الشيخ صالح عبد الرحمن الخضيري
بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمدلله حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، والصَّلاة والسَّلام على إِمام المتّقين وخاتم النّبيين من أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين، نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه والتَّابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين أما بعد:
بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمدلله حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، والصَّلاة والسَّلام على إِمام المتّقين وخاتم النّبيين من أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين، نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه والتَّابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين أما بعد:
فهذه كما عَلِمتُم مجالسٌ مباركة في عِلمِ التّفسير، وهي الأُولى من نوعها فيما أعلم تستكمل تفسير القرآن كاملاً ، فأسأل الله تعالى في هذا المساء المبارك أن يجزيَ خيراً من نظَّمَهَا، ورتَّب لها، وحَضَرهَا، وشَارك فيها بأيِّ نوعٍ من أنواع المشاركة نسأل الله أن يرفع دَرجاتهم في الفِردوس الأعلى من الجنّة، وأن يرزقنا وإيَّاهم الإِخلاص في القول والعمل .
وفي الأُسبوع الماضي فُسِّر النِّصفُ الأوّل من سورة النِّساء، وفي هذا اليَوم نستكملُ بمشيئة الله تعالى بقية السُّورة.
ولا شَكّ أيُّها الإخوة والأخوات أنَّ المطلوب من كتاب الله تبارك وتعالى هو فهم معانيه والعمل به، فإن لم تكن هذه هي همّةُ حافظه لم يكُن من أهل العلم والدِّين كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ولهذا نرى قائلُ هذه الكلمة - شيخ الإسلام ابن تيمية - يقول في موضع آخر: "نَدِمتُ على تضييع أكثر أوقاتي بغير معاني القرآن" .
• وكان محمد بن جرير الطَّبري - رحمه الله - يقول "إنّي لَأَعجَب ممن قرأ القرآن ولم يَعلم تأويله كيف يلتَّذُ بتلاوته".
فهؤلاء أُناس عاشُوا مع كتاب الله تعالى عِلماً، وعملاً، وتَدَّبُراً ،وتفهُماً امتثالاً لقول الله عزّوجل (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ
إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) .
وقال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) .
وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ)
ويقول سفيان بن عُيينة " إنّما آيات القرآن خزائِن، فإذا دخلتَ خِزانة فاجتهد ألاّ تخرُجَ منها حتى تعرف ما فيها ".
ونتمنى هذا الأمر، ولكن نظراً لِضِيق الوقت وكثرة الجُزء المقرر شرحه فإن شاء الله سَنَمُرّ على بعض ما ييُسّر الله سبحانه وتعالى من الآيات، رزقنا الله وإياكم الإخلاص والعلم والعمل إنّه جوادٌ كريم.
المقطع الأول: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٨٩) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}
بعد استماعنا لهذه الآيات الكريمة، هذا هو المجلس " الثّامن " من مجالس تفسير هذه السُّورة الكريمة لأنّه سبق سبع مجالس، يقول الله سبحانه وتعالى في الآية السَّابعة والثّمانين من سورة النّساء (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ
هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ
أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)
هذه الآية الكريمة تَلَت الإِخبار عن أحوال المُنافقين وكذلك سَبَقَهَا قول الله - جلّ وعلا - (وَإِذَا حُيِّيتُم
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) .
ثمّ ذكر الله سبحانه وتعالى أنَّ موعد هَذا الجزاء وهذا الأمر إنّما يكون في يوم القيامة فقال - سبحانه وتعالى - : (
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) لفظ الجَلالة هو أعرف المعارف، وبعض أهل العلم يرى أنّه اسم الله الأعظم "الله " لأنّه الرّب الذّي تألهُه القلوبُ محبةً، وتعظيماً، وعبادة، وجميع الأسماء الحسنى ترجع إليه، وقوله
(لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) فيها نفي وإثبات، نفي الألوهية وإثباتها لله جلّ وعلا وحده، وهذا من التَّخلية قبل التّحلية كما يقول العلماء، مثل قول الله تعالى (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ) .
قال الله تعالى
( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) لا معبود حقّ إلاّ الله تبارك وتعالى، كما قال الله سبحانه وتعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ
وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ) .
ثمّ أقسم - جلّ وعلا - على البعث (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) و"اللاّم" هنا لام القسم، تقديره : "والله ليجمعنّكم" في الموت، أو في القبر ثم يكون الموعد في يوم القيامة ، وهذا نظير قول الله تعالى (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا
عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). والله جلّ وعلا عظيم، العظيم يُقسِم على وقوع يوم القيامة كما قال الله سبحانه وتعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا
السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ) . يقول الله في الآية هنا (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) سُمِّيت يوم القيامة قيامةً لأن النّاس يقومون من قبورهم. يقول الله - جلّ وعلا - (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ
الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ)
وقال سبحانه (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ
لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) ، وقيل سُمِّيَ هذا اليوم العظيم بيوم القيامة لقيامهم إلى الحساب، كما قال سبحانه : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .
والإيمان باليوم الآخر رُكن من أركان الإيمان الستّة، ومُنكره كافر كما سبق في الآيات الكريمة ثمّ قال سبحانه وتعالى (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) أيّ قولاً ووعداً، ولا أحد أصدق من الله سبحانه وتعالى، وهذا الاستفهام إنكاري أيّ إنكار على من زعم أنّ هناك أحداً أصدق من الله جلّ في عُلاه.
/ ثمّ قال الله تبارك وتعالى (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ
فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ) جاءَ في صحيح البخاري ومسلم عن زيد بن ثابت في سبب نزول هذه الآية الكريمة لــمّا خرج النّبي صلى الله عليه وسلّم إلى أُحد رجع ناسٌ مِمَّن خرج معه، وكان أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم فِرقتين : فرقةٌ تقول : نقاتلهم ، وفرقة تقول: لا نقاتلهم . فنزلت
(فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ) ثمّ قال النّبي صلى الله عليه وسلّم (إنّها طَيبَة تَنفي الذُّنوب كما تنفي النّارُ خَبَثَ الفِضّة). وهذا هُوَ أَصَحّ ما جاء في سبب النُّزول فالله تبارك وتعالى يقول : فما لكم أيُّها المؤمنون قد اختلفتم في شأن هؤلاء المنافقين، وسبق الحديث رُبّما عن النِّفاق وتعريفه، وسيأتي أيضاً الكلام عن هذه الفِئة (فئة المنافقين) وخُبث طواياهم، وما يُكِنُّونه من العداوة للمسلمين . فالله جلّ وعلا يقول لماذا اختلفتم في شأن هؤلاء فَصِرتُم طائفتين
(وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ) أيّ نكَّسَّهم وردّهم إلى الكُفُر (بِمَا كَسَبُوا) "الباء" هنا تكون للسببية، أيّ بِكسبهم بأعمالهم الخبيثة السَّيئة التّي اقترفوها.بأعمالهم غير الزّاكية.
ثمّ إنَّ هؤلاء المُنافقين لــمَّا حصل منهم ما حصل في أُحد ورجع عبد الله بن أُبيّ على رأس المنافقين رَجَع بِثُلث الجيش لَحِقهم عبد الله بن عَمرو بن حرام الأنصاري رضي الله عنه - وهو خزرجي أيضاً من جماعتهم ولكنّه مؤمن- ووبّخهم
وقال : كيف تخذلون رّسول صلى الله عليه وسلّم؟
فقالوا: لو نعلم قتالاً لاتّبعناكم . كما جاءت في آيات سورة آل عمران .
فالله جلّ وعلا أنكر على الاختلاف في أَحوال هؤلاء القوم وأنّه قد بَانَ نِفاقهم، وبَان توَّليهم للكافرين، ونقضِهم العهد مع المؤمنين
(وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ) ردَّهم بما كسبت أيديهم قال الله (أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ) يعني تـُرشدوا من كَتَبَ الله تعالى عليه الشّقاء (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ
عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ*وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ
آيَةٍ). قال الله هنا (أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ) ، أو يكون المعنى أتقولون إنَّ هؤلاء مهتدون وقد ضلُّوا!.
ثمّ قال الله (وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ) أيّ وكما كفروا فإنَّ من زاغ عن الهدى أزاغ الله قلبه كما قال تعالى (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ). قال تعالى (وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) أيّ لن تجد له طريقاً يُوصله إلى الحق.
ثمّ بيّن الله سبحانه وتعالى ماذا انطوت عليه قلوبُ هؤلاء القوم، وماذا يُكِنُّون للمسلمين فقال سبحانه (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ
فَتَكُونُونَ سَوَاء) ودُّوا أي تمنَّوا، أي ّأولئك الذِّين رجعوا عن الدِّين وانقلبوا على أعقابهم تمنَّوا لو تكفرون أيُّها المؤمنون كما كفروا هُم فتكونُون سواءً تستوون في الكفر، وفي المنزلة، وفي المكانة، وفي التَّوجه، وهذا ما تنطوي عليه قلوب الكافرين والمنافقين كما قال سبحانه وتعالى (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ
النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) وقال - جلّ وعلا - (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) وقال - جلّ وعلا - (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن
رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء) فهم يحاولون صدّ أهل الإيمان بكل وسيلة وكل طريق عن هداية الله، وعن صراطه المستقيم، وعن الخير، وعن الأمن، وعن الأمان.
ثمّ حذَّر الله تعالى المؤمنين من الرُّكُون إلى هؤلاء المنافقين، وموالاتهم فقال (سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء) مَنَعَ - جلَّ وعلا - عن مُوالاتهم (حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وَهَاهُنا تساؤل: سبب النُّزول يَذكُر أنَّ هذا في أُحُد، فَلِم قال الله تعالى (حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ومعلوم أنَّ الهجرة إذا أُطلقت فإنّها تكون من مكَّة إلى المدينة؟
بعض المفسِّرين حاول أن يُشَّكِك في سبب النُّزول، ولكنَّ الوَاقع أنّ الآية واضحة، قال (حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ولا يزال السُّؤال قائماً كيف قال: (حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) مع أنّهم في المدينة، هُم رجعوا إلى المدينة؟
الجواب: لم يُؤمنوا حقَّ الإيمان ، والهجرة لها ثلاث معاني :
• النوع الأول : هجرة انتقال من بلد الشِّرك إلى بلد الإسلام وكانت مفروضة من مكّة قبل فتحها إلى المدينة وغلب على أصحاب هؤلاء أن يُسَّمُون بــــ (المهاجرين) لكن لـــمّا فُتِحت مكّة انتهى الأمر، وقال النّبي صلى الله عليه وسلّم (لا هجرة بعد الفتح) .
• النّوع الثاني : هجرةٌ من النِّفاق وهي داخلةٌ في هذا المقام دخُولاً أوليّاً لأنَّ السِّياقَ فيها والمراد بها أن يترُك الشّخصُ نفاقه، ويخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم للقتال في سبيل الله صَابِراً محتسباً، لا لأيّ غرضٍ من أغراض الدُّنيا. وعلى هذا المعنى يلتئم سبب النُّزول مع هذا المعنى.
• النَّوع الثالث : الهجرة عن جميع المعاصي وفي هذا يقول النّبي عليه الصّلاة والسّلام كما في صحيح البخاري من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : (والمُهاجر من هَجَر ما نهى الله عنه).
وذكر الله عزّوجل لفظاً عامّا يشمل الجميع فقال جلّ في علاه (حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فلم يقُل "حتّى يُهاجروا عن الكُفُر" بل قال (حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، ولفظة (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) عامّة لِتَشملهم فيدخلون فيها دُخولاً أوليّاً ، وتشمل أيضاً من بعدهم .
/ ثمّ قال الله تبارك وتعالى (فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ) أيّ أعرضُوا عن التَّوحيد والهجرة، فخُذُوهم أَسرى ومنه يُقال لِلأَسير أَخِيذ. (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ) في الحِلّ والحرم (وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ) ثمّ استثنى - جَلَّ وعلا - طائفةً منهم فقال (إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ) وهذا الاستثناء يرجع إلى القتل لا إلى الموالاة، لأنَّ مُوالاة الكُفّار والمنافقين لا تجوزُ بحالٍ من الأحوال. (يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ) أيّ يَنتسبون إليهم ويتَّصِلُون بهم، يدخُلُون معهم بالحِلف والجِوار، يَلجَؤون إلى قوم (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ) أيّ بينكُم أيُّها المسلمون وبين هَؤلاءِ القوم الذِّين لجَؤا إليهم عهد، وهُم أُناسٌ في عَهد النَّبي - عليه الصّلاة والسّلام - من الأسلميِّين (أَوْ جَاؤُوكُمْ) أو كذلك يتَّصِلُونَ بقومٍ جاؤكم (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) أيّ ضَاقَت صدورهم (أَن يُقَاتِلُوكُمْ) أيّ ضاقت صدروهم عن قتالكم للعهد الذِّي بينكم.(أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ) أَيّ عندهم ضِيق صدر وتحرُّج أنّهم يقاتلونكم ، وعندهم ضيقُ صدرٍ أيضاً أن يقاتلوا قومهم فهم أشبه ما يكونون بالــمُسَالــِمين الذِّين لا يرغبون أن يدخلوا مع قومهم لأنَّهم يخشَون على أنفسهم، ولا أيضاً يَدخُلوا معكم . قال الله هنا (إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ) يعني القَوم الذِّين جاؤوكم ويُقال أنّهم بنو مُدلِج وكانوا عاهدوا قريشاً ألاّ يُقاتِلوا المسلمين، وعاهدوا قريشاً ألاّ يقاتلوهم فهم بين عَهدين، فعندهم عهدٌ مع المشركين ألاّ يقاتلوا مع المشركين، وعندهم عهد أيضاً أنّهم لا يقاتلون مع المسلمين، فهم لا يُحبُّون نقض العهدين. فهؤلاء مُستَثنَونَ من القَتل. أنّكم لا تقتلونهم. لماذا لا يُقتَلُون؟ لأنَّ معهم عُذُر، بينَهُم وبين القَوم عهد، والله سبحانه وتعالى أَمَرَ بالوَفَاء بالعُهُود والمَواثيق.
/ ثمّ بيَّن الله تبارك وتعالى مِنّته ونعمته على المسلمين أنّه لو شاءَ لَسلَّط هؤلاء القَوم فَلَقَاتلوا المُسلمين ولَاشتركوا مع الكُفَّار في قتال المسلمين، ولكن من نعمة الله تبارك وتعالى أنّه كفّ أيدي هؤلاء القوم، (وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) أيّ قاتلوكم مع الكُفّار. لكن من منّة الله سبحانه وتعالى أنّه كفّ أيدي هؤلاء القوم ، كما قال سبحانه في سورة الفتح (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم) .(فَلَقَاتَلُوكُمْ) فالله سبحانه وتعالى يَذكر هنا مِنّته على المسلمين بكفِّ بأس المُعَاهَدين يقولون إنّ ضيق صدروهم عن قتالكم لِمَا ألقى الله جلّ وعلا في قلوبهم من الرُّعب فهم لا يرغبون قتال المسلمين، ولو شاء الله - عز وجل - لسلطهم عليكم فلقاتلوكم مع قومهم لكنَّهم لم يفعلوا هذا .
/ ثم قال تعالى (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أيّ الصُّلح وانقادُوا(فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) فما جعل الله لكم أَصلاً أي طريق بالقتل والقتال. ثمّ أخبر الله تعالى عن طائفة ً ثالثة ، الآن صارت الطّوائف ثلاث:
• الطائفة الأولى : الــمُعلِنون لعداوتهم.
• الطّائفة الثّانية : الذِّين هم مُسَالِمُون لم يُقاتلوا.
• الطّائفة الثّالثة : وهم (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ) فهنا هؤلاء لا تتعرَّضُوا لهم (كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ) أيّ الشِّرك (أُرْكِسُواْ فِيهَا) أيّ رجَعُوا وعَادُوا إلى الشّرك مرّةً أخرى (فَإِن لمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) أيّ إن لــم يَكُفُّوا عن قتالكم حتّى تسيروا (وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أيّ المُعاهدة والمصالحة (وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ) ولم يقبضوا أيديهم عن قتالكم فهنا يجوز لكم أيُّها المسلمون أن تأخذُوهم فقال (فَخُذُوهُمْ) أسرى (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أيّ حيثُ وجدتموهم (وَأُوْلَئِكُمْ) أيّ أهل هذه الصِّفة (جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا) أيّ لكم عليهم حُجَّة ظاهرة بالقتل والقتال.
خُلاصَة هذه الآية : أنَّ الطَّوائف صارت ثلاث طوائف:
- الطَّائفة الأولى : مُعلنيين العَداوة وقد أظهروا عداوتهم وهؤلاء لا شكّ أنّهم يُقتَلُون.
- الطّائفة الثانية: المسالـــمُون (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ) الذّين تحرّجت صدورهم عن قتالكم، فهؤلاء يُكَفّ عنهم.
- الطّائفة الثالثة : وهُم الذِّين يُريدون أن يأمنوا قتال المسلمين ويأمنوا قومهم. مثل ما يقولون بالأمثال الدّارجة: يلعبون على الحَبلين هؤلاء منافقين، فهؤلاء إن لم يُعلنوا البراءة ممّا هم عليه، فهؤلاء يجب أن يُقتَلُوا ولهذا قال الله تعالى (فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا) أيّ حُجَّة ظاهرة بالقتل والقِتال.
/ ثُمّ بيَّن الله سبحانه وتعالى بعد هذه الآية الكريمة ، التَّغليظ في قَتل المؤمن وأنَّه عظيم عندالله فقال الله - جلّ جلاله - ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا) وهذا نهيٌ عن قتل المؤمن، كما قال سبحانه (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) ، (إِلاَّ خَطَئًا) استثناء منقطع معناه إن وقع خطأ لأنَّ القَتل أنواع :
الأوّل: القتل العَمد وهو أن يَقصد إلى قتله بأيِّ وسيلةٍ كانت عمداً عدواناً
الثاني : القتل شبه العمد أن يضربه بشيءٍ لا يقتُل مثله غالباً كالعصا أو نحو ذلك.
الثالث : القتل الخطأ وهو ألاَّ يقصده نهائياً مثل إنسان يَصطاد فرمى، فلمَّا أطلق الرّمي ضربَ إنساناً هذا خطأ محضّ .
• فالنّوع الأوّل الذّي هو العمد هو الذّي فيه التّغليظ وفيه الدِّية، وفيه الكفَّارة، وفيه القِصاص. لا يُقصَد أن تجتمع عليه ولكن إمّا قصاص وإمّا دية - كما سيأتي- مع صيام شهرين متتابعين لا يَفطر بينهما يوماً واحداً.
• النّوع الثاني : شِبه العمد وهذا فيه الدّية ولا قصاص فيه مع الكفّارة حقٌّ لله تبارك وتعالى .
• النّوع الثّالث : الخَطأ وهذا فيه الدِّية والصِّيام .
طبعاً بعض النّاس يتصوّر أنّهم إذا تنازلوا عن الدِّية أنّ هذا تنازل عن الصيام الواقع أنّ الصيام حقّ لله تبارك وتعالى . (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ) طبعاً عليه أن يُعتق رقبةً مؤمنة كفّارة، وهنا مناسبة بين عتق رقبة مؤمنة والقتل، لماذا أُمِرَ أن يُعتِق رقبة مؤمنة؟ بما أنَّ الإنسان قتل نفساً مؤمنة أَتلفها وأَعدمها قطع عنها الحياة، فليُحرِّر أُخرى لتذهب حُرّةً في أرض الله تعبد الله سبحانه وتعالى، فكأنَّها بدل والله تعالى أعلم.
(وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) أي الدِّية كاملة وهي حَقّ ميراث كالتّركة تُقسَم كما تُقسَم تركة الميّت، قوله ( مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) يعني إلى الورثة (إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ) أيّ يَتصدّقوا بالدِّية فيعفُوا ويترُكُوا الدِّية، لمِ سمّى العفوعن الدِّية صدقة ؟ ألا يُعد هذا فيه نوع من التَّرغيب في العَفو لأنّ الصَّدقة فضلها عظيم ومرغوبة، فسّماه صدقة هنا فقال (إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ) لأنّ فيه إيماء وإشارة إلى أنَّ العفو عن الدِّية فيه أجرٌ عظيم، وفضلٌ كبير عندالله سبحانه وتعالى لقوله تعالى (إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ) ومعلومٌ أنّ الصَدقة مُرَّغَبٌ فيها في كل ِّ زمانٍ ومكان، وفي كُلِّ وقتٍ وحال (إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ) فيعفوا ويتركو الدّية .
ثمّ قال الله تبارك وتعالى (فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ) يعني أراد به إذا كان الرّجل مسلماً في دار الحرب منفرداً مع الكُفّار فقتله إنسانٌ ماعَلِمَ بإسلامه، فهنا هل عليه دِيَة ؟ لا ديّة عليه، لكن عليه الكفَّارة حقٌّ لله تبارك وتعالى. لأنَّه إذا أعطاهم الدِّية يُعطي من؟هل يعطي من بَينه وبينهم عداوة؟ كلاّ.
(وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ) أي عهد (فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً) أراد به إذا كان المقتول كافراً ذِميّاً أو مُعَاهَداً فهنا يجب فيه الدِّية والكفّارة،والكفّارة تكون بإعتاق رقبةٍ مؤمنة – كما سبق- سواء كان المقتول مسلماً أو مُعاهداً، سواء كان رجُلاً أو امرأةً،صغيراً أو كبيراً، وتكونُ في مَال القاتل. طبعاً إذا كان عمداً تكون في مال القاتل، أمّا إذا كان القتل شِبه عمد أو كان خطئاً فإنّها تكون على العَاقلة - أيّ على جماعته والده وجدّه وأعمامه وبنو أعمامه ونحو ذلك - .
قال الله (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ) أيّ إذا كان الشّخص القاتل لم يستطع العتق فإنّه يصوم شهرين متتابعين لا يُفطِر بينهما يوماً واحداً إلاَّ امرأة تُفطر لحيض أو نفاس، أو إنسان يُفطر لسفر أو صيام فرض، فإن أفطر يوماً واحداً قبل تمام الشّهرين فإنّه يستأنف مرّة أخرى، فالحكمة ظاهرة في العتق، لكن في الصيام ما الحكمة في جعلها شهرين متتابعين ؟ من الحِكَم - والله أعلم - ليقطع نفسه ويُخرجها عن رِقّ الشّهوات واللّذات طيلة هذه المُدَّة، طبعاً الشَّخص إِذا كان معذوراً في الصِّيام الواجب كشهر رمضان فهو معذور من باب أَولى في صيام الكفّارة ، ثُمَّ قال الله تبارك وتعالى (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) وسيَرِد معنا هذين الاسمين في ما يأتي من الآيات فهو - جَلَّ وعلا - عليم بشرعه، وحكيم فيما فرض سبحانه وتعالى على عباده له الحكمة التّامة.
/ ثمّ قال سبحانه وتعالى (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) وهذه الآية الكريمة حصل فيها كلامٌ طويلٌ جِدّاً لأهل العلم من جهة أنَّ أهل السُّنة والجماعة مُجمعون على أنَّ فاعل الكبيرة أنّه لا يَكفُر بفعل الكبيرة ما لم يستّحلّها، وأنَّ الله جلّ وعلا يغفر الذُّنوب جميعاً ما خَلا الشّرك، من مات وهو يفعل كبيرة فإنّه تحت مشيئة الله تبارك وتعالى إن شاء عذَّبه وإن شاء غَفَر له ومن هنا وقع كلام لأهل العلم في هذه المسألة، هل لمن قتل متعمِّداً توبة أم لا؟ وأرجح الأقوال أنَّه يدخُل تحت قوله تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وأمّا ما جاء عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما- أنّه لا يرى فيمن قتل متعمّداً من توبة، فإنّه ورد أيضاً عن ابن عبّاس أنّه قال : لــمّا نزلت التّي في الفرقان (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) قال مُشركو أهل مكّة قد قتلنا النَّفس، فأنزل الله (إِلاَّ مَن تَابَ) قال ابن عبّاس: فهذه لأولئك، وأمّا التِّي في النّساء فالرَّجل إذا عرف الإسلام، وعرف شرائع الإسلام، ثمّ قتل فجزاؤُه جهنّم . يقول بعض السَّلف فذكرتُ هذا لمجاهد فقال : إلاَّ من نَدِم . وطبعاً مجاهد هو الذّي يقول عرضتُ المصحف على ابن عبّاس ثلاث مرّات وأنا أسألهُ عن كُلّ آية ويُجيبني. فمجاهد بن جَبر المكيّ أعلم بقول ابن عبّاس ، فلذلك أضاف وقال: إلاّ من نَدِم. على أنّه يُحمَل قول ما ورد عن ابن عبّاس على مَحملٍ آخر عند بعض أهل العلم وهو: أنَّ هذا التَّغليظ قاله ابن عبّاس - رضي الله عنهما- لمن جَاءَه وقد همَّ بقتل مؤمن، فجاءه فقال : يا ابن عبَّاس، هل لمن قتل مؤمن من توبة ؟ قال ابن عبّاس: ثكلته أُمُّهُ وأنّى له التّوبة! فمضى الرّجُل فقال بعض أصحاب ابن عبّاس كيف قلتَ هذا ! فقال ابن عبّاس: إنَّ هذا جاءني وأنا أعرف في عينيه القتل، فذهب أحد النّاس يستخبرهُ فوجد الأمر كما قال ابن عبّاس، فجاء ابن عبّاس وأفتى بهذه الفُتيا من باب التّغليظ على من قتل مؤمناً متعمِّداً . وهذا هو الرَّاجح من أَقوال أهل العلم . على أنَّ بعض أهل العلم له محمل آخر : وَرَدَ أنَّ هذا جزاؤه إن جازاه الله - تبارك وتعالى - (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) يعني هذا جزاؤه إن جازيناه بينما المؤمن لا يخلو من توبةٍ ماحية، من هول البرزخ، من شفاعة النّبي محمّد - صلى الله عليه وسلّم -، من شفاعة المؤمنين، وهذا ما جَنَحَ إليه ابن القيّم يقول: " الآية على ظاهرها، ولكنّ المؤمن لا يخلو من مُكّفرات عديدة ، منها شفاعة النّبي صلى الله عليه وسلّم ، منها شفاعة المؤمنين ،منها أيضاً هول البرزخ ، منها ذنوب ماحية ، توبة .." إلخ وإلا الآية على ظاهرها .
ومنهم من قال : لا التَّقدير هذا جزاؤه إن جازيناه، ومنهم من قال: (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) يعني الــمُكث الطّويل، ولكن لم يُرَد بهذا الخُلوُد كما يكون الخُلُود للكُفّار، ولهذا قال (وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) .
الخلاصة من هذا: أنَّ قاتل النَّفس شأنه شأن أصحاب الكبائر، على أنَّه ورد التّغليظ الشّديد عن النّبي صلى الله عليه وسلّم في هذا الأمر . ومنها ما جاء في الصّحيحين أنَّ النّبي صلى الله عليه وسلّم: (أوّل ما يُقضى بين النّاس يوم القيامة في الدّماء) وقال أيضاً: (ما يزال المؤمن في فُسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً) وغير ذلك من الأحاديث.
المقطع الثّاني : قال الله تبارك وتعالى في هذه الآيات الكريمة في المجلس التّاسع :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)
قال الله تبارك وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ) وهذا النّداءُ العظيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) يَحِقُّ للمؤمن والمؤمنة إذا سَمِعَهُ أن يُصغِيَ بسمعه، كما قال ابن مسعود رضي الله عنهما قال :"إذا سمعتَ الله تعالى يقول في القرآن: (يا أيُّها الذّين آمنوا)، فأصغِ لها سمعك، فإنَّه إمّا خيرٌ تُؤمَرُ به وإمّا شرٌ تُنهى عنه" .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) يا أيُّها الذِّين صدَّقوا بالله ورسوله وعَملوا بمقتضى هذا التَّصديق (إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ) هناك مناسبة لطيفة عند هذه الآية الكريمة ،الله سبحانه وتعالى قال (إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ) مناسبة هذه الآية لما قبلها :
لما ذكر الله جل وعلا تَحريم قتل العمد، وما في قتل الخطأ من المؤاخذة المُوجبة للتَّثبت، وعدم الاستعجال، وحاجة من في ساحة الجهاد لهذا الأمر حاجة ماسة جدًا فلربما التبس الحال في حال القتال هنا اتبع ذلك بها الأمر الصريح بالتثبت كأن قائلًا قال ماذا أفعل بين يدي القتال والجهاد ؟ أنا بين الإقدام والإحجام فقال الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ) الضَّرب مُستعملٌ في السير لأنَّ أصل الضَّرب هو إيقاع جسم على جسم وقَرعه به وهنا قال ( إِذَا ضَرَبْتُمْ) فالسَّير ضَرب في الأرض بالأرجل (إِذَا ضَرَبْتُمْ) يعني إذا سِرتم، إذا غزوتم في سبيل الله كما قال تعالى (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ) , (إِذَا ضَرَبْتُمْ) إذا سِرتم في سبيل الله (فَتَبَيَّنُواْ) وفي قراءة أخرى (فتثبتوا) قرأ حمزة والكسائي (فتثبتوا) معناها ترك العَجَلة والمقصود التَّأني لمعرفة المؤمن من الكافر يعني اطلبوا الثابت الذي لا يتبدّل ولا يَحتمل نقيض مابدا لكم وبقية القُرَّاء قرأوا (فتبينوا) من التَبيّن وهو تفعُّل أي تثبّتوا واطلبوا بيان الأمور فلا تعجلوا فتتبعوا الخَواطر الخاطئة، ولا منافاة بين القراءتين فالتَّبيُن والتأمل نتيجة التثبت فيجب أن يَتثبت أولًا ليتبيَّن له الأمر وتبيَّنوا في هذا أَوكد كما يقول القرطبي لأن الإنسان قد يَتثبت ولا يتبيَّن .
( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) قراءتان سبعيتان وهي:
(وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) بالألف وهو معنى مشترك بين معنى السَّلم ضد الحرب (ولاتقولوا لمن ألقى إليكم السَّلم) وهو ضد الحرب أيضًا ، (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) يعني من قال السَّلام عليكم (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السَّلم) يعني أظهره بينكم كأنَّه رماه بينكم (لستَ مؤمنًا).
(وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) جاء في سبب نزول هذه الآية مافي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) كان رجل في غُنيمة له فلحقه المسلمون فقال السلام عليكم فقتلوه, فأخذوا غُنيمته فأنزل الله عز وجل في ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) من أجل تأخذون غنيمته (فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) . وفي سُنن الترمذي ومسند أحمد ( مرَّ رجل من بني سُليم بِنَفَرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم فقالوا ماسلّم علينا إلا ليتعوَّذ منا فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ) (تثبتوا) تأنُّوا، لاتستعجلوا ، (فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) ( أو القِراءة الأخرى (السَّلَم) يعني المُوادعة سواء بينكم إذا كان الشَّخص سلّم عليكم ليس لكم إلا الظَّاهر ونحن معاشر المسلمين ما أُمرنا أن نَنَقِبَ قُلوبَ النَّاس ولا نشق صدورهم . وكان النَّبي عليه الصَّلاة والسلام يقبَل علانية الناس ويَكِلُ سرائرهم إلى الله عز وجل فإذا هذا أدب عظيم الذِّي هو التَّبيُّن، والتَّثبت، وعدم الاستعجال.
( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) منافع الدُّنيا الزائلة الذَّاهبة (فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) عند الله مغانمُ كثيرة. يقول الشيخ ابن سعدي رحمه الله: "فيه إشارة إلى أنَّ العبد إذا رأى دواعي نفسه تميلُ إلى حالةٍ له فِيها هوى وهي مُضِرَّة له أن يُذَكرها بما أعدَّ الله عزَّوجل لمن نهى النفس عن هواها وقدَّم مرضاة الله على رضا نفسه فإنَّ في ذلك ترغيبًا للنَّفس في امتثال أمر الله عز وجل وإن شَقَّ ذلك عليها ولذلك الله سبحانه وتعالى قال (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)".
طبعًا الإنسان إذا رأى مثلًا غنيمة أمامه وهو جائع، ربما يتأوَّل نفسه وليس فقط في الغنائم في كل شيء. أحيانًا بعض الناس يكون له حظ في نفسه في معاملة مالية معينة، في مسألة زوجية في أيّ قضية من القضايا فتجده يُغَمِّض عينيه، ويَمضي قُدُمًا وربما يتأوّل يقول بعض أهل العلم يرى هذا الرأي وبعضهم أفتى بكذا ، نقول : من تَرَكَ شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.
(فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) ولم يقل مغانم فقط، بل قال أيضًا (مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) يعني هذا الرجل في غُنيمته قصر نظركم على هذا الرجل في غُنيمته!! عند الله مغانم ستغنمون أكثر وأفضل من هذا الأمر المشتبه، أمر هذا الإنسان المسكين الذي ظننتم به أنه لم يقل هذا الكلام إلا ليتعوَّذ منكم فإنَّما في الواقع قد يكون مسلمًا ولكنَّه استخفى بإيمانه خوفًا على نفسه من قومه. وكذلك أنتم كنتم يا معاشر المسلمين كنتم تستخفون بإيمانكم في مكة حتى أعزكم الله وأظهركم ولهذا الله سبحانه وتعالى قال (كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) . هُنا سَمَّى الله متاع الدنيا سمى هذا قال متاع الدُّنيا سمَّاهُ عَرَضًا , لماذا سَمَّاه عرضًا؟ لأنه يَعرِض ثم يزول . هو عرَض وأحيانًا يصير عَرَض ومَرض يكون لبعض الناس.
(فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) عنده - جل وعلا - غنائم ومغانم وأجور مضاعفة لمن اتقى قتل المؤمن (كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ) تكتمون إيمانكم من المشركين فمنّ الله عليكم بإظهار الإسلام ومنَّ الله عز وجل عليكم بالهداية بعد الضَّلالة ( فَتَبَيَّنُواْ ) لماذا إعادة الأمر بالتبيِّن؟ لماذا أَعاده ألا يَكفي الأوَّل ؟
أعادَهُ لأهميته للمبالغة في التَّحذير عن ذلك الفعل لأنه أمر عظيم جدًا (كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ ) تبيَّنوا أن تقتلوا مؤمناً مرة أخرى (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) فهو العَليم بِسَرائِر عباده، وضمائر قلوبهم سبحانه وبحمده، هو الخبير بأمورهم الذي لا تخفى عليه خافية وهو العليم بما تكنّه صدورهم وهو المُطَّلِع على حقائق الأشياء جل وعلا صغيرها وكبيرها (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء) كذلك في سورة الحجرات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) أيضًا (فتثبتوا) فهُما قراءتان سبعيتان حمزة والكسائي قرأوا (فتثبتوا) وبقية جُمهور القراء قرأوا (فتبينوا) .
/ ثم قال تبارك وتعالى مُبَينًا مكانة من جاهدوا وبذلوا انفسهم في سبيل الله (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هذه الآية فيها سبب نزول جاء في صحيح البخاري ومسلم عن البَراء بن عازب قال: لما نزلت (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) دَعَا النَّبي صلى الله عليه وسلم زيدًا فجاء بكَتِفٍ فكتبها،طبعًا أول ما نزلت الآية (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وكان ابن أم مكتوم خلف النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا فقال : يارسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى قال زيد فنزلت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) وفخِذُ النبي صلى الله عليه وسلم فوق فخذي فكادت تَرُضُّها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكتب (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فصارت الآية (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فهنا عَذَرَ الله سبحانه وتعالى الأعمى وغيره قال الله جل وعلا : (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) ومع ذلك هل قَعَدَ ابن أم مكتوم أم لم يقعد ؟ لم يَقعد. ماذا قال للنّاس في يوم اليرموك ، قال يامعشر المسلمين إني رجل أعمى لا أستطيع أن أفرّ فأعطوني الراية أحملها بين الصَّفين - رضي الله عنه - وحمل الراية حتى قُتل في سبيل الله مقبلًا غير مدبر - رضي الله عنه - ،هذا عبدالله ابن أم مكتوم الذي نزل فيه قوله تعالى (عَبَسَ وَتَوَلَّى*أَن جَاءَهُ الأَعْمَى) هو مَعذور مع ذلك ما رضي لنفسه أن يقعد (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ،(لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) عن الجهاد في سبيل الله (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فإنَّهم معذورون ، ولا شك أن المؤمن إذا حصل له مانع ونيِّته أن يقوم بهذا العمل أن الله جل وعلا يكتب له ثواب هذا العمل وفي هذا عدة نصوص منها : قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح لما رجع من غزوة تبوك قال (إنَّ بالمدينة لأقوامًا ماسرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم) وفي رواية (إلا شركُوكم في الأجر) قالوا يارسول الله وهم بالمدينة قال (وهم بالمدينة حبسهم العذر) فهؤلاء المُعذورون أجرهم تام. يقول ابن القَيِّم " قاعدة الشَّريعة أنَّ الشَّخص إذا عَزَم على الفِعل عزمًا تامًا بنية صادقة أنه يُنَزَّل منزلة الفاعل" , قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ماكان يعمل وهو صَحيح ومقيم)
يَارَاحِلينَ إلى البَيتِ العَتيق لَقَد *** سِرتُم جُسُومًا وَسِرنا نحنُ أرواحاً
إنَّا أقمنا على عُذرٍ نُكابـِدُهُ *** وَمَن أقامَ عَلى عُذرٍ كَمـَن رَاح
فأحيانًا الإنسان يكون في نيّته الحج، والحج من الجهاد في سبيل الله لكنه يمنعه مانع، عارِض فيتمنى ذلك فيُكتب له أجر عظيم , يتمنى الجِهاد لكنه لايستطيع , ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام أمَرَنا بتحديث النفس بهذا فقال (من لم يَغزو ولم يُحَدِّث نفسه بالغزو مات على شعبةٍ من نفاق)،(غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فإنَّهم معذورون كالمُقعد الزَمِن، والأَعرج، والأَعمى ونحوهم.
(فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) لِمَ قَدَّم الجِهاد بالأموال على النَّفس؟
هُنَا قدّم الله الجهاد بالمَال لأنَّه أهون على الإنسان, إذا خُيِّر الإنسان بأنه تذهب نفسه أو ماله أكيد سَيُقَدِّم ماله, قَدَّم الجهاد بالأموال لأنَّه أهون على الإنسان,ولأنَّه أيضًا نفعه أكثر لأنَّه قد يُمَوِّل مئات أو آلاف المُجاهدين المال فهُو على أنَّه أهون على النَّفس إلا أن نفعه أيضًا أعظم لأنّه يعتبر نفعًا متعديًا.
(فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً) أيّ فضيلة ، وقيل أراد بالقاعد هنا أولي الضَّرر،فضل الله المجاهدين عليهم درجة لأنَّ المجاهد باشر الجهاد مع النية وأولي الضرر كانت لهم نية لكنَّهم لم يُباشروا فنَزَلوا بدرجة واحدة هذا قول قيل لكن قال الله (وكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) انظر كيف الآيات الكريمة (وكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) يعني كُلًا وُعِد بالجنة في إيمانه وصِدقه (وكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) وهذه أيضاً قاعدة عظيمة في القرآن الكريم أنه إذا ذُكر أمر، ثم ذكر أمر آخر قد يتوَّهم السَّامع أنَّه أحقُّ بدرجة، فإن الله ينفي هذا الأمر مثل قول الله تبارك وتعالى (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ*فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) قد يتطرق في ذهن بعض النَّاس أنَّ هذا غَضّ من مكانة نبي الله داود عليه السلام قال الله بعدها (وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) فلا يَتَطَرق إلى ذهنك أيُّها السَّامع أنَّ هذا نَقص في حقّ داود, كذلك هُنا لايتطرق إلى ذهنك أيُّها المُستمع أنَّ من جلس على عذر أنه إنسان قد غمصه نفاق أو أنه إنسان ما يحب نصرة المسلمين ,لا, انتبه الله يقول هنا (وكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) , وقال الله في آية سورة الحديد (لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) وهذا من العَدل العظيم (وكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) . ثم قال الله (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ) نُضيف إضافة (عَلَى الْقَاعِدِينَ) بلا عُذر (أَجْرًا عَظِيمًا) لكن هَا هُنا تساؤُل القَاعد بدون عذر هل له أجر؟
إذا قلنا المقصود على القاعدين بدون عذر يصبح عنده نية، كما قال النّبي صلى الله عليه وسلم: (لاهجرةَ بعد الفتح ولكن جهادٌ ونية) وقال الله تعالى (وكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) لكن لاشك أن المُتخلف عن الجهاد يعني عمدًا وغير معذور أنَّه ليست كمرتبة المُجَاهدين، قال الله هنا (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (دَرَجَاتٍ مِّنْهُ) الدَّرجات كَم؟
جاء في صحيح البخاري عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (في الجنَّة مئة درجة مابين كل درجتين كما بين السَّماء والأرض أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله) وفي صحيح مسلم أنَّ النَّبي عليه الصلاة والسلام قال لأبي سعيد (من رَضِيَ بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا أدخله الله الجنة) فَأَعجَبَت أبَا سعيد قال يارسول الله أَعِدها عَليّ فأعادها عليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنَّ في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله مابين كل درجة ودرجة كما بين السَّماء والأرض).
هُنا قال (دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً) المغفرة يَزول بِها المَرهوب ثم قال (دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) والرَّحمة يحصل بها المَطلوب, فصار عندهم من الخيرات: دخول الجنَّة، ثُمَّ الدَّرجات، ثم زوال المرهوب الذِّي يخافون منه، ثم حصول المطلوب (الجنَّة) وليس نَعيمُها واحد أعلى مافي الجنّة من النعيم هو التَّمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم جعلني الله وإياكم ووالدينا ممن يتمتع بهذا النعيم .
(دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) ولا شَكَّ أنَّ أكثر السُّور التي انتهت فواصلها بأسماء الله الحسنى هي سورة النساء أكثر السُّوَر على الإطلاق انتهت فواصلها بأسماء الله الحسنى هي سورة النساء بلغت خمسًا وخمسين اسمًا في السُّورة كاملة وكل اسم في مكانه المناسب الذِّي خُتِمَت به الآية (دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) .
/ ثم قال الله تبارك وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) جاء في صحيح البخاري في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إنَّ أُناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يُكثِّرون سَوادَ المشركين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي السهم يُرمى به فيصيب أحدهم فيَقتله أو يُضرب فيُقتل فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) من الذِّي يتوفَّى الأنفس؟ (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) لكن المُسند إلى الملائكة باعتبار أن الله - جل وعلا -وكَّلَهم , هم ملائكة وإلا ملك؟ (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) الجمع هنا ما وجهه؟ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) ملك الموت عليه الصَّلاة والسلام ومن معه من الملائكة أعوانه ، وقد يُقال أنه ملك الموت لكنّ العرب قد تُخاطب الواحد بلفظ الجمع وهذا أسلوب سائِغ في لغة العرب قد يخاطِبُون الواحد بلفظ الجمع . (ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) بالشِّرك أو بالمُقام في دار المُشركين لأنَّهم قاموا في دار المشركين بدون عذر ، (ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) ظلموا أنفسهم بماذا ؟ بأنهم كثَّروا سواد المشركين وفي هذا إشارة أنه يجب على المؤمن والمؤمنة والمسلم والمسلمة أن لا يكون يومًا من الأيام يراه الله جل وعلا مُكثرًّا لسواد أهل الباطل بأي حال من الأحوال احذر أخي المسلم أن تُكَثِّر سواد أهل الباطل بكلمةٍ، ببقاءٍ معهم. وسيأتينا التَّحذير الشَّديد في قوله تعالى (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا) فهؤلاء عُوتِبُوا لأنَّهم بَقُوا مع المشركين يُكثِّرون سوادهم على المسلمين فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُكَثِّر سواد أهل الباطل بأيّ حال من الأحوال لا بمقال يكتُبه، ولا بتصويت يُصَوِّته، ولا بأيِّ أَمرٍ يقوم به وهو يَعلم أنَّ هذا فيه تكثيرٌ لِسَواد أهل البَاطل فإنَّ الله سيُحاسبه .
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ) تأمَّل التوبيخ (فِيمَ كُنتُمْ ) ماذا كنتم ؟ في أيِّ الفَريقين كنتم؟ أكنتم مع المسلمين؟ وإلا كنتم في المشركين؟
سؤال توبيخ سؤال تعيير، فاعتذَروا بالضَّعف عن مقاومة المشركين ( قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ) يعني عاجزين ( فِي الأَرْضِ) يعني في مكة (قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا) يَعني للمدينة تَخرَّجوا من مَكة فَأكذبهم الله - جل وعلا - وأعلمنا بكذبهم قال (فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) هي مَنزلُهم الذي يَنزلون به (جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) بِئس المصير الذِّي يَصيرون عليه ثم اسثنى الله جل وعلا أهل العذر منهم الذِّين يَعلم الله من قلوبهم أنهم أهل عذر فقال (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : (كنتُ أنا وأمي ممن عَذَر الله من المستضعفين) , لأنَّ ابن عباس كانَ صغيرًا، وأمه امرأة مغلوب عليها وإلا كانوا من أوائل من أسلم لكنهم لم يستطيعوا الهجرة إمَّا لأنهم مُنعوا أو لأنهم مايعرفون الطريق مايهتدون للطريق طريق المدينة قال الله (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) يعني لايقدرون على حِيلة ولا على نفقة ولا على قوة للخروج منها (وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) لايعرفون طريقًا إلى الخروج إلى المدينة (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ) أن يتجاوز عنهم وعسى من الله واجب لأنَّه للإطماع والله تعالى إذا أطمع عبدًا وصّله فعسى من الله واجبة كما قال ابن عباس ( وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) وكان النَّبي عليه الصلاة والسلام يدعوا في الصلاة لهؤلاء المستضعفين في مكة كان إذا صلَّى يقنت لهم يقول كما جاء في صحيح البخاري (اللَّهُمَّ أَنجِ الوليد بن الوليد والمستضعفين بمكة) يدعوا لهم عليه الصلاة والسلام إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من صلاة الفجر، يدعوا ، يقنت لهؤلاء المستضعفين إن الله يجعل لهم فَرَجًا ومخرجًا، وقد جعل الله لهم فَرَجًا ومخرجًا. (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (عفواً غفوراً) والذِّي قَبله (غفوراً رحيماً) هنا (عفواً) الذِّي هُو الصَّفح عن الذُّنوب هو الذِّي يَصفح عن الذُّنوب ويترك العقوبة على كثير منها إذا كان الشَّخص لم يُشرك بالله (عَفواً غفوراً) مناسب أيضًا ختم الآية للحال فالله جل وعلا يعفوا عنهم ويغفر لهم .
/ ثم قال تبارك وتعالى (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا) يقول ابن عباس (مُرَاغَمًا) يعني مُتحوَّلًا يتحوَّل إليه، أو متزحزحًا عن ما يكره كما قال مجاهد ، المُراغَم : المُهاجَر (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) سَعة في الرِّزق و "مُراغما" مشتق من الرَّغام وهو التُّراب (وَمَن يُهَاجِرْ) يُهاجر قلنا الهجرة سبق أنَّها تُطلَق على ثلاث أوجه منها هجرة وانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهذه هل نُسخت أم لا تزال باقية ؟ لاتزال باقية (لاتنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة،ولاتنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ) فهُنا يقول الله (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) فهو يجد في الأرض مُتسعًا ومكانًا لهجرته (وَسَعَةً) يجد رزقًا أيضًا لأنَّ الإنسان إذا خرج من بلد الشرك إلى بلد الإسلام هل هو بخروجه هذا يُغيظ المشركين أم لا ؟ قطعاً يغيظ المشركين وأحب العمل إلى الله مافيه إغاظة لأعداء الله ولهذا قال الله سبحانه وتعالى (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) وهنا وقفة جميلة جدًا من ابن القيم رحمه الله يقول كما في مدارج السالكين: " أحبُّ العمل إلى الله أن تُراغِمَ أعداء الله، فمن رَاغَمَ أعداءَ الله بعمل فقد أَخَذَ بِسَهمٍ وَافر وحَظٍ كبير من الصِّدِيقية، وهذا عمل كبير لا يعلم حلاوة من يقوم به إلا من جَرَّبَه ". انظر! . وقارن بين هذه الوقفة الجميلة وبين الذِّين يَرضَون لأنفسهم أن يكونوا في أحضان أعداء الله أو يُوالُون أعداء الله، أو يمالِؤن أعداء الله، أو يُصانِعُون أعداء الله . بعض الناس إذا تكلم يحب أنَّه يُجامل الكفار يَعتذر عن بعض أحكام الإسلام لا يا أخي خَلَّك في بيتك، الإسلام لا يحتاج أنك تعتذر له . الإسلام ولله الحمد عزيزٌ، منيعٌ بأحكامه العَادلة وأقواله الصَّادقة وتَشريعاته السَّامية، لا يحتاج إلى أنَّك تكون مَخذولًا، مهزومًا، ذليلًا تعتذر عن أحكام الإسلام تقول لا الإسلام أصله ماشَرَعَ الجِهاد يعني إلا فقط للدِّفاع , كذبت من قال أنَّ الإسلام ماشرع الجهاد إلا للدَّفع شرعه للدَّفع، والطَّلب لكن أنت يامن تفعل هذا إذا كنت تشعر بهزيمة داخلية فاجعل هزيمتك في قلبك لكن الإسلام لا. هنا ابن القيم يقول خذ نصيبك من مغايرة أعداء الله , فهذه صدِّيقية وأعدى العدو الشَّيطان فالشَّيطان، والمنافقون، والكُفَّار تحتاج دائمًا أن تغيظهم. ولهذا جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (إذا قرأ ابن آدم السجدة فَسَجد اعتزل الشَّيطان يَبكي ويقول ياويله -يعني ياويلي- أُمِرَ ابن آدم بالسُّجُود فَلَهُ الجَنَّة وأُمِرت بالسُّجُود فأبيت فَلِيَ النَّار ) فالسُّجود لأنَّه ذُلّ لله يَضَع الإنسان أشرف ما في وجهه وأيضًا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، يضع أشرف مافيه على الأرض هذا قُرب من الله ودعاء مستجاب وهو يَغيظُ أعداء الله وعلى رأسهم الشَّيطان وجُنوده وأتباعه (مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) .
(وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) يعني قبل بلوغه إلى مُهاجَره (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) يعني انظر سبحان الله اللَّفظ عجيب لم يقُل فقد تَمَت هجرته يكفي فقد وجب أجره على الله ، فهل يخاف ظلمًا أو هضمًا ؟ لا والله, إذا وجب أجره على الله فإنه قد تم ثوابه ونصيبه (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) . ورد سبب نزول يرى بعض أهل العلم أنَّ إسناده حسن في قوله (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أنه رواه الطبري وابن أبي حاتم وأبو يعلى سنده صحيح أن حديث ابن عباس أن ضَمُرة بن جندب خرج من بيته مهاجرًا فقال لأهله احملوني ، أخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل الوحي (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) وهذا طبعًا العلماء عندهم قاعدة يقولون : العبرة بعموم اللَّفظ لابخصوص السبب , دائمًا ولكن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية معرفة سبب النزول مما يعين على فهم الآية لكنَّهُ دائمًا وأبدًا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
/ ثم قال الله تبارك وتعالى (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ) يعني سافرتم (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) يعني حرج وإثم (أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاةِ) يعني قَصَر كمّية وكيفية , أمَّا الكمية : فإنَّ الإِنسان إذا سَافَر يَقصر الرُّباعية إلى اثنتين صلاة الظُّهر، والعصر، والعِشاء. يُصليها اثنتين والباقي لا يَقصر (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) وأمَّا الكيفية : فإنه يُخفِّف الصَّلاة ليست صلاة السَّفر كصلاة الحضر . (إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ) وهذا قيدٌ أَغلبي لأنَّه وقت نزول الآية كانت مُعظم أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانت في وقت خوف فلهذا قال (إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ) وقد جاء في صحيح مسلم أن رجلًا سأل عمر رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين قول الله تعالى (إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ) وقد أمن الناس فعلام نقصر الصلاة فقال عمر قد سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( صدقة تصدَّق الله به عليكم فاقبلوا صدقته ) التي هي القصر في الصلاة ,صدقة تصدق الله به عليكم فاقبلوا صدقته. قال الله بعدها (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا) .
أما هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) فهذه الآية الكريمة تُفَصِّل في كيفية صلاة الخوف وقد جَاءَ في سبب نُزولها مارواهُ الإمام أحمد وأبو داود والنَّسائي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان هو والمسلمين فقال المُشركون لو أصبنا منهم غِرَّة يعني غفلة، فأنزل الله تبارك وتعالى صفة صلاة الخوف لبيان الحذر من المشركين فقال الله (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) ، طبعًا صلاة الخوف وردت على وجوه متعددة ولهذا الإمام أحمد رحمه الله أخذ بها جميعًا ولها أحوال مفصلة في كتب الفقهاء وفي كتب المحدثين وشُرَّاح الحديث فمن صفاتها مثلًا:
• أنَّ الإمام أو قائد الجيش يَصُفُّ بهم يُصلِّي بهم جميعًا أولًا إذا كان العَدو مُواجهًا لهم يصلي بهم جميعًا صُفُوفًا، فيركع الإمام ويركعون جميعًا، ثم يرفعون من الركوع ويسجد الصف المُقَدِّم، ويقف الصَّف المُؤخر ينظر في وجوه العدو لئلا يهجموا حتى إذا أكملوا الركعة، وقاموا إلى الركعة الثانية سجد الصف المُؤخر ثم يتقدم الصف المؤخر ويكون محل الصف المقدم ويرجع الصف المقدم ويكون محل الصف المؤخر .
ترتيب عجيب ، ويفعلون في الركعة الثانية كما فعلوا في الأولى .
• ومن صفاتها أيضاً أنَّ قائد الجَيش يَقسِمهُم قسمين: قسم يُصلُّون معه ركعة، ثم يُكملون لأنفسهم ويَثبُت هو قائمًا ثم ينطلقون إلى اتَّجاه العدو، وتأتي الطَّائفة الأخرى فيُصلُّون مع الإمام يُصلي بهم الركعة الثانية، ثم يسلِّم ثم يقومون يُكملون لأنفسهم .
إلى آخر صفاتها نحن لا ندخل في صفاتها الكثيرة وهي مفصلة في كتب الفقهاء . لكن نشير إلى الآيات الكريمة قال الله تعالى (فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ) يعني فلتقف (فَإِذَا سَجَدُواْ) يعني صَلَّوا ركعةً واحدة، لأنَّه أحيانًا تُطلَق بعضُ الركعة ركعة واحدة يعني تسليمة يقول الإنسان صلى بنا فلان سجدة، أو صلى بنا سجدتين ، أيّ صلّى بنا ركعتين هذا من إطلاق البعض وإرادة الكُلّ (فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ) أيّ مكان الذِّي في اتجاه العدو (وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ) وهم الذين كانوا في وجه العدو (فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) لماذا قال هنا (وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) والأولى قال (وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ) لماذا؟
في المرة الأولى قال (وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ) لأنّ العدو لم يعلم أنَّهم يُصَلُّون، ولا عنده خبر. لكن في المرة الثانية قال الله (وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) رآهم يُصَّلُون فهنا هُجُومُه مُتوقع ففيها حَذر وأسلحة، لأنَّ العدو عَلِم أنهم يصلون . وقد جاء في بعض الروايات أنه قال تأتيهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأموالهم، يقصد صلاة العصر فنزلت صلاة الخوف .
/ ثم قال الله تعالى (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ) تمنَّوا (لَوْ تَغْفُلُونَ) يعني لو وجدوكم غافلين عن أسلحتكم وأمتعتكم ( فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً) يَقصُدُونكم ويَحمِلُون عليكم حملة شديدة واحدة ، ثم قال الله تعالى مُرخصًا لهؤلاء (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) لاحرج عليك (إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ) رخَّص في وضع السِّلاح في حال المطر والمرض لأن السلاح يثقُل حمله في هاتين الحَالتين ولأنه قد يكون له رائحة تُتعِب، وإذا نزل المطر يتعب المجاهد من حمل السلاح مع تَبلُل ملابسه بالمطر، أو كان بكم أذًى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم (وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ) مرة أخرى راقبوا العدو كيلا يتحسَّس منكم غفلة. وهنا (إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) يُهانُون فيه .
(فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) يعني صلاة الخوف انتهيتم منها فرغتم (فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) صَلُّوا في حال الصِّحة قيامًا وفي حال المَرض قعوداً، وعلى جنوبكم عند الجَرح إذا جُرحتم ، أو اذكروا الله بالتّسبيح، والتّحميد، والتهليل مقابل ماحصل من نقص وتخفيف في صلاة الخوف لأنه معروف أنه الذِّكر والاستغفار والتَّسبيح أنه يَجبر ما نَقص من الصلاة ولهذا المصلي إذا سلّم من صلاته يقول كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول أستغفر الله.. أستغفر الله.. أستغفر الله ,هل فعل ذنب حتى يَستغفر؟ لا، لكنَّه يستغفر ممَّا حصل في الصلاة من خَلل ونقص.
(فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ) سكَنتم وأمنتم (فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ) أَتِمُّوها بأركانها، وواجباتها،وشروطها (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) واجبًا مَفروضًا في وقته لايَحِلّ لِلإنسان أن يُؤَخِرّ الصَّلاة عن وقتها إلا لِعذر ٍكأن يكون مريضًا فيَجمع الصَّلاة مع أخرى ،ولا يستطيع أو يكون مسافرًا ، فهنا يكونُ معذوراً.
/ قال الله (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ) يعني لا تضعُفوا في طلب هؤلاء المشركين (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ) وتتوجعون من الجراح (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ) أيضًا ويتوجعون كما تتوجعون. لكن ماهو الفرق؟ (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ) ومع ذلك أنتم تأملون من الأجر والثواب في الآخرة والنَّصر في الدُّنيا ما لا يَرجون هم (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) .
وأعتذر عن تجاوزي لبعض الآيات، لم أقف معها لانتهاء الوقت .
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح والفهم في كتابه وفي سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم..... والله الموفق .
لحفظ الملف الصوتي :
_____________________________
مصدر التفريغ / ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
ثمّ حذَّر الله تعالى المؤمنين من الرُّكُون إلى هؤلاء المنافقين، وموالاتهم فقال (سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء) مَنَعَ - جلَّ وعلا - عن مُوالاتهم (حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وَهَاهُنا تساؤل: سبب النُّزول يَذكُر أنَّ هذا في أُحُد، فَلِم قال الله تعالى (حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ومعلوم أنَّ الهجرة إذا أُطلقت فإنّها تكون من مكَّة إلى المدينة؟
بعض المفسِّرين حاول أن يُشَّكِك في سبب النُّزول، ولكنَّ الوَاقع أنّ الآية واضحة، قال (حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ولا يزال السُّؤال قائماً كيف قال: (حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) مع أنّهم في المدينة، هُم رجعوا إلى المدينة؟
الجواب: لم يُؤمنوا حقَّ الإيمان ، والهجرة لها ثلاث معاني :
• النوع الأول : هجرة انتقال من بلد الشِّرك إلى بلد الإسلام وكانت مفروضة من مكّة قبل فتحها إلى المدينة وغلب على أصحاب هؤلاء أن يُسَّمُون بــــ (المهاجرين) لكن لـــمّا فُتِحت مكّة انتهى الأمر، وقال النّبي صلى الله عليه وسلّم (لا هجرة بعد الفتح) .
• النّوع الثاني : هجرةٌ من النِّفاق وهي داخلةٌ في هذا المقام دخُولاً أوليّاً لأنَّ السِّياقَ فيها والمراد بها أن يترُك الشّخصُ نفاقه، ويخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم للقتال في سبيل الله صَابِراً محتسباً، لا لأيّ غرضٍ من أغراض الدُّنيا. وعلى هذا المعنى يلتئم سبب النُّزول مع هذا المعنى.
• النَّوع الثالث : الهجرة عن جميع المعاصي وفي هذا يقول النّبي عليه الصّلاة والسّلام كما في صحيح البخاري من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : (والمُهاجر من هَجَر ما نهى الله عنه).
وذكر الله عزّوجل لفظاً عامّا يشمل الجميع فقال جلّ في علاه (حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فلم يقُل "حتّى يُهاجروا عن الكُفُر" بل قال (حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، ولفظة (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) عامّة لِتَشملهم فيدخلون فيها دُخولاً أوليّاً ، وتشمل أيضاً من بعدهم .
/ ثمّ قال الله تبارك وتعالى (فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ) أيّ أعرضُوا عن التَّوحيد والهجرة، فخُذُوهم أَسرى ومنه يُقال لِلأَسير أَخِيذ. (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ) في الحِلّ والحرم (وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ) ثمّ استثنى - جَلَّ وعلا - طائفةً منهم فقال (إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ) وهذا الاستثناء يرجع إلى القتل لا إلى الموالاة، لأنَّ مُوالاة الكُفّار والمنافقين لا تجوزُ بحالٍ من الأحوال. (يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ) أيّ يَنتسبون إليهم ويتَّصِلُون بهم، يدخُلُون معهم بالحِلف والجِوار، يَلجَؤون إلى قوم (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ) أيّ بينكُم أيُّها المسلمون وبين هَؤلاءِ القوم الذِّين لجَؤا إليهم عهد، وهُم أُناسٌ في عَهد النَّبي - عليه الصّلاة والسّلام - من الأسلميِّين (أَوْ جَاؤُوكُمْ) أو كذلك يتَّصِلُونَ بقومٍ جاؤكم (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) أيّ ضَاقَت صدورهم (أَن يُقَاتِلُوكُمْ) أيّ ضاقت صدروهم عن قتالكم للعهد الذِّي بينكم.(أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ) أَيّ عندهم ضِيق صدر وتحرُّج أنّهم يقاتلونكم ، وعندهم ضيقُ صدرٍ أيضاً أن يقاتلوا قومهم فهم أشبه ما يكونون بالــمُسَالــِمين الذِّين لا يرغبون أن يدخلوا مع قومهم لأنَّهم يخشَون على أنفسهم، ولا أيضاً يَدخُلوا معكم . قال الله هنا (إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ) يعني القَوم الذِّين جاؤوكم ويُقال أنّهم بنو مُدلِج وكانوا عاهدوا قريشاً ألاّ يُقاتِلوا المسلمين، وعاهدوا قريشاً ألاّ يقاتلوهم فهم بين عَهدين، فعندهم عهدٌ مع المشركين ألاّ يقاتلوا مع المشركين، وعندهم عهد أيضاً أنّهم لا يقاتلون مع المسلمين، فهم لا يُحبُّون نقض العهدين. فهؤلاء مُستَثنَونَ من القَتل. أنّكم لا تقتلونهم. لماذا لا يُقتَلُون؟ لأنَّ معهم عُذُر، بينَهُم وبين القَوم عهد، والله سبحانه وتعالى أَمَرَ بالوَفَاء بالعُهُود والمَواثيق.
/ ثمّ بيَّن الله تبارك وتعالى مِنّته ونعمته على المسلمين أنّه لو شاءَ لَسلَّط هؤلاء القَوم فَلَقَاتلوا المُسلمين ولَاشتركوا مع الكُفَّار في قتال المسلمين، ولكن من نعمة الله تبارك وتعالى أنّه كفّ أيدي هؤلاء القوم، (وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) أيّ قاتلوكم مع الكُفّار. لكن من منّة الله سبحانه وتعالى أنّه كفّ أيدي هؤلاء القوم ، كما قال سبحانه في سورة الفتح (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم) .(فَلَقَاتَلُوكُمْ) فالله سبحانه وتعالى يَذكر هنا مِنّته على المسلمين بكفِّ بأس المُعَاهَدين يقولون إنّ ضيق صدروهم عن قتالكم لِمَا ألقى الله جلّ وعلا في قلوبهم من الرُّعب فهم لا يرغبون قتال المسلمين، ولو شاء الله - عز وجل - لسلطهم عليكم فلقاتلوكم مع قومهم لكنَّهم لم يفعلوا هذا .
/ ثم قال تعالى (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أيّ الصُّلح وانقادُوا(فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) فما جعل الله لكم أَصلاً أي طريق بالقتل والقتال. ثمّ أخبر الله تعالى عن طائفة ً ثالثة ، الآن صارت الطّوائف ثلاث:
• الطائفة الأولى : الــمُعلِنون لعداوتهم.
• الطّائفة الثّانية : الذِّين هم مُسَالِمُون لم يُقاتلوا.
• الطّائفة الثّالثة : وهم (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ) فهنا هؤلاء لا تتعرَّضُوا لهم (كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ) أيّ الشِّرك (أُرْكِسُواْ فِيهَا) أيّ رجَعُوا وعَادُوا إلى الشّرك مرّةً أخرى (فَإِن لمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) أيّ إن لــم يَكُفُّوا عن قتالكم حتّى تسيروا (وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أيّ المُعاهدة والمصالحة (وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ) ولم يقبضوا أيديهم عن قتالكم فهنا يجوز لكم أيُّها المسلمون أن تأخذُوهم فقال (فَخُذُوهُمْ) أسرى (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أيّ حيثُ وجدتموهم (وَأُوْلَئِكُمْ) أيّ أهل هذه الصِّفة (جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا) أيّ لكم عليهم حُجَّة ظاهرة بالقتل والقتال.
خُلاصَة هذه الآية : أنَّ الطَّوائف صارت ثلاث طوائف:
- الطَّائفة الأولى : مُعلنيين العَداوة وقد أظهروا عداوتهم وهؤلاء لا شكّ أنّهم يُقتَلُون.
- الطّائفة الثانية: المسالـــمُون (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ) الذّين تحرّجت صدورهم عن قتالكم، فهؤلاء يُكَفّ عنهم.
- الطّائفة الثالثة : وهُم الذِّين يُريدون أن يأمنوا قتال المسلمين ويأمنوا قومهم. مثل ما يقولون بالأمثال الدّارجة: يلعبون على الحَبلين هؤلاء منافقين، فهؤلاء إن لم يُعلنوا البراءة ممّا هم عليه، فهؤلاء يجب أن يُقتَلُوا ولهذا قال الله تعالى (فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا) أيّ حُجَّة ظاهرة بالقتل والقِتال.
/ ثُمّ بيَّن الله سبحانه وتعالى بعد هذه الآية الكريمة ، التَّغليظ في قَتل المؤمن وأنَّه عظيم عندالله فقال الله - جلّ جلاله - ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا) وهذا نهيٌ عن قتل المؤمن، كما قال سبحانه (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ) ، (إِلاَّ خَطَئًا) استثناء منقطع معناه إن وقع خطأ لأنَّ القَتل أنواع :
الأوّل: القتل العَمد وهو أن يَقصد إلى قتله بأيِّ وسيلةٍ كانت عمداً عدواناً
الثاني : القتل شبه العمد أن يضربه بشيءٍ لا يقتُل مثله غالباً كالعصا أو نحو ذلك.
الثالث : القتل الخطأ وهو ألاَّ يقصده نهائياً مثل إنسان يَصطاد فرمى، فلمَّا أطلق الرّمي ضربَ إنساناً هذا خطأ محضّ .
• فالنّوع الأوّل الذّي هو العمد هو الذّي فيه التّغليظ وفيه الدِّية، وفيه الكفَّارة، وفيه القِصاص. لا يُقصَد أن تجتمع عليه ولكن إمّا قصاص وإمّا دية - كما سيأتي- مع صيام شهرين متتابعين لا يَفطر بينهما يوماً واحداً.
• النّوع الثاني : شِبه العمد وهذا فيه الدّية ولا قصاص فيه مع الكفّارة حقٌّ لله تبارك وتعالى .
• النّوع الثّالث : الخَطأ وهذا فيه الدِّية والصِّيام .
طبعاً بعض النّاس يتصوّر أنّهم إذا تنازلوا عن الدِّية أنّ هذا تنازل عن الصيام الواقع أنّ الصيام حقّ لله تبارك وتعالى . (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ) طبعاً عليه أن يُعتق رقبةً مؤمنة كفّارة، وهنا مناسبة بين عتق رقبة مؤمنة والقتل، لماذا أُمِرَ أن يُعتِق رقبة مؤمنة؟ بما أنَّ الإنسان قتل نفساً مؤمنة أَتلفها وأَعدمها قطع عنها الحياة، فليُحرِّر أُخرى لتذهب حُرّةً في أرض الله تعبد الله سبحانه وتعالى، فكأنَّها بدل والله تعالى أعلم.
(وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) أي الدِّية كاملة وهي حَقّ ميراث كالتّركة تُقسَم كما تُقسَم تركة الميّت، قوله ( مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) يعني إلى الورثة (إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ) أيّ يَتصدّقوا بالدِّية فيعفُوا ويترُكُوا الدِّية، لمِ سمّى العفوعن الدِّية صدقة ؟ ألا يُعد هذا فيه نوع من التَّرغيب في العَفو لأنّ الصَّدقة فضلها عظيم ومرغوبة، فسّماه صدقة هنا فقال (إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ) لأنّ فيه إيماء وإشارة إلى أنَّ العفو عن الدِّية فيه أجرٌ عظيم، وفضلٌ كبير عندالله سبحانه وتعالى لقوله تعالى (إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ) ومعلومٌ أنّ الصَدقة مُرَّغَبٌ فيها في كل ِّ زمانٍ ومكان، وفي كُلِّ وقتٍ وحال (إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ) فيعفوا ويتركو الدّية .
ثمّ قال الله تبارك وتعالى (فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ) يعني أراد به إذا كان الرّجل مسلماً في دار الحرب منفرداً مع الكُفّار فقتله إنسانٌ ماعَلِمَ بإسلامه، فهنا هل عليه دِيَة ؟ لا ديّة عليه، لكن عليه الكفَّارة حقٌّ لله تبارك وتعالى. لأنَّه إذا أعطاهم الدِّية يُعطي من؟هل يعطي من بَينه وبينهم عداوة؟ كلاّ.
(وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ) أي عهد (فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً) أراد به إذا كان المقتول كافراً ذِميّاً أو مُعَاهَداً فهنا يجب فيه الدِّية والكفّارة،والكفّارة تكون بإعتاق رقبةٍ مؤمنة – كما سبق- سواء كان المقتول مسلماً أو مُعاهداً، سواء كان رجُلاً أو امرأةً،صغيراً أو كبيراً، وتكونُ في مَال القاتل. طبعاً إذا كان عمداً تكون في مال القاتل، أمّا إذا كان القتل شِبه عمد أو كان خطئاً فإنّها تكون على العَاقلة - أيّ على جماعته والده وجدّه وأعمامه وبنو أعمامه ونحو ذلك - .
قال الله (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ) أيّ إذا كان الشّخص القاتل لم يستطع العتق فإنّه يصوم شهرين متتابعين لا يُفطِر بينهما يوماً واحداً إلاَّ امرأة تُفطر لحيض أو نفاس، أو إنسان يُفطر لسفر أو صيام فرض، فإن أفطر يوماً واحداً قبل تمام الشّهرين فإنّه يستأنف مرّة أخرى، فالحكمة ظاهرة في العتق، لكن في الصيام ما الحكمة في جعلها شهرين متتابعين ؟ من الحِكَم - والله أعلم - ليقطع نفسه ويُخرجها عن رِقّ الشّهوات واللّذات طيلة هذه المُدَّة، طبعاً الشَّخص إِذا كان معذوراً في الصِّيام الواجب كشهر رمضان فهو معذور من باب أَولى في صيام الكفّارة ، ثُمَّ قال الله تبارك وتعالى (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) وسيَرِد معنا هذين الاسمين في ما يأتي من الآيات فهو - جَلَّ وعلا - عليم بشرعه، وحكيم فيما فرض سبحانه وتعالى على عباده له الحكمة التّامة.
/ ثمّ قال سبحانه وتعالى (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) وهذه الآية الكريمة حصل فيها كلامٌ طويلٌ جِدّاً لأهل العلم من جهة أنَّ أهل السُّنة والجماعة مُجمعون على أنَّ فاعل الكبيرة أنّه لا يَكفُر بفعل الكبيرة ما لم يستّحلّها، وأنَّ الله جلّ وعلا يغفر الذُّنوب جميعاً ما خَلا الشّرك، من مات وهو يفعل كبيرة فإنّه تحت مشيئة الله تبارك وتعالى إن شاء عذَّبه وإن شاء غَفَر له ومن هنا وقع كلام لأهل العلم في هذه المسألة، هل لمن قتل متعمِّداً توبة أم لا؟ وأرجح الأقوال أنَّه يدخُل تحت قوله تعالى (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وأمّا ما جاء عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما- أنّه لا يرى فيمن قتل متعمّداً من توبة، فإنّه ورد أيضاً عن ابن عبّاس أنّه قال : لــمّا نزلت التّي في الفرقان (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) قال مُشركو أهل مكّة قد قتلنا النَّفس، فأنزل الله (إِلاَّ مَن تَابَ) قال ابن عبّاس: فهذه لأولئك، وأمّا التِّي في النّساء فالرَّجل إذا عرف الإسلام، وعرف شرائع الإسلام، ثمّ قتل فجزاؤُه جهنّم . يقول بعض السَّلف فذكرتُ هذا لمجاهد فقال : إلاَّ من نَدِم . وطبعاً مجاهد هو الذّي يقول عرضتُ المصحف على ابن عبّاس ثلاث مرّات وأنا أسألهُ عن كُلّ آية ويُجيبني. فمجاهد بن جَبر المكيّ أعلم بقول ابن عبّاس ، فلذلك أضاف وقال: إلاّ من نَدِم. على أنّه يُحمَل قول ما ورد عن ابن عبّاس على مَحملٍ آخر عند بعض أهل العلم وهو: أنَّ هذا التَّغليظ قاله ابن عبّاس - رضي الله عنهما- لمن جَاءَه وقد همَّ بقتل مؤمن، فجاءه فقال : يا ابن عبَّاس، هل لمن قتل مؤمن من توبة ؟ قال ابن عبّاس: ثكلته أُمُّهُ وأنّى له التّوبة! فمضى الرّجُل فقال بعض أصحاب ابن عبّاس كيف قلتَ هذا ! فقال ابن عبّاس: إنَّ هذا جاءني وأنا أعرف في عينيه القتل، فذهب أحد النّاس يستخبرهُ فوجد الأمر كما قال ابن عبّاس، فجاء ابن عبّاس وأفتى بهذه الفُتيا من باب التّغليظ على من قتل مؤمناً متعمِّداً . وهذا هو الرَّاجح من أَقوال أهل العلم . على أنَّ بعض أهل العلم له محمل آخر : وَرَدَ أنَّ هذا جزاؤه إن جازاه الله - تبارك وتعالى - (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) يعني هذا جزاؤه إن جازيناه بينما المؤمن لا يخلو من توبةٍ ماحية، من هول البرزخ، من شفاعة النّبي محمّد - صلى الله عليه وسلّم -، من شفاعة المؤمنين، وهذا ما جَنَحَ إليه ابن القيّم يقول: " الآية على ظاهرها، ولكنّ المؤمن لا يخلو من مُكّفرات عديدة ، منها شفاعة النّبي صلى الله عليه وسلّم ، منها شفاعة المؤمنين ،منها أيضاً هول البرزخ ، منها ذنوب ماحية ، توبة .." إلخ وإلا الآية على ظاهرها .
ومنهم من قال : لا التَّقدير هذا جزاؤه إن جازيناه، ومنهم من قال: (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) يعني الــمُكث الطّويل، ولكن لم يُرَد بهذا الخُلوُد كما يكون الخُلُود للكُفّار، ولهذا قال (وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) .
الخلاصة من هذا: أنَّ قاتل النَّفس شأنه شأن أصحاب الكبائر، على أنَّه ورد التّغليظ الشّديد عن النّبي صلى الله عليه وسلّم في هذا الأمر . ومنها ما جاء في الصّحيحين أنَّ النّبي صلى الله عليه وسلّم: (أوّل ما يُقضى بين النّاس يوم القيامة في الدّماء) وقال أيضاً: (ما يزال المؤمن في فُسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً) وغير ذلك من الأحاديث.
المقطع الثّاني : قال الله تبارك وتعالى في هذه الآيات الكريمة في المجلس التّاسع :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)
قال الله تبارك وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ) وهذا النّداءُ العظيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) يَحِقُّ للمؤمن والمؤمنة إذا سَمِعَهُ أن يُصغِيَ بسمعه، كما قال ابن مسعود رضي الله عنهما قال :"إذا سمعتَ الله تعالى يقول في القرآن: (يا أيُّها الذّين آمنوا)، فأصغِ لها سمعك، فإنَّه إمّا خيرٌ تُؤمَرُ به وإمّا شرٌ تُنهى عنه" .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) يا أيُّها الذِّين صدَّقوا بالله ورسوله وعَملوا بمقتضى هذا التَّصديق (إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ) هناك مناسبة لطيفة عند هذه الآية الكريمة ،الله سبحانه وتعالى قال (إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ) مناسبة هذه الآية لما قبلها :
لما ذكر الله جل وعلا تَحريم قتل العمد، وما في قتل الخطأ من المؤاخذة المُوجبة للتَّثبت، وعدم الاستعجال، وحاجة من في ساحة الجهاد لهذا الأمر حاجة ماسة جدًا فلربما التبس الحال في حال القتال هنا اتبع ذلك بها الأمر الصريح بالتثبت كأن قائلًا قال ماذا أفعل بين يدي القتال والجهاد ؟ أنا بين الإقدام والإحجام فقال الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ) الضَّرب مُستعملٌ في السير لأنَّ أصل الضَّرب هو إيقاع جسم على جسم وقَرعه به وهنا قال ( إِذَا ضَرَبْتُمْ) فالسَّير ضَرب في الأرض بالأرجل (إِذَا ضَرَبْتُمْ) يعني إذا سِرتم، إذا غزوتم في سبيل الله كما قال تعالى (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ) , (إِذَا ضَرَبْتُمْ) إذا سِرتم في سبيل الله (فَتَبَيَّنُواْ) وفي قراءة أخرى (فتثبتوا) قرأ حمزة والكسائي (فتثبتوا) معناها ترك العَجَلة والمقصود التَّأني لمعرفة المؤمن من الكافر يعني اطلبوا الثابت الذي لا يتبدّل ولا يَحتمل نقيض مابدا لكم وبقية القُرَّاء قرأوا (فتبينوا) من التَبيّن وهو تفعُّل أي تثبّتوا واطلبوا بيان الأمور فلا تعجلوا فتتبعوا الخَواطر الخاطئة، ولا منافاة بين القراءتين فالتَّبيُن والتأمل نتيجة التثبت فيجب أن يَتثبت أولًا ليتبيَّن له الأمر وتبيَّنوا في هذا أَوكد كما يقول القرطبي لأن الإنسان قد يَتثبت ولا يتبيَّن .
( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) قراءتان سبعيتان وهي:
(وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) بالألف وهو معنى مشترك بين معنى السَّلم ضد الحرب (ولاتقولوا لمن ألقى إليكم السَّلم) وهو ضد الحرب أيضًا ، (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) يعني من قال السَّلام عليكم (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السَّلم) يعني أظهره بينكم كأنَّه رماه بينكم (لستَ مؤمنًا).
(وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) جاء في سبب نزول هذه الآية مافي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) كان رجل في غُنيمة له فلحقه المسلمون فقال السلام عليكم فقتلوه, فأخذوا غُنيمته فأنزل الله عز وجل في ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) من أجل تأخذون غنيمته (فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) . وفي سُنن الترمذي ومسند أحمد ( مرَّ رجل من بني سُليم بِنَفَرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم فقالوا ماسلّم علينا إلا ليتعوَّذ منا فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ) (تثبتوا) تأنُّوا، لاتستعجلوا ، (فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) ( أو القِراءة الأخرى (السَّلَم) يعني المُوادعة سواء بينكم إذا كان الشَّخص سلّم عليكم ليس لكم إلا الظَّاهر ونحن معاشر المسلمين ما أُمرنا أن نَنَقِبَ قُلوبَ النَّاس ولا نشق صدورهم . وكان النَّبي عليه الصَّلاة والسلام يقبَل علانية الناس ويَكِلُ سرائرهم إلى الله عز وجل فإذا هذا أدب عظيم الذِّي هو التَّبيُّن، والتَّثبت، وعدم الاستعجال.
( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) منافع الدُّنيا الزائلة الذَّاهبة (فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) عند الله مغانمُ كثيرة. يقول الشيخ ابن سعدي رحمه الله: "فيه إشارة إلى أنَّ العبد إذا رأى دواعي نفسه تميلُ إلى حالةٍ له فِيها هوى وهي مُضِرَّة له أن يُذَكرها بما أعدَّ الله عزَّوجل لمن نهى النفس عن هواها وقدَّم مرضاة الله على رضا نفسه فإنَّ في ذلك ترغيبًا للنَّفس في امتثال أمر الله عز وجل وإن شَقَّ ذلك عليها ولذلك الله سبحانه وتعالى قال (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)".
طبعًا الإنسان إذا رأى مثلًا غنيمة أمامه وهو جائع، ربما يتأوَّل نفسه وليس فقط في الغنائم في كل شيء. أحيانًا بعض الناس يكون له حظ في نفسه في معاملة مالية معينة، في مسألة زوجية في أيّ قضية من القضايا فتجده يُغَمِّض عينيه، ويَمضي قُدُمًا وربما يتأوّل يقول بعض أهل العلم يرى هذا الرأي وبعضهم أفتى بكذا ، نقول : من تَرَكَ شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.
(فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) ولم يقل مغانم فقط، بل قال أيضًا (مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) يعني هذا الرجل في غُنيمته قصر نظركم على هذا الرجل في غُنيمته!! عند الله مغانم ستغنمون أكثر وأفضل من هذا الأمر المشتبه، أمر هذا الإنسان المسكين الذي ظننتم به أنه لم يقل هذا الكلام إلا ليتعوَّذ منكم فإنَّما في الواقع قد يكون مسلمًا ولكنَّه استخفى بإيمانه خوفًا على نفسه من قومه. وكذلك أنتم كنتم يا معاشر المسلمين كنتم تستخفون بإيمانكم في مكة حتى أعزكم الله وأظهركم ولهذا الله سبحانه وتعالى قال (كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) . هُنا سَمَّى الله متاع الدنيا سمى هذا قال متاع الدُّنيا سمَّاهُ عَرَضًا , لماذا سَمَّاه عرضًا؟ لأنه يَعرِض ثم يزول . هو عرَض وأحيانًا يصير عَرَض ومَرض يكون لبعض الناس.
(فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) عنده - جل وعلا - غنائم ومغانم وأجور مضاعفة لمن اتقى قتل المؤمن (كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ) تكتمون إيمانكم من المشركين فمنّ الله عليكم بإظهار الإسلام ومنَّ الله عز وجل عليكم بالهداية بعد الضَّلالة ( فَتَبَيَّنُواْ ) لماذا إعادة الأمر بالتبيِّن؟ لماذا أَعاده ألا يَكفي الأوَّل ؟
أعادَهُ لأهميته للمبالغة في التَّحذير عن ذلك الفعل لأنه أمر عظيم جدًا (كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ ) تبيَّنوا أن تقتلوا مؤمناً مرة أخرى (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) فهو العَليم بِسَرائِر عباده، وضمائر قلوبهم سبحانه وبحمده، هو الخبير بأمورهم الذي لا تخفى عليه خافية وهو العليم بما تكنّه صدورهم وهو المُطَّلِع على حقائق الأشياء جل وعلا صغيرها وكبيرها (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء) كذلك في سورة الحجرات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) أيضًا (فتثبتوا) فهُما قراءتان سبعيتان حمزة والكسائي قرأوا (فتثبتوا) وبقية جُمهور القراء قرأوا (فتبينوا) .
/ ثم قال تبارك وتعالى مُبَينًا مكانة من جاهدوا وبذلوا انفسهم في سبيل الله (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هذه الآية فيها سبب نزول جاء في صحيح البخاري ومسلم عن البَراء بن عازب قال: لما نزلت (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) دَعَا النَّبي صلى الله عليه وسلم زيدًا فجاء بكَتِفٍ فكتبها،طبعًا أول ما نزلت الآية (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وكان ابن أم مكتوم خلف النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا فقال : يارسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى قال زيد فنزلت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) وفخِذُ النبي صلى الله عليه وسلم فوق فخذي فكادت تَرُضُّها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكتب (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فصارت الآية (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فهنا عَذَرَ الله سبحانه وتعالى الأعمى وغيره قال الله جل وعلا : (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) ومع ذلك هل قَعَدَ ابن أم مكتوم أم لم يقعد ؟ لم يَقعد. ماذا قال للنّاس في يوم اليرموك ، قال يامعشر المسلمين إني رجل أعمى لا أستطيع أن أفرّ فأعطوني الراية أحملها بين الصَّفين - رضي الله عنه - وحمل الراية حتى قُتل في سبيل الله مقبلًا غير مدبر - رضي الله عنه - ،هذا عبدالله ابن أم مكتوم الذي نزل فيه قوله تعالى (عَبَسَ وَتَوَلَّى*أَن جَاءَهُ الأَعْمَى) هو مَعذور مع ذلك ما رضي لنفسه أن يقعد (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ،(لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) عن الجهاد في سبيل الله (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فإنَّهم معذورون ، ولا شك أن المؤمن إذا حصل له مانع ونيِّته أن يقوم بهذا العمل أن الله جل وعلا يكتب له ثواب هذا العمل وفي هذا عدة نصوص منها : قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح لما رجع من غزوة تبوك قال (إنَّ بالمدينة لأقوامًا ماسرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم) وفي رواية (إلا شركُوكم في الأجر) قالوا يارسول الله وهم بالمدينة قال (وهم بالمدينة حبسهم العذر) فهؤلاء المُعذورون أجرهم تام. يقول ابن القَيِّم " قاعدة الشَّريعة أنَّ الشَّخص إذا عَزَم على الفِعل عزمًا تامًا بنية صادقة أنه يُنَزَّل منزلة الفاعل" , قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ماكان يعمل وهو صَحيح ومقيم)
يَارَاحِلينَ إلى البَيتِ العَتيق لَقَد *** سِرتُم جُسُومًا وَسِرنا نحنُ أرواحاً
إنَّا أقمنا على عُذرٍ نُكابـِدُهُ *** وَمَن أقامَ عَلى عُذرٍ كَمـَن رَاح
فأحيانًا الإنسان يكون في نيّته الحج، والحج من الجهاد في سبيل الله لكنه يمنعه مانع، عارِض فيتمنى ذلك فيُكتب له أجر عظيم , يتمنى الجِهاد لكنه لايستطيع , ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام أمَرَنا بتحديث النفس بهذا فقال (من لم يَغزو ولم يُحَدِّث نفسه بالغزو مات على شعبةٍ من نفاق)،(غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فإنَّهم معذورون كالمُقعد الزَمِن، والأَعرج، والأَعمى ونحوهم.
(فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) لِمَ قَدَّم الجِهاد بالأموال على النَّفس؟
هُنَا قدّم الله الجهاد بالمَال لأنَّه أهون على الإنسان, إذا خُيِّر الإنسان بأنه تذهب نفسه أو ماله أكيد سَيُقَدِّم ماله, قَدَّم الجهاد بالأموال لأنَّه أهون على الإنسان,ولأنَّه أيضًا نفعه أكثر لأنَّه قد يُمَوِّل مئات أو آلاف المُجاهدين المال فهُو على أنَّه أهون على النَّفس إلا أن نفعه أيضًا أعظم لأنّه يعتبر نفعًا متعديًا.
(فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً) أيّ فضيلة ، وقيل أراد بالقاعد هنا أولي الضَّرر،فضل الله المجاهدين عليهم درجة لأنَّ المجاهد باشر الجهاد مع النية وأولي الضرر كانت لهم نية لكنَّهم لم يُباشروا فنَزَلوا بدرجة واحدة هذا قول قيل لكن قال الله (وكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) انظر كيف الآيات الكريمة (وكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) يعني كُلًا وُعِد بالجنة في إيمانه وصِدقه (وكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) وهذه أيضاً قاعدة عظيمة في القرآن الكريم أنه إذا ذُكر أمر، ثم ذكر أمر آخر قد يتوَّهم السَّامع أنَّه أحقُّ بدرجة، فإن الله ينفي هذا الأمر مثل قول الله تبارك وتعالى (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ*فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) قد يتطرق في ذهن بعض النَّاس أنَّ هذا غَضّ من مكانة نبي الله داود عليه السلام قال الله بعدها (وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) فلا يَتَطَرق إلى ذهنك أيُّها السَّامع أنَّ هذا نَقص في حقّ داود, كذلك هُنا لايتطرق إلى ذهنك أيُّها المُستمع أنَّ من جلس على عذر أنه إنسان قد غمصه نفاق أو أنه إنسان ما يحب نصرة المسلمين ,لا, انتبه الله يقول هنا (وكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) , وقال الله في آية سورة الحديد (لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) وهذا من العَدل العظيم (وكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) . ثم قال الله (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ) نُضيف إضافة (عَلَى الْقَاعِدِينَ) بلا عُذر (أَجْرًا عَظِيمًا) لكن هَا هُنا تساؤُل القَاعد بدون عذر هل له أجر؟
إذا قلنا المقصود على القاعدين بدون عذر يصبح عنده نية، كما قال النّبي صلى الله عليه وسلم: (لاهجرةَ بعد الفتح ولكن جهادٌ ونية) وقال الله تعالى (وكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) لكن لاشك أن المُتخلف عن الجهاد يعني عمدًا وغير معذور أنَّه ليست كمرتبة المُجَاهدين، قال الله هنا (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (دَرَجَاتٍ مِّنْهُ) الدَّرجات كَم؟
جاء في صحيح البخاري عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (في الجنَّة مئة درجة مابين كل درجتين كما بين السَّماء والأرض أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله) وفي صحيح مسلم أنَّ النَّبي عليه الصلاة والسلام قال لأبي سعيد (من رَضِيَ بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا أدخله الله الجنة) فَأَعجَبَت أبَا سعيد قال يارسول الله أَعِدها عَليّ فأعادها عليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنَّ في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله مابين كل درجة ودرجة كما بين السَّماء والأرض).
هُنا قال (دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً) المغفرة يَزول بِها المَرهوب ثم قال (دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) والرَّحمة يحصل بها المَطلوب, فصار عندهم من الخيرات: دخول الجنَّة، ثُمَّ الدَّرجات، ثم زوال المرهوب الذِّي يخافون منه، ثم حصول المطلوب (الجنَّة) وليس نَعيمُها واحد أعلى مافي الجنّة من النعيم هو التَّمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم جعلني الله وإياكم ووالدينا ممن يتمتع بهذا النعيم .
(دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) ولا شَكَّ أنَّ أكثر السُّور التي انتهت فواصلها بأسماء الله الحسنى هي سورة النساء أكثر السُّوَر على الإطلاق انتهت فواصلها بأسماء الله الحسنى هي سورة النساء بلغت خمسًا وخمسين اسمًا في السُّورة كاملة وكل اسم في مكانه المناسب الذِّي خُتِمَت به الآية (دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) .
/ ثم قال الله تبارك وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) جاء في صحيح البخاري في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إنَّ أُناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يُكثِّرون سَوادَ المشركين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي السهم يُرمى به فيصيب أحدهم فيَقتله أو يُضرب فيُقتل فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) من الذِّي يتوفَّى الأنفس؟ (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) لكن المُسند إلى الملائكة باعتبار أن الله - جل وعلا -وكَّلَهم , هم ملائكة وإلا ملك؟ (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) الجمع هنا ما وجهه؟ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) ملك الموت عليه الصَّلاة والسلام ومن معه من الملائكة أعوانه ، وقد يُقال أنه ملك الموت لكنّ العرب قد تُخاطب الواحد بلفظ الجمع وهذا أسلوب سائِغ في لغة العرب قد يخاطِبُون الواحد بلفظ الجمع . (ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) بالشِّرك أو بالمُقام في دار المُشركين لأنَّهم قاموا في دار المشركين بدون عذر ، (ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) ظلموا أنفسهم بماذا ؟ بأنهم كثَّروا سواد المشركين وفي هذا إشارة أنه يجب على المؤمن والمؤمنة والمسلم والمسلمة أن لا يكون يومًا من الأيام يراه الله جل وعلا مُكثرًّا لسواد أهل الباطل بأي حال من الأحوال احذر أخي المسلم أن تُكَثِّر سواد أهل الباطل بكلمةٍ، ببقاءٍ معهم. وسيأتينا التَّحذير الشَّديد في قوله تعالى (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا) فهؤلاء عُوتِبُوا لأنَّهم بَقُوا مع المشركين يُكثِّرون سوادهم على المسلمين فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُكَثِّر سواد أهل الباطل بأيّ حال من الأحوال لا بمقال يكتُبه، ولا بتصويت يُصَوِّته، ولا بأيِّ أَمرٍ يقوم به وهو يَعلم أنَّ هذا فيه تكثيرٌ لِسَواد أهل البَاطل فإنَّ الله سيُحاسبه .
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ) تأمَّل التوبيخ (فِيمَ كُنتُمْ ) ماذا كنتم ؟ في أيِّ الفَريقين كنتم؟ أكنتم مع المسلمين؟ وإلا كنتم في المشركين؟
سؤال توبيخ سؤال تعيير، فاعتذَروا بالضَّعف عن مقاومة المشركين ( قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ) يعني عاجزين ( فِي الأَرْضِ) يعني في مكة (قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا) يَعني للمدينة تَخرَّجوا من مَكة فَأكذبهم الله - جل وعلا - وأعلمنا بكذبهم قال (فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) هي مَنزلُهم الذي يَنزلون به (جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) بِئس المصير الذِّي يَصيرون عليه ثم اسثنى الله جل وعلا أهل العذر منهم الذِّين يَعلم الله من قلوبهم أنهم أهل عذر فقال (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : (كنتُ أنا وأمي ممن عَذَر الله من المستضعفين) , لأنَّ ابن عباس كانَ صغيرًا، وأمه امرأة مغلوب عليها وإلا كانوا من أوائل من أسلم لكنهم لم يستطيعوا الهجرة إمَّا لأنهم مُنعوا أو لأنهم مايعرفون الطريق مايهتدون للطريق طريق المدينة قال الله (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) يعني لايقدرون على حِيلة ولا على نفقة ولا على قوة للخروج منها (وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) لايعرفون طريقًا إلى الخروج إلى المدينة (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ) أن يتجاوز عنهم وعسى من الله واجب لأنَّه للإطماع والله تعالى إذا أطمع عبدًا وصّله فعسى من الله واجبة كما قال ابن عباس ( وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) وكان النَّبي عليه الصلاة والسلام يدعوا في الصلاة لهؤلاء المستضعفين في مكة كان إذا صلَّى يقنت لهم يقول كما جاء في صحيح البخاري (اللَّهُمَّ أَنجِ الوليد بن الوليد والمستضعفين بمكة) يدعوا لهم عليه الصلاة والسلام إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من صلاة الفجر، يدعوا ، يقنت لهؤلاء المستضعفين إن الله يجعل لهم فَرَجًا ومخرجًا، وقد جعل الله لهم فَرَجًا ومخرجًا. (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (عفواً غفوراً) والذِّي قَبله (غفوراً رحيماً) هنا (عفواً) الذِّي هُو الصَّفح عن الذُّنوب هو الذِّي يَصفح عن الذُّنوب ويترك العقوبة على كثير منها إذا كان الشَّخص لم يُشرك بالله (عَفواً غفوراً) مناسب أيضًا ختم الآية للحال فالله جل وعلا يعفوا عنهم ويغفر لهم .
/ ثم قال تبارك وتعالى (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا) يقول ابن عباس (مُرَاغَمًا) يعني مُتحوَّلًا يتحوَّل إليه، أو متزحزحًا عن ما يكره كما قال مجاهد ، المُراغَم : المُهاجَر (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) سَعة في الرِّزق و "مُراغما" مشتق من الرَّغام وهو التُّراب (وَمَن يُهَاجِرْ) يُهاجر قلنا الهجرة سبق أنَّها تُطلَق على ثلاث أوجه منها هجرة وانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهذه هل نُسخت أم لا تزال باقية ؟ لاتزال باقية (لاتنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة،ولاتنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ) فهُنا يقول الله (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) فهو يجد في الأرض مُتسعًا ومكانًا لهجرته (وَسَعَةً) يجد رزقًا أيضًا لأنَّ الإنسان إذا خرج من بلد الشرك إلى بلد الإسلام هل هو بخروجه هذا يُغيظ المشركين أم لا ؟ قطعاً يغيظ المشركين وأحب العمل إلى الله مافيه إغاظة لأعداء الله ولهذا قال الله سبحانه وتعالى (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) وهنا وقفة جميلة جدًا من ابن القيم رحمه الله يقول كما في مدارج السالكين: " أحبُّ العمل إلى الله أن تُراغِمَ أعداء الله، فمن رَاغَمَ أعداءَ الله بعمل فقد أَخَذَ بِسَهمٍ وَافر وحَظٍ كبير من الصِّدِيقية، وهذا عمل كبير لا يعلم حلاوة من يقوم به إلا من جَرَّبَه ". انظر! . وقارن بين هذه الوقفة الجميلة وبين الذِّين يَرضَون لأنفسهم أن يكونوا في أحضان أعداء الله أو يُوالُون أعداء الله، أو يمالِؤن أعداء الله، أو يُصانِعُون أعداء الله . بعض الناس إذا تكلم يحب أنَّه يُجامل الكفار يَعتذر عن بعض أحكام الإسلام لا يا أخي خَلَّك في بيتك، الإسلام لا يحتاج أنك تعتذر له . الإسلام ولله الحمد عزيزٌ، منيعٌ بأحكامه العَادلة وأقواله الصَّادقة وتَشريعاته السَّامية، لا يحتاج إلى أنَّك تكون مَخذولًا، مهزومًا، ذليلًا تعتذر عن أحكام الإسلام تقول لا الإسلام أصله ماشَرَعَ الجِهاد يعني إلا فقط للدِّفاع , كذبت من قال أنَّ الإسلام ماشرع الجهاد إلا للدَّفع شرعه للدَّفع، والطَّلب لكن أنت يامن تفعل هذا إذا كنت تشعر بهزيمة داخلية فاجعل هزيمتك في قلبك لكن الإسلام لا. هنا ابن القيم يقول خذ نصيبك من مغايرة أعداء الله , فهذه صدِّيقية وأعدى العدو الشَّيطان فالشَّيطان، والمنافقون، والكُفَّار تحتاج دائمًا أن تغيظهم. ولهذا جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (إذا قرأ ابن آدم السجدة فَسَجد اعتزل الشَّيطان يَبكي ويقول ياويله -يعني ياويلي- أُمِرَ ابن آدم بالسُّجُود فَلَهُ الجَنَّة وأُمِرت بالسُّجُود فأبيت فَلِيَ النَّار ) فالسُّجود لأنَّه ذُلّ لله يَضَع الإنسان أشرف ما في وجهه وأيضًا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، يضع أشرف مافيه على الأرض هذا قُرب من الله ودعاء مستجاب وهو يَغيظُ أعداء الله وعلى رأسهم الشَّيطان وجُنوده وأتباعه (مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) .
(وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) يعني قبل بلوغه إلى مُهاجَره (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) يعني انظر سبحان الله اللَّفظ عجيب لم يقُل فقد تَمَت هجرته يكفي فقد وجب أجره على الله ، فهل يخاف ظلمًا أو هضمًا ؟ لا والله, إذا وجب أجره على الله فإنه قد تم ثوابه ونصيبه (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) . ورد سبب نزول يرى بعض أهل العلم أنَّ إسناده حسن في قوله (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أنه رواه الطبري وابن أبي حاتم وأبو يعلى سنده صحيح أن حديث ابن عباس أن ضَمُرة بن جندب خرج من بيته مهاجرًا فقال لأهله احملوني ، أخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل الوحي (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) وهذا طبعًا العلماء عندهم قاعدة يقولون : العبرة بعموم اللَّفظ لابخصوص السبب , دائمًا ولكن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية معرفة سبب النزول مما يعين على فهم الآية لكنَّهُ دائمًا وأبدًا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
/ ثم قال الله تبارك وتعالى (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ) يعني سافرتم (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) يعني حرج وإثم (أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاةِ) يعني قَصَر كمّية وكيفية , أمَّا الكمية : فإنَّ الإِنسان إذا سَافَر يَقصر الرُّباعية إلى اثنتين صلاة الظُّهر، والعصر، والعِشاء. يُصليها اثنتين والباقي لا يَقصر (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) وأمَّا الكيفية : فإنه يُخفِّف الصَّلاة ليست صلاة السَّفر كصلاة الحضر . (إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ) وهذا قيدٌ أَغلبي لأنَّه وقت نزول الآية كانت مُعظم أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانت في وقت خوف فلهذا قال (إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ) وقد جاء في صحيح مسلم أن رجلًا سأل عمر رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين قول الله تعالى (إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ) وقد أمن الناس فعلام نقصر الصلاة فقال عمر قد سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( صدقة تصدَّق الله به عليكم فاقبلوا صدقته ) التي هي القصر في الصلاة ,صدقة تصدق الله به عليكم فاقبلوا صدقته. قال الله بعدها (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا) .
أما هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) فهذه الآية الكريمة تُفَصِّل في كيفية صلاة الخوف وقد جَاءَ في سبب نُزولها مارواهُ الإمام أحمد وأبو داود والنَّسائي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان هو والمسلمين فقال المُشركون لو أصبنا منهم غِرَّة يعني غفلة، فأنزل الله تبارك وتعالى صفة صلاة الخوف لبيان الحذر من المشركين فقال الله (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) ، طبعًا صلاة الخوف وردت على وجوه متعددة ولهذا الإمام أحمد رحمه الله أخذ بها جميعًا ولها أحوال مفصلة في كتب الفقهاء وفي كتب المحدثين وشُرَّاح الحديث فمن صفاتها مثلًا:
• أنَّ الإمام أو قائد الجيش يَصُفُّ بهم يُصلِّي بهم جميعًا أولًا إذا كان العَدو مُواجهًا لهم يصلي بهم جميعًا صُفُوفًا، فيركع الإمام ويركعون جميعًا، ثم يرفعون من الركوع ويسجد الصف المُقَدِّم، ويقف الصَّف المُؤخر ينظر في وجوه العدو لئلا يهجموا حتى إذا أكملوا الركعة، وقاموا إلى الركعة الثانية سجد الصف المُؤخر ثم يتقدم الصف المؤخر ويكون محل الصف المقدم ويرجع الصف المقدم ويكون محل الصف المؤخر .
ترتيب عجيب ، ويفعلون في الركعة الثانية كما فعلوا في الأولى .
• ومن صفاتها أيضاً أنَّ قائد الجَيش يَقسِمهُم قسمين: قسم يُصلُّون معه ركعة، ثم يُكملون لأنفسهم ويَثبُت هو قائمًا ثم ينطلقون إلى اتَّجاه العدو، وتأتي الطَّائفة الأخرى فيُصلُّون مع الإمام يُصلي بهم الركعة الثانية، ثم يسلِّم ثم يقومون يُكملون لأنفسهم .
إلى آخر صفاتها نحن لا ندخل في صفاتها الكثيرة وهي مفصلة في كتب الفقهاء . لكن نشير إلى الآيات الكريمة قال الله تعالى (فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ) يعني فلتقف (فَإِذَا سَجَدُواْ) يعني صَلَّوا ركعةً واحدة، لأنَّه أحيانًا تُطلَق بعضُ الركعة ركعة واحدة يعني تسليمة يقول الإنسان صلى بنا فلان سجدة، أو صلى بنا سجدتين ، أيّ صلّى بنا ركعتين هذا من إطلاق البعض وإرادة الكُلّ (فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ) أيّ مكان الذِّي في اتجاه العدو (وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ) وهم الذين كانوا في وجه العدو (فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) لماذا قال هنا (وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) والأولى قال (وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ) لماذا؟
في المرة الأولى قال (وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ) لأنّ العدو لم يعلم أنَّهم يُصَلُّون، ولا عنده خبر. لكن في المرة الثانية قال الله (وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) رآهم يُصَّلُون فهنا هُجُومُه مُتوقع ففيها حَذر وأسلحة، لأنَّ العدو عَلِم أنهم يصلون . وقد جاء في بعض الروايات أنه قال تأتيهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأموالهم، يقصد صلاة العصر فنزلت صلاة الخوف .
/ ثم قال الله تعالى (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ) تمنَّوا (لَوْ تَغْفُلُونَ) يعني لو وجدوكم غافلين عن أسلحتكم وأمتعتكم ( فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً) يَقصُدُونكم ويَحمِلُون عليكم حملة شديدة واحدة ، ثم قال الله تعالى مُرخصًا لهؤلاء (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) لاحرج عليك (إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ) رخَّص في وضع السِّلاح في حال المطر والمرض لأن السلاح يثقُل حمله في هاتين الحَالتين ولأنه قد يكون له رائحة تُتعِب، وإذا نزل المطر يتعب المجاهد من حمل السلاح مع تَبلُل ملابسه بالمطر، أو كان بكم أذًى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم (وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ) مرة أخرى راقبوا العدو كيلا يتحسَّس منكم غفلة. وهنا (إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) يُهانُون فيه .
(فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) يعني صلاة الخوف انتهيتم منها فرغتم (فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) صَلُّوا في حال الصِّحة قيامًا وفي حال المَرض قعوداً، وعلى جنوبكم عند الجَرح إذا جُرحتم ، أو اذكروا الله بالتّسبيح، والتّحميد، والتهليل مقابل ماحصل من نقص وتخفيف في صلاة الخوف لأنه معروف أنه الذِّكر والاستغفار والتَّسبيح أنه يَجبر ما نَقص من الصلاة ولهذا المصلي إذا سلّم من صلاته يقول كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول أستغفر الله.. أستغفر الله.. أستغفر الله ,هل فعل ذنب حتى يَستغفر؟ لا، لكنَّه يستغفر ممَّا حصل في الصلاة من خَلل ونقص.
(فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ) سكَنتم وأمنتم (فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ) أَتِمُّوها بأركانها، وواجباتها،وشروطها (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) واجبًا مَفروضًا في وقته لايَحِلّ لِلإنسان أن يُؤَخِرّ الصَّلاة عن وقتها إلا لِعذر ٍكأن يكون مريضًا فيَجمع الصَّلاة مع أخرى ،ولا يستطيع أو يكون مسافرًا ، فهنا يكونُ معذوراً.
/ قال الله (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ) يعني لا تضعُفوا في طلب هؤلاء المشركين (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ) وتتوجعون من الجراح (فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ) أيضًا ويتوجعون كما تتوجعون. لكن ماهو الفرق؟ (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ) ومع ذلك أنتم تأملون من الأجر والثواب في الآخرة والنَّصر في الدُّنيا ما لا يَرجون هم (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) .
وأعتذر عن تجاوزي لبعض الآيات، لم أقف معها لانتهاء الوقت .
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح والفهم في كتابه وفي سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم..... والله الموفق .
لحفظ الملف الصوتي :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق