الأربعاء، 22 أغسطس 2012

تفسير سورة النساء (105- 134) / من دورة الأترجة

الشيخ صالح عبد الرحمن الخضيري

 


الحمد لله رب العالمين ..وصلى الله وسلم على إمام المتقين وخاتم النبيين..من أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعــــد :
 فهذا هو المجلس العاشر من مجالس التفسير المباركة لسورة النساء، قال الله تبارك وتعالى (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا *وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ).
هذه الآية الكريمة جاء فيها سبب نزول , لكنه من رواية مرسلة عند الترمذي والطبراني في شأن بني أُبيرق لما سرقوا طعاما ًواعتذر عنهم قومهم بأنَّهم أهل بيت خيرٍ ولم يُعرفوا مثلاً بالسَّرقة ونحو ذلك , وحاولوا أن يعتذروا لهؤلاء وقد سرق أحدهم , فهمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم بين الناس وأن يُبرِّأهم فنزلت هذه الآيات . وأيَّا ما كان الأمر ..فقد سبق القَاعدة المشهورة عند أهل العلم أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, وأنه وإن كانت هذه الرواية مرسلة ليس الاعتماد عليها لأنّ المُرسل معروف أنه من أقسام الضَّعيف , لكن على أيّ حال هذه الآية الكريمة الله تبارك وتعالى قال فيها (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ)  يا محمد (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ) وهُو القرآن الكريم .
 وقوله  (أَنزَلْنَا) : فيه دَليلٌ على عُلوّ الله تعالى على خلقه لأنَّ النُّزول لا يكون إلّا من أعلى.  وفيه أيضا ًإثبات أنّ القرآن الكريم منزّل غير مخلوق من الله تعالى بدأ وإليه يعود , وهذه مسألة كبيرة عظيمة اُمتحن فيها الأئمة وجَرَى فيها كلامٌ بالحقّ، وكلام بالباطل من المعتزلة وغيرهم .. فقوله (أَنزَلْنَا) كشأنها من الآيات الكريمة الأخرى التي تُثبت أنَّ القرآن مُنزّل من عند الله تبارك وتعالى ، وأنّه كلامه جلّ وعلا, صفةٌ من صفاته , من الله تعالى بدأ وإليه يعود .
(إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ) يا محمد (الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) بالأَمر والنّهي والفَصل في هذا (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) لماذا ؟ التّعليل : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)  بما علَّمك, والنّبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه الله تعالى الكِتَاب والحِكمة ، وقوله  ( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)  يعني بما علَّمك الله تبارك وتعالى وأَوحى إليك , وحُكمُ النّبي - صلى الله عليه وسلم - هو مِمَا علَّمه الله ولهذا وجَبت طاعة الرسول قال الله تعالى (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) وقال (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) فما يَحكُم به النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام هو مِمَّا علَّمه الله ومما يجب فيه طاعته .
(وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) سواءً قِيلَ أنَّها في طُعمة ابن أُبيرق أوغيره (وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)  يعني مُعينا ًومدافعا ًعنه, وهذه الآية بعض أهل العلم يقول : وإن كان لفظها لفظ الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - إلّا أنَّ المراد غيره ,لأنَّه لا يُمكن بحال من الأحوال أن يكون النَّبي عليه الصلاة والسلام مُدافعا ًبالباطل , مدافعا ًعن أحد بباطل, هذا مما عَصمَه الله تعالى منه ولا يمكن أن يكون.
 ثم قال تعالى  (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ) على قول من يرى سبب النُّزول يعني استغفر الله ممَّا هَمَمت به من الاعتذار لأولئك ومعاقبة اليَهودي الذي اُتهم بالسَّرقة ,لكن هذه الآية شأنُها شأن قول الله تعالى (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) ، والاستغفار : هو طلب المغفرة وهو شأن أهل الإيمان في كل زمانٍ ومكان , فمن ذا الذي يَعرَى من ذنب ، أو خطأ، أو تقصير في واجب أو فريضة  ,كل بني آدم خطّاء وخير الخطّائين التوّابون , ولذلك  شَأنُ الاستغفار شأن عجيب  أُمَّهات العبادات أُمِرَ الإنسان بعدها بالاستغفار :
 • (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ*ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ)
 • المُصَلّي إذا صلَّى وسلّم من صلاته يقول : استغفر الله ..استغفر الله ..استغفر الله
 • كفَّارة المجلس : سبحانك اللهم وبحمدك ..أشهد أن لا إله إلّا أنت ..أستغفرك وأتوب إليك .
  سيد الاستغفار أن يقول العبد : "اللهم أنت ربي لا إله إلّا أنت ..خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت, أعوذ بك من شر ما صنعت,أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء لك بذنبي فاغفرلي فإنه لا يغفر الذنوب إلّا أنت". من قاله من أول النهار موقنا ًبه فمات من يومه فهو من أهل الجنة , ومن قاله من أول الليل موقنا ًبه فمات من ليلته فهو من أهل الجنة .
 • وقال الصِّديق أبوبكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - :علِّمني دعاءً أدعو به في صلاتي قال : يا أبا بكر..قل : "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما ًكثيرا ًولا يغفر الذنوب إلّا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" .
 فشأن الاستغفار شأن عظيم ..فطوبى لمن وُجد في صحيفته استغفار كثيرا .
 (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) ولفظة "كان" أيّ دائما ًبمعنى كان ولا يزال - جلَّ وعلا - .
/ ثم قال تعالى (وَلاَ تُجَادِلْ)لا تخاصم, والمجادلة جاءت في القرآن كثيرا ً، الجِدال والمجادَلة جاء في القرآن على وجوه متعددة فيما يتعلق بها الإكثار وبغيره :
 • قال الله تعالى (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
وقال تعالى (وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ)
 والمجادلة تقع من الكفار أحيانا ًكما قال الله جل وعلا (ليجادلوكم) في سورة الأنعام , فالمقصود أنه المجادلة والجدال إن كانت لإظهار الحقّ فإنها ممدوحة، وأما إن كانت لدَفع الحق ولبس الحق بالباطل، أو كانت لا نتيجة لها ولا ثمرة لها, أو كانت أيضا ًمجادلة بالباطل فإنها مما نُهي عنه وذُمَّ صاحبه .. على أنَّه الشَّخص الذي يُجادل لإظهار الحقّ ولبيانه ينبغي أن يُعلَم أنه مأجور على هذا العمل إذا كان يُظهِر الحق ,فكيف بمن يُريد أن يُجادل عن المبطلين أو يعتذر عن المُفسدين والمنافقين ..هذا مذموم , ولهذا قال الله (وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ) سمّى ذلك خيانة لأنفسهم لأنَّ ضَرَر معصيتهم راجعٌ إليهم هم فقال ( يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ)  يَظلِمُون أنفسهم بالخيانة وغيرها من المعاصي أوالسرقة , فالإنسان إذا فعل معصية فإنه يَظلم نفسه, ولهذا قال الله تعالى (وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ) .
(إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ) وفيه إثبات صفة المحبة لله تبارك وتعالى (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا)  "خوَّانا" يعني خائنا كثير الخيانة ، (خَوَّانًا أَثِيمًا)  كثير الإثم ، كثير الخيانة كثير الإثم خوانا كثير الخيانة, أثيما كثير الإثم .
 (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) يعني يستترون ويستحيُون من الناس ( وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ) لا يستترون من الله - جلَّ وعلا - ولا يستحيون من الله، والله أحق أن يُستحيَا منه (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) وهو معهم - جلَّ وعلا - مُطلّع عليهم يعلم أحوالهم  ( إِذْ يُبَيِّتُونَ)  يتقوَّلون ويُؤلِّفون  (مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)  والتَّبييت غالبا ما يُطلق على التَّدبير ليلاً, (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)  من الرَأي الذِّي أداروه بينهم ،  (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) مناسبٌ جدا لما سبق, ما قال (وكان الله غفورا ًرحيما) قال  ( وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)  لبيان إحاطته سبحانه وتعالى بهم وأنَّه لا يخفى عليه شيء من تدبيرهم ولا أعمالهم وأنه بكل شيءٍ محيط ,لا يخفى عليه تدبير هؤلاء الكائِدين وأعمالهم التي يتوقَّعون هم أنَّها تخفى على الله لأنه يعلم جل وعلا ما كان، وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ*وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ*إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) . (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ   وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) .
/ هُنا انتقلت الآية إلى مناقشة لهؤلاء المُجادلين الذِّين يُجادلون بالباطل عن هؤلاء فقال (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء) هأنتم يا هؤلاء جادلتم بمعنى خاصمتم وحاججتم عنهم أيّ عن هؤلاء الجماعة (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ,الخطاب لكل من يجادِل بالباطل وإن كان من يرى صحة سبب النزول يرى أنهم جماعة طُعمة بن اُبيرق ,ها أنتم هؤلاء أي جماعة طعمة بن اُبيرق جادلتم عنهم في هذه الحياة الدُّنيا,لكن نحن قلنا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب,والسَّبب هنا فيه ضَعف وهو أنَّه رواية مُرسلة, فنحن ينبغي أننّا نفهم الآية نفسّر الآية على عمومها وأنّه يدخل في الخطاب كل من أراد أن يُجادل عن أناس من المبطلين سواء كانوا من المنافقين أو كانوا من الكافرين أو كانوا من المُسلمين المخطئين المذنبين ,من أخطأ فيُقال أخطأت يُنصح يُذكّر، لكن ما يجادل عنه . وإذا كان هذا الخطاب متوجّه لمن يُجادل عن المخطئين أو عن المبطلين فمن باب أولى ينبغي أن يتوجّه للشخص نفسه أنه إذا أخطأ أو زلَّ لا ينبغي أن يُجادل بالباطل فإن الاعتراف بالحق فضيلة عليه أن يعترف ويقول أنا أخطأت، وأستغفر الله، وأتوب إليه ولا حرج في هذا ولا عيب في هذا , بل هذا دليل على فضل هذا الإنسان,وهذا أمر في غاية الأهمية .. دائما ًالإنسان قد يُخطئ في المسائل العلمية، وفي المسائل العملية وفي حكمه على الأشخاص، وفي تقديره لبعض الأمور وهو بَشر ,لكن لا ينسى قول الله الذي ذكّرناكم به قبل (فتبيّنوا) يتثبت , ثم لو فُرض أنه حكم على أحد أو قال قولا ًأو أفتى بفتيا أوتكلّم بكلام ثم تبيّن له أن الرَّاجح بخلاف ما قال أو أن الصواب خلاف ما قال فعليه ألّا تأخذه العزّة بالإثم،بل إذا قيل له اتقِ الله ذُكّر بالله لا يكون كمن قال الله فيهم (وإذا قيل له اتقِ الله أخذته العزة بالإثم) لا , بل عليه أن يعترف بالحق.
 ويحضرني في هذه المناسبة قصة من أعجب ما مرّ بي عن بعض أهل العلم ذكرها ابن العربي المالكي يقول : "إنَّ رجلا ًمن طلاب العلم دخل مصر ،فوجد أحد العلماء يُقَرِّر في مجلسه في الجامع - ويبدو أنه في القرن الرابع الهجري- يُقرر مسألة فجلس هذا الطَّالب الغريب يستمع, فقال الشيخ في أثناء حديثه :إنَّ رسول الله (طلَّق، وآلى من نساءه، وظَاهَر) يقول : فلمّا انقضى المجلس - يقول هذا طالب العلم الغريب- وانفضَّ طلابه وكانوا يملؤن المسجد ,ذهبت وتبِعته حتى دخل بيته ,يقول فلما دخل بيته استأذنت عليه فأَذِنَ لي .. فقلت : إني طالب دخلت بلاد مصر من طلاب العلم، وحضرت مجلسك وانتفعت ,وأنا أريد الانتفاع منك لكن أشكل عليّ أنَّك قلت إن النبي طلّق نساءه هذا صحيح، وأنّه آلى وهذا صحيح. وأشكل عليّ أنَّك قُلت ظاهر, والظِّهار لا يمكن لأنَّ الله سمّاه في القرآن (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا) ، ماذا تتصوّر من شيخ له أتباع، وله جلالة قدر وله مكانة ! يقول: قام فقبّل بين عيني وقال: جزاك الله عني خيرا ً..صَدَقت . يقول : فلما كان في اليوم الثاني دخلت المسجد الجامع ,فلما رآني الشيخ مقبلا ً قال: مرحبا ًبشيخي، أنت شيخي في هذه المسألة! يقول : والنَّاس يلتفتون إليّ، وأنا لا تَكادُ تَحملني رجلاي, ووجهي يقول صار أحمر من الخَجَل . وقال : تعال اقترب مني أنت شيخي في هذه المسألة يقول : فما يزال يقول اقترب حتى أجلسني بجواره .. - انظر كيف الرجوع إلى الحق ولم يجد غضاضة -  يقول : نعم إني قلت أمس وأخطأت إنَّ رسول الله ظَاهر وإنَّه جاءني هذا الرَّجل وقال لي إنك قلت كذا والظهار سمّاه الله في القرآن (مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا)  وإني راجعٌ عن مقالتي هذه، وأعترف بفضل هذا الرجل وهو شيخي في هذه المسألة عجيب جِدّاً !
 بعض النَّاس الآن مع شديد الأسف ، بعض طلاب العلم ..إذا نبهّته على مسألة جانب فيها الصواب بعضهم ولا نقول كلهم تجده يجد غضاضة في هذا , ويجد يبحث لك عن مبرر ويقول قال بهذا القول العالم الفُلاني وانظره في الكتاب الفلاني! ليس لنا دخل في العالم الفلاني ..أنت محكوم بالكتاب والسنة إذا كان قولك الذِّي تقول عليه دليل (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ، والعاقل الموفق اللَّبيب لا يجد غضاضة أن يرجع إلى الحق بعدما تبيّن له, بل هذه منقبة وفضيلة , وهذا ليس كما يُزيّن له الشَّيطان أنه يُنقص من قدره .. بل والله إنَّه يزيد رفعة عند الله أولا ً..وعند خلقه ثانياً. دائما ًالرجوع إلى الحق فضيلة ، فِي كل شيء , حتى في الأُمور الاجتماعية حتى في حوارك مع زوجتك، مع ابنك، مع بنتك مع أحد من إخوانك، وجيرانك ..دائما ًاحرص أنك ترجع إلى الحق ولا تجد غضاضة أنك تتنازل ,ليس فقط في الأمور العِلمية بل حتى في غيرها لا مانع أنَّ الإنسان يقول والله أنا أخطأت واستغفر الله ..ليس في هذا شيء .
/ (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) استفهام إنكار وتوبيخ ، من يجادل الله عنهم يوم القيامة إذا أخذهم الله بعذابه, وفي هذا تحذير لمن يُجادلون عن العِلمانيين وأعداء الدين، ويمدحونهم ويزكونهم، متعامين عن أفعالهم السَّيئة وأقوالهم التي كما قال الله (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) لا يجوز للإنسان أن يُنصب نفسه يوم من الأيام مُجادلاً عن أهل الباطل فإن الله سيحاسبه ونقول له كما قال الله (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاًمن يكون كفيلا عنهم .. من الذِّي يذب عنهم.. ويتولى أمرهم في يوم القيامة.. يوم الفَزَع ..هذا اليوم العظيم .
/ ثم استأنف وقال جلَّ وعلا (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا) أيَّ سوءٍ كان (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا) وهذه الآية الكريمة بشارة لكل مسلم ومسلمة..من يعمل سوءًا أو يظلم نفسه، يتَّهم أحدًا، أو يعمل عملاً دون الشِّرك بل حتى مع الشرك إذا استغفر الله، وتاب إليه يجد الله غفورًا رحيمـًا .
/ ثم قال الله تبارك وتعالى (وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ) يعني مَضرة هذا راجعة إليه هو, هو الذي سيتضرر لا غيره (وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ) كما قال تبارك وتعالى (وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا)، (وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ) يضر نفسه (وَلاَيَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا) ، (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)  له العلم التام، والحكمة الشاملة سبحانه وتعالى .
(وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا) ما الفرق هنا بين الخطيئة والإثم ؟؟
 من العلماء من قال (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً) :
  أنّ الخطيئة أصغر من الإثم .
 • ومنهم من قال أن الخَطيئة الشيء المتعمد، وغير المتعمد كله يدخل تحت الخطيئة
 والإثم يكون للشَّيء المتعمد ، (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً) عام ..الخطيئة المتعمدة، وغير المتعمدة إذا كانت محرَّمة (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا) بيمين كاذبة أو نحو ذلك.
 (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا) يقذف به إنسانـًا بريئـًا لم يعمل هذا الإثم  (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) والبُهتان : الكذب الكبير الذي يتحيَّر الإنسان في عَظَمته وكِبره ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : (أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ذكرك أخاك بما يكره ..قال: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) .
 من العُلماء من يَرى أنّ الله جلّ وعلا
 قال الله - جل وعلا هنا  (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ)  ولم يقل (بهما) أيّ الخطيئة والإثم ،  (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ)  رَدُّ الكناية لأيّ شيء ؟
 • ردَّها إلى الإثم - أقرب مذكور-
 • أو جعل الخطيئة والإثم كالشّيء الواحد  (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) لم يقُل بهما ، إما أنه رد الإثنين للواحد، أو يكون الضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهو الإثم (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) .
/ ثم قال الله تبارك وتعالى ممتنـًا على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) بك (لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ)  يعني من قوم طُعمة بن أبيرق على القول بأن سبب النزول صحيح أو حتى من المنافقين عمومـًا (لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ)  يعني يخطّئوك في الحكم ويُلبِّسوا عليك أمر أي إنسان .. ومعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قد يأتي الشخص يعتذر إليه فيقبَل عُذره و يَكِل سريرته إلى الله كما حصل في شأن المنافقين الذين اعتذروا لما رجع من غزوة تبوك ,مع أنه لا يعلم حقائق ما في قلوبهم إلا الله سبحانه وتعالى ، فهو لا يعلم عليه الصلاة والسلام إلا ما علّمه الله تبارك وتعالى .. (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ)  يعني يرجع وبال ذلك عليهم هم على أنفسهم  (وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ)  يعني ضرره يرجع إليهم هم، لأنك معصوم بالوحي، لو فُرِض أنهم لبّسوا، أو تكلموا، أو قالوا، فينبئك اللَّطيف الخبير (قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) ، (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) الكتاب يعني القرآن، والحكمة هي السُنّة والقضاء بالوحي ، ولهذا السُنّة كما قال الشافعي تنزل على النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كما يَنزل القرآن.والله تبارك وتعالى قال (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) وقال (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في سنن أبي داود : (ألا وإنّي أوتيت القرآن ومثله معه ، ألا لا يوشك رجل شبعان متكئٌ على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا وإنما حرَّم رسول الله كما حرَّم الله).. وفيه دليل على ضَلال من يُسَمُون أنفسهم بالقُرآنيين، يقولون لا نأخذ إلا بما في القرآن فقط ، فنقول لهم ما أخذتم بالقرآن، فلو أخذتم بالقرآن لدلّكم القرآن على وجوب الأخذ بالسنة لأن الله يقول (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) ويقول (أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ) ويقول (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) ويقول  (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) ، قال الإمام أحمد بن حنبل "ذكر الله طاعة الرسول في ثلاث وثلاثين آية في القرآن الكريم".
 (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) علَّمك ما لم تكن تعلم من الأحكام ، وعلّمه الله - جلّ وعلا - من علم الغيب، كشف له ما شاء (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا*إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)،(وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)  بأن وهبك النبوة والرسالة، وأيضـا أن أعطاك الحكمة وأن علّمك .
/  ثم قال الله تبارك وتعالى (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) لا خير في كثيرٍ مما يتناجى به الناس ، والمناجاة والنجوى هي الكلام الذي يُسِرّه الإنسان ، لا خير في هذه المناجاة كلها والكلام إلا من أمر بصدقة يعني إلا في نجوى من أمر بصدقة .. الصدقة في كل شيء (والكلمة الطيبة صدقة) (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) – الله أكبر هذا الدين العظيم – تبسمك في وجه أخيك صدقة ..قال عليه الصلاة والسلام (كل معروف صدقة) ، (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ) والمعروف هو: كل ما أَمر الله تعالى به، المعروف ما عُرِفَ حُسنُه بالشَّرع، وأعمال البرِّ كُلُّها من المَعروف, لأنَّ العقول حتى تعرفها ولا يتوَّهم الإنسان أنَّ في معارضة بين العقل والنَّقل أبدًا، درء تعارض العقل والنقل .
( أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) كما قال تبارك وتعالى (والصُّلح خير) والإصلاح بين النَّاس أمره عظيم ، ولهذا أُبيح فيه النجَّوى، وأُبيحَ فيه الكَذِب كما في حديث أم كلثوم بنت عقبة قال النَّبي عليه الصلاة والسلام (ليس الكذاب الذي يُصلح بين الناس فيَنمي خيرًا أو يقول خيرًا) كما أخرجه البخاري .. وفي حديث عند الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم قال (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصِّيام والصلاة والصدقة قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة ، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين) . الإصلاح بين الناس أمره عجيب.. ولهذا الله سبحانه وتعالى قال (وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) لو فُرِضَ أنَّك أَصلحت بين مُتخاصمين فنالَك أذى، وأكيد لابد الذِّي يُصلح بين النَّاس سيأتيه اتَّهام، سيتهمه بعض الناس، سيُقال فيه ما يقال ، ولكنه انظر ماذا قال الله بعد ذلك (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ) لا يُريد من الناس شيء. لو فُرِض أنَّك أَصلحت بين متخاصمين فنَالك ما نالك من الأذى فحلفت قلت مثلاً : والله لا أُصلح بين مُتخاصمين ، أقسمت يَمين أنَّك ما تصلح بين متخاصمين ، ثم دَعَاك الناس لأنَّك معروف بحسن الأسلوب والطَّريقة دَعَوك للإصلاح ، هنا لا تقول إنِّي حَالف ، بعض الناس يقول لا أنا علي يمين،ما دام أنّه عليّ يمين فلن أصلح بين أحد ، نقول قال الله تعالى  (وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) لا تجعل اليَمين بالله معترضة لك، مانعة لك من الإصلاح. وهذا أرجح القولين في معنى الآية كما ربما مرّ عليكم هذا ، إن الإنسان لا يجعل اليمين بالله تمنعه من إصلاح ذات البين .. لأن إصلاح ذات البين بين المسلمين له أثر عظيم في جَمع الكلمة، ووحدة الصف وزيادة الحسنات واجتماع القلوب ، له أثر عظيم . ولهذا قال الله تعالى  (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ)  مما يتناجى به الناس  (إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) . ثم نبّه على وجوب الإخلاص في هذا فقال (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ) طلب رضا الله سبحانه وتعالى، لأنَّ الناس لا ينبغي أن يَلتفت إليهم الشخص بقدر ما يستطيع ، النَّاس مَدحُهُم وقَدحُهُم لا يرفع ولا يشفع غالبـًا ولهذا لما جاء الإعرابي للنبي - صلى الله عليه وسلم -  قال : يا محمد، إنّ مدحي زين وذمي شين ؟ قال : (ذاك الله) الله هو الذي مدحه زين وذمه شين، أما أنت !! (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) يعني في الآخرة (أَجْرًا عَظِيمًا) ولاحظ يشبه قوله تعالى (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) لم يقُل فسوف نُدخله الجنة أنظر قال (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)  أجـرًا عظيمـًا أيّ غير محدود، ما قال فسوف نؤتيه أجرًا،لا ، أجـرًا عظيمًا لعظيم مكانة ومنزلة هذه الأمور الثلاثة ..الأمر بالصدقة أحيانـًا بعض الناس قد يتكلم بكلمة في مجلس في بعض الأثرياء فتكون هذه الكلمة سبب في مشروع عظيم وخير كبير.. والعكس بعض الناس يتكلم بكلمة فتكون سبب في صَدّ مشروع عظيم .. ولهذا جاء في حديث حسنه بعض أهل العلم ( إنّ من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير ، فطُوبى لمن كان مفتاحـًا للخير مغلاقـًا للشر، وويلٌ لمن كان مفتاحـًا للشَّر مغلاقـًا للخير).. فعلا ًبعض الناس هكذا سبحان الله.. لو سكت كما قال عليه الصلاة والسلام :( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت) بعض الناس إذا همّ الغني بصدقة، أو هَمَّ صاحب الخير بشيء تكلم كأنّه شيطان فأنهى الموضوع تمامـًا وأده في مكانه ، وبعض الناس على العكس من ذلك سبحان الله إذا هَمَّ أن يُحجِم عن خير، أو صدقة، أو بِرّ، أو إصلاح، تكلَّم بكلمة فصارت مفتاح لخير عظيم.. وكل إنسان يفعل ما سيناله عند الله سبحانه وتعالى ويفعل ما سَيُجازيه به .
/ ثم قال تبارك وتعالى (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ) يخالفه (مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىمن التوحيد والحُدود (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَيعني غير طريق المؤمنين وهذا مُلازِم للصِّفة الأولى ,  (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ) ،أكيد الذي يُشاقق الرسول مُتبَّع غير سبيل المؤمنين إذاً لماذا قال الله  (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ) ثم قال بعده (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) ؟؟
 يقول الحافظ ابن كثير : "ويتبع غير سبيل المؤمنين هذا مُلازم للصفة الأولى ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع ، وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة ..فإنَّه قد ضُمنت لهم العصمة ، والله تعالى لا يجمع أمة محمد على خطأ". ولهذا قال الله (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ) ثم قال (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) لأنه الذي يتبع غير سبيل المؤمنين أكيد قد شاقّ الرسول ،لأنَّ الأمة لا تجُمع على ضلالة .. الفرق هو كالتالي : ومن يشاقق الرسول يخالف نصًّا ، و يتَّبِع غير سبيل المؤمنين يُخالف إجماع الأمة .. مع أنه أشار بعض أهل العلم ومنهم ابن تيمية إلى أنه قَلَّما أو لا يوجد شيء أجمعت عليه الأمة إلا وفيه نص عَلِمه من عَلِمه وجهله من جهله.
 (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) نَكِله في الآخرة إلى ما تولى في الدنيا   ( وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ)  يعني ونجعل صلاءه نار جهنم ندخله فيها ونحرقه فيها .
ثُمَّ قال تبارك وتعالى (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) وهذه الآية الكريمة فيها دليل على عَظيم ذَنب الشِّرك، تقدَّم التحذير من الشرك في هذه السورة في قوله: (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) ، وفي قوله هنا ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ) ،  وهنا كرَّر الأمر لخطورة الشرك الأكبر، وأنه أعظم الضَّلال ولا يغفره الله إلا بالتوبة منه ، وقد عرَّف النبي الشرك كما في الصحيحين حين سئل أي الذنب أعظم ؟ قال (أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك).. والندّ هو المثل والشبيه ، فمن صرف شيئـًا من العبادات لغير الله فقد أشرك به شركـًا يُبطِل التوحيد ويُنافيه ، فمن صرف نوعـًا أو فردًا من أفراد العبادة لغير الله تبارك وتعالى فقد وقع في الشرك الأكبر وهو الذَّنب الوحيد الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة، وهو الظلم (إنّ الشرك لَظُلمٌ عظيم) فلا أسوأ ولا أبشع ممن سَوَّى المخلوق من تراب برب الأرباب.. ولهذا يقولون يوم القيامة (تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ*إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) لا أسوأ ممن سوّى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالربِّ الغني الكامل من جميع الوجوه .. المشرك هنا يتنقَصّ الرَّب - جلّ وعلا - لذلك استحق أن يُخلَّد في النار لأنه ظالم ،هل أعظم ظُلمـًا ممن خلقه الله عزّوجلّ لعبادته وتوحيده فذهب بنفسه الشريفة فجعلها في أخَسّ المَراتب وأحط المنازل,أما بقية الذنوب ما خلا الشرك فهي تحت المشيئة .. فالذي يقول :"يا سيد فلان أغثني، أنا في حسبك" هذا هو الشرك ،الذِّي يَطلب الشفاعة من أموات ،رميم (إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) هذا هو الشرك..أن تجعل لله ندًا تَصرف شيئـًا من أنواع العبادة لغير الله والدُّعاء, قال عليه الصلاة والسلام : (الدعاء هو العبادة وقرأ (وقال ربكم أدعوني أستجب لكم )).
 ثم قال الله (إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا) يعني أصنامـًا لها أسماء مؤنثة كاللات والعُزة. ، وقيل المراد بالإناث المَوات التي لا روح لها كالخشب والحَجر. وهذا توبيخ لهؤلاء المشركين وتضعيف لعقولهم ، (وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا)  وهو الشَّيطان لأنهم إذا أطاعوه فقد عبدوه ،قال تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) .
مَريدًا : المَريد هو العَاتي .. (لَّعَنَهُ اللَّهُ) أصل اللَّعن الطرد والإبعاد فهو إبعاد مقترن بسخط والعياذ بالله ، إبعاد مقترن بسخط ، وكل واحد من بني آدم إما عابدٌ للرحمن وإما عابد للشيطان ، ولذلك الله سبحانه وتعالى قال (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) وتجد بعض بني آدم يهربون من عبودية الله ويصبحون عبيدًا للشيطان .. يقول ابن القيم : "هربوا من الرِّق الذي خُلقوا له فَبُلُوا برق النَّفس والشَّيطان" .
 (وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) والنَّصيب المفروض هو المقطوع المُقدِّر. يقول ابن القيم : "حقيقة الفرض هو التَّقدير والمعنى أن من اتبع الشيطان وأطاعه فهو من نصيبه المفروض وحظِّه المقسوم فكل من أطاع عَدُو الله فهو من مَفروضه . فالناس قسمان نصيب الشيطان ومفروضه ، وأولياء الله وحزبه وخاصته"  الناس قسمان أحد من فرض الشيطان، وأحد من أولياء الرحمن ومن خاصة عباد الله .
(وَلأُضِلَّنَّهُمْ) طبعـًا اللاَمات هذه كُلَّها قسم، اللام جَواب قسم محذوف والإضلال الصَّرف عن طريق الهداية إلى طريق الغِوَاية (وَلأُضِلَّنَّهُمْ) يعني عن الحقّ ( وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ)  قال ابن عباس:  يريد تعويق التوبة وتأخيرها ،والأماني الباطلة هي من الشيطان ولهذا الله سبحانه وتعالى - كما سيأتي - قال (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) .
(وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ) البَتك : القطع ، وهو هاهنا قطع البحيرة الناقة ليُعلم أنها بحيرة قال الله (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) فهذا من جِنس تحكّمات أهل الجاهلية.
(وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) يعني دين الله (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) ، وقيل : هو أن الله - جلّ وعلا - خلق الشمس والقمر والأحجار والأشجار لِمَا خلقها له فجاء المشركون فغيروها وعبدوها وقطّعوا الحجر والشجر وجعلوها معبودات تُعبد من دون الله ، وقيل هو الخصاء لبني آدم وفقأ الأعين . ولا مانع من الحمل على العموم لأنه من قواعد التفسير عند العلماء أنَّه إذا كان اللفظ يَحتمل أكثر من معنى فإنه يُؤخذ به كاملاً ولا يُترك.
قال الله (وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ) يعني ربًّا يطيعه (فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا*يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) وعده وتمنيتُه : ما يُوقعه في قلب الإنسان يقول سيطول عمرك وتنال الدنيا وقد يكون بتخويفه من الفقر والإنفاق،وصلة الرحم كما مر عليكم في قول الله (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء).
(وَيُمَنِّيهِمْ) أنه ما في بعث ولا جنة ولا نار (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) يعني باطلاً (أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا) يعني لا يجدون مقرًا ومعدلا عنها .
/ ثم لأنَّ القرآن مثاني إذا ذكر الأشرار ذكر الأخيار، وإذا ذكر السعداء ذكر الأشقياء وهكذا ،قال الله (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ) جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) من تحتها الغرف والمساكن (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً).
 المقطع الثاني : {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)}.
بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين قال الله - جلّ ذكره - في هذا المجلس الحَادي عشر..
 ( لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ) هذه الآية الكريمة خطابٌ للمسلمين ولأَهل الكتاب جميعـًا، ليس بأمانيِّكم أيُّها المسلمون ولا أمانيّ اليهود والنصارى، وذلك على ما قيل أنَّهم افتخروا فقالَ أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم . وقال المسلمون نبينا هو خاتم النبيين وكتابنا هو يقضي على الكتب وقد آمنا بكتابنا وكتابكم فنحن أولى بالله منكم . فقال الله  ( لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ)  ليست المسألة مجرد مفاخرة وأماني   (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)  وهذه الآية يقول بعض أهل العلم من أخوف الآيات لقوله  ( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)  ولهذا ورد في الحديث (أن أبا بكر جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -  وقال : يا رسول الله ، إن الله يقول  ( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)  ، إذاً هلكنا يا رسول الله ..فقال عليه الصلاة والسلام :غفر الله لك يا أبا بكر ، ألست تحزن ؟ ألست تنصب ؟ ألست تصيبك اللأواء ؟ قال : بلى . قال : فهذا مما تُجزون به)
.. وقال عليه الصلاة والسلام : (ما يُصيب المؤمن من همٍّ ولا غمٍّ ولا نصبٍ ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) . فهذه التي تُصيب الناس ( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)  فالآية عامة في حق كل عامل ، ( وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ) .
(وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) بهذا الشرط من يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى كما قال تعالى (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ).
(وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ)  بهذا الشَّرط ،كما قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وفي القرآن الكريم دائمـًا يُقرن الإيمان بالعَمل الصالح ، لأنَّ الأمر كما قال الحسن البصري قال: "ليس الإيمان بالتَّمني ولا بالتَّحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل". الإيمان ليس فقط كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل . (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) أي مقدار النقير
 ما هو النقير ؟ النُّقرة التي تكون في ظَهر النواة .
 وورد في القرآن (مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ)  ، وورد (وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) كُلُّها في النواة . كُل الثلاث : النقير.. والقطمير.. والفتيل .
• النَّــقير: عرفناه الذي هو النقرة التي تكون في ظهر النواة - نواة التمر-
 • القطمير : الغشاء الذي يكون على نواة التمر .
• والفتيل : الخَيط الذي يكون في وسط النواة .. كُلُّها في القرآن الكريم .
  (وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) وهذا يَدُلَّ على مكانة الإيمان ومنزلته، الإيمان له منزلة عظيمة جدًا ولهذا قال (وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)  .
(وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا) يعني من أحكم دينـًا (مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه) يعني أخلص عمله لله (وَهُوَ مُحْسِنٌ )  يعني مُتَّبِع , وهذان شرطا العمل ، كما قال الله  (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)  أي عمل من الأعمال لابد له من شَرطين اثنين : الأول : الإخلاص لله .
الثاني : المتابعة لرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
 ما هو الدليل على هذين الشرطين ؟
 • فشرط الاتّباع في قوله تعالى (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا)
• وشرط الإخلاص في قوله (وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)
 • وقوله (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).
( أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه) يعني الإخلاص  (وَهُوَ مُحْسِنٌ)  إتباع السنة وهنا في هذه الآية : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه) الإخلاص،(وَهُوَ مُحْسِنٌ) الاتباع ، (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) ما هي مِلة إبراهيم؟ الحنيفية هي ملة إبراهيم، أن تعبد الله مخلصـًا له الدِّين وبذلك أمر الله جميع الخلق ..وعَجَب إبراهيم الخليل عليه السلام ! لو معنا ساعة من الوقت وقفنا مع الخليل عليه الصلاة والسلام ، عجيب ! تأملوا إخواني ،أخواتي لماذا ذكر الله إبراهيم في غالب سُور القرآن ؟.. البقرة ذُكر فيها إبراهيم ، آل عمران ، النِّساء (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) الأنعام ، التوبة، هود ، آخر سورة يوسف، النَّحل ، في سورة مريم ، وذكر في سورة إبراهيم، وفي الأنبياء ، وفي النّجم ، وفي الأعلى ، وفي سورة الممتحنة ، وفي الصافات ، وفي العنكبوت، وفي الشعراء ..لـمـاذا ؟؟ لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أخلص لله هو وأولاده وأهل بيته ليس لهم من نفسه حَظّ ولا نصيب ..كله لله (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) يَتَلَمس مَراضي الله في كل شيء،ما يوم من الأيام أمره الله بأمر فتردد (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) ، أمره الله أن ينقل هاجر وابنها إسماعيل من بلاد الشام إلى وادٍ غير ذي زرع فامتثل ولم يتردد (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) سبحان الله!
 ولهذا استحق (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) لما قرأ معاذ هذه الآية لما بعثه النبي عليه الصلاة والسلام إلى اليمن سمعه رجل فقال : "لقد قَرَّت عين أم إبراهيم"، يقول يا سعادة أم إبراهيم بهذه الخُلة.
(وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) والخُلَّة أعلى مراتب المحبة. قال عليه الصَّلاة والسَّلام : (إنَّ الله اتَّخذني خَليلا كما اتَّخَذَ إبراهيم خليلا) صَفيًّا، الخُلَّة : صفاء المودة , الخليل الذي ليس في محبته خلل ، الصَّداقة ، الله أحبَّه واصطفاه وسماه خليلا ، والنَّبي عليه الصلاة والسلام يقول : (لو كنت متخذًا من أمتي خليلا لاتَّخذت أبا بكر خليلا) ويقول : (إنَّ من أمنّ الناس علي في نفسه وماله أبوبكر) فهو له منزلة عالية عند النبي - صلى الله عليه وسلم -    (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) النَّبي عليه الصَّلاة والسلام ليس له خليل قال (لو كنت مُتخذا من أمتي خليلاً لاتَّخذت أبا بكر خليلا).. لكنه رضي بِخُلَّة الله تبارك وتعالى .
/ ثم قال الله (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) خلقـًا وإيجادًا ومُلكـًا (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا)  أحاط علمه - جلّ وعلا - بجميع الأشياء صغيرها وكبيرها ، دقيقها ،وجليلها ، حيها وميتها.
/ ثم قال - تبارك وتعالى - (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء) وهاهنا سؤال ، يستفتونك أيّ يطلبون الفتوى، يستفتونك يا محمد يسألونك في هذا الموضوع  (قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) .
 ما الفرق بين هذه الآية الكريمة والتي سبقت في صَدر السورة ؟
 الأولى في قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى) الرَّجل تكون عنده اليتيمة، وهي ذات مال وجمال، فيرغَب أن يتزوجها ولا يُقسِط في صَداقها .
 الثانية في قوله تعالى (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء) الرَّجُل تكون عنده اليتيمة تُشاركه في ماله وليست ذَاتَ جمال فلا يرغب فيها، لكنه يكره أن يزوجها غيره لئلا يشاركه في مالها فيقوم بعضلها من أجل هذا الشيء ..هذا هو الفرق بين الآيتين .. ولهذا جاء في صحيح البخاري ومسلم أن عروة ابن الزبير سأل عائشة عن قول الله (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء) قالت : هي اليتيمة في حجر وليّها فيرغب في جمالها ومالها ولا يُقسط في صَداقها . وهنا قال الله (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ) يعني هذه الآية (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء) بخلاف التّي في أول السورة (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء) هذه اليتيمة تكون في حِجر الرجل يكون له ولاية عليها وهو وليُّها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال، لكنه لا يُقسط في صداقها يعطيها أقل، وإذا كانت غير مرغوب في جمالها فإنه يُمسكها من أجل المال الذي عنده ولا يزوِّجها رجل آخر لأنه لو زوّجها رجل آخر لاستولى على المال وهو يرغَب أنّه ينتفع من المال الذي عنده ، مال اليتيمة .
 ثم قال (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء) يستخبرونك في النساء (قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ) يعني ويفتيكم في ما يُتلى عليكم فيهن وهو قوله (وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) وقوله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) وقد ذكر الله - جل وعلا - ما يتعلق باليتيم في ثلاث وعشرين آية، أعطاه حقَّه كاملاً وحرّم الاعتداء عليه، وتوّعد على ذلك بالوعيد الشديد .
(فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ) لا تُعطُونهن الصَّداق (وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ)  للمال الذِّي عندهن وجَمالهن، لكن بأقل من الصداق (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) ويُفتيكم أيضـًا في المستضعفين (مِنَ الْوِلْدَانِ) وهم الصِّغار أن تُعطوهم حقوقهم لأنهم كانوا لا يُوَّرثون الصغار في الجاهلية ،وربما أخذوا أموالهم (وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ) ويُفتيكم أيضـًا - جَلَّ وعلا  -أن تقوموا لليتامى بالعَدل في مُهُورهن، وفي رد أموالهن إليهن (وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا) يجازيكم عليه ، ما تفعلوا من خير، أي خير كان، إن سامحتم هؤلاء الأيتام ، إن حفظتم أموالهم ( فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا)  .
/ ثم قال تعالى (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) جاء في الصحيحين عن عائشة قالت : (الرَّجُلُ تكون عنده المرأة ليس بمستكثرٍ منها - يعني لا يَرغب في عِشرتها كثيرًا إما لكبر سِنَّها، أو لِمرضها، أو لسبب آخر- يريد أن يُفارقها فتقول أَجعلك في حِلٍّ من شأني) يوجد هذا كثير يكون الواحد عنده امرأة كبيرة في السن، ويتزوج شابة كما جاء في بعض الروايات فيريد أن يتخفف فتخشى الكبيرة أن يُطلِّقها فتقول : لا تُحمِّل نفسك أعبائي. فهذا لا بأس لأن الله قال (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا)  النُّشوز غالبًا يُطلق على المرأة ، لكن هنا صار في جانب الزوج ، في جانب الرجل إذا المرأة خافت من بعلها نشوزًا ، أنه يرتفع عنها إما بِسوء خلقه وإلا يقول لا أستطيع أن أنفق على بيتين ، فلها أن تتخفف من أمورها ، تقول له : النّفقة حسب ما كتبه الله لكن لا تطلقني ، إذا خافت ، وهذا دليل على العمل بالقرائن، العمل بالقرائن لأن هي ما عندها نَصّ ولا عندها أيضـًا يقين لكنها خافت من بعلها نشوزٍا أو إعراضـًا إنه يعرض عنها .
قال الله تعالى (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) دائمـًا الصلح خير يتصالحون فيما بينهم،ويَتفاهمون أفضل على أنَّ الله قال (وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) وكان النبي يقول (حسن العهد من الإيمان). وكان يثني على خديجة ويقول إنها كانت، وكانت وكان لي منها ولد .. وليس من حسن العهد ما يَفعله بعض الناس تجده إذا تزوَّج شابة نسي زوجته الأولى وعطّل نفقتها، وأبغضها، وآذاها، وسبَّها، وشتمها ، هذا ليس من الإسلام في شيء .
 هنا يقول الله تبارك وتعالى (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا) ولاحظوا هنا أنَّه قال   (مِن بَعْلِهَا) وهنا في حكمة لم يقُل "من زوجها" !؟ البُعُولة تُشعِر بقوة العلاقة - والله تعالى أعلم - إنه لا تزال الآن على مِلاكه، أمضت معه سنين، خافت من زوجها، ولكن جاء لفظ البعولة ليُبيِّن قوة الارتباط بينه وبينها . (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا)  بُغضـًا، أو أنَه يترك عشرتها، أو إعراضـًا عن مجالستها وما إلى ذلك (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) يعني على الزَّوج والمرأة أن يتصالحا (أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)  في القِسم والنَّفقة، أو يقول الزوج لها إنك قد دخلت في السن وأنا أريد أن أتزوج امرأة شابة جميلة أؤثرها عليك في القسمة ليلا ونهارًا ، فإن رضيت بهذا فأقيمي وإن كرهت فأنا سأُخلِّي سبيلك مثلا .. إن رضيت كانت هي المُحسنة ولا تُجبَر على ذلك ، وإن لم ترضى بدون حقِّها كان على الزَّوج أن يوفيها حقها من القِسم والنفقة، أو يُسَرِّحها بإحسان، فإن أمسكها وَوَفَّاها حقها مع كراهية فهو محسن إليها هنا . ولهذا الله سبحانه وتعالى قال هنا  (أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) قال قبلها (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ) يعني شُحّ كلُّ واحدٍ من الزوجين بنصيبه من الآخر، والشحّ هو : إمساك الشَّيء مع شدّة الحرص عليه .
 الفرق بين البخل والشح : إنَّ البُخل إمساك المال ، لكن الشُّح إمساك مع شدة الحرص .. ولهذا قال الله تبارك وتعالى (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) هنا (وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ)  ، شح كل واحد من الزوجين بنصيبه من الآخر، والشُّح لا شك أنه أقبح من البُخل مع الأزواج أيّ (وَإِن تُحْسِنُواْ) بالإقامة معها - مع هذه كبيرة السن - تُحسنوا مع الكراهة (وَتَتَّقُواْ) ظُلمها، تُحسنوا في العِشرة، وتتقوا النُّشوز، والإعراض، ونقص الحق (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ) من تَحَمُل المشاق في ذلك (خَبِيرًا)  فيجازيكم ويثيبكم .
يقول بعض المفسرين "في خطاب الأزواج بطريق الالتفات هنا، والتَّعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان، وإيراد لفظ التقوى هنا المُنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يُتوقَّى منه وترتيب الوعد الكريم (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) على ذلك ، من لُطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة ما لا يخفى" . شيء عجيب، الله سبحانه وتعالى أتى بلفظ الإحسان، والتقوى، وأتى بالوعد الجزيل أيضـًا .
/ ثم قال تعالى (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ ما الجمع بين هذه الآية الكريمة وبين قوله في أول السورة أيضـًا (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً) ؟
ما المُراد بالعدل هنا ؟ (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ) مع إنّه جاء الوعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن ظلم إحدى زوجتيه قال عليه الصلاة والسلام (من كانت له زوجتان فمال مع إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل أو وشقه ساقط ) فلا يجوز الظُّلم يجب العدل ، لكن هنا الله يقول   (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء)  ما المراد بالعدل هنا ؟ مع أنه قال في أول السورة   (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً) .
المُراد بالعَدل هنا الذِّي لا يستطيعه الإنسان في ميل القلب وما يتبعه من أمور العِشرة ونحو ذلك.
 (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْعلى إقامة العدل وبَالغتم في ذلك لأن الميل يقع بلا اختيار في القلب، ولهذا جاء في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَقسم بين نسائه فيَعدل ثم يقول (اللهم هذا قَسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك ).
ما هو الشِّيء الذي يملكه الله، ولا يملكه العبد ؟ هو مَيل القلب وما يتبَعُه . أما النَّفقة فيجب العدل فيها ، المَبيت يجب العدل فيه ،وهكذا. إلاَّ ميل القلب، والمحبة القلبية فهذه يقول الله فيها (وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) لا تميلوا مع إحدى الزَّوجتين، وتَظلموا إحداهما على حِساب الأخرى فتتركوا الأُخرى، لا تَميلوا في القَسَم، في النَّفقة، لا تتَّبِعوا هَواكم فتذروها كالمُعلَّقة ، فَتَدعُوا الأخرى كالمُعلَّقة لا أيَّمـًا ولا هي ذاتُ بعل فتصبح كالمحبوسة.
في الآية التّي قبلها قال (وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ) هنا قال (وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ) تتقوا ماذا ؟ تتَّقُوا الجَور والظُّلم . (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) يغفر لكم ما بَدَرَ منكم من دون قصد .
/ ثم أرشد الله - تبارك وتعالى - إلى حالة أخرى يتعذَّر معها المُقام ، أنّ الإنسان لا يمكن أن يقيم فيها مع زوجته قال (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ) أحيانـا يتعذر أن يجتمع هَذَين الزَّوجين، يكون بينهما مشاكل، ويَسعون أهل الخير في الإصلاح، فتنبعث المشاكل من جديد ويَسعون في الإصلاح وهكذا .. فهُنا لا حَلّ إلا ما جعله الإسلام ، الإسلام لم يُشرِع شيئًا عبثـًا .. كما أنَّ الذي شَرَع النِّكاح شرع الطلاق ، الطلاق شُرع لحكمة فقال الله  (وَإِن يَتَفَرَّقَا) الزوجين (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا) وهذا من أسماء الله "الواسع"  وقد تَكرر الواسع في القرآن تسع مرات ، الوَاسع الصِّفات يَسعُ الخَلقَ كُلُّهُم بالكفاية والإفضال والجُود والتدبير سبحانه ، (حَكِيمًا ) في أمره ونهيه ، فهو وَاسع الفضل واسع الجود - جلّ وعلا - ، واسع العظمة والسلطان والملك لا أحد يُحصي ثناءً عليه سبحانه وتعالى ( وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ) .
/ ثم قال (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) خَلقـًا وإيجادًا وملكـًا (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ)  يا معاشر المسلمين (وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ) أيّ يا أهل القرآن في القرآن (أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ)  وحده ، والتـَّقوى هي : أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله ، كما قال طلق ابن حبيب . قال الذَّهبي (أَبدعَ طَلقٌ وأَوجز) .
 - وقال علي ابن أبي طالب : التقوى هي الخَوف من الجليل، والعَمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل .
 - التقوى : أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره ،واجتناب نواهيه .
 وما أعظم التقوى، وما أهدى سبيل التقوى، وما أعظم أهلها
 • (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ*فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
وعدٌ صادق لهم ، هؤلاء الذِّين يَتركون ما حرَّم الله خوفـًا من الله ، يَتَّقون المحرمات ، يتقون المُتشابه .
(وَإِن تَكْفُرُواْ) بما أوصاكم الله به  (فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)  الله - جلّ وعلا - غنيٌّ عنكم ( وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا ) عن جميع خلقه ،(حَمِيدًا) محمودًا على نعمه ، فمن أسمائه "الغنيّ"، تكررت الغني ثمانِ عشرة مرة في القرآن ،غنيًا استغنى عن الخَلق وكَمُل , والغِنى صفة كمال، والحمد كَذلك واجتماع الغِنَى مع الحَمد كَمالٌ آخر .
 الآن الغِنى صفة كمال والحمد صفة كمال إذا اجتمع الغِنى مع الحمد كمالٌ آخر ..فالله جلّ وعلا هو المحمود في جميع أفعاله المُستحق للحمد فهو الحميد في ذاته، وفي أَسمائه، وفي صفاته، وأَفعاله، وأقواله وشَرعه وقدره سبحانه وتعالى .
/ ثم قال - جلَّ وعلا - (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ) كفى بالله وكيلا يعني شهيدًا سبحانه وتعالى .
لِمَ تكرر في قوله  (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) ؟ قال بعض المفسرين: لكل واحد منهما وجه :
• أما الأول فمعناه أن لله ما في السموات وما في الأرض وهو يوصيكم بالتقوى فاقبلوا وصيته .
 • وأما الثاني فيقول أنَّ لله مافي السموات وما في الأرض وكان الله غنيًا وهو الغني وله المُلك فاطلبوا منه جلّ وعلا ما تَطلبُون ، كما في الحديث القدسي في حديث أبي ذَرّ في الصحيح عند مسلم أنّ النبي قال عن الله تبارك وتعالى أنه قال : (يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيتُ كل واحد مسألته ما نقص ذلك مِمَا عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر) خزائنه لا تنفد سبحانه وتعالى (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ) له الملك فاتخذوه وكيلا ولا تتوكلوا على غيره .
/ ثم قال (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ) يعني يُهلِكُكُم ( أَيُّهَا النَّاسُ)  يعني الكفار (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) يعني بغيركم كما قال تعالى (وإن تتولوا يستبدل قومـًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا  * مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) يعني من كان يريد بعمله عَرَضَ الدنيا ولا يريد بها الله - عزّ وجلّ - آتاه الله عَرَضَ الدنيا، أو دفع عنه فيها ما أراد وليس له في الآخرة من ثواب - والعياذ بالله - ومن أراد بِعَمله ثواب الآخرة آتاه الله من الدُّنيا ما أحب ثم جزاه الجنة في الآخرة ، ولهذا قال سبحانه في آية أخرى (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) ، وقال (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ*أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) .
  ثُمّ ختم الآية بقوله (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) فمن أسمائه السميع، وله صِفَة السَّمع، تكرر "السَّميع" في القرآن خمسًا وأربعين مرة ، و"بصيرًا" تكرر اثنين وأربعين مرة في القرآن ، و"السَّميع" - جلّ وعلا - الذي يَسمع كل شيء ولا يَشغله سمع عن سمع ، والبصير الذي يبصر كل شيء وإن دق وصغر, يرى - جلّ وعلا - ويسمع ولا يَشغله سمع عن سمع، ولا بصر عن بصر .
 نسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم أن يُوَفقنا وإيَّاكم لما يحب ويرضاه ، وأن يرزقنا وإياكم فهمـًا في كتابه وفي سنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - والله الموفق والحمد لله رب العالمين ..







---------------------------------------------
مصدر التفريغ / ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق