الخميس، 2 أغسطس 2012

تفسير سورة النساء (71-87) / من دورة الأترجة


 د. محمد بن عبد العزيز الخضيري
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مُضلّ له ومن يُضلله فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له واشهد أنّ محمداً عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيرا , اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمّتنا وارزقنا علماً ينفعنا , اللهم اجعلنا جميعاً من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك.
 هذا أيّها الأحبّة هو المجلس السابع والأخير من مجالس هذا اليوم يوم الخميس ليلة الجمعة ليلة الرابع من شهر الله المحرّم من عام اثنين وثلاثين بعد الأربعمائة والألف في جامع الإمام محمد بن عبدالوهاب ببريدة , نسأل الله أن ينفعنا بهذا المجلس .
 المقطع الثاني : ويُستفتح بقول الله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)}
/ يقول الله عزوجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا) سنُلاحظ أنَّ هذا المقطع بدايةً من هذه الآية يتحدَّث عن الجهاد في سبيل الله , وقد تقولون ما مناسبة هذا المقطع بالمقطع السابق الذِّي كان جميعه عن طاعة الله، وطاعة رسوله ؟
 لمّا حثّ النفوس على طاعة الله وطاعة رسوله جاء ميدان الاختبار , هل أنت مُطيع لله ومُطيع للرسول فيما تُحب، وفيما تكره، في المنشط و في المكره فيما ترغب وما لا ترغب؟ الميدان هو الجهاد. ولذلك بعد ما انتهى من الطَّاعة، وبيّن فضلها وأنّ المخالفين فيها هم المُنافقون ذكَر الجهاد في سبيل الله، ليُبيّن أنّه من الميادين التي تُمتحن فيها طاعة العباد , وبالفعل أن تُطيع في أن تتزوج ليس مجالاً للطاعة عند كثيرٍ من العباد، لأنّ النفوس ترغب الزواج , وأن تُطيع بأن تبحث عن الرزق أيضاً ليس مجالاً للامتحان لأنّ النفوس كلها جُبِلت على طلب الرزق , لكن أن تُطيع في أن تخرج من أهلك وتبذل مالك لتُجاهد في سبيل الله وترفع راية لا إله إلا الله وتُنقِذ المستضعفين في الأرض لأنَّ هَذا هو مناسبة ذكر الجهاد في سورة النساء, وهو أنّ الجهاد يُشرع لاستنقاذ المستضعفين , قال الله : (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) أي وفي سبيل المستضعفين (مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) .
/ قال الله عزوجل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ) وأخذ الحذر يعني أن نأخذ الحيطة فننفر مُجاهدين في سبيل الله، لأنّك إن لم تأخذ الحيطة فتَنفِر انتظر أن يأتيَ العدو إليك , هل تُصدّقون ما يُسمّى بالسلام العالمي؟ هذا كله كَذب , هذا كله من أجل أن تسكت الأمّة الإسلامية ولا تُطالب بشيء من حقَّها ،ولا ترفع راية لا إله إلا الله ولا تدعو الناس إلى عبادة الله , هل سكتوا هم وجلسوا؟ نحن الآن من ثلاثمائة سنة وبلادنا يدُور فيها الكفار مستعمرين ناهبين، آخذين من الخيرات يسوموننا سوء العذاب , هل تركونا؟
 هل جلس الفرنسيون في بلادهم وتركوا الجزائريين ؟
هل جلس الهولنديّون في بلادهم وتركوا الأندنوسيون عندما استعمروهم ثلاثمائة سنة؟ ما تركوهم ولا أحد يترك القتال , ومن قال أنّ هناك سِلم أوسلام عالمي فهو والله يكذب يا إخواني , لا يُمكن أن يكون لأنّ الله خلق هذه الدنيا مبنية على المُدافعة والمُقاومة (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) إن لم تقم بخيرنا نحن وننشر ديننا فسيقوم الكفار بدينهم، وينشرونه في بلادنا ولن يرضوا , الآن يا إخواني الدول الغربية تُصرّ إصراراً بالغاً على أن تُوقِّع المملكة وسائر الدول الإسلامية على ما يُسمّى (بميثاق المرأة) والذي يتضمّن من ضِمن بنوده إباحة الإجهاض، وأنّ الفتاة تتزوج من غير إذن وليّها و... إلخ , لماذا؟ ينشرون عقائدهم وأخلاقهم ومبادئهم لا ينتظروننا, لأننَّا نحن قعدنا وقلنا سلام ويجب علينا أن نُسالِم النَّاس، وما في ديننا حرب، ولا جهاد، ولا قتال، ولا عنف، وديننا دين التسامح والركوع والخنُوع والخضوع والذلّ , وإذا كسروا أجنحتنا دعَونا لهم، وإذا بصقوا في وجوهنا سلمّنا عليهم، وإذا وَطئوا على رؤوسنا دعَونا لهم بظهر الغيب , ولا نتكلم بشيء آخر ولا نقبِض السِّلاح ولا شي.
نعم نفعل ذلك عندما تكون الأمور بأيدينا، ويكون الحقّ والحكم بأيدي المسلمين والتحاكم إلى شرع ربّ العالمين , يقول الله: (خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ) انفروا طالبين أعدائكم ناشرين الحقّ الذي معكم وأنزله الله إليكم .
(ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا) ثُباتٍ : إمّا أن يكون معناها فُرادى كما قال بعض المُفسرّين . · وإمّا أن يكون المقصود بها اِنفروا جماعاتٍ صغيرة، مثل ما كان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل عندما يَبعث السَّرايا .
 (أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا) كما حصل عندما استنفر الرسول الناس للخروج إلى تبوك لأنّه كان سيُقابل الرُّوم , والروم هي أعظم دولة في ذلك الزمان .
 وهذا من جَمال بعض آيات القرآن عندما تَذكُر لك المعنى وما يُقابِله , إذا ما عرفت المعنى انظر إلى ما يُقابله , (فمنهم مستخفٍ بالليل وساربٌ بالنّهار) ما معنى سارب؟ ضدّ مستخفٍ , وهنا (فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا) كلكم , إذا ثُبات معناها وِحدات صغيرة أو فرادى.
/ قال: (وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ) إذا لا يترك الجهاد إلا أُناس معروفون (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ) أعطونا من الغنائم , نحن أولى بها من فلان وفلان (سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) . يقول الله (وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ) يعني يتخلفَنَّ عن الجهاد , أو يتباطأ في نفسه، ويُبطّئ غيره , يقول انتظر لا تستعجل ترى الأمور بالصبر والأناة ويبدأ يُذكِرك بفضل الصبر والأناة وعدم الاستعجال في الإقدام على الجهاد في سبيل الله، وتلبية نداء الجهاد ونداء النُّفرة في سبيل الله.
 قال: (وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا) لأنّه هو لا ينظر إلى الأجر، ولا إلى طاعة الله، ولا إلى طاعة رسوله، ولا إلى آخرة، ولا يَنتظر جنَّة، ولا شيء , ينظر إلى المغانم فقط .
(فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ) هُزمِتُم مع عَدُّوكُم (قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا) أَيّ لم أكن معهم حاضراً.
 قال الله: (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله) أي غنيمة، وخَير، ورزق (لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) يعني بِغضّ النَّظر عن انتصاركم، فوزكم ما حصل لكم من الخير , كل هذا لا يعنينا , يعنينا شيءٌ واحد , ماذا حَصَل لكم من الغنيمة والخير فقط (لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) فالفوز عنده هو الفوز بالدنيا , والفوز العظيم الذي جعله الله للمؤمنين في الجنّة ليس فوزاً عنده ولا عظيماً , وإنّما الفوز العظيم كم أُحصّل؟ كم ينالني؟ كم يدخل في جيبي؟ ما هي الفوائد العاجلة؟ أمّا الآجل لا حاجة لي به ، هذا أتركه لكم ، هذا لكم أنتم أيّها المؤمنون.
/ قال الله عزوجل (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ) هذا أَمر من الله - عزوجل - لكل مُؤمن يشري الحياة الدنيا بالآخرة ، يشري بمعنى يبيع (يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ) أي يَبيعون الحياة الدنيا ليأخذوا الآخرة (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) هؤلاء ضدّ هؤلاء الذين يُبطّئون ويتباطئون , لكن في سبيل الله لا في سبيل عصبية، ولا وطنية، ولا حميِّة، ولا شيء من الأغراض الدنيوية العاجلة، والمأرب الفَانية، وإنّما في سبيل الله (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ) وكلمة "يشرون" تأتي بمعنى الشراء وتأتي بمعنى البيع , أمّا "يشترون" فلا تأتي إلا بمعنى الاشتراء , قال الله عزوجل (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
وحملها بعض المفسرين (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) يعني فليُقاتل المؤمنون في سبيل الله , يقاتِلوا (الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ) يقاتلون الذين يشرون الحياة الدنيا ويبذلون الآخرة في مقابلها ، لا يُحبُّون الآخرة , فالله يأمر المؤمنين أن يُقاتلوا أؤلئك الذين يبيعون الآخرة مُقابل عرضٍ من الدنيا قليل , والقول الأول أولى.
/ قال الله عزوجل: (وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) لأنّه لمّا أمر بالقتال في سبيل الله بيّن ماذا يَجنيه المُقاتل في سبيل الله (وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ) في كِلا الحالين سيُحصِّل الأجر قُتل أو غَلَب فغُلِب (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) ولم يقل يؤتيه الله ,بل "نؤتيه" على وجه التعظيم , وماذا تنتظر من العظيم إلا أن يُعطيك ما يليق به، وبعظمته جلّ وعلا . قال (أَجْرًا) نكّره تعظيماً له مِثل ما نكّر ناراً كما أخذناه في المجالس الماضية تعظيماً لها (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا) ثم عظمه فقال (عَظِيمًا) .
/ ثم قال الله في سورة الضعفاء : (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ) لماذا لا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين , فهؤلاء المستضعفون لهم حقّ عليكم أيّها المؤمنون في أيّ مكانٍ كانوا، وفي أي صِقعٍ كانوا. لهم حقّ عليكم أن تَنصروهم وأن تُعينوهم. طبعاً هذا يا إخواني نقولُه عندما يكون للمسلمين قُوّة ويكون لهم دولة , أمّا أن يأتي فرد من المسلمين يريد أن يذهب لنصرة إخوانه في الصِّين، أو في جنوب اليابان، أو في فِيجي، أوفي مُرِيشُوس وغيرها , يقول أنا أنصرهم بسلاحي , نقول لا لم يأمر الله بهذا , لأنّ الله ما أمر بشيء إلا وأمر بجميع لوازمه ومُكمّلاته. مثل من يريد أن يحكم بالشريعة وهو فردٌ واحد , كيف تحكم بالشريعة ؟ لا يأتيك أحد، فأنت يجب عليك أن تسعى إذا كنت ضعيفاً إلى بناء الأمّة التي تَقوم بهذه الشعائر، وتُقيم الجهاد في أرض الله. قال الله عزوجل: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ) أيّ وفي سبيل هؤلاء المُستضعفين (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا) يعني مكة، لأنَّ المُستضعفين في ذلك الزمان في مكّة , وانظروا لم يقل من هذه القريةِ الظالمِة، لأنَّها مكة فشرَّفها الله أن ينسِب الظُلم إليها بل نسَب الظُلم إلى أهلها. قال: (وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ) أيّ هؤلاء الضعفاء يدعون الله ليلاً ونهاراً يقولون (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ) من عندك سبحانك (وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) وليّاً يتولانا ونصيراً ينصرنا ويقوم بمعاونتنا.
/ ثم قال الله عزوجل مؤكداّ المعنى الأول الذي ورد في قوله: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) مازال يؤكّده , قال: (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ) المُؤمن لا يُقاتِل إلا في هذا السَّبيل سبيل الله وحده (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) في سَبيل أصنامهم، وشياطينهم وبُهتانهم، وأحكامهم الجَاهلية (فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ) قُومُوا بقتالهم، ولا تَدَعُوهم، لا سِلم بيننا وبين أولياء الشَّيطان, الذي يقول أنَّ هُناك سِلم، وهناك حالة تصالح بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، يُخالِف هذه الآية تماماً (فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ) ما داموا أولياء للشَّيطان، وليسوا أولياء للرحمن يجب علينا أن نُقاتلهم , إذا كنّا لا نستطيع أن نُقاتِلهم لضَعفنا، وتفرّقنا وذلُّنا الذِّي نعيش فيه , فإنّه يجب علينا أن نُعِدّ العُدّة لذلك , صلاح الدين عندما أراد أن يُحرّر بيت المقدس،بقي قرابة ثلاثين عاماً يُعدّ الناس لهذا العمل العظيم , حتى قال لي أحد المُؤرخين في الأُردن انظر هذه مواقف صلاح الدين، وهذه حُصُونه , بقي يتقدّم على مدى أربعة عشر عاماً , في كل عام يتقدّم قَرابة كيلوين فقط، حتى وَصَل إلى بيت المقدس، وحاصر الصليبيين فيه، وأخرجهم بعد أن بقوا فيه تسعين عاماً , هذا يَحتاج إلى إعداد , من الذِّي يُعِدّ؟ من الذي يُقاتل؟ إنّهم قد يكونون أمّة بعدنا لكن نحن نُشارِك في ذلك الإعداد، عندما نُعِدّ ذلك الجَيل، وعندما نُهيئّ الأمّة للرُّجوع إلى دينها.
 / قال الله: (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) سبحان الله، لمّا أمرنا بقتال أولياء الشَّيطان بيَّن لنا أنَّ الشَّيطان وكيده ضُعفاء ,وهذه حقيقة يا إخواني ولذلك ما التقت صفوف المؤمنين، والكافرين في ملتقى يَصدُق فيه المؤمنون مع الله، إلاّ أنزل الله نصره على عباده , وقلَّ أن تكون هناك معركة بين المؤمنين، والكُفَّار إلا كان الكُفَّار أكثر عدداً وأحسن عتاداً، ومع ذلك تكون الغَلبة لأهل الإيمان, في اليرموك، في القادسية،في ملاذكِرد، في الزَّلاقة، في عين جالوت , في كل الفُتُوح في كل المَواقع التي حصلت بين المؤمنين والكُفَّار هذا يدلّ على أنّ (كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا). الآن الشَّاهد موجود ، ففي محرّم من عام ثلاثين وأربعمائة وألف, حاصَرَ العالم إخواننا في غزّة واجتمعوا عليه، وجاء اليهود ومعهم أعظمَ الأسلحة، وأكثرها تَقنية، وتطّور، وحاصروا أُناساً تعدَادهم مليون ونصف محبُوسين من سنوات لا يصل إليهم شيء من المؤنة إلا بِشِقّ الأنفس , حاصروهم من أجل أن يَقضوا عليهم ويُزيلوا حكومتهم، وأَطافوا بهم من كل جانب، ومنعوا دخول السِّلاح، والماشية، والحليب والماء وكل شيء , ولو استطاعوا أن يُجوّعوهم، فيموتوا جوعاً لفعلوا ذلك ولكنّ الله - عزوجل - يَرزقهم من عنده , ثم ماذا ؟ بدأ اليهود يتحركون، ويتوجّهون، تجّاه غزّة فماذا صنعوا؟ ما صنعوا شيئاً، بقوا ثلاثةً وعشرين يوماً مُحاصِرِين لإِخواننا يُريدون أن يتقدَّموا متراً , ما تقدّموا ، ومعهم السِّلاح معهم الطائرات، معهم العَالم، وهؤلاء ضُعفاء ما عندهم إلا أسلحة يصنعونها بأنفسهم , أكواع ومواسير، ومتفجرات داخلية، وفحم وسكر، وأشياء من صُنعٍ محليّ، ويبقون ثلاثة وعشرين يوم مُحاصرين لغزّة يدكّونها ليل ونهار يظنّون أنّها ستستسلم بعد ذلك، فما تستسلم . ويطلبون من أهل غزّة أن يُعلنوا كفّهم عن اليهود، وأنّهم يُنهون الحرب، فيأبى أهل غزة ذلك ويَرفضون أن يُعلنوا ذلك , فيُضطَر اليهود أن يُعلنوا إنهاء الحرب من طرفِ واحد (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) سبحان الله، معهم كل هذه الآلة، ومعهم كل هذا العتاد، وجيوش مدرّبة، وإمكانات هائلة، وفي النهاية ما استطاعوا أن يتقدموا خطوة واحدة! يُقال لليهود تقدموا معكم الدَّبابات، معهم المركافا , أفضل دبّابة في العالم كما يقولون ما استطاعت تتقدّم متراً واحداً , لماذا؟ (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) .
/ قال الله - عزوجل -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) هذه الآية نزلت عِتاباً لأناسٍ لمّا كانوا مضّطهدين في مكة , كانوا يقولون متى نُؤمر بالجهاد؟ فلما أُمروا بالجهاد قالوا (لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) فالله عزوجل يذُمُّهُم ويُعاتبهم كيف تفعلون ذلك؟ فهو يقول: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ) في مكة (كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ) لا تقاتلوا لأنَّ القتال عندما كانوا في مكَّة كان محرّماً , وأنتم تعلمون أنّ الجهاد أحياناً يكون مُحرَّماً.
وأحياناً يكون مُباحاً، مأذوناً به لمن يَظلمنا .
 وأحياناً يكون واجباً على من يُقاتلنا ، نُقاتل من يُقاتلنا فقط .
 وأحياناً إذا تمكنَّا وصارت عندنا قوة، وقدرة، وسلاح، وعتاد، ودولة يجب علينا أن نُقاتل كل من يستسلم لأمرنا (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) وهذا يبيّن أنَّ الجهاد له مراحل وأنّ هذه المراحل ليست منسوخة بل هي باقية في الأمة، لكن بحسب أحوال الأمّة , قد تكون منسوخة بالنسبة لأناس، غير منسوخة لآخرين من النَّاس.
/ قال الله عزوجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ) لأنَّه لا يُناسبهم الجهاد لضعفهم وقلَّتهم، ولأنَّهم في بلدٍ قد اختلطوا فيه بالناس، فقد يقتلون الأطفال والصغار , وقد يُسئ ذلك إلى دعوتهم ويُنسبون إلى الإرهاب وغيره , فلا يُناسبهم أن يقيموا الجهاد في أرضٍ مثل أرض مكة .
(وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ) أيّ فُرض عليهم القتال (إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ) نحن لا نُريد القتال، نُريد الطمأنينة، والاستقرار، والسلام، والسلام والسِّلم العالمي والشرعية الدُّولية ونرتاح , ما نبغى العنف والإرهاب، والكلام الذي نسمعه الآن في الصحافة ووسائل الإعلام , ولا يُروّج إلا علينا ولا يُقال إلا لنا، ولا يُؤمر به أحدٌ سوانا .
 قال (لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي لا تُظلمون مِقدار الخيط الذي يكون في شَقّ النواة.
/ قال الله عزوجل: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ) أنتم خائفون من الموت عندما فرض الله عليكم القتال , سبحان الله من قال لك أنَّ الذي يُجاهد في سبيل الله يُقتل في كل حال، أو أنّ الذي يقعد في بيته لا يُصيبه القتل، (ُقل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) في أيَّام الجهاد الأفغاني الأوَّل عندما كانوا يُجاهدون وكانت الدُّوَل كلها تُجاهِد مع المُجاهدين , وكان الطَّالب للجهاد يُعطى تذكرة لكي يذهب إلى هناك , ذهب أحد الشباب استأذن من أمّه وذهب إلى أفغانستان , كانت خائفة جداً من أن يُقتل لأنها ليس عندها إلا ابنان , وبقي الثاني فالثاني جاءه حادث عند أمه ومات , والذي كان في الجهاد رجَع إليها , قالت سبحان الله الذِّي كنت أخاف أن يُقتل جاءني سالماً معافى لم يُصب بشيء , والذي كان عندي في دار الأمن والسَّلام مات بين يدي ! إذا الموت لا يعرف أحداً في المعركة أو أحداً في السِّلم ، يأتي للجميع.
 قال: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ) إذا كتبه الله لكم (وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) وكنتم في قصور مرتفعة ومنيعة جاءكم الموت , وأمّا قوله: (وقصرٍ مَشيد) التي في سورة الحجّ , فقيل: مَشِيد أي مُشَيِّد مِثل هذه , والصَّحيح أنَّ مَشِيد مبنيٌ بالشِيد، والشِّيد هو الجِصّ يُزيَّن به البناء، كما كان الناس يفعلونه سابقاً.
/ قال: (وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ) إذا أصابتهم حَسَنة من خِصب، ورِزق ومطر، وربيع، ولادة، وصِحة، وعافية قالوا (هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ) يا محمد , هذا كله بِسَبِبك , لو أنكم ما جئتم بهذه الدَّعوة، وما جئتم بهذا الدين، ما أصابنا الذِّي نحن فيه , اتركونا على ما نحن عليه , وهذه يفعلها كثير من الناس (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) مسكين الذي يُحاكِم المبادئ إلى ما يحدث له في الحياة من أقدار , حتى بعض الناس تحدُث له وهو من أهل الإسلام , يذهب إلى الحجّ ثم يُصاب في الحَجّ يقول والله لو كنت قاعد عند أهلي ما أصابني هذا السوء , سبحان الله! ما يصير يا أخي هل لو كنت قاعد في بيت أمك وفي أحسن مكان وعلى الحرير لأَصابك الذي قدَّر الله لك .
 قال: (وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي قحط وبلاء ونقص وموت ومرض (يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ) يقصدون رسول الله , قال الله عزوجل: (قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ) ما يكون شيء إلا بقدر الله (فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) ما عندهم شيء من الفقه , لو فقهوا لما قالوا هذا الذي قالوه.
قال الله: (مَّا أَصَابَكَ) يا محمد (مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ) هي فضل رِزق، سِعةٍ، خير، وحيٌ، فهذا كُلُّه من الله (وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ) أيّ بسببٍ من نفسك، و هي بتقدير الله لكنَّ سبُبها كان مَنك، لأنَّك قَصرّت في طاعة الله، وبهذا نعرف الفَرق بين الآيتين، لأنّها تُشكل على بعض النَّاس, لماذا قال في الآية الأولى (قُلْ كُلٍّ مِّنْ عِندِ اللّهِ) أي قُل كلٌّ من عند الله خَلقاً وتقديراً , وهنا (فَمِن نَّفْسِكَ) أي بِسبب نفسك، لأنَّه ما يُصيبك مصيبة همّ، ولا حُزَن ولا مَرض ولا فقر إلاَّ كان ذلك بسبب ذنوبك , قال الله عزوجل: (من يَعمل سوءاً يُجَزَ به) (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)
/ قال الله عزوجل: (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) ما عليك إلا أن تُبلِّغ الرسالة يا محمد، وليس عليك أن يهتدي هؤلاء أو أن يُطيعوا , قال: (وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا) .
(مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) هذه أبلغ آية في الأمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنّ من أطاع الرسول قد أطاع الله جلّ وعلا لأنّ رسول الله لا يُمكن أن يأمر إلا بما يُحبه الله ويرضاه (وَمَن تَوَلَّى) يا محمد (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) إن عليك إلا البلاغ، وليس عليك أن يؤمن الناس هذه ليست مهمتك وليس إليك ولم يجعل الله أمرها إليك , قال الله (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) .
/ قال: (وَيَقُولُونَ) أي يقول هؤلاء الناكِفُون، المُبطّئون، المُعوّقُون عن الجهاد , الذين يقولون (لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ) إذا حضروا عندك قالوا نحن نُطيعك (فَإِذَا بَرَزُواْ) أي ذهبوا بعيداً عنك (بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) أي بيّتوا غير ما قلت لهم، وغير ما أمرتهم به، وأسرّوا في البيات أيّ في الليل شيئاً غير الذي كانوا يقولونه لك في النهار (وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ) مثل يعلم يكتب لماذا؟! يُحصيه فيُعاقبهم عليه . (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) لا تُبالي بهم يا محمد (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه) فإنّ نصرك يأتي من عند الله لا من عندهم , لا تظنّ أنّهم إذا خذلوك خذلوا دينك وخذلوا ربّك , إنّما خذلوا أنفسهم (َفأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً) .
(أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) لو تدبّروا القرآن لفهِموا الحقائق وعرفوا أنّ الدين الذي جاء به هذا القرآن هو الحقّ , وأنّ ما يقولونه من حُجج، وما يأتون به من باطل، وما يُثبّطون به عن الجهاد أنّه لا ينفعهم، ولا يُجدي عنهم، ولا يزيد في حياتهم (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وتدبّر القرآن هو : إعمال القلب والعقل فيه، والنظر فيه , فمن تدبّره وصل إلى معانيه واهتدى إلى ذلك , (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ) لو نزل هذا القرآن من عند غير الله (لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا) إذا الله عزوجل يُبيّن، ويتحدى كل العالم أنّهم لو نظروا في القرآن لن يَجدوا فيه أيّ اختلاف.
/ قال الله عزوجل: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ) ذكر خصلة من خصالهم وهو أنّهم عندما يسمعون خبراً، ولو كان الخبر أذى على بعض المؤمنين يُسارعون في نشره , فعندما يَسمعون أنّ المسلمين قُتل منهم فلان، وفلان، وفلان يأتون سمعنا أنّه قُتل فلان وقُتل فلان , يا أخي هذا الخبر لا يصلح أن يُذاع به، ولا أن يُشاع لأنّه يفتّ في عضد المؤمنين ويُصيبهم بشيء من الحزن والأذى , أو يأتون ويجلسون فيما بينهم يتسارّون، ويُشيرون إلى فلان وفلان فيظنّ من له أخ في الجهاد أنّ أخاه قد قُتل , المهم يقول الله عزوجل: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ) نشروه وأعلنوه · قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " كفى بالمرء كذباً أن يُحدّث بكل ما سمع" · وفي حديث المغيرة قال: "ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" .
(وَلَوْ رَدُّوهُ) أي رَدُّوا هذا الأَمر(إِلَى الرَّسُولِ) أي سألوا الرَّسول أحقّاً هذا الأمر, وهل نُذيعه ونقوله للناس (وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ) وهم العلماء (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) وعرفوا حقيقة هذا الأمر الذي جاء ولا يُدري الناس ما حقيقته .
 وقد حصل لعمر أنّه سمع أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - طلَّق نساءه، فجاء ينظر هل هذا حقّ أو لا ؟، فلمّا جاء استأذن على رسول الله فلم يُؤذن له، ثم جلس مع الناس ثم عاد مرةً أُخرى فاستأذن فدخل إلى النَّبي , فسأله قال يا رسول الله طلقّت نساءك؟ قال: لا ,قال فخرج عمر يُبشّر الناس . قال : فأنزل الله قوله: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) قال : فأنا من الذِّين يستنبطونه، أو كما قال وأرضاه.
 قال: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) في تَرك الجهاد، وعدم طاعة الرَّسول (إِلاَّ قَلِيلاً) منكم سيُطيعون رسول الله لأنّ الله سيُوفقّهم ويهديهم , والله ذو فضلٍ عظيم، تفضّل عليكم ورحِمكم، ولم يؤاخذكم ببعض ما قلتم ولا ببعض ما فعلتم فهداكم إلى طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
/ قال الله جلّ وعلا في أول المقطع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ) الآن ينتهي المقطع بقوله : (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) بدأ بالأمر بالقتال في سبيل الله وختم به على عادة القرآن (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ) تُثنى فيه الأوامر والأخبار والأحكام مرةً بعد أُخرى ليَعقلها الناس، وليعلموها، وليستيقنوها. قال: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) وقال: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ) وقال: (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ) وأخيراً (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) هذه أعظم قضية هي أن يكون قتالنا لا لعصبية، ولا لمبادئ أرضية، ولا لدُنيا مُؤثرة وإنّما يكون لإعلاء كلمة الله (لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ) الذي كلَّفك الله إيّاه وسيسألك عنه يوم القيامة هي نفسك فقط , أمّا الناس عِظهم، أُأمِرهم، بلّغهم , إن أطاعوا فذلك خير منهم على أنفسهم , وإن عصوا فلن ينالك من عصيانهم أيّ شيء , قال: (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) حُثّهم (عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ) فمتى قاتلتم في سبيل الله، وحرَّضتم المؤمنين فإنَّ الله سيكفّ بأس الكافرين ما الذِّي يجعل بأس الكافرين شديداً علينا الآن؟ يتآمرون، ويفعلون، ويعيثون، في بلادنا فساداً وينهبون خيراتنا، لأنّنا لم نُقاتل في سبيل الله، ولم نُحرّض المؤمنين , قال: (عَسَى اللّهُ) وعسى من الله واجبة (أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً) , قال: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) وهنا (وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً) .
/ قال: (مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا) من شفع في أمر شفاعة حسنة كان له قسطٌ من أجرها بل له مِثل أجرها (وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا) نصيبٌ ومقدارٌ معيّن، من سُوءها، وسيئَتها , قال: (وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا) أي حفيظاً وحسيباً، وشاهداً , إذا إيَّاك أن تشفع، أو تتكلم، إلا في أمرٍ ترجو منفعته عند الله , إنّ الله شاهدٌ، وحافظٌ، وحسيب.
 (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) متى حُيّيتم بتحية فعليكم أيّها المؤمنون أن تحيُّوا الناس بأحسن منها لتكونُوا كراماً في ردّكُم
 فإذا قال أحد السَّلام عليكم , تقول: وعليكم السلام ورحمة الله .
 إذا قال السلام عليكم ورحمة الله , قل : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
 إذا قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , قل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وفقك الله، وهداك الله، ويسّر الله أمرك، وصباح الخير، وصباح الفُلّ والورد، لتكون أتيت بتحية أزيد بتحيّة من حيّاك.
 (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا) أو على أقَلّ الأحوال (رُدُّوها) (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) .
( اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا) لا أحد أصدق من الله , والله يا أخواني إنّنا أمام كلام لا يُمكن أن يُوجد في العالم كلّه منذ أن خلق الله آدم إلى اليوم أصدق منه، وهو حديث الربّ , تأمّلوه وتدبّروه، وأعِيدوا قراءته مرةً بعد أُخرى لتروا أنّكم بحاجة إلى أن تفهموا هذا القرآن , لو أفنينا أعمارنا في قراءة سورة وتفهمّها لما كان ذلك كثيراً فكيف يا إخواني ونحن أمام كتابٍ عظيم فيه من العجائب، والغرائب، والعُلوم، والهُدى، والحقّ، والنُّور المبين ما لا يٌقابل قَدره، ولا يعلم مَداه إلا الله تعالى , فعلينا أن نعود إلى كتاب الله وأن نستجيب لأمر الله (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا) .
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وبهذا نختتم مجالسنا في تفسير سورة النساء في هذا اليوم المبارك والمكان الطيّب الشريف وصلى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لحفظ الملف الصوتي : 






------------------------------
مصدر التفريغ / ملتقى أهل التفسير



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق