الخميس، 29 ديسمبر 2011

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ }

الشيخ: محمد المختار الشنقيطي


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ * لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستنّ بسنته إلى يوم الدين أما بعد : فأسأل الله الكريم ، رب العرش العظيم أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعا مرحوما وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقا معصوما ، رب لا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقيا ولا محروما .
هذه الآيات العظيمات والعظات البالغات من فاطر الأرض والسموات التي حركت قلوب المؤمنين والمؤمنات نادى فيها ملك الملوك ، وجبار السموات والأرض ، نادى فيها إله الأولين والآخرين فذكر العباد بيوم التناد وأنهم إليه صائرون وإليه منقلبون وإليه راجعون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} نادى الله - جل جلاله - عباده أن يتقوه ، والتقوى أعظم زاد يخرج به العبد من هذه الدنيا ، فما خرج عبد بزاد من هذه الدنيا بأحب ولا أكرم على الله منها ، إنه الزاد الذي يتهيأ به العبد للقاء رب العباد ، إنه الزاد الذي ينجو به في المعاد . تقوى الله : أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية ، تقوى الله أن تعبد الله على نور من الله ترجو لقاء الله وتخشى عقاب الله . تقوى الله : السر الذي غيبته القلوب فلا يعلمه إلا الله الذي هو علاّم الغيوب ، التقوى التي انطوت عليها القلوب واطّلع الله عليها من فوق سبع سماوات ، إنها الوقاية التي تقي العبد من نار الله ومن غضب الله . فالعبد الذي يتقي الله أسبق إلى الخيرات ، وأبعد ما يكون عن الفواحش والمنكرات ، عفيف اللسان ، عفيف الجوارح والأركان ، عبد جعل الله والدار الآخرة نصب عينيه فسعى للآخرة سعيها وهو مؤمن {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أي غدٍ هذا الغد ؟ إنه اليوم الذي بعد يومك ولكنه غد يختلف عن سائر الأيام ، يوم وليس كالأيام ، إنه الغد الذي يؤذن العبد به ويسير العبد إليه حين تدنو قيامته وتحين ساعته ، الغد الذي أمرنا الله أن ننظر ماذا أعددنا له ، وماذا أعددنا للقاء الله فيه ؟ . يبدأ بسكرة الموت ، يبدأ حينما تقف على آخر أعتاب هذه الدنيا ، يبدأ حينما تضع قدمك على أول عتبة من أعتاب الآخرة . إنه الغد الذي هو جد لا لعب فيه ، إنه الغد الذي هو الجد والفصل الذي ليس فيه الهزل {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} عندها يؤمن الكافر ، ويوقن الفاجر {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أيقظ الله القلوب من غفلتها ونبهها من من منامها أن هذه الحياة ليست حياة لهو مع اللاهين ، ولا عبث مع العابثين ولكنها حياة جد ، وحياة عمل {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} خلقنا الله لعبادته وتوحيده والإنابة إليه ، خلقنا الله لكي نسير إليه حثيثا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت الحرام والمسارعة إلى الخيرات واجتناب الفواحش والمنكرات ، أي غد لك ذلك الغد الذي أعددت له عدته ، أي غد ذلك الغد ؟ الذي تلقى الله فيه يوم تلقاه بقلب سليم ، أي غد ذلك الغد الذي جعلته نصب عينيك فأصبحت أبعد ما تكون عن حُرمات الله وأقرب ما تكون إلى طاعة الله أمرنا الله بتقواه فيما بيننا وبينه ، أن نؤدي حقوقه على الوجه الذي يرضيه .
إن لله حقا في الليل لا يرضى أن تؤديه في النهار ، ولله حق في النهار لا يرضى أن تؤخره إلى الليل ، حقوق الله التي فرضها من فوق سبع سموات هي أول ما تتقيه.

أسعد الناس بتقوى الله من كان أسبق ما يكون إلى طاعة الله وحفظ حق الله - عز وجل - .
أسعد الناس بتقوى الله من أخلص لله بقلبه ، وأخلص لله في عمله ، إذا تكلم تكلم لله ،وإذا عمل عمل لله .
أسعد الناس بتقوى الله من يعبد الله على نور من الله ، من جعل الكتاب والسنة ، والشريعة والملة نُصب عينيه فلم يقدم قدما ولم يؤخر أخرى إلا بحجة من كتاب الله - عز وجل - .
أسعد الناس بتقوى الله من تمسك بدين الله مع غفلة الغافلين ، وانتبه مع لهو اللاهين .
أسعد الناس بتقوى الله من الذي لم يغره ولم يضره سخرية الساخرين ولم يضعفه عن التمسك بدينه والتزامه بشرع ربه استهزاء المستهزئين {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} علم وعمل ، واستقامة وأمل ولن يضيعك الله فالتجارة رابحة ، رائجة مع الله رائحة ، ما عامل عبد ربه فخاب ، ولم يضيع الله - جل جلاله أحبابه ، ولم يُضيع الله - جل جلاله - أولياءه {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} أحب الله التقوى وأحب أهلها ونادى في السموات بأهلها بأسمائهم : يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه ، فنادى جبريل في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه ، ينادي الله باسمك إذا استمسكت بالعروة الوثقى والتزمت بالتقوى ، يُنادى باسمك في الملأ الأعلى يا حبريل إني أحب فلانا فأحبه .
اللهم اجعنا ممن أحببته ، واجعنا ممن تولاك وتوليته ، واجعلنا من خاصة أحبابك ، ولا تحرمنا عظيم فضلك ، ولا تحُل بيننا وبين رحمتك بما يكون من ذنوبنا .
إنها التقوى التي لن تقلب صفحة في كتاب الله إلا وهي شاهدة على تقوى الله ، دالّة على السبيل إليها ، هادية إلى معالم أهلها .
اللهم اجعنا من المتقين ، اللهم حبب إلى قلوبنا التقوى واجعلنا من المتقين .
اللهم إنا نشكو إليك ضعف إيماننا ، وضعف تقوانا لك ، ونسألك أن تملأ قلوبنا بخشيتك ومعرفتك حتى نتقيك حق التقوى ، وتجعلنا من أهل الرضى واختم لنا بالصالحات ، واجعل أسعد اللحظات لحظة الممات يا فاطر الأرض والسموات .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق