* أ.نجلاء السبيل
*إحدى منسوبات جمعية تحفيظ القرآن بمحافظة جدة
الوصية السادسة :
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}.
وصّى لقمان ابنه بالصبر بعد أن أمره بإقامة الصلاة ، ثم القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكلاهما يحتاج إلى صبر.
والله تعالى يقول لنبينا صلى الله عليه وسلم {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ
عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} .
فالصلاة تحتاج إلى صبر بل إلى اصطبار ، والاصطبار أمرٌ زائدٌ فوق الصبر.
والدعوة إلى الله وتعليم الناس ونصحهم والتعامل معهم والخلطة بهم لا شك ولا ريب في هذا المزيج البشري أن يحصل شيء من البغي والظلم والأذية والملاحاة والتعديات وقد قال الله تعالى :{وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
وتأمل دقة التشبيه النبوي حين قال [مثل القابض على دينه كالقابض على جمرة] ليست مجرد جمرة مرّت على يدك ومن ثم ألقيتَ بها ؛ لا وإنما هي جمرةٌ أنت قابضٌ عليها !!
ماذا ستفعل بيدك ؟؟ ستحرق الجلد ثم تحرق اللحم ثم العصب حتى تصل إلى العظم ومع ذلك مازلتَ قابضاً عليها.
هذه هي ضريبة التمسك بالدين وبالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد في هذا الطريق أن ينالك أذى .
لا بد أن تُبتلى .. فجاءت الوصية بالصبر :
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} .
وكل من صبر فقد عزم أمره
والصبرُ أمرٌ لازم للعبد لا يستغني عنه أحدٌ البتة سواء المؤمن أو الكافر ، هو المطية التي لا تكبو ، وقد تكرر ذكر الصبر في القرآن والأمر به والحث عليه فيما يقارب تسعين موضعاً مما يجعل الإنسان لا يملك إلا أن يستحيي من ربه ويحزم أمره ويصبر.
ولن أتطرق لفضل الصبر وفوائده وثمراته فقد طُرق هذا الموضوع كثيراً وكُتب فيه وأقيمت حوله دروس ومحاضرات ولكن ما يعنينا هنا في تدبرنا لهذه الوصايا هو :
ما الذي أراده لقمان حين وصى ابنه بالصبر؟
أو بصيغة أخرى : إلى ماذا أرادَ أن يوصل ابنه ؟
أراد أن يوصل ابنه للحلم ..
بدون صبر لا يمكن أن تكون حليماً وأنت إذا لم تصل للحلم لا يمكن أن تكون حكيماً ، والسورة تريد أن تبلغ بك أعلى درجات الكمال البشري وتكون حكيماً.
وأركان الحكمة : ( العلم والحلم والأناة ) ولا يستقيم أمر التزكية والتربية والدعوة إلا بهذه الثلاث.
فالعلم يفتح لك طريق ويبصّرك بمواقع السير..
والحلم عاصمٌ لك من الزلل..
والأناة مسدِّدة ..
وبهذا تحصل الحكمة التي تُيّسر ارتقاءك وعلوك وكمالك ، وصدق ربي إذ قال :{وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}.
والحلمُ سيد الفضائل والأخلاق وقد يقطع الحلم شراً عظيماً لو لم يقابل بالحلم لتمادى وعظم ، وكما قيل : حلمُ ساعةٍ يدفعُ شراً كبيراً..
وحتى تصل لأعلاه وتحققه فله ثلاث درجات قال تعالى : {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ}.
أول درجة من درجات الحلم :
كظم الغيظ.. والغيظ أشد الغضب كما قال المناوي ، وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قلبه.
وقيل هو الغضب المُحيط بالكبد .
بمعنى أن تحبس غضبك داخل نفسك وتسيطر عليه خاصة في لحظات الغضب المطبق الذي يفرض نفسه عليك فرضاً ، هنا وفي هذه اللحظة الحرجة يأتي كظم الغيظ ويأتي قول النبي :[ ما من جرعةٍ أعظم أجراً عند الله من جرعة غيظ كظمها عبدٌ ابتغاء وجه الله ] .
وحتى تفهم دلالة لفظ جرعة تأمل قول ربنا جل وعلا في سورة إبراهيم حين وصف عذاب الكافر قال:{يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ
وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ..}.
يتجرّعه : أي يتغصصه ، يتكرهه ، يشربه قهراً وقسراً وكأن الألم يسري في كل عضو وفي كل مفصل وفي كل عصب فيه ، فهذه اللفظة تدل دلالة واضحة أن كظم الغيظ شديد وشاق على النفس ولِعظم المشقة كان الأجر عظيماً ، قال صلى الله عليه وسلم : [ ومن كظم غيظاً وهو قادرٌ على أن ينفذه دعاه الله سبحانه على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يُخيره من الحور العين ما شاء ] .
وجاء في مسند الإمام أحمد : [ وما من جرعةٍ أحبُّ إليّ من جرعة غيظ يكظمها عبدٌ ما كظمها عبدٌ لله إلا ملأ الله جوفه إيماناً ] .
وفي رواية عن الطبراني : [ ومــن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة ].
إذا تأملت في كل هذه النصوص عرفت أن الجزاء من جنس العمل ، فمن ضيّق على نفسه حين الغضب وسّع الله ثوابه ولن تكون أكرم من ربك أبداً...
ويأتي السؤال المهم والفيصل : كيف نصل لكظم الغيظ وكيف ندرب أنفسنا عليه ؟؟
إن لكظم الغيظ منهجية نستمدها من كتاب الله وسنة رسوله .
الآية الأولى (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)
الآية الثانية (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..}
الحديث : [إنما الحلمُ بالتحلّم]
- الخطوة الأولى : (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) لا تكن عجولاً تُستحمق على عجل وتُستثار وتُستفز من التوافه فإذا مسّك أحدٌ بأذى ارتعشت كالمحموم وأحدثت جلبةً كالأواني الفارغة وأنشأت تُرغي وتُزبد فتخرج من هدوئك وأدبك وعقلك وحكمتك بأقل الكلمات وأبسط المواقف .
فمن كان هذا حاله ووضعه فهو غضوب والغضوب عجل والعجلة سفهٌ وضعف عقل وهي مصحوبة بالندامة دائماً حتى أن العرب كانت تكنيها بأم الندامات.
قال أبو حاتم رحمه الله تعالى : "وإن العجلة موكلٌ بها الندم ، وما عجل أحدٌ إلا اكتسب ندامةً واستفادَ مذمةً لأن الزلل مع العجل ولا يكون العجول محموداً أبداً " .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : [ التأني من الله والعجلة من الشيطان ] .
- الخطوة الثانية : قال تعالى:{ ادْفَع بِالَّتِي هِيَ أَحسَن فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوةٌ كَأَنهُ وَلِيٌّ حَمِيم..}. { ادفع } : تأمل هذا الأمر مطلوب من منْ ؟ مِن الذي يُسب ويُشتم ويُستفز ويُستثار ويُعتدى عليه هذا هو المنهج القرآني المطلوب منك أن تتكلف في ابتلاع غيظك وضبط لسانك ودفع غضبك وربّ غيظٍ تجرعته مخافة ماهو شرٌ منه . وكلمة معاوية رضي الله عنه فيصلٌ في ذلك قال: " والله لا أحملُ سيفي على من لا سيف له ، فإن لم يكن لأحدكم سوى كلمةٍ يقولها يستشفي بها فإني أجعل لها ذلك دبر أذني وتحت قدمي ". وقد قال لقمان لابنه : " يا بُنيّ كَذَب من قال إن الشر بالشر يُطفأ ، فإن كان صادقاً فليوقد نارين ولينظر هل تُطفئُ إحداهما الأخرى ؛ وإنما يُطفئُ الخير الشر كما يطفئ الماءُ النار".
- شتم رجل عدي بن حاتم وهو ساكتٌ ، فلما فرغ من مقالته قال : " إن كان بقيَ عندك شيء فقُلْ قبل أن يأتي شبابُ الحي فإنهم إن سمعوك تقول هذا لسيِّدهم لم يرضواْ " . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "من اتقى الله لم يشْفِ غيظهُ ومن خاف الله لم يفعل ما يريد ، ولولا يوم القيامة لكان غير ما تروْن " .
فالحليم لا يستنفره الغضب ، بل يتسع صدره ويمتد حلمه ويعذر الناس من أنفسهم ، ويلتمس المبررات لأغلاطهم فإذا ما اعتدى عليه سيء الخلق جافي النفس يريد تجريحه نظر إليه من علو واحتفظ برجاحة فكره وسماحة خلقه :[ ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب ].
- الخطوة الثالثة : [ إنما الحلمُ بالتحلّم ]. أي أن الحلم إنما يحصل بالممارسة والدُربة حتى يتعود الإنسان عليه ويصبح ملكةً عنده وكما قال الإمام الغزالي رحمه الله : " إن كظم الغيظ يحتاج إليه الإنسانُ إذا هاج غيظُه ، ويحتاجُ فيه إلى مجاهدة شديدة ولكن إذا تعوّد ذلك مدةً صار ذلك اعتياداً فلا يَهيجُ الغيظ ، وإن هاج فلا يكون في كظمِه تعبٌ وحينئذٍ يُوصفُ بالحلم " .
هذه الدُربة تحتاج إلى خُلق المُداراة وقد قال صلى الله عليه وسلم : [ مداراة الناس صدقة] . والمُدارة تعني : التغافل والتغاضي والتمرير وغض الطرف.
وقد قال منصور محمد الكريزيُّ:
أُغمِضُ عيني عن صديقي كأنني = لديه بما يأتي من القُبحِ جاهلُ
ومابي جهلٌ غير أنَّ خليقتي = تُطيقُ احتمالَ الكُرهِ فيما أُحاولَ
متى ما يرِبني مفصلٌ فقطعتُهُ بقيتُ = ومالي في نهوضي مفاصلُ
ولكن أُداريه وإن صحَّ شـدَّني = فإن هو أعـــــيا كان فيه تحامُلُ
وكما يُقال السيدُ هو المُتغاضي ، لأنه يعلم طبيعة البشر والنقص الذي فيهم ، وأنه ركِّب فيهم أهواء مختلفة وطبائع متباينة، فكما يشق عليك ترك ما جُبلت عليه ، فكذلك يشق عليهم ترك ماهم عليه ، فكان لابد من التمرير والإعذار والمرونة والملاينة و التغاضي والتنازل عن شيء من الحقوق وكل هذا من العقل ومن الحكمة وحُسن الخلق.
وقد قال الحسن البصري رحمه الله تعالى : " كانوا يقولون المُدارةُ نصفُ العقل ، وأنا أقولُ هي العقلُ كله". واستمع لتلك النصيحة الغالية التي نصح بها حكيم هذه الأمة أبو الدرداء رضي الله عنه زوجته فقال : " إذا غضبتُ فرضِّيني ، وإذا غضبتِ رضَّيتُكِ ، فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق" . وليس بحكيم من لا يُعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بُدّاً حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً ، فرُبَّ مملولٍ لا تستطيع فِراقهُ !!
- نُقل عن صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - أنه كان حليماً حسن الأخلاق صبوراً على ما يكره ، كثير التغاضي عن ذنوب أصحابه ، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يُعلمهُ بذلك ولا يتغير عليه. هذه المُداراة تضعُ مكان الضغينة مودةً ، ذلكم أن الفضيلة محبوبة في نفسها وتدعو إلى احترام من يتمسك بها. وكما يُقال :
ما دمت حيـَّاً فدارِ الناس كلهمُ = فإنما أنت في دار المداراةِ
من يدرِ دارى ومن لم يدرِ سوف يُرى = عمّا قليل نديماً للندامات
الدرجة الثانية من درجات الحلم : العفو عن الناس { وَالعَافِينَ عَنِ النَّاَس} والعفو هو : ترك المؤاخذة على الذنب ، إسقاط اللوم والتثريب وترك الانتقام والأخذ بالحق. نعم أنت مُرخصٌ لك أن تأخذ بمظلمتك بقدر المظلمة وبقدر ما اعتُدي عليك هذا حقٌ لك، الله تعالى يقول:{ وَجَزَآؤاْ سيئةٍ سَيِّئةٌ مِثلُها }. لكنك إن عفوت وصفحت وتغلبت على حظ نفسك وعلى الكِبر الذي في قلبك رجاء ما عند الله فلن يُضيعك الله ، أبشر فإن الله يقول: { فَمَن عَفَا وَأصْلَحَ فَأجرُهُ عَلَى الله }.
- بعض الناس قد يعتبر أن العفو ذل ولكن الله حكم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه عِز ، عن أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله r- صلى الله عليه وسلم - يقول : [ ثلاثٌ أُقسمُ عليهنَّ وأحدثكم حديثاً فاحفظوه قال: ما نقص مالٌ من صدقة ، ولا ظُلم عبدٌ مظلمةٌ صبرَ عليها إلاّ زاده الله عزّاً ، فاعفوا يعزّكم الله ، ولا فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقرٍ] وهذا وعدٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - للعبد المظلوم الذي تجرّع مرارة الظلم وغُصص الظلم وصبر على مظلمته أن سَيَعزْ... ومن أعزه الله فلن يذله أحد ، ومن رفعه الله فلن يخفضه أحد.
- وإن من أسباب مضاعفة الثواب كما قال العلامة ابن سعدي رحمه الله : " القيام بالأعمال الصالحة عند المعارضات النفسية والمعارضات الخارجية ، فكلما كانت المعارضات أقوى والدواعي أكثر كان العمل أكملُ وأكثر مضاعفة". فالعفو عمن ظلم أو أساء ثقيلٌ على النفس لما فيها من حب الانـتقام والتشفي والأخذ بالحـق وهـذا ( معارض نفسي داخلي ) قد يقف حجر عثرة في طريق الإنسان لكنه من داخل نفسه لا بتأثير أحد. وقد يجتمع عليه أيضاً ( معارض خارجي ) من خارج نفسه فيقطعه عن الخير ، ومن ذلك عبارات التخذيل والتثبيط والتوهين والسخرية التي يسمعها ممن حوله ، وغير ذلك من المعوقات والمثبطات التي يُبتلى بها العبد فيصعب عليه العفو. فإذا قاوم هذه المعارضات من نفسه ومن خارج نفسه كان حرياً بمضاعفة الثواب . قال الأحنف ابن قيس : " احذروا رأي الأوغاد قالوا : و ماهم ؟ قال : الذين يرون الصفح والعفو عاراً" وكما قال ابن القيم رحمه الله :" القواطع محنٌ يتبين بها الصادق من الكاذب فإذا خضتها انقلبت أعواناً لك توصلك إلى المقصود". العفو سلمٌ يرتقي فيه العبد حتى يصل إلى مرتبة الإحسان ، فإذا وصل لهذه المرتبة أصبح من أولياء الله :[ كُنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ...].الحديث.
ومن صور العفو التي قلَّ من يتفطن لها : ترك العتاب لأن العتاب يُوغر الصدور ويُفسد الود ، وكلما تركت العتاب كَبُرتَ ونبُلتَ وعظُم قدرك. والنبي كان فريداً في هذه الخصلة لم يُعاتب لحظ نفسه أو على دنيا قط.
- سَحرَهُ لبيد بن الأعصم اليهودي – وقد نزل الوحي بذلك – فعفا عنه ولم يؤاخذه بل لم يثبت أنه لامه أو عاتبهُ مجرد لوم أو عتاب ، فضلاً عن المؤاخذة والعقاب. وقد أخبرتنا السيدة عائشة بذلك فقالت: [ ما رأيتُ رسول الله منتصراً من مظلمةٍ ظُلمها قط مالم تكن حرمة من محارم الله ]. وقصة المقداد بن الأسود مع النبي خير شاهد على تركه للعتاب لحظ نفسه ومضمون القصة : [ أن المقداد ومعه صاحبان له عرضوا أنفسهم على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الجوع فلم يقبلهم أحد - لأنهم كانوا فقراء مثلهم ما عندهم شيء يواسونهم به - ، ثم عرضوا أنفسهم على رسول الله فانطلق بهم إلى بيته فإذا ثلاثة أعنز ، فأمر بها فحُلبت وقُسِّم اللبن بينهم الأربعة فكان كل واحد يشرب نصيبه ويبقى نصيب النبي مغطّى فإذا جاء النبي للمسجد يصلي ثم يأتي شرابه فيشربه ، فيقول المقداد : فأتاني الشيطان ذات ليلةٍ فقال : " إن محمداً يأتي الأنصار ويتحفونه ويشرب عندهم ومابه حاجة إلى هذه الجرعة قم فاشربها " فقمت وشربتها ، فلما أن وغلت في بطني وعلمت أنه ليس إليها سبيل ، قال : ندمني الشيطان فقال : " ويحك ما صنعت ؟ أشربت شراب محمد ؟ يجيء فلا يجده فيدعوا عليك فتهلك فتذهب دنياك وآخرتك " فطار النوم من عينه وجاء النبي وكشف الإناء فلم يجد شيئاً فرفع رأسه للسماء. فقال المقداد : قلتُ الآن يدعو عليّ فأهلك. فقال : " اللهم أطعم من أطعمني واسق من سقاني " ،فلما سمع هذه الدعوة أخذ شفرة وانطلق ليذبح واحدة من الأعنز الثلاث يقول: فوجدتهنّ حفّلٌ كلهن . فأتى بإناء كبير لا يمكن لهذه الأعنز أن تملأ هذه الإناء ، فحلبها حتى علت رغوة اللبن الإناء. يقول: فأتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ : يا رسول الله اشرب ، فقال : أشربتم ، فلم يجبه وأعاد عليه ، يارسول الله اشرب ، فشرب ثم ناولني. فقلت : يارسول الله اشرب فشرب ، ثم ناولني حتى علمتُ أنه قد رُوي وأصبتُ دعوته ضحكتُ حتى أُلقيتُ على الأرض ، قال : " إحدى سؤآتك يا مقداد " فقلت: يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا وفعلت كذا وكذا ، فانظر ماذا ردَّ عليه رسول الله وهو الشاهد الذي نريده من إيراد هذه القصة ، أنه لم يعاتب المقداد ولم يوبخه ويعنفه ويلومه لحظ نفسه ؛ وإنما الذي كان يشغله - صلى الله عليه وسلم - أن النائِمَينِ لم يشربا !! فقال: ما هذه إلا رحمة من الله أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها ؟ هذا هو هديه صلى الله عليه وسلم : أنه كان يحمل الناس على ظاهرهم ويحمل كلامهم وتصرفاتهم على حسن الظن وأحسن المحامل وأفضل المعاذير ، لا يعاتب ولا يلوم ولا يُقرّع ولا يُثرِّب ، وإذا عاتب من أجل الدين كان لا يواجه الناس بالعتاب ويعيّن أسمائهم بل كان يقول ما بال أقوام يفعلون كذا ، وما بال أقوام يقولون كذا.. بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ما أكرمه وما أعظمه وما أكمله.
- وقد امتثل صلى الله عليه وسلم بهذا الخُلق وهذا الهدي قول ربه تبارك وتعالى:{ خُذِ العَفوَ وَأمُرْ بِالعُرفِ وَأعْرِض عَنِ الجَاهِلِين} ولو طبقنا نحن هذه الآية لتخلصنا من ثلاثة أرباع مشاكلنا وخصوماتنا في هذه الحياة .. قال بعض العلماء : " الناس رجلان ، فرجلٌ محسن فخذ ما عفا لك من إحسانه ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يُحرجه ، وإما مسيء فمرهُ بالمعروف فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله فأعرض عنه فلعل ذلك أن يرد كيده ". وابن القيم - رحمه الله - في كتابه زاد المعاد يصف الطيب من عباد الله فقال : " إنه لا يألفُ من الأعمال إلا أطيبها ، يُحسن إلى الخلق ما استطاع ، يدعهم مما يحب أن يدعوه منه ، يحملُ أذاهم ولا يحمِّلهم أذاه ". أي أنه كريم ٌ في معشرهِ , سخي في نفسه , نفسه تعطي أكثر مما تأخذ , تبذل أكثر مما تطلب , وقلبه يتسع للجميع. يقبل ما تُيسر له من أخلاق الناس و لا يكلفهم فوق ما يطيقون و لا يحمّلهم آذاه وهمـه هيّنٌ ليّنٌ قريبٌ سهل .
الدرجة الثالثة من درجات الحلم : الصفح الصفح أبلغ من العفو , لأن الصفح تجاوز عن الذنب بالكلِّية و اعتباره كأن لم يكن فلا يبقى له أثر في نفسه وهذا قمة التسامح والعفو وصفاء النفس ونقاء السريرة . قال ابن تيمية رحمه الله :" ذكر الله تعالى في كتابه الصبر الجميل والصفح الجميل و الهجر الجميل : فالصبر الجميل : هو الذي لا شكوى فيه ولا معه . والصفح الجميل : هو الذي لا عتاب فيه . والهجر الجميل : هو الذي لا آذى معه " والنبي لما شُجّ رأسه و كسرت رباعيته يوم أُحـد قال : [ اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ].. و هذا منتهى العفو و الصفح منه صلى الله عليه وسلم .
- يدخل عليه الأعرابي و يجذبه بردائـه جذبـة شديدة تؤثـر في عنقه ويقول له :" أعطني من المال الذي عندك فإنه ليس مالك ولا مال أبيك " , فيحلم عليه رسول الله rو يعفو يصفح ولم يزد أن قـال :[ المـال مال الله , و أنا عبده , ثم يأمر له أن يحمل على بعير شعير و على الأخر تمر ] .
ها هو يدخل مكة عام الفتح ممتطياً ناقته القصواء ، طاف بالبيت سبعاً ، صلى خلف المقام وجلس في المسجد والناس من حوله والعيون شاخصة إليه ينتظرون ماهو فاعلٌ بأهل مكة الذين آذوه وقاتلوه وأخرجوه من بلده فأتت كلمته الخالدة : [ اذهبوا فأنتم الطلقاء] ليدرك العالم أجمع أنه كما وصفه ربه : {وإنّكَ لعلى خُلقٍ عَظيم }.
--------------------------------وقد قال صلى الله عليه وسلم : [ التأني من الله والعجلة من الشيطان ] .
- الخطوة الثانية : قال تعالى:{ ادْفَع بِالَّتِي هِيَ أَحسَن فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوةٌ كَأَنهُ وَلِيٌّ حَمِيم..}. { ادفع } : تأمل هذا الأمر مطلوب من منْ ؟ مِن الذي يُسب ويُشتم ويُستفز ويُستثار ويُعتدى عليه هذا هو المنهج القرآني المطلوب منك أن تتكلف في ابتلاع غيظك وضبط لسانك ودفع غضبك وربّ غيظٍ تجرعته مخافة ماهو شرٌ منه . وكلمة معاوية رضي الله عنه فيصلٌ في ذلك قال: " والله لا أحملُ سيفي على من لا سيف له ، فإن لم يكن لأحدكم سوى كلمةٍ يقولها يستشفي بها فإني أجعل لها ذلك دبر أذني وتحت قدمي ". وقد قال لقمان لابنه : " يا بُنيّ كَذَب من قال إن الشر بالشر يُطفأ ، فإن كان صادقاً فليوقد نارين ولينظر هل تُطفئُ إحداهما الأخرى ؛ وإنما يُطفئُ الخير الشر كما يطفئ الماءُ النار".
- شتم رجل عدي بن حاتم وهو ساكتٌ ، فلما فرغ من مقالته قال : " إن كان بقيَ عندك شيء فقُلْ قبل أن يأتي شبابُ الحي فإنهم إن سمعوك تقول هذا لسيِّدهم لم يرضواْ " . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "من اتقى الله لم يشْفِ غيظهُ ومن خاف الله لم يفعل ما يريد ، ولولا يوم القيامة لكان غير ما تروْن " .
فالحليم لا يستنفره الغضب ، بل يتسع صدره ويمتد حلمه ويعذر الناس من أنفسهم ، ويلتمس المبررات لأغلاطهم فإذا ما اعتدى عليه سيء الخلق جافي النفس يريد تجريحه نظر إليه من علو واحتفظ برجاحة فكره وسماحة خلقه :[ ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب ].
- الخطوة الثالثة : [ إنما الحلمُ بالتحلّم ]. أي أن الحلم إنما يحصل بالممارسة والدُربة حتى يتعود الإنسان عليه ويصبح ملكةً عنده وكما قال الإمام الغزالي رحمه الله : " إن كظم الغيظ يحتاج إليه الإنسانُ إذا هاج غيظُه ، ويحتاجُ فيه إلى مجاهدة شديدة ولكن إذا تعوّد ذلك مدةً صار ذلك اعتياداً فلا يَهيجُ الغيظ ، وإن هاج فلا يكون في كظمِه تعبٌ وحينئذٍ يُوصفُ بالحلم " .
هذه الدُربة تحتاج إلى خُلق المُداراة وقد قال صلى الله عليه وسلم : [ مداراة الناس صدقة] . والمُدارة تعني : التغافل والتغاضي والتمرير وغض الطرف.
وقد قال منصور محمد الكريزيُّ:
أُغمِضُ عيني عن صديقي كأنني = لديه بما يأتي من القُبحِ جاهلُ
ومابي جهلٌ غير أنَّ خليقتي = تُطيقُ احتمالَ الكُرهِ فيما أُحاولَ
متى ما يرِبني مفصلٌ فقطعتُهُ بقيتُ = ومالي في نهوضي مفاصلُ
ولكن أُداريه وإن صحَّ شـدَّني = فإن هو أعـــــيا كان فيه تحامُلُ
وكما يُقال السيدُ هو المُتغاضي ، لأنه يعلم طبيعة البشر والنقص الذي فيهم ، وأنه ركِّب فيهم أهواء مختلفة وطبائع متباينة، فكما يشق عليك ترك ما جُبلت عليه ، فكذلك يشق عليهم ترك ماهم عليه ، فكان لابد من التمرير والإعذار والمرونة والملاينة و التغاضي والتنازل عن شيء من الحقوق وكل هذا من العقل ومن الحكمة وحُسن الخلق.
وقد قال الحسن البصري رحمه الله تعالى : " كانوا يقولون المُدارةُ نصفُ العقل ، وأنا أقولُ هي العقلُ كله". واستمع لتلك النصيحة الغالية التي نصح بها حكيم هذه الأمة أبو الدرداء رضي الله عنه زوجته فقال : " إذا غضبتُ فرضِّيني ، وإذا غضبتِ رضَّيتُكِ ، فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق" . وليس بحكيم من لا يُعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بُدّاً حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً ، فرُبَّ مملولٍ لا تستطيع فِراقهُ !!
- نُقل عن صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - أنه كان حليماً حسن الأخلاق صبوراً على ما يكره ، كثير التغاضي عن ذنوب أصحابه ، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يُعلمهُ بذلك ولا يتغير عليه. هذه المُداراة تضعُ مكان الضغينة مودةً ، ذلكم أن الفضيلة محبوبة في نفسها وتدعو إلى احترام من يتمسك بها. وكما يُقال :
ما دمت حيـَّاً فدارِ الناس كلهمُ = فإنما أنت في دار المداراةِ
من يدرِ دارى ومن لم يدرِ سوف يُرى = عمّا قليل نديماً للندامات
الدرجة الثانية من درجات الحلم : العفو عن الناس { وَالعَافِينَ عَنِ النَّاَس} والعفو هو : ترك المؤاخذة على الذنب ، إسقاط اللوم والتثريب وترك الانتقام والأخذ بالحق. نعم أنت مُرخصٌ لك أن تأخذ بمظلمتك بقدر المظلمة وبقدر ما اعتُدي عليك هذا حقٌ لك، الله تعالى يقول:{ وَجَزَآؤاْ سيئةٍ سَيِّئةٌ مِثلُها }. لكنك إن عفوت وصفحت وتغلبت على حظ نفسك وعلى الكِبر الذي في قلبك رجاء ما عند الله فلن يُضيعك الله ، أبشر فإن الله يقول: { فَمَن عَفَا وَأصْلَحَ فَأجرُهُ عَلَى الله }.
- بعض الناس قد يعتبر أن العفو ذل ولكن الله حكم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه عِز ، عن أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله r- صلى الله عليه وسلم - يقول : [ ثلاثٌ أُقسمُ عليهنَّ وأحدثكم حديثاً فاحفظوه قال: ما نقص مالٌ من صدقة ، ولا ظُلم عبدٌ مظلمةٌ صبرَ عليها إلاّ زاده الله عزّاً ، فاعفوا يعزّكم الله ، ولا فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقرٍ] وهذا وعدٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - للعبد المظلوم الذي تجرّع مرارة الظلم وغُصص الظلم وصبر على مظلمته أن سَيَعزْ... ومن أعزه الله فلن يذله أحد ، ومن رفعه الله فلن يخفضه أحد.
- وإن من أسباب مضاعفة الثواب كما قال العلامة ابن سعدي رحمه الله : " القيام بالأعمال الصالحة عند المعارضات النفسية والمعارضات الخارجية ، فكلما كانت المعارضات أقوى والدواعي أكثر كان العمل أكملُ وأكثر مضاعفة". فالعفو عمن ظلم أو أساء ثقيلٌ على النفس لما فيها من حب الانـتقام والتشفي والأخذ بالحـق وهـذا ( معارض نفسي داخلي ) قد يقف حجر عثرة في طريق الإنسان لكنه من داخل نفسه لا بتأثير أحد. وقد يجتمع عليه أيضاً ( معارض خارجي ) من خارج نفسه فيقطعه عن الخير ، ومن ذلك عبارات التخذيل والتثبيط والتوهين والسخرية التي يسمعها ممن حوله ، وغير ذلك من المعوقات والمثبطات التي يُبتلى بها العبد فيصعب عليه العفو. فإذا قاوم هذه المعارضات من نفسه ومن خارج نفسه كان حرياً بمضاعفة الثواب . قال الأحنف ابن قيس : " احذروا رأي الأوغاد قالوا : و ماهم ؟ قال : الذين يرون الصفح والعفو عاراً" وكما قال ابن القيم رحمه الله :" القواطع محنٌ يتبين بها الصادق من الكاذب فإذا خضتها انقلبت أعواناً لك توصلك إلى المقصود". العفو سلمٌ يرتقي فيه العبد حتى يصل إلى مرتبة الإحسان ، فإذا وصل لهذه المرتبة أصبح من أولياء الله :[ كُنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ...].الحديث.
ومن صور العفو التي قلَّ من يتفطن لها : ترك العتاب لأن العتاب يُوغر الصدور ويُفسد الود ، وكلما تركت العتاب كَبُرتَ ونبُلتَ وعظُم قدرك. والنبي كان فريداً في هذه الخصلة لم يُعاتب لحظ نفسه أو على دنيا قط.
- سَحرَهُ لبيد بن الأعصم اليهودي – وقد نزل الوحي بذلك – فعفا عنه ولم يؤاخذه بل لم يثبت أنه لامه أو عاتبهُ مجرد لوم أو عتاب ، فضلاً عن المؤاخذة والعقاب. وقد أخبرتنا السيدة عائشة بذلك فقالت: [ ما رأيتُ رسول الله منتصراً من مظلمةٍ ظُلمها قط مالم تكن حرمة من محارم الله ]. وقصة المقداد بن الأسود مع النبي خير شاهد على تركه للعتاب لحظ نفسه ومضمون القصة : [ أن المقداد ومعه صاحبان له عرضوا أنفسهم على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الجوع فلم يقبلهم أحد - لأنهم كانوا فقراء مثلهم ما عندهم شيء يواسونهم به - ، ثم عرضوا أنفسهم على رسول الله فانطلق بهم إلى بيته فإذا ثلاثة أعنز ، فأمر بها فحُلبت وقُسِّم اللبن بينهم الأربعة فكان كل واحد يشرب نصيبه ويبقى نصيب النبي مغطّى فإذا جاء النبي للمسجد يصلي ثم يأتي شرابه فيشربه ، فيقول المقداد : فأتاني الشيطان ذات ليلةٍ فقال : " إن محمداً يأتي الأنصار ويتحفونه ويشرب عندهم ومابه حاجة إلى هذه الجرعة قم فاشربها " فقمت وشربتها ، فلما أن وغلت في بطني وعلمت أنه ليس إليها سبيل ، قال : ندمني الشيطان فقال : " ويحك ما صنعت ؟ أشربت شراب محمد ؟ يجيء فلا يجده فيدعوا عليك فتهلك فتذهب دنياك وآخرتك " فطار النوم من عينه وجاء النبي وكشف الإناء فلم يجد شيئاً فرفع رأسه للسماء. فقال المقداد : قلتُ الآن يدعو عليّ فأهلك. فقال : " اللهم أطعم من أطعمني واسق من سقاني " ،فلما سمع هذه الدعوة أخذ شفرة وانطلق ليذبح واحدة من الأعنز الثلاث يقول: فوجدتهنّ حفّلٌ كلهن . فأتى بإناء كبير لا يمكن لهذه الأعنز أن تملأ هذه الإناء ، فحلبها حتى علت رغوة اللبن الإناء. يقول: فأتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ : يا رسول الله اشرب ، فقال : أشربتم ، فلم يجبه وأعاد عليه ، يارسول الله اشرب ، فشرب ثم ناولني. فقلت : يارسول الله اشرب فشرب ، ثم ناولني حتى علمتُ أنه قد رُوي وأصبتُ دعوته ضحكتُ حتى أُلقيتُ على الأرض ، قال : " إحدى سؤآتك يا مقداد " فقلت: يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا وفعلت كذا وكذا ، فانظر ماذا ردَّ عليه رسول الله وهو الشاهد الذي نريده من إيراد هذه القصة ، أنه لم يعاتب المقداد ولم يوبخه ويعنفه ويلومه لحظ نفسه ؛ وإنما الذي كان يشغله - صلى الله عليه وسلم - أن النائِمَينِ لم يشربا !! فقال: ما هذه إلا رحمة من الله أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها ؟ هذا هو هديه صلى الله عليه وسلم : أنه كان يحمل الناس على ظاهرهم ويحمل كلامهم وتصرفاتهم على حسن الظن وأحسن المحامل وأفضل المعاذير ، لا يعاتب ولا يلوم ولا يُقرّع ولا يُثرِّب ، وإذا عاتب من أجل الدين كان لا يواجه الناس بالعتاب ويعيّن أسمائهم بل كان يقول ما بال أقوام يفعلون كذا ، وما بال أقوام يقولون كذا.. بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ما أكرمه وما أعظمه وما أكمله.
- وقد امتثل صلى الله عليه وسلم بهذا الخُلق وهذا الهدي قول ربه تبارك وتعالى:{ خُذِ العَفوَ وَأمُرْ بِالعُرفِ وَأعْرِض عَنِ الجَاهِلِين} ولو طبقنا نحن هذه الآية لتخلصنا من ثلاثة أرباع مشاكلنا وخصوماتنا في هذه الحياة .. قال بعض العلماء : " الناس رجلان ، فرجلٌ محسن فخذ ما عفا لك من إحسانه ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يُحرجه ، وإما مسيء فمرهُ بالمعروف فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله فأعرض عنه فلعل ذلك أن يرد كيده ". وابن القيم - رحمه الله - في كتابه زاد المعاد يصف الطيب من عباد الله فقال : " إنه لا يألفُ من الأعمال إلا أطيبها ، يُحسن إلى الخلق ما استطاع ، يدعهم مما يحب أن يدعوه منه ، يحملُ أذاهم ولا يحمِّلهم أذاه ". أي أنه كريم ٌ في معشرهِ , سخي في نفسه , نفسه تعطي أكثر مما تأخذ , تبذل أكثر مما تطلب , وقلبه يتسع للجميع. يقبل ما تُيسر له من أخلاق الناس و لا يكلفهم فوق ما يطيقون و لا يحمّلهم آذاه وهمـه هيّنٌ ليّنٌ قريبٌ سهل .
الدرجة الثالثة من درجات الحلم : الصفح الصفح أبلغ من العفو , لأن الصفح تجاوز عن الذنب بالكلِّية و اعتباره كأن لم يكن فلا يبقى له أثر في نفسه وهذا قمة التسامح والعفو وصفاء النفس ونقاء السريرة . قال ابن تيمية رحمه الله :" ذكر الله تعالى في كتابه الصبر الجميل والصفح الجميل و الهجر الجميل : فالصبر الجميل : هو الذي لا شكوى فيه ولا معه . والصفح الجميل : هو الذي لا عتاب فيه . والهجر الجميل : هو الذي لا آذى معه " والنبي لما شُجّ رأسه و كسرت رباعيته يوم أُحـد قال : [ اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ].. و هذا منتهى العفو و الصفح منه صلى الله عليه وسلم .
- يدخل عليه الأعرابي و يجذبه بردائـه جذبـة شديدة تؤثـر في عنقه ويقول له :" أعطني من المال الذي عندك فإنه ليس مالك ولا مال أبيك " , فيحلم عليه رسول الله rو يعفو يصفح ولم يزد أن قـال :[ المـال مال الله , و أنا عبده , ثم يأمر له أن يحمل على بعير شعير و على الأخر تمر ] .
ها هو يدخل مكة عام الفتح ممتطياً ناقته القصواء ، طاف بالبيت سبعاً ، صلى خلف المقام وجلس في المسجد والناس من حوله والعيون شاخصة إليه ينتظرون ماهو فاعلٌ بأهل مكة الذين آذوه وقاتلوه وأخرجوه من بلده فأتت كلمته الخالدة : [ اذهبوا فأنتم الطلقاء] ليدرك العالم أجمع أنه كما وصفه ربه : {وإنّكَ لعلى خُلقٍ عَظيم }.
*إحدى منسوبات جمعية تحفيظ القرآن بمحافظة جدة
راااائع جدا..
ردحذففعلا (وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين)
صلى الله على الحبيب محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
وارزقنا يارب الإقتدآء به ..