الاثنين، 26 ديسمبر 2011

تفسير سورة آل عمران ( 153-180) من دورة الأترجة

د.ناصر بن محمد الماجد
<

بسم الله، والحمدلله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بُهداه وبعد :
فقد وقفنا في الدّرس السّابق عند قول الله عزوجل في سورة آل عمران :( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[1]
هذه الآيات الكريمة لازال السِّياق فيها عن غزوة أُحِد، والأحداث التّي وقعت فيها وصاحبَتها، وما حَصَلَ للمؤمنين من مُخالفةٍ لِأَمر النّبي صلى الله عليه وسلّم، نتَجَ عنه هزيمتهم، وجاءت هذه الآيات لتُقرِّر كثيراً من الدُّورس والعِبَر إثرَ هذه الغزوة وقد أشرنا سابقاً إلى أنَّ مَن لم يعرفِ الهَزيمة لن يَذُوقَ طعمَ النَّصر، ولذلك فقد جاءت هذه الآيات الكريمة لِتَعرِضَ كثيراً من الدُّروس المتعلِّقة بهذه السُّورة.
فقوله عزَّوجل (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَاتَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ) هذا تذكيرٌ من الله تعالى للمؤمنين بما حصَلَ منهم بعد مُخالفتهم لأمرِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد كرَّ عليهم المشركُون والتَّفُوا عليهم، فانهزم المسلمون وتفرّقوا وانتَشُروا، وهذا المعنى تُشير إليه الآية في قوله (إِذْ تُصْعِدُونَ) يعني اُذكروا حين كُنتُم تبتَعِدُون في الأرض، تنتشرون فيها مُوَّلِين هاربين.(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَعَلَى أَحَدٍ) يعني لا يلتفت منكم على أحد ولا يسأل عن أحد، هذا النُّوع من الفِرار يكونُ بسبب ما يقع في القلب من الفَشَل، فيُورِث في الإنسان درجة من الخوف والاضطراب لا يستطيع التّفكير في شيءٍ غير النَّجاة والفِرار ولا يلتفت إلى أحد، وهذا معنى قوله عزّوجل (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ) فهم يبتعدون في وجه الأرض ولا يلتفُت أحدٌ إلى أَحَد.
والصُّورة الثالثة: يقول الله ـ عزّوجل ـ (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ) يعني والرَّسول يدعُوكم إليه، في أُخراَكُم يعني في آخرتكم। لــمَّا ولَّوُا هاربين صار النّبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ في آخرتهم من جهة العدو، فأصبح النّبي بينهم وبين العدّو بسبب فِرارهم। (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ) . يعني يُناديكُم يقول ليَّ عباد الله،أنا رسُولُ الله .[2] (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ) فأثَابَكُم على هَذا الفِرار وعلى ما وقع منكم من النِّزاع، أثابكم (غَمًّا بِغَمٍّ) يعني جَازاكُم وكافأكُم على ذلك ألماً وضيقاً يتبعُه ألــــمٌ وضيق.
· فأمّا الألــــمُ الأوّل بما فاتَ من النَّصر على العدّو، وما يَستتبع ذلك من الغنيمة التّي هي كانت سبباً لأصل مخالفتهم لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ فالذِّي من أجله ذهبوا قد فات عليهم هذا الغمُّ الأوّل.
· والغمّ الثاني: بما نزل بهم من البَلاء والقَتل والجِراح، فهذا الغمّ الثاني.
· وأعظَمُ هذا الغَمّ بما شاع بينهم من أنَّ النّبي صلى الله عليه وسلّم قد قُتِل هذا هُوَ الغَمِّ العظيم الذِّي شاع بينهم، أَنساهم هذا الغَمّ كلَّ غَمّ.
ولهذا معنى قوله عزّوجل (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا) يعني أَصبَحَ هذا الغَّم الذّي نَزَل عليكم سبباً الحُزن والألم الذّي في أنفسكم،
كيف هذا؟الغمّ الأوَّل: بسبب الهزيمة وذهاب النَّصر، وذهاب أيضاً المَغنم। جاءهم غمّ آخر أشدّ وهُو خَوف أنَّ النّبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قد قُتِل، وسماعهم أنَّ النّبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ قد قُتِل، فجاء هذا الغمّ ليُنسِيهُم كُلَّ شيء، لِيُنسيهم الحُزن على فوات النّصر، والحُزن على فوات المغنم، ثمّ لــــمَّا عَلِمُوا أنّ النّبي حيّ وسليم ومُعَافى، زالَ عنهم الألم كُلَّه، ألم الهزيمة، ألم الجِراح التّي أصابتهم، ألم فوات الغنيمة، وهذا معنى قوله (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّلِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ) من الغَنيمة (وَلَا مَا أَصَابَكُمْ) من الجِراح। وسبحان الله كيف كانت هذه المصيبة التّي خَشَوها وهي مقتل النَّبي أنستهم كُلّ شيء ، قال ـ جلّ وعلا ـ ( وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) لا يخفى عليه شيء من أحوالكم ، وما أكنَّتهُ ضمائركُم وسيُجازيكم على أعمالكم .
/ثمّ قال الله ـ عزّ وجل ـ ( ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ) بعد هذا الغَمّ الذّي نزل عليكم وأصابكم مَنَّ الله عَليكم بأَن أنزل أَمَنَةً نُعاساً يَغشى طائفة منكم، بعد هذا الألم والضِّيق أنزل طُمأنينة وثقةً في القُلُوب، وانظروا في الآيات التّي تدارسنها يأتّي التَّأكيد دائماً على مسألة القلب لأنّه هُو سبب النَّصر وهُو سبب الهزيمة، ولذلك أوّل ما تنزِل الطُّمأنينة تنزل على القلب .
(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةًنُعَاسًا) الأمَنَة أين يكون؟ الأمان يكون في القلب، هذا الأمان الذّي أنزله الله في قلوبهم من السَّكينة والطُّمانينة، جعلهم يشعرون بأمان، لِدرجة أنّ النُّعاس يُصيبُهم.
وهل الخَائف يُصيبه النّعاس؟الخائف لو كان في بيته، مجرّد التّفكير في أيِّ قضية مُخيفة، أو يخشى إنسان ضررها لا يأتيه النَّوم، فما بالُكَ وهو في سَاحَة الوغى! وهُو مهزوم! فكانت هذه الأَمَنة نعمة من الله عظيمة،ولذلك ذكرها الله، لِدرجة أنّهم في هذا الموقف الشّديد ومع ذلك يأتيهم النُّعاس، النُّعاس النّوم الخفيف الذّي تهدأ به النّفس، ولا يغفل عن الخَطرالذّي قد يُصيبه.(نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ) فقط طائفة أيّ جماعة منهم وهم المُؤمنون الذّين صَدَقَ إيمانهم، وثببت صبرهم، وطائفة أخرى لا يصيبها هذا النُّعاس ولا تنزل عليها هذه الأَمَنَة ، وهم المنافقون .
وهؤلاء المنافقون ذكر الله من صفتهم: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) لا يُفَكِّرون إلا في أنفسهم ونجاتِهم مــمّا حَصَل،(قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) يعني همَّهم نجاة أنفسهم (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) يظُنُّون بالله ـ عزّوجل ـ ظنّاً غيرَ حَقٍّ، ظنّاً قائماً على الشَّكِ في قُدرته ـ عزَّوجل ـ ، ظنّاً قائماً على الشَّك في نُصرهِ نبيّه، ظنّاً قائماً على عَدم الثِّقة في وَعَد الله عزّ وجل ـ ، وهُم بهذا الظَنّ يَشُّكُون في الله ـ عزّ وجل ـ حقيقة، لأنّهم ما يَظُنّ هذا الظَّنّ وهذا الشَّك إلاَّ من لم يعرف قدر الله ـ عزّ وجل ـ وهذا هي طريقة وخُلُق أهل الجاهلية، ولذلك قال (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) يعني لا يَظُنّ هذا الظنّ إلا جاهِلٌ بالله ـ عزّ وجل ـ (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) يعني هُم يَظُّنون هذا الظَّن الجاهليّ بأنَّ الله لا ينصُر رسوله، يقولون ليس لنا من الأمر شيء يعني لو كان لنا من الأمر شيء ما خَرَجنا إلى القتال، لأنّكم تعلمون ـ كما في السِّيرة ـ أنَّ رأس المنافقين عبدالله بن أُبيّ بن سلول كان يُعارِض الخُروج إلى القتال، ويرى أن يَبقَوا في المَدينة، فلمّا خرجوا وحَصَل ما حَصَل، قالوا ليسَ لنا من الأمر شيء، لو كان لنا أمر لَمَا خرجنا هاهنا، ولما حصل هذا الذّي حصل. ولذّلك عقّب الله بقوله (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) يعني الأَمر قضاءً وقَدَراً وحُكماً وشَرعاً لله ـ عزّ وجل ـ لا للمُنافقين،ولا للمؤمنين، ولا لأحد من الخَلق كائناً من كان بل الأمر لله ـ عزّ وجل ـ وحده.
(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ) وهذا ممّا أكَنَّه أولئك المنافقون في قلوبهم، يقول الله (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ) يُخفون في أنفسهم من الشَّك، والتّردد، وعدم الثّقة بوعد الله ـ عزّ وجل ـ لأوليائه وعباده، ما لا يُبدُون لك في ظاهر أقوالهم وظاهر فِعالهم، لأنَّ هذا حقيقة المُنافق أن يُظهِر خلاف ما يُبطِن.
ثمّ قال ـ عزّ وجل ـ ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا) يقولون لو كان لنا من الأمر أمر الخروج، وأمر القِتال، لو كان الأمر إلينا والرأي عندنا لم يحصُل هذا القَتل الذِّي حصل!. وهذا الحقيقة مع أنَّه تخذيل وتبكيتٌ للمؤمنين إلاَّ أنّه فيه اعتراض على قضاء الله وقدره، فالله هو الذّي قضى ذلك وهُو الذّي قدَّره ، فهُم وإن كانوا يُظهِرون بأقوالهم الشَّفقة، وأنّهم يعني يتحسَّرون لهذا الذّي أصابهم هم في الحقيقة يشمتُون بالمؤمنين، ويُبَّكِتُونهم على هَذا الذِّي حَصَل
( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا)اُنظُروا الجواب كيف يأتي على هذه الدَّعوى التّي يقولون، يقول ـ عزّ جل ـ : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِيبُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) أي قُل يا محمّد ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) لأنَّ مسألة القتل، ومسألة الموت والحَياة،لا يُقرِّبها ولا يُبعدها القُعُود أو الخُروج ، إن خَرجتم فهو لا يُقرّبُ موتكم ، وإن قعدتم في بيوتكم ولو كانت مُشيَّدة فإنّها لا يُبعِدُها! بل إذا كَتَب الله على أحد الموت فإنّه يخرُج من بيته ولَو كان بيته حِصناً مَشِيداً عالياً، حتى يُلاقي حتفه، هذه أقدار الله عزّوجل لا مَفرّ منها ولا محيد (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) أيّ مَكان اضطجاعهم الذِّي يُقتَلُون فيه. فالمكان بالضّبط لا يزيد ولا يَنقُص.
/ثم ّ قال الله عزّوجل (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) يعني هذا البَلاء الذّي حصل هو امتحان للصُّدُور، وهو أيضاً تمحيص للقُلوب، فيختبر الله ـ عزّ وجل ـ النِّيات والمقاصد، ويُميِّز بالتَّمحيص المؤمن من المنافق।ثم ختم الآية بقوله (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور) لا يخفى عليه شيء ممّا يُكِنُّه الإنسان في نفسه.
/ثمّ قال الله عزّوجل (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) وهذا إشارة إلى ما حصل من بعض الصّحابة من الرُّماة الذِّين كانوا على جبل أُحد حيث خالفوا أمر النّبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ ولذلك قال ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) الذّين تَوَّلوا يعني فرُّوا يوم التقى الجمعان يوم أُحد، هؤلاء إنّـَما استزلهم أيّ زلَّ بهم الشَّيطان، وأزَّلهم عن قَدَم الثَّبات عن قَدَمِ طاعة الله واستجابةً لأمره، إنّما استزّلهم الشَّيطان ببعض ما كَسَبوا أي ببعض ذنوبهم التّي اكتسبوها. (وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) وهذا من رحمة الله يُبيِّن لهم أنّ هذا الذّي حصل هو بسبب ذُنُوبهم، لكن الله قد عفا عنهم فلم يُؤاخذهم بهم فضلاً ورحمة ، (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) للتَّائبين من العباد، رحيمٌ بهم.
الحَقيقة هذه الآية تُشيرُ إلى مسألة مُهمّة وَهي شُؤم المعاصي وخُطورته، يعني هذا الفَشَل الذِّي أَصَاب المؤمنين في غزوة أحد وأَنتج قتلى وجِراحاً وقِراحاً وهزيمةً، هذا كان سببهُ أنَّ الشَّيطان اِستطاع أن يَستَّزِل بعض المُؤمنين ببعض ذُنُوبهم التِّي كَسَبوهم، فهذه الذُّنوب التي كسبوها كانت مدخلاً للشَّيطان أن يستَزِلَّهم। ولذلك الإنسان الله الله أن يُؤتى الإسلام من قِبَلَه، فيُحصِّن نفسه بطاعة الله عزّوجل، والبعد عن معاصيه.
/ثمّ قال عزّوجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا) هذه الآيات يَنهى الله عزّوجل المؤمنين أن يَكُونوا مُشابهين لأخلاق الكافرين، وقد اختلف المفسِّرون في الكافرين هنا: فمنهم من قال: * إنّ الكافرين المقصود بهم الكُفَّار المشركين، أو كفرةأهل الكتاب، أو المنافقين.
* وبعضهم قال الآية تشملهم جميعاً.
وإذا تأمّلنا سياق الآيات الكريمة، سنجد أنَّ المقصود بالكُفّار هُنا هُمُ المنافقون، هذا الذِّي يَتَّفق مع سياق الآيات والأحداث التّي وقعت، وما فِي السَّيرة مِمّا وقع من المنافقين بعد غزوة أُحِد ، ولذلك قال عزّوجل (لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ) الأخوة المقصود به هُنا أُخوّة النَّسب والقرابة وليست أُخُوَّة الدِّين، لأنَّكُم تعلمون أنَّ من المنافقين من لهُم إخوة على الإِسلام وعلى الإيمان والمقصود بالإخوّة هنا القرابة بمفهُومها العام ، (وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى) يعني قالوا لإخوانهم الذِّين ضربوا فهم يقصدون بهذا التَّبكيت، تبكيت المُؤمنين وتَنديمهم على ما حصل منهم (إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) يعني سفراً (أَوْ كَانُوا غُزًّى) يعني خرجوا للقتال (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا) الموت يُناسب حالة السَّفر (وَمَا قُتِلُوا) يُناسب حالة الغزو ، (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) وَهَذا من تَعذيب الله ـ عزّ وجل ـ لهؤلاء المنافقين،الذِّين لا يَرضَون بقضاء الله وقَدره،أن يتحسَّر الإنسان منهم على أقدار الله، يقول لو لم يخرجُون لما قُتِلُوا، لولم يفعَلُ هذا لما وقع له. وهذا ـ سبحان الله ـ تجدها أخلاق يتحسَّر فيها الإنسان الذّي لا يرضى فيها بقضاء الله وقَدَرِه. ولا يُسَّلم لله أمره، تجدُه يتحسَّر، إن فاته شيء قال: ليتني ذهبت، وإن ذهب وحصل عليه مكروه قال: ليتني لم أذهب.فهُوَ في تحَسُّر وتندُّم أبداً، ولكنَّ المؤمن يُسَّلم لله في قضائه وقَدَره،ويتوَّكل عليه ويجتهد ولا يألُوا وسعًا يقول ـ الله ـ : (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) ليجعل هذا الاعتقاد حسرةً في قلوبهم وندَماً وأمّا مسألة الحياة والموت فهي من الله ـ عزّ وجل ـ فهو الذّي يُحيي ويُميت سبحانه وبحمده ، ثمّ قال الله ـ عزّ وجل ـ : (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) مُطَّلِعٌ على أعمالكم لا يخفى منها شيء.
/ قال الله عزَّوجل بعد ذلك (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَاللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) بعد أَن بيَّن الله ـ عز ّوجل ـ أنّ أمر الحياة والموت إليه فهُو الذِّي يقضي بالحياة وهو الذّي يقضي بالموت، أخبر عن أمرٍ آخر وهُوَ : هَب أنّه حصل قتل أو موت للمؤمن، المؤمن الحقيقة لا يبأس من هذا ولا يحزن لأننّا نعتقد يقيناً أنّ ما عندالله خيرٌ لنا من هذه الدُّنيا وأبقى، ونحن نعلم أنَّ هذه الدُّنيا سِجنٌ للمؤمن، فالمؤمن إِن مَاتَ موتاً طَبيعيّاً أو قُتِلَ في سبيل الله فهو على خير، لأنّه سيلقى الله عزّوجل ويلقى الكرامة عنده ولهذا قال (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي استشهاداً في الحَرب (أَوْ مُتُّمْ) مَوتاً عامّاً (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ولِذلك قال (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ) فهذا تفخيم وتعظيم لهذه المغفرة وهي ستر الذُّنُوب ، ورحمة بدخول الجنّة خيرٌ من الدُّنيا كُلُّها وما يجمعون فيهامن نعيمٍ زائل. وأَكَّدَ مرَّةً أخرى فقال (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) فالإنسان سيمُوت إمّا يموت موتاً طبيعيّاً كسائر النّاس أو يُقتَل، ولكنّ الأمر الأهم من هذا كُلّه، ما بعد الموت والقتل، إلى أين يكون الحَشر والمصير؟ هذا الذّي يجب على الإنسان أن يعتني به وأن يهتَمَّ به، ولهذا قال (لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) يعني تُرجَعُونَ وتُسَاقُونَ إليه، وليس إلى أحدٍ سواه ـ عزّ وجل ـ .
وهذه الآيات من أعظم ما يحمل الإنسان على الجهاد في سبيل الله، والصَّبر عند لقاء العدُّو،أن يعلم ما من أحدٍ إلا ميّت وأنّه إن لم يُقتل يَموت، ويعلم أنّه إن ماتَ أو قُتِل فإنّ مرجعه إلى الله، وأنّ ما عندالله خيرٌ له وأبقى.
/ في الآية الأولى قال :( وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ) وفي الآية الثانية (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْقُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ)
فما سِرّ التَّقديم والتَّأخير لهاتين الكلمتين في الآية؟الجواب: يَظهر لي في هذا - والله أعلم - أنّه في الآية الأولى لـــمّا كان الكلام عن الإجابة عن دعوى المنافقين وعن استهزائهم وكان الأصل الذّي حصل هو القتل، فَنَاسب أن يبدأ به ردّاً عليهم، فلما عُلم هذا الأمر عاد مرّة أخرى للمسألة التّي تُعتبر تأسيس وتقعيد عام لهذه المسألة، فقدّم الموت لأنّه هو الغالب وهو الأصل، والقتل في سبيل الله أقل من هذا فقال ( ولئن مُتم أو قُتلتم لألى الله تُحشَرُون) والله أعلم .
قوله ـ عزّ وجل ـ بعد ذلك: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّه لِنْتَ لَهُمْ ) يعني بسبب رحمةٍ من الله كان خُلُقُك أيُّها النَّبي سَهل ،
سهولة خُلُق النّبي هو رحمة من الله.أوّلاً : رحمة من الله لنبيّه فجَعَلَهُ سهلاً ليِّنا وتعلمُون أنَّ الإنسان الذِّي خُلِقَ سهل ليِّن يستطيع أن يتعايش مع النّاس أليس كذلك؟ بعض النّاس يتمنّى أن يكُونَ سهلاً حتى يستطيع أن يعيش مع النّاس، ولكن لا يستطيع، لأنَّ خُلُقُه صعب!! فأوّلاً الرَّحمة للنَّبي لأنّه كان سهلاً فاستطاع أن يتعايش مع النّاس،وأن يعيش معهم وأن يتعامل معهم.
ثانياً: ثمّ الرّحمة من الله للمؤمنين ، أن جعلَ خلُقَ نبيِّهم سهلاً عليهم، هيّناً ليِّناً يقبل منهم ويألفونه ويأنسُون به ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ يستطيعون الأخذ منه، وسؤاله، والتّعلّم منه. ولهذا (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ) يعني ولو كُنتَ شديداً في القول والفعل ، فظًا غليظًا قاسي القلب (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) الانفضاض هو: الانصراف في شتى الجهات، وهذا دليل شدّة ذهابهم ونفورهم بسبب الغِلظة، والشِّدة، والقسوة (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) أيّ أُعفُ عن تقصيرهم في حقِّك، وما يجب لك، لأنَّ مقام النّبي صلى الله عليه وسلّم مَقَام عظيم (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ذنوبهم، وادعُ الله ـ عزّوجل ـ لهم.
في الحقيقة هذه الآيات يُخاطب بها النَّبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ ويُشَار إلى نعمة الله عليه بتسهيل أخلاقه، بأن جَعَل أخلاقه أخلاقاً سهلة يسيرة ، يألَف النَّاس ويألفونه، ومع أنَّهُ المؤيّد من الله ـ عزّوجل ـ الــمُرسَل من الله فهو ليس بِحاجة - في عُرفِنا وفي تفكيرنا- أن يكونَ سهلاً للنّاس ليّناً لأنَّ معه الحقّ والذّي يُريد الحقّ يصبر على خُلُقُه كما لو كان عندك شيء بيدك أنت الذّي تملكه لا يمكله غيرك تقول الذّي يُريد الشيْ منّي يصبِر على ما أنا عليه حتى يناله ، أليس كذلك ، وهو النّبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ يحمل الهداية العُظمى، ومع أنّه يحمل هذه الهداية العُظمى فكيفَ بنا نحنُ النّاس؟! كيف بنا آحاد الدُّعاة إلى الله، وطلبة العلم، والعلماء، يجب على هؤلاء وأمثالهم أن تَكُون أخلاقهم سهلةً يسيرة، فهم ليسوا كالأنبياء ومع ذلك الأنبياء سُهِّلت أخلاقهم، يجب عليهم أيضاً أن يتَّخَلَّقُوا بأخلاق الأنبياء،في سُهُولة أخلاقهم ولُيُونتها والصَّبر على النَّاس ، لأنَّ النَّاس حقيقةً قد يُتعِبُون الــمَرء ويأخذُون جُهده ووقته، لكن يصبر عليهم، والنَّبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ إنّما حطَمَهُ النّاس يعني إنّما أتعبه وأمرضه كثرة النّاس عليه، ولذلك صبر عليه الصّلاة والسّلام حتّى بلغّ رسالة ربّه ، فمن أراد أن يسلُك طريق الأنبياء فليصبر صبرهم وليكن خُلُقُه سمحاً ليِّناً كأخلاق الأنبياء .
ثمّ قال جلَّ وعلا (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) هذا صِيغة أمر،أيّ شَاورهم في أمرك قال في الأمر دون تقييد للأمر فيدخُل في كُلّ الأمور، إلاّ ما ورد فيه الوَحي فهذا الذِّي لا مجال فيه لأن يُؤخذ رأي أحدٍ ، لكن ما عدا ذلك فتأخُذ رأيهم وتستشيرهم في ذلك . وهذه الآية من الأدّلة الذّي يَستدُل بها بعض أهل العلم على من يقول بوجوب الشُّورى، والآية صريحة في الأمر। إذاً هذا الأمر يتوَّجه إلى النّبي بأن يستشير صَحَابته في أمورهم ، فمبدأ الشُّورى مبدأٌ واجب ، مبدأ أن تُستشَار الأُمّة في أمورها هذا مبدأ واجب دلّت عليه الآية فالله يأمُر نبيّه وهُو المعصوم المؤيّد بالوحي، فما بالُك من دونه من النّاس لكن يبقى هل هذه الشُّورى مُلزِمةٌ أم مُعلِمَة؟ هذا فيه خلاف بين أهل العلم:
فعندنا الدَّرجة الأولى مبدأ الاستشارة هذا واجب كما يدُلّ عليه ظاهر الآية، لكن إذا استشار هل هذه الشُّورى مُلزمة أم لا، فيه خِلاف مشهور بين أهل العلم، وإن كان ظاهر عمل النَّبي صلى الله عليه وسلّم أنّه أخذَ بالشُّورى حيث استشار الصَّحابة ، ما استشارهم إلا أخذ بقولهم، مما يدعم صِحة من يقول بأَن الشُّورى مُلزمة وليست مُعلِمَة.
ثم قال - عز وجل - ( فَإِذَا عَزَمْتَ) يعني بعد أن تستشير ويَظهر لك الأمر، فإذا عزمت على أمرٍ ما (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) لأنّه مهما كان رأي النّاس ومهما كان عقلهم فإنّ العِصمة لله ـ عزّ وجل ـ ولذلك قال (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) .
ثم قال - عز وجل - ( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) يعني : إن يُؤَيِّدكُم الله، بإعانته ونصره، فلا يغلبِكُم أحد حتى لو اجتمع أهل الأرض، وإن خَذَلكُم فلم يُعِنكُم فإنّه لا مُعين لكم، ولا ناصر لكم بعده ـ عزّ وجل ـ حتّى لو اجتمع أهلُ الأرض كُلّهم .
بعد ذكر الجِهاد، وذكر الشُّورى والأمر بها ثمّ التّوكل على الله ـ عزّ وجل ـ وسؤال النَّصر منه ما الذّي يحصل بعد هذا؟يحصل النَّصر ، ومن النَّصر تُجنَى الغنائم। ولهذا نَاسبَ أن يأتِيَ بعدها أن يقول ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) لأنَّ بعد النّصر تأتي الغنائم فنفى الله عن نبيّه الغُلّ، وأصل الغَلُّ : هي الخِيانة والمقصود بها أخذُ شيءٌ من الغنيمة خيانةً قبل أن تُقسَم، لأنَّها قبل أن تُقسم هي حقّ لِكُلّ المقاتلين، فلا يجوز لك أن تأخذ شيئاً منها حتّى لو كُنتَ أنتَ ممن حارب، يُستثنى من ذلك ما ورد بالتّنفيذ الخاصّ، ويُستثنى من ذلك سَلَبَ المقاتل نفسه لو قاتلت شخصاً فتبارزت أَنت وإيَّاه فقَتَلتَه، لكَ سَلَبُه، الذِّي هو السِّلاح الذِّي عليه الخاصّ به إن كان مثلاً بُندقية، أو سيفاً، أو غير ذلك من الأَسلحة التّي هي خاصّة بالمقاتل نفسه ، فإنَّ هذه مستثناة من الغنيمة هي حقٌّ للمُقاتل نفسه،أَمّا ما عدا ذلك فلا يجوز أخذُ شيءٍ منه حتى يُجمع كُلّه ثمّ يقسمه وليّ الأمر ، ولذلك قال الله عزّوجل ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) لا يجوز أصلاً أنّ النّبي يَغُلّ ، يستحيل وقوع هذا من النّبي (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ومن يغلُل أي : من النّاس وليس من الأنبياء، يأتِ به مغلولاً يوم القيامة على رؤوس الأشهاد يفضحُه الله ـ عزّ وجل ـ ( ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّنَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) تُوفّى أي توافيها أجرها على قدر عملها غير منقوص (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) وهم لا يُظلمون بزيادة سيئاتهم ولا بنقص حسناتهم.
ثمّ قال الله ـ عزّ وجل ـ ( أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
يقول الله - عز وجل -( أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ ) أيّ على تقدير أَفَيَستوي من اتَّبَع ما يَنالُ به رضوان الله من الإيمان، والعمل الصّالح، واتّباع شرع الله، هل يَستوي هو، ومن كفر بالله، وعمل السيئات، وخالف أمره ؟ لا يستويان ، ثمّ قال الله ( وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) لأنّ الأمر حقيقة لا يستويان، لذلك لم يأتي الجواب، ما قال لا يستويان لأنّ هذا استفهام تقريري ، ولذلك أخبر بمصير الكافر فقال (وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) المأوى هو المكان الذِّي يرجع إليه النَّاس ويأوي إليه، وهذا المأوى لهم - والعياذ بالله - هي جهنّم، وبئس المصير الذّي يصيرون إليه ويرجعون إليه .
قال ـ عزّ وجل ـ (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) لــمَّا ذكر أنَّ المؤمنين المتَّبعين لأمره ، والكَافرين المُخالفين لأمره لا يستوون ، أخبر - عز وجل -عن التفاوت في الآخرة الذي يكون بينهم قال (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) يعني هم متفاوتون أصحاب الجنّة وأصحاب النّار، مثل تفاوتهم في درجاتهم ،وتفاوتهم في منازلهم ، منازلهم في الجنّة وفي النار، درجاتهم في الجنة أو دركاتهم في النار فبين أهل الجنّة وأهل النّار بونٌ شاسع ،وكذلك أهل الجنّة فيما بينهم بونٌ شاسع ، وكذلك أهل النّار في دركاتهم بونٌ شاسع ولكلٍّ درجاتٌ ممّا عملوا .
/ثمّ قال اللهُ ـ عزَّ وجل ـ : (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) .
يقول الله ـ عزّ وجل ـ : (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) منّ الله على المؤمنين: أيّ أنعم الله على المؤمنين نعمةً بيّنة ظاهرة، وهذه النّعمة هي (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) تأمَّلوا أنّه قال (رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ)
فالمنّة هنا من جهتين:أوّلاً: في مبدأ بعث الرّسول أن يأتيك رسُول يُعلِّمُك أمر الله ونهيه ، ويدُّلك على الخير والشّر، هذه منّة عظيمة من الله عزّوجل على خلقه
ثانياً: والمنّة الأُخرى أن يكون الرَّسُول من أنفسهم، يَعني من جِنسهم، واحداً منكم ، وهذه تحتمل أمور :
أوّلاً: من جِنسِكُم يعني بَشراً مثلكم فتستطيعون الاقتداء به، والاهتداء بِسُنّته، واتَّباعه لأنّه واحد منكم، لكن لو كان مَلَك؟ ما فيه قُدرة على التّواصل مع الآخرين، وليس هناك قدرة على الاقتداء به، كُلّ واحد يقول هذا مَلَك كيف أقتدي به! كيف أصليّ؟كيف أصوم ؟ هذا مَلَك! أنا لا أستطيع أن أفعل مثل ما يفعل الــمَلَك، وليس عِندي قدرة مثله. ولهذا قال الله عزّوجل، ردّاً على المشركين لـــمّا اقترحُوا أن ينزل مَلَكاً قال (وقالوا لولا أنزل عليه مَلَك ولو أنزلنا مَلَكاً لَقُضِيَ الأمر ثُمَّ لا يُنظَرُون) ثم قال ( ولو جعلناهُ ملَكاً لجعلناهُ رَجُلاً ولَلبَسنا عليهم ما يلبسون) يعني يقول أنّ المَلِك لا تستطيعون الأخذَ عنه، ولا التّلقي منه لاختلاف ما بينكم ، فإذاً سيكون لابد أنَّ هذا الملك ينزل عليكم في صوُرة رجُل ، فإذا نزل في صورة رجُل عاد اللَّبس عليكم كما كان فلم تستفيدوا شيئاً ، وهذا جهلاً منهم بطبيعة الرّسالة،لأنّ الرّسول حقيقة قُدوة يقتدي به النّاس . فإذاً فضلُ الله أن كان الرسول من جِنسِنا بشراً مثلنا ، وفضل الله علينا أيضاً بأن كان الرسول عليه الصَّلاة والسّلام وخُصوصاً على الصَّحابة منهم نشأ بينهم أربعين سنة وهُو بينهم، ما جاءهم شخص غريب ما يعرفون أخلاقه، وطبعه، وسيرته بل جاء واحداً منهم ، وهذا من أعظم المنّة عليهم .هذا الرّسول الذّي امتنّ الله به عليهم
ما هي مهمته؟!يقول الله عزوجل: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) يعني يقرأها تلاوة لفظٍ وتلاوة معنى , فيتلوا ألفاظه ويتلوا معانيه يعني يُبيِّن معانيه , بيَّنها بقوله وبيّنها بفعله وبيّنها بإقراره ـ عليه الصلاة والسلام ـ (وَيُزَكِّيهِمْ) فتلاوة الكتاب تحملهم على زكاء النفس يعني طُهرتها ونقائها (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) وتأمّلوا هنا كيف قدّم التزكية قبل تلقّي العلم!التزكية يُصحّ أن يُقال أنّها التطهير , وأنتم تعلمون القاعدة أنّ التخلية قبل التحلية فلا بدّ أن تزكُو نفس طالب العلم حتى يستطيع أن يتلَقّى العلم , لا بدّ الإنسان وهو يطلب العلم أن يُفرّغ قلبه من الشُّبهات ومن الشهوات حتى يستطيع أن يتلقّى العلم , لأنّ العلم إذا جاءه الوعاء ممتلئ فأيّ شي يدخل على هذا الوعاء يفيض منه , فلا بدّ أن يُخلَّى من هذه الشَّهَوات والشبهات حتى يمُلأ بعد ذلك بالعلم (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) الكتاب :هو القرآن والحكمة :هي السنة على خلاف بين أهل العلم في المراد بالكتاب والحكمة , بعضهم قال: الحكمة المقصود بها التشريع والحلال والحرام، ولكنّ الأظهر أنّ يقال الكتاب هو القرآن والحكمة هي السنة ، (وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ) هذا الرسول وهذا المبعث (لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) في بُعد وعَمَاية وجَهالة في غاية البيان , والحقيقة أن من تأمّل في سيرة العرب قبل مبعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلِم عِظَم الهداية التي جاء بها النَّبي والمنّة العظيمة التي امتنّ بها عليهم .المقطع التالي :(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (168) )[3]
هذه الآيات الكريمة لا زالت حديثاً عن غزوة أُحد وما أصاب المؤمنين فيها من الجراح والأذى , وموقف المنافقين المُتمثّل في الشَّماتة بالمؤمنين و تبكيتهم على ما حصل منهم أولاً في خروجهم ثم ما حصل منهم بعد ذلك في القتل الذِّي نالهم, يقول الله ـ عز وجل ـ : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ) يُخاطب الله ـ عز وجل ـ المؤمنين يقول لهم: أو لمَّا أصابكم أيُّها المُؤمنون مصيبة تتمّثل في القتل الذي نالكم في أُحد والجراح والأذى والهزيمة والألم (قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا) أي قد أصبتم من عدوّكم (مِّثْلَيْهَا) أي قد أصبتم من عدوكم مثليها ، ضِعفيها فقتلتم منهم وجرحتم وآذيتم ضِعف ما فَعلوا بكم في معركة أُحد وفي معركة بدرٍ قبل ذلك , هذا معنى الآية .
(قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا) أي كيف يُصيبنا هذا؟! فالصحابة استغربوا لأنّ هذه ثاني معركة تقع لهم , أول معركة نصرهم الله نصراً مؤزّراً , وسبحان الله هذه الهزيمة لعلّها درس للصحابة ودرس للأمّة كلّها أنّ تعلم أن النَّصر ليس لأنّك مؤمن فيأتيك لأجل فقط أنّك مُنِتسب للإيمان , بل لابدّ للنصر من أسباب خاصّة , والهزيمة أنتم مُعرّضون لها كما قد تُنصرون , ولهذا الله عزوجل لمّا سألوا هذا السؤال قال الله: (أَوَلَمَّاأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا) أيّ كيف يُصيبنا هذا ومعنا النبي وفينا الحقّ , ونحن المؤمنون أتباع النبي وأتباع الحق , كيف يُصيبنا هذا؟! كيف نُقتل؟! كيف ينتصر علينا أعداؤنا وهم أهل الشِّرك وأهل الوثنية؟! (قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا) أيّ كيف يأتي هذا؟! ومن أين أتى؟! يأتي الجواب سريعاً (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ) أي جاءكم هذا الخلل من قِبلِكم من جهة أنفسكم , لا من شيء آخر , لا من الرَّسول ولا من الدِّين الذي أنت عليه بل من أنفسكم وذلك بسبب مُخالفتِهم لأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (قلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) حيث تنازعتم وعصيتم الرسول وفشلتم وإلاّ الله قادرٌ على نصركم لم؟! لأنّه على كل شيء قدير .
ثم قال: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) صحيح أنَّ هذا الذي أصابكم بسبب فشلكم وتنازعكم واختلافكم على النبيّ وعِصيانكم لأمره لكن هو مع هذا (فَبِإِذْنِ اللّهِ) أي بعلمه ومشيئته وقضائه وإرادته (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) الآن سيذكر حكمة هذا الأذى الذي أصاب المسلمين والهزيمة قال: (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) حقيقةً الصادقين الموقنين (لِيَعلَم) أي ليَظهر المؤمنين حقيقة , فالمقصود بالعلم هنا : علم الظهور الذي يتعلّق به الجزاء على الأعمال , الله ـ عزوجل ـ قد عَلِم من الخلق ما يعملون قبل أن يخلق , لكنّه لا يمُكن أن يُجازيهم أو يُحاسبهم على علمه السابق حتى يعملوا فيظهر عِلمَه عزوجل وعليه يَجري الحساب . (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ) هذه هي الفائدة الأخرى, ليعلم ويظهر المنافقون حقيقةُ الذين ادَّعوا الإيمان وتلبّسوا به وهم منه بُراء , وقيل لهم هؤلاء المنافقون الذين أراد الله أن يُظهرهم (وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ) يعني هؤلاء المنافقون هم الذين قال لهم النّاس تعالَوا قاتلوا مع رسول الله , أو ادفعوا عن أنفسكم حمّيةً , دَعكُم لا تقاتلون رغبةً في نُصرة الحق وشهادةً في سبيل الله , على الأقل قاتِلوا حميّةً عن بني قومكم , وهذا معنى الدَّفع على القول الصَّحيح من كلام أهل العلم , (أَوِ ادْفَعُواْ) بعض أهل العلم قالوا المقصود بالدفع هنا التكثِير , أي إن لم تُقاتلوا ادفعوا بتكثير سوادكم سواد المسلمين فيندفع بذلك المشركون , ولكنّ الدفع حقيقةً يُشير إلى معنى المدافعة , وهذا أقرب ما يُحمل عليه أنّ المقصود إمّا أن تُقاتلوا بقصد الجهاد في سبيل الله أو تقاتلوا حميّة , وقد وقع من بعض المشركين أن قاتَلَ حميّة , فمن المؤمنين من الأنصار من هُم قرابات من هؤلاء والرجل يُقاتل قرابةً لبني قومه , هم لم يُقاتِلوا لا من أجل الإسلام ولا من أجل قومهم (أَوِ ادْفَعُواْ) فماذا كان جوابهم؟ (قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاًلاَّتَّبَعْنَاكُمْ) اختلف المُفَسِّرون في هذه الآية :
/ فمنهم من قال: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً) لو نعلم أنّه سيحصل قتال (لاَّتَّبَعْنَاكُمْ) على ذلك وقاتلنا معكم , ولكنَّنا نعلم أنّه لن يحصل قتال , وهذا القول قد قال به كثير من المفسرين حقيقة، ولكنّك إذا نظرت إلى واقع سياق الآيات وواقع السِيرة تجد أنّ
هذا القول لا يجد ما يُساعَد عليه , لم؟لأنّ المنافقين انسحبوا بعد أن خرجوا ورأوا صفّ المشركين ورأوا أنّ القتال يقع، فانخذلوا وانسحبوا , فمعنى (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً) لو نعلم انّه سيقع قتال (لاَّتَّبَعْنَاكُمْ) لا يستقيم مع هذا , إذاً ما المعنى الآخر؟
قولٌ آخر وإن لم يكن مشهوراً إلا أنّه لعلّه أن يكون هو الأقرب (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ) يقولون لو نعلم أنَّ هذا الذِّي تَخرجُون إليه قتال حقيقي يُقاتِل على مثله الناس (لاَّتَّبَعْنَاكُمْ) لكنّكم انتم لم تذهبوا إلى قتال, أنتم ذهبتم أشبه ما يكون إلى الانتحار والتهلُكة وإلقاء أنفسكم في الهلكة , وهذه الحال ليست حال قتال , هذه حال انتحار ولأجل ذلك لا نتبِّعكم على هذا الأمر ولأجل ذلك ننسحب (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ) أي في حال قولهم هذه المَقُولة وفِعلهم هذا الفعل وقت إذٍ أقرب للكفر بسبب هذا القول , هم أقرب إليه وإلى ما يدُلُ على الكفر من قُربِهم إلى الإيمان وما يدلّهم على الإيمان (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) نصّ على الأفواه مع أنّ القول لا يكون إلا من الفمّ لأنّه لم تنطوي عليه قلوبهم حقيقة (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) بالذي أسرُّوه وكتمُوه في صدورهم عن الصحابة وسيُعاقبهم الله عليه , قال الله ـ عز وجل ـ بعد ذلك: (الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) المقصود به هنا الذين تخلّفوا عن القتال وقعدوا عنه , لمّا قعدوا وتخلّفوا قالوا لإخوانهم على سبيل التندّم والندم والحسرة على ما أصابهم (لَوْأَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) أي لو أطاعونا بعد الخروج والقتال لما أصابهم القتل , فجاء الردّ عليهم سريعاً من الله ـ ـ (قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ) إذا كنتم فعلاً ترون أنّ القعود يمنع من القتل ويمنعُ من الموت فادرؤوه , ادفعوا هذا الموت عن أنفسكم (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) .
ثم قال الربّ ـ عز وجل ـ ردّاً عليهم: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءعِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) يقول الله ـ عز وجل ـ مُخاطباً نبيّه لا تَظُنَنَّ أيُّها النَّبيّ أنَّ الذين قُتلوا في الجِهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله , لا تحسبهم أموات كسائر الناس , بل الحقيقة أنّهم أحياء حياةً خاصّة بالمُجاهدين , الذِّين استشهدوا في سبيل الله لهم حياة خاصّة يختلفون فيها عن حياة باقي الأموات (بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) وهذا ممّا يدُل على حياتهم حياةً خاصّة ليست كسائر حياة الموتى, ولذلك قال عند ربّهم ويُرزقون أيضاً , وهذه من صفات الأحياء ولكن حياةً خاصّة بهم , مِن مظاهر حياتهم أنّهم (فَرِحِينَ بِمَاآتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) وفَرحين بالفَضل الذي أعطاهم الله (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْبِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ) يستبشرون بإِخوانهم الذِّين لم يُقتلوا من المُجاهدين في سبيل الله, أنّهم إن قُتلوا في سبيل الله سَيَلقون من الأجر والفضل والكرامة مثل ما لقوا هُم عند الله (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) لا خوف عليهم فيما يستقبلون من أمرهم، ولا يَحزنون على ما تركوا من دنياهم , وتركوا من الدُّنيا أشياء كثيرة , تركوا مالهم, تركوا أولادهم , هم لا يَحزنون عليهم لأنّ الله ـ عزوجل ـ يَحفظهم لهم فأَورثهم الأمن في المستقبل والأمن في المَاضي , وهذه غاية الأمن التي لا تكون إلا لمن جاهد في سبيل الله ـ عزوجل ـ وكل هذا في فضل المَوت في سبيل الله , والحديث عن الموت في سبيل الله هنا مُناسب في ما حصل في معركة أُحد , في معركة أُحد حصل فيه الكثير من القتل فناسَب ذِكر الشهادة في سبيل الله وفضلها وأجر أهلها ومن ذلك قوله: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) يستبشرون يعني يفرحون مع هذا الثَّواب، بالنِّعمة العظيمة من الله عزوجل والفضل الكبير منه, فهو ثوابٌ كبير من الله وهو النِّعمة وفضل وهو الزِّيادة على أُجور أعمالهم , ولذلك قال: (وفَضْل) النِّعمة هي الأجر الذي يُوَّفَون بدخول الجنة , والفضل هو الزيادة وأعظم الزِّيادة هو النظر إلى وجهه الكريم , نسأل الله عزوجل أن يجعلنا وإيَّاكم ممّن يُنعم عليه بهذا الفضل , (وَأَنَّ اللّهَ لاَيُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) فهم وَاثِقُون أنَّ الله ـ عز وجل ـ سَيَحفظ لهُم ثواب أعمالهم وأَجر جِهادهم لأنّه عزوجل: (لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) ثم قال عزوجل: (أجر المؤمنين)
هؤلاء من هم المؤمنين؟يعني يجوز أن يقول: (الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ) فيكون (الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ) تفسير للمؤمنين , ويجوز أن يكون استئنافاً لبيان حالةٍ خاصة من أحوال المؤمنين الصَّادقين , فقال ـ عز وجل ـ : (الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) هذه الآية الكريمة تُشير إلى شيءٍ وقع بعد معركة أُحد , فإنَّ المُشركين بعد ما كَرُّوا على المُؤمنين وقتلوا منهم من قتلوا وتفرَّق الصَّفَان وابتعد المُشركون ووقعت لهؤلاء حالة من التّفكّر، وللمؤمنين حالة من التفكّر أمّا المشركون لمّا بَعُدُوا قالوا كيف بعد أن انتصرتم ،هم فرحوا بهذا النَّصر لأنّهم ماكانوا يتوَّقَعُون أن يُنصَروا بعد الهزيمة الذَّريعة في بداية الأمر فهُم أَرادُوا الذَّهاب حتى يرجعوا إلى قومهم بأنّهم قد انتصروا , فلمَّا ابتعدوا قليلاً قالوا كيف وقد تَسلَّطتم عَليهم تدَعُونهم دون أن تستأصلوهم وتقتلوهم، وتستأصلُوا شأفَتَهُم؟ فهَمُّوا بجمعهم مرةً أُخرى والرجوع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والكرّ عليهم في المدينة , والصحابة لمّا حصل ذلك وعاد إليهم رُشدُهُم وثقتهم بالله ـ عز وجل ـ سمِعوا بأنَّ المُشركين قد همُّوا بالرُّجُوع فتواعَدُوا في "حمراء الأسد" - موقع - , وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (لا يتبَعُنِي إلا رجلٌ شهِد أُحد ) فقط ويَقتصر النَّبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هؤلاء دون غيرهم من المُؤمنين , لا يريد أن يخرج إلا من شهد أُحد وهذا لأمور :أولاً: مزيد تمحيص للمؤمنين مع أنّ فيهم الجِراح والأذى الشديد حتى جاء في بعض الروايات أنّ اثنين من الصحابة أخوين أمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالخروج – لمّا سمعوا صائح النبي فاستجابوا وخرجوا – أحدهم كان مجروحاً، وكان أخوه يحمله في بعض الطريق ثم يَدعه يسير , يحمله بعض الطريق حتى يصل , قد بلغ بهم الأذى والآلام غاية ما يتصوّره الإنسان حتى إنّ احدهم ليحمل الآخر ليصل , بل إنّ بعضهم يتعاقبون في حمل بعضهم حتى يصلوا إلى هذا المكان الذي تواعدوا عليه , فهذا مزيد تمحيص .
والأمر الآخر : فيه ما يصح أن يُسمّى القدرة مرة أخرى وفتح المجال لهم أن يتشَفُّوا من عدوهم ويأخذوا بثأرهم , هذا العدو الذي قتل منكم من قتل وأوقعكم في هذا الذي حصل مرةً أخرى قد رجع , فتكون النفوس مليئة غيظاً عليهم ويكون هذا أدعى إلى قتالهم والحميّة عليهم , فأثنى الله عليهم ثناءً عظيماً في هذه الآيات فقال: (الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِمِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) يعني الآلام والجراح (لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أحسنوا في عملهم واتَّقُوا الله ـ عز وجل ـ في امتثال أوامره واجتناب نواهيه أجرٌ عظيم من الله ـ عز وجل ـ هؤلاء هم (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) هؤلاء قيل لهم إنّ أبا سفيان قد جمع لكم النَّاس ليأتيكم وليستأصل شأفتكم , فما ذا كان قولهم؟! هل جزعوا؟! هل سخطوا؟! بل قالوا (حَسْبُنَااللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) الله حسيبنا وهو كافينا ـ عز وجل ـ وهو ناصِرنا على عدوّنا , و سبحان من هو حَسبَ عباده وكافِيهم وسبحان من ينصرهم ويُعينهم , خذّل الله عزوجل المشركين عن قتال النبي وأصحابه فجاء في بعض السِيَر أنّ معبَد ابن أبي معبَد الخُزاعي [4] لقيَ النبي فقال والله يا رسول الله – بمعنى كلامه – لقد ساءني ما أصابك وأصاب أصحابك وودِدنا أنّا شهدنا المَعركة معك, ثم ذهب إلى أبي سفيان فلقيَه أبو سفيان فقال: ما تقول يا معبد؟ قال: والله لقد رأيت محمداً قد أجمع لحربك وجمع النَّاس لك . قال: فما الرأي؟ قال: أرى أن تَنجُوا .
فاختلف المشركون في ذلك وتنازعوا , ثم أجمعوا أمرهم آخر الأمر على الرُّجوع إلى مكة فَرِحِين بهذا النَّصر الجُزئي الذي حصلوا عليه. ولذلك قال عزوجل: (فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ) انقلبوا يعني رجعوا , انقلبوا ليس بقوة وليس بشدتّهم ولا بقوتهم وعداتهم ولكن هذا الانقلاب حصل (بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ) بنعمةٍ من الله عزوجل عظيمة وفضلٍ منه عزوجل (لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) فهم انقلبوا إلى أهلهم بنعمة من الله وهي : الأجر على صبرهم على الجهاد , وانقلبوا أيضاً إلى أهلهم بفضلٍ وهو : الزيادة على الأجر (لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) فرجعوا بالأجر وزيادة وسلامتهم من السوء (وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ) أي اتبّعوا ما يُ والتزموا به من طاعته والكفّ عن معصيته (وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) الله عزوجل صاحب فضلٍ عظيم على عباده المؤمنين .
ثم قال الله عزوجل بعد ذلك: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) يقول الله عزوجل إنّما المُخوِّف لكم الشيطان وهو يُخوّفكم بأنصاره وأعوانه وجُنده (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) لا تخافُوهم لأنَّ الخَوف حقيقةً لا يكون إلاّ لمن له حولٌ وقُوةٌ وطَول هذا هو الله عزوجل وليس هؤلاء الخلق مهما كان بيدهم من عتاد وقوة , ولذلك قال: (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) لأنَّ الذي يخاف حقيقة من الله هو المؤمن وهو الذي يُعظّم الله عزوجل ولا يُعظّم أحداً سواه .
قال ـ عز وجل ـ بعد ذلك: (وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً ) يقول الله ـ عزوجل ـ لا يَحزُنك أيُّها النبي عليه الصلاة والسلام ولا يُوقعك فيه الذين يُسارعون في الكفر مُرتدين على أعقابهم من أهل النِّفاق خاصة بعد أُحد , حيث سارع الكثير من المنافقين وظنُّوا أنّ الإسلام قد انقطع أَمره وزالت قُوته , فَسَارعوا في الكفر وهذا ممّا يُوقع في النَّفس الحزن , وحقيقةً لم يؤمنوا , ولذلك قال: (وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ) أيّ : لا يجعل لهم نصيباً في الآخرة من ثوابه وجزائه ونعيمه (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ينتظرهم في الآخرة على كفرهم .
قال الله ـ عز وجل ـ بعد ذلك: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أصل الشراء في اللغة: الاستبدال , ولذلك يُطلق على طَرَفي العقد في البيع والشراء , يُطلق على كل واحدٍ منهما أنّه مُشتري لأنّه في الحقيقة كل منهما يستبدل , فهذا يُعطي ماله فيأخذ بَدلاً عنه البضاعة وهذا يُعطي البضاعة ويأخذ بدلاَ عنها المال فكلٌ منهما بهذا الاعتبار مشتري , ولذلك يصحّ أن يُطلق على البائع مشتري وعلى الآخذ أيضاً أنّه مشتري من هذا الوجه , قوله: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ) يعني استبدلوا الكفر بالإيمان ودائماً إذا كان المَأخوذ أقلّ من المُعطى فإنَّ الباء تدخُل على الأعلى كما في هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ) فلمّا كان الإيمان هو الأعلى دخلت الباء عليه , مثل قوله - عز وجل - (أتَستَبدِلون الذّي هُو أدنَى بالذي هُو خَير) . (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنيَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أيّ إنّ الذّين استبدلوا الكُفر بالإيمان لن يَضُرُّوا الله شيئاً .
ثم قال الله ـ عز وجل ـ (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) يقول ـ عزَّ وجل ـ لا يَظنُنَّ الذِّين كفروا أنَّ الله حينما أمهلهم وأَطال أَعمارهم على ما هُم فيه من الفُجور والكفر والعِناد والصَدّ عن سبيل الله , لا يظنّون أنّ هذه الإطالة والإمهال خيرٌ لهم , بل هذا مِن الإمداد والإمهال ليزدَادُوا إثماً , ولذلك يقول الله ـ عز وجل ـ : (وأُملِي لهُم إنّ كيدي متين)[5] أُملي لهم حتى يَزدادوا إثماُ على إثمهم , ويُملي لهم حتى يقطع كل عُذر يعتذرون به , ويمُلي لهم حتى إذا جاء العَذاب عليهم ونزل بهم كان هو الغاية في إهلاكهم، وإعزاز المسلمين .
وهذا الحقيقة يجب أن يتنبّه الإنسان لها , هذه صحيح أنّها في الكافرين لكن
حتى المقيمين على المعاصي من أهل الإسلام , المُقيمين عليها الإنسان الذي يُخالف أمر الله ويُجاهر به بالمخالفة ولا تجده إلا في المعاصي والسيئات ومع ذلك الله يرزقه ويُنعم عليه ويتفضّل عليه ويُحسن إليه لا يظنّ أنّ هذا خيرٌ له بل هذا من الإمهال والإمداد له , ولذلك إذا رأيتَ أنّ الله عزوجل يُعطيك على ما أنت عليه من المعاصي فاعلم أنّ الله يُمهلك وأنّ هذا من المكر بك.ثم قال ـ عزوجل ـ : (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء) يقول الله ـ عز وجل ـ ما كان من حكمة الله وقضائه أن يُطلعَكم على غيبه فإنّ الغيب لا يعلمه إلا الله , قضى الله وحكم أنّ الغيب لا يعلمه إلا هو عزوجل , وقد اختصّ بعض عباده وخلقه بأن يُطلعهم على شيء من الغَيب ولذلك قال: (وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء) الاجتباء : يعني الاصطفاء والاختيار (يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء) فإذا اجتباهم أطلَعهم على بعضِ غيبه ـ عز وجل ـ ولهذا قال ـ عز وجل ـ : (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) يعني ما كان من حكمة الله أن يذركُم على ما أنتم عليه من الاختلاط بين المؤمنين والمنافقين , والتفرّق وعدم تميّز المؤمنين عن المنافقين حتى يمَيز الخبيث من الطيب , حتى يُميّز بين المؤمن وغير المؤمن , التمييز كيف يكون؟ وكيف يحصل؟بالابتلاءات , بأنواع الامتحانات , هذه بالابتلاءات وهذه الامتحانات هي التي تُميّز المؤمن عن المنافق، والصَّادق عن الكاذب , ولهذا قال (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَىالْغَيْبِ) يعني ليس من قضاء الله وحكمته أن يُطلعَكم على الغيب فتعلمون من المؤمن وتعلمون من المُنافق, ليس من حكمة الله ـ عز وجل ـ وإلا لو أطلعكم لانتفى حكمة الابتلاء , ومن أجل ذلك لم يُطلعِ الله المؤمنين على المنافقين بأعيانهم وإنّما ذكر صفاتهم وجعل المؤمنين يتعرَّضون لأنواع من البلاء يعرفون بها المؤمن من المنافق (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء) يعني يختار من رسله ليُطلعهم بما يشاء , وقد أخبر الله وأطلَع نبيّه على أسماء المنافقين وعلِمهم بأعيانهم , (وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنرُّسُلِهِ مَن يَشَاء فآمِنوا بالله ورسله) فحقِّقوا الإيمان بالله , إذا أمر المؤمنين بالإيمان فالمقصود تحقيق الإيمان والثَّبات عليه والدوام عليه (يا أيّها الذين آمَنوا آمِنوا) اثبتوا على إيمانكم وحقِقُوا إيمانكم (آمِنوا بالله ورسُلِه) (وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي تؤمنوا بالله حقاً , وتتقوا الله في فعل أوامره وترك نواهيه فلكم على ذلك أجرٌ عظيم أي جزاءٌ عظيم من الله , وهذه الآية تُشير إلى قضية سنّة الابتلاء التي يتميّز بها المؤمن من غير المؤمن , هذه سنّة من الله أن يبتلي عباده ليتميّز المؤمن من غير المؤمن .
ثم قال الله ـ عز وجل ـ : (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)
يقول ـ عزَّ وجل ـ ولا يظننّ الذين يبخلون يعني يمنعون عطَاء ما آتاهم الله ـ عز وجل ـ من فَضلِه (بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) وانظر أنّهم بَخِلوا ليس بشيءٍ هو لهم , وليس بشيء هم يملكونه , بل هو فضل الله الذي تفضّل عليهم فأعطاهم إيّاه (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ) لأنَّ ما بَخِلوا به ماذا سيكون نتيجته عليهم يوم القيامة؟ قال ـ عز وجل ـ : (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) هذا الذي بَخِلوا به سيكون طوقاً من نارٍ يوم القيامة عليهم يُطوقُّون به , وإذن لا يَفرحوا به ,لا يفرحوا بإبقاء أموالهم ومنعها عن سبيل الله وعدم بَذلها في سبيل الله , بل إنَّ هذه الأموال ستكُون عليهم في الآخرة طَوقاً يُطوّقون به , ثم قال ـ عز وجل ـ : (وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يعني لله ـ عز وجل ـ مُلك ما في السَّماوات وما في الأرض وإليه يرجع كلّ ما في السماوات وما في الأرض , وهو الذي يرثه ـ عز وجل ـ لأنَّه هو الحيّ ـ عز وجل ـ الباقي وما عداه من الخلق يمُوتون (وَيبقَى وجهُ ربّك ذِو الجلَالِ والإكرَام) فكلّ ما في السماوات والأرض يرجع إلى الله ـ عز وجل ـ (وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)
خبيرٌ بأعمالكم خيرها وشرّها وسيُجازِيكم عليها .

-----------------------------------------------------------------
[1] آل عمران153
[2] في البخاري باب قَوْلِهِ ( وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ ) . وَهْوَ تَأْنِيثُ آخِرِكُمْ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ( إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ) فَتْحًا أَوْ شَهَادَةً .
(حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ - رضى الله عنهما - قَالَ جَعَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ ، وَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ ، فَذَاكَ إِذْ يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ فِى أُخْرَاهُمْ ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - غَيْرُ اثْنَىْ عَشَرَ رَجُلاً ).
[3]سورة آل عمران 168
[4] جاء في تفسير القرطبي (وقيل: إن الآية نزلت في رجلين من بني عبد الاشهل كانا مثخنين بالجراح، يتوكأ أحدهما على صاحبه، وخرجا مع النبي ، فلما وصلوا حمراء الاسد، لقيهم نعيم بن مسعود فأخبرهم أن أبا سفيان ابن حرب ومن معه من قريش قد جمعوا جموعهم، وأجمعوا رأيهم على أن يأتوا إلى المدينة
فيستأصلوا أهلها، فقالوا ما أخبرنا الله عنهم: " حسبنا الله ونعم الوكيل "،وبينا قريش قد أجمعوا على ذلك إذ جاءهم معبد الخزاعي، وكانت خزاعة حلفاء النبي وعيبة نصحه، وكان قد رأى حال أصحاب النبي وما هم عليه، ولما رأى عزم قريش على الرجوع ليستأصلوا أهل المدينة احتمله خوف ذلك، وخالص نصحه للنبي وأصحابه على أن خوف قريشا بأن قال لهم: قد تركت محمدا وأصحابه بحمراء الاسد في جيش عظيم، قد اجتمع له من كان تخلف عنه، وهم قد تحرقوا عليكم، فالنجاء النجاء ! فإني أنهاك عن ذلك، فو الله لقد حملني ما رأيت أن قلت فيه أبياتا من الشعر.قال: وما قلت ؟ قال: قلت:كادت تهد من الاصوات راحلتي * إذ سالت الارض بالجرد الابابيل تردي بأسد كرام لا تنابلة * عند اللقاء ولا ميل معازيل فظلت عدوا أظن الارض مائلة * لما سموا برئيس غير مخذول فقلت ويل ابن حرب من لقائكم * إذا تغطمطت البطحاء بالخيل إني نذير لاهل البسل ضاحية * لكل ذي إربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخش قنابله * وليس يوصف ما أنذرت بالقيل * قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، وقذف الله في قلوبهم الرعب، ورجعوا إلى مكة خائفين مسرعين، ورجع النبي في أصحابه إلى المدينة منصورا، كما قال الله تعالى: " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " [ آل عمران: 174 ] أي قتال ورعب.واستأذن جابر بن عبد الله إلى النبي في الخروج معه فأذن له.وأخبرهم تعالى أن الاجر العظيم قد تحصل لهم بهذه القفلة.وقال رسول الله (إنها غزوة).هذا تفسير الجمهور لهذه الآية)
[5] الأعراف183
--------------------------------------------------
مصدر التفريغ / ملتقى أهل التفسير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق