم شيئا وقع لي ، كنت أسكن في حي أمام مسجده مساحة من الأرض وكان فتية الحي يلعبون فيها وفي أيام الإجازات - مثل هذه - يلعبون ليلا فوقع ذات مرة أن خسف القمر وبوصفي إماما للمسجد جئت أصلي بالناس الخسوف وهم هؤلاء الذين يلعبون مسلمون فلما سمعوا صلاة الخسوف والداعي لها توقفوا و ذهبوا إلى مكان الوضوء توضوا ثم صلوا معنا في جملة من يصلي ثم بعد أن فرغت الصلاة كما هي السنة أخذت أعظ فهؤلاء الفتية تأثروا بالوعظ وأنا واقف وأراهم وترى التأثر في أعينهم وهم بلباسهم الذي يخرجون به عادة فأنا عندما رأيت تأثرهم غيرت الموضوع وخرجت بهم من العظة إلى الفقه نحوت بهم منحى آخر ثم فرغت من الحديث فجاءني أحد الفضلاء الناصحين في الحي قال يا أبا هاشم ما كان مفروض تغير نحن فرحنا أن الشباب الفتية بدأوا يعني يتفاعلون معك فقلت له أني غيرتها عمدا هؤلاء لا يحملون من العلم ولا من العقل هذه المنزلة يعني - هذه الشحنة إن صح التعبير - هذه القذفة الشحنة من الإيمان لأنه إذا أخذها غير مفرونة بعلم سيأتيه من يوظفها لما يريد ، لا بد أن يكون العلم مقترنا بالإيمان ، لكن إن خرج من عندي وهو يريد أن يفعل أي شيء لو جاءه أحد قال له إن أباك فيه كذا وكذا معصيتين صغيرتين تبرأ منه لما أورث من إيمان أقوى مما يحتمله عقله تبرأ من أبيه ويقع منه على مجتمعه أو على أمه أو على أبيه ما يجعله لا يفقه كيف يمشي ولئن يخرج هذا ثم مع الأيام يكبر إيمانا وعقلا وعلما خير من أن أتحمل في ذمتي أني حملته مالا يطيق حتى يقول الناس فلان أثر أو فلان لم يؤثر ، لابد من الرحمة بمن تخاطبه وأن تتقي الله - جل وعلا - فيه ، وليس كل أحد ممكن أن تقيسه على نفسك يوجد من هو أرفع منك وأعلى علما وإيمانا وأقدر منك على تحمل مالا تطيقه أنت ويوجد من هو أدنى منك ، فمراقبة الله تقتضي : أن الإنسان في كل أحواله إذا تحدث إذا تكلم يستصحب ما قاله الله جل وعلا في كتابه وكيف كان - النبي صلى الله عليه وسلم  -يربي أصحابه رضوان الله تعالى عليهم والسيرة العطرة لمن تأملها في هذا الأمرعلى وجه الخصوص يجد مرتعا خصبا بل ربما وجد مرتعا لم يسبق لأحد رعى فيه والمقصود الحديث عن خليل الله قال الله جل وعلا :
 (فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ*فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ*فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ*مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ*فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ*فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ*قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ*وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ*قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) قال ربنا (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ) الكيد : يقول العلماء يطلق في المدح ويطلق في الذم وقالوا إن من دلائل أنه يطلق في المدح قول الله جل وعلا (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ) فقالوا لو لم يكن بهذا الأمر أو بهذا الشأن لما نسبه الله - جل وعلا - لنفسه وقد يُجاب بأن هذا من باب المشاكلة كقول الله - جل وعلا - (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ) لكن الذي يظهر لي أن قول الجمهور على صواب وهو : المكر غير الكيد، فالكيد يكون في المدح والذم ، أما المكر فلا ينسب لله إلا في باب المقابلة والمشاكلة كقول الله جل وعلا  (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ) لأن المكر هو: التوصل إلى شيء بحيلة وهذا من دلائل الضعف من دلالة الضعف لأنه لو كان قادرا لتوصل إليه بغير حيلة ، مثلا : الله - جل وعلا - يقول (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) وهذا مكر نساء مع مكر نساء فإن النساء اللواتي كن في زمن يوسف وعلمنا أن يوسف فُتنت به إمرأة العزيز ما كان همّهن أن ينتقصن قدرها ، كان همّهن أن يرين يوسف فاحتلن على المرأة بأن يقدحن فيها في بيوتهن حتى تغتاظ لكن - إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا - هي علمت أنهن ما صنعن هذا إلا ليرينه لكن جعلتهن يرينه على الطريقة التي تريدها هي لا على الطريقة التي يريدنها هن ولهذا قال الله (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) قال الله (فَلَمَّا سَمِعَتْ ) ما قال الله بخبرهن هي تعرف أنه مكر ، قال الله (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ) فأرسلت إليهن جعلتهن يخضن في لهو الحديث ، اعتدت متكئا حتى تنشرح الصدور ، أعطتهم شيئا يتفكهون به زادتهم بالسكين في يدهم حتى جعلتهن يلهين، في غمرة هذا قالت (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) فغلب مكرها مكرهن ، لكن لا مكرهن ولا مكرها غلب تقوى يوسف (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) ، هذا والعلم عند الله .
 متعنا الله وإياكم متاع الصالحين والحمد لله رب العالمين.
_________________________________

الشكر موصول للأخت (أم الوليد) على تفريغها للحلقة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق