السبت، 19 نوفمبر 2011

تفسير سورة البقرة من آية (172- 186) من دورة الأترجة

د. محمد بن عبد الله الربيعة




بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد: 
نواصل الحديث أيها الأحبة..
وقفنا عند قول الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (1) وقد ذكرنا في المجلس السابق أن الله سبحانه تعالى قال (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (2) وأن هذه الآية دالة على أصل التشريع وهو الحِل وبين الله تعالى فيها ما أحله الله تعالى وهو الحلال الطيب.
 في هذه الآية أيها الأخوة التي معنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ) تأكيد للآية السابقة تأكيد وتوسيع لهذا الطيّب ، لأن الله - عز وجل - ذكر في الآية السابقة بيان الحِل ، هنا بيّن الله سعة هذا الطيب ، وذكر الله تعالى أنه واسع وأنه يستحق منكم استشعار منة الله بهذه النعمة وهذا التوسيع والشكر والعبادة والامتثال قطعاً ومنعاً للابتداع في الدين وبياناً لذلك ، قال الله - عز وجل - : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ )تلك الآية الخطاب كان فيها للناس وهذه الخطاب فيها للمؤمنين، لأن تلك الخطاب فيها للناس عمومًا ويدخل فيها الكافرين وأهل الكتاب لبيان أن ما شرعه الله -عز وجل - هو الحلال الطيّب ، إن كنتم تريدون الحلال الطيب فادخلوا في هذه الآية ، فكان النداء هناك عاماً ، ثم لما بين أنهم لم يستجيبوا ، فإذا قيل لهم آمنوا بما أنزَل الله قالوا نؤمن بما أُنزِل علينا ، الآية َ(وذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) فلما أنهم جانبوا اتباع الحق ، قال الله تعالى (يا أَيُّهَا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) أي كونوا أنتم على الحق واشكروا الله - عز وجل - على هذه الهداية والتوفيق، " كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ" ولاحظوا أنه قال " مما رزقناكم "أو " مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ " لأن هذه الطيبات مِنة من الله أحلّها الله لكم وقد وسعها لكم ، " وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ " لاحظوا أنه قرَنَ بين الشكر والعبادة ، فتبين أن شكر الله يتحقق بعبادته حق عبادته ، أي كلوا من هذه الطيبات وامتثلوا أمر الله - عز وجل - بعبادته ، فذلك هو شكرها ، ليس شكرها باللسان ، وإنما هو باللسان والعمل ، والطيبات المراد بها كما ذكرها شيخ الإسلام " هي ما إباحه الله مما هو نافع للبدن والعقل والروح وضده الخبيث وهو ما حرمه الله مما هو ضار للبدن والعقل والروح" ، فما كان نافعا للبدن فهو حلال وللعقل كذلك وللروح كذلك ، وبالضد تتبين الأشياء ، وإنما ذكر الله - سبحانه وتعالى - هنا " كلوا من الطيبات " أولا لبيان كما ذكرت لكم توسيع الله في عباده على شرعه في مقابل ما كان عليه المشركون وأهل الكتاب من التضييق والتشديد بتحريم بعض الطيبات على وجه التقرب تشريعاً من أنفسهم ، هم ضيقوا على أنفسهم بتحريم ما أحل الله ، فالله يقول أنا وسّعت لكم هذا التشريع ، ثم أيضًا الغرض الثاني في تخصيص الطيبات هنا إزالة ما قد يُظن بأن الدين يمنع التوسع ويقوم بالتضييق على النفس أو التشديد عليها وحرمانها من التمتع بما رزقها الله ، هكذا قد يظن الإنسان ، وهكذا يظن غير المسلم ، يظن غير المسلم أن الإسلام يضيق عليه ، هكذا يصور الشيطان له ذلك ، ولكن الحقيقة هي العكس أن الله يوسع لك الطيبات ويحرم عليك جزءا مما هو ضار بك وغير نافع فيستثنيه، فتبين بهذا إزالة ماقد يتصور بأن هذا الدين يمنع التوسع فيما ينفع النفس من الطيبات أويضيق عليها في ذلك ، والمراد بالشكر " واشكروا لله " كما ذكرت لكم يشمل القلب واللسان والجوارح وهو مستلزم للاتباع الكامل لما أمر الله - سبحانه وتعالى - ، ولله المثل الأعلى حينما يأتيك الإنسان إذا كنت موظفاً عنده فيعطيك راتبك وزيادة ، لا شك أن هذا يدعوك أن تعمل له بإخلاص وجد ومضاعفة ، فإذا كان - ولله المثل الأعلى - ربك أعطاك كل شي ومنحك هذا الرزق المبارك وأحله لك ولم يضيّق ، كان حقاً عليك أن تفيض له - سبحانه وتعالى - من الشكر والعبادة وأن تسخر نفسك عبودية له ، تقدِم له كل ما باستطاعتك وجهدك تقرباً وعبادةً لله - سبحانه وتعالى - ، ولهذا قال " إن كنتم إياه تعبدون " إن كنتم تعبدوه حقيقة فاشكروه ، ثم بين الله - عز وجل - المحرمات التي حصرها ، (إنما حرم عليكم) لاحظوا الحصر هنا " إنما " للحصر ، فهو ما حرم إلا شيئا يسيرا ، (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .
قد يسأل سائل فيقول ليست هذه المحرمات فقط في الشرع فكيف حصرها الله تعالى هنا ؟
هنا "حصر" إنما حرم عليكم كذا وكذا وكذا فقط ما سواها مباح ، فأين الخمر وأين الأمور المحرمة الآخرى ؟ نقول - وهي لفتة مهمة - أن الله - عز وجل - حرّم هنا وبيّن أصول المحرمات التي استباحها المشركون من الطيبات، وهي المتعلقة بجناب التوحيد ، هذه مهمة في معنى هذه الآية ، يعني هذه المحرمات هي التي أحلها المشركون وهي محرمة في دين الله وهي متعلقة بالعقيدة والتوحيد إظهارا لكمال الشريعة وردا على المشركين وتعريضًا بهم. فهي ليست جامعة للمحرمات ، وإنما هي لأصول المحرمات المستباحة المتعلقة بالعقيدة .
المراد بالمحرمات المذكورة في هذه الآية ؛ أولًا هو ذكر الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله . فأما الميتة فهي كل ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة ـ يعني له دم ـ واستُثني منها ميتتان ، ما هما؟ الحوت والجراد ، فالحوت السمك ، والجراد يجوز أكل ميتته، بمعنى لو وجد الإنسان سمكة على الشاطئ قذفها البحر فيجوز أكلها وإن لم يصيدها وكذلك الجراد ، أما وجه تحريمها -الميتة- فالله أحكم وأعلم ، فهو العالم بحقيقة ما يصلح للأبدان -أبدان بني آدم- وما لا يصلح ، ومما يظهر من حكمة هذا ما فيها من وصف الخبث، ولهذا فإن الطباع السليمة تستقذرها ، تستقذر الميتة فهي مقابل الطيبات ، وأيضا غلبت الضرر فيها ؛ فإما أن تكون هي ماتت بمرض سابق أو بعلة عارضة وكلاهما لا يؤمن ضرره ، والموت المفاجئ يقتضي بقاء بعض الأشياء الضارة في الجسم .
أما الدم فهو المقصود به الدم المسفوح ، لتقييد الآية بآية أخرى ( أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا ) في سورة الأنعام، أما وجه تحريمه فالله تعالى أعلم ، والذي يظهر من ذلك أن فيه الخبث أنه مما تستقذره النفوس عادة ، لاحظوا تستقذره النفوس فليس من الطيبات ، ثم أيضا لماذا خصّ الدم المسفوح ؟ فيه علة ؛ خص الدم المسفوح لأن ضرره ظاهر من حيث أن شربه يورث ضرارة أو ضراوة وفوران في الإنسان فتغلظ طباعه ، ويصير كالحيوان المفترس وهذا منافي لمقاصد الشريعة أنها جاءت لاتمام مكارم الآخلاق والسماحة واليسر والرحمة وإبعاد الانسان عن التهور والهمجية والصفات البهيمية ولذلك قيد بالمسفوح لأنه في حالة هيجان وحرارة وكثرة لو تناوله الإنسان لظهر أثره في ذلك . لا شك أن الدم المسفوح فيه هيجان وقت الذبح تجد الذبيحة في غاية ضراوتها وهيجانها فالدم يخرج منها بهيجان ، فهذا -والله تعالى أعلم- سبب ، وشيخ الإسلام يبين هذا فيقول "حرم الدم المسفوح لأنه مجمع قوى النفس البشرية الشهوية الغضبية وزيادته توجب طغيان هذه القوى وهو مجرى الشيطان من البدن(3)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ) (4) فحُرِم لذلك " .
أما الخنزير فهو حيوان معروف ، ووجه تخصيص لحمه مع أن سائر أجزائه في حكمه باتفاق العلماء لأن المقصود منه الذين يحلونه لحما ، فحرم لحمه خاصه ولأن معظم الانتفاع متعلق به ، وأما تحريمه فلأسباب الله أعلم بها ، منها أنه خبيث من حيث أنه يتناول القاذورات ، كل من اغتذى بجسم وبجسمانية نجسة فهو يحرم أكله ، كما أن فيه - أي الخنزير - من الطبائع الدنيئة الذميمة مما ليس في غيره فلذلك حُرم على من حافظ على نفسه من ذميم الأخلاق ، فأخلاق الخنزير أخلاق ذميمة، فهو يرضى ويقر الوقوع على أنثاه ولا يأكل إلا الخبائث أو في عادته يأكل الخبائث .
وأما ما أهلّ لغير الله فهذا ظاهر لأنه ذبح لغير الله - عز وجل -، وُجّه لغير الله - عز وجل - فكان خبثه خبثًا معنويًا لتأثيره على النفوس والأخلاق ، أُهِلّ لغير الله كان ذلك تعلقًا بذلك الإله ، وحفظ لمقام التوحيد الذي أمر الله - عز وجل - بحفظه ، فهذه أيها الأخوة دلائل حصر هذه المحرمات .
ثم قال الله (فمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) من اضطر إلى أكل هذه – وهذا من توسيع الشريعة أنه لم يحرمها قطعا وإنما حرمها في الأصل ، فمن اضطُر إليها غير باغ يعني غير متعمد فلا حرج عليه ، غير باغ عن الحكم ولا عاد متعمد عليه فلا إثم عليه .

/ ثم قال الله (إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) هذه أيها الأحبة هي غرض الآيات السابقة أن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات ، لكن تلك في توَعّد على التكذيب وهذه على التكذيب في التشريع ، تلك على التكذيب فيما أمر الله تعالى باتباعه ، وهذه في التكذيب على ما شرعه الله - عز وجل - من الشرائع ، فلذلك اجتمع هنا التهديد للمكذبين في الأصل والمكذبين في الشرع .
(أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) وهذا تأكيد في جزائهم في الآخرة .

ثم ذكر الله - سبحانه وتعالى - خاتمة الجزء الأول من السورة ، سورة افتتحت بالحديث عن القرآن واختتم الحديث في الجزء الأول عن القرآن بقول الله - عز وجل - بعد هذا البيان وهذا التبيين والتوضيح قال الله " ذلك " كله لأن "ذلك" قد تشير إلى ما قبل الآية والله أعلم أو تشير إلى السورة كلها ، وهذا من أساليب القرآن في تعدد المعنى ، "ذلك" البيان (بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب) أي بعد ذلك (لفي شقاقٍ بعيد) فهو هنا قد فصل الحديث معهم وانتهى الأمر ( قضي الأمر الذي فيه تستفيان ) ، فمن أراد أن يؤمن فليؤمن ومن أراد أن يكفر فليكفر فهو في شقاق بعيد وسيلقى جزاءه عند الله - عز وجل - ، فهذا وجه ختام هذا القسم الذي قلت لكم ، وهو قسم في تأسيس العقيدة قسم في تأسيس الشريعة ، فهذا نهاية القسم الأول .
ثم نبتدئ الحديث ولعل القارئ الكريم يسمعنا الآيات " ليس البر " إلى أية الصيام .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

( ليْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ (178)) هذه الآية أيها الأخوة التي افتتح الله تعالى بها القسم الثاني من السورة ، آية والله عظيمة وهي تسمى آية البر ، قول الله تعالى (ليْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) ثم قال " ولكن البر " هذه الآية أيها الأخوة جمعت ثلاثة أصول : أصول الإيمان ، وأصول الأعمال ، وأصول الأخلاق ، يعني جمعت الدين كله.
تأملوا معي هذه الآية :
أولا غرضُها : جاءت هذه الآية كالحلقة ؛ حلقة الوصل بين القسم الأول بناء العقيدة والقسم الثاني بناء الشريعة كحلقة الوصل يعني هذه حلقة ، ويؤكد ذلك أنها جمعت ما سبقها و جمعت ما سيأتي بعدها في هذه الأصول ، أصول الإيمان قبلها وأصول الأعمال والاخلاق بعدها ، فتأملوا ذلك جيدا وقد ذكر ذلك بعض الأئمة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى - "وهذه الآية عظيمة جليلة القدر من أعظم آي القرآن وأجمعه لأمر الدين" (5) ليس هذا البيان من شيخ الإسلام بالأمر السهل ، لأن شيخ الإسلام ممن رسخ علمه في كتاب الله - عز وجل - فعرف الآيات التي اشتملت على عظائم في الدين ـ "هذه الآية عظيمة جليلة القدر من أعظم آي القرآن وأجمعه لأمر الدين وقد روي أن الرسول قد سئل عن خصال الإيمان فنزلت" ، وقال تلميذه ابن القيم - رحمه الله - (6) "تناولت هذه الخصال في هذه الآية جميع أقسام الدين ، حقائقه وشرائعه والأعمال المتعلقة بالجوارح والقلب وأصول الإيمان الخمسة ، وأخبر سبحانه عن أن هذه هي خصال التقوى بعينها" فما أعظم هذه الآية!!وما أعظم التأمل فيها !! ولولا ضيق المقام والوقت لفسحنا الحديث فيها وتحدثنا فيها بطولها لكن لعلنا نأخذ ما يهم في ذلك .
هذه الآية أيها الأخوة ابتدأت بالحديث ( ليْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ )

فهذا يقرر حقيقة في الدين وهي : أن الدين ليس مجرد مظاهر ورسوم وإنما هو الإيمان وما يظهر من آثاره في النفس من الأعمال والأخلاق ، هذه حقيقة من حقائق الدين ، ليس المقصود مظهر، ليس المقصود من هذه الصلاة هو الركوع والسجود والقيام والتسليم ، لا أبدا إنما هذه هيئة ولكن داخل هذه الهيئة هي حقيقة الصلاة ، وهي هذا القلب الذي يعظم الله ويخشع لله يكبِر الله تعالى ، فكل مظاهر الدين على هذا الوجه، الدين ليس مظهر فقط ، لذلك لو رأينا إنسان قد أعفى لحيته وقصر ثوبه ليس هذا هو الدين ، الدين هو الإيمان والأعمال والأخلاق، فإن كان هذا الرجل قد حمل هذه الصفات الثلاث بما فيه الظاهر ، فلا شك أنه قد كمّل دينه ، أما خلاف ذلك ، ولهذا نجد يا أخواني وهي مسألة مهمة ، أحيانا تجد من هو ظاهره الصلاح خلاف الواقع والواجب ، تجد في أخلاقه قسوة ومخالفة للدين وربما جرأ على محارم الله ، لا يحكم عليه بالدين بهذا الوجه، بل والله قد يكون ذنبه أعظم من ذنب الذي ليس ظاهره الصلاح لأن هذا سينسب للدين ، لأنه بمظهره الصلاح ، فلننتبه لهذا أيها الأخوة فإنه أمر جلي عظيم ، قد يُلمز بالدين بسبب هذا الرجل الذي قد أظهر صلاحًا في ظاهره ، وأخفى في باطنه خلاف ذلك وهذا من صفات المنافقين .
لماذا عبر الله بالبر هنا عن هذه الأصول كلها ؟

لأن البر اسم جامع للخير كله وهو دال على تحقيق الكمال قال الله - عز وجل - ( وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ) هذه أصول الإيمان ، ثم قال الله في أصول الأعمال ( وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ) هذه أصول الأعمال ، قال صاحب المنار(6 ) " ذكر الله تعالى بعد أصول الإيمان أصول الأعمال التي هي ثمرته " لاحظ ثمرة الإيمان الأعمال ثمرة الأعمال الأخلاق ، ثمرة الإيمان الأعمال ؛ إذا قوي إيمان الإنسان زاد عمله وثمرة الأعمال يتزكي الإنسان بالأخلاق الحسنة والكمال ، ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن حٌسن الخُلق وفضله في قوله ( أقربكم إلي يوم القيامة أحسنكم أخلاقا ) (7 )لأن هذه الأخلاق ما جاءت إلا بأساس ( إيمان وعمل ثم أخلاق )، فبين الله فضل صاحب الخلق ، وأخبر بأن صاحب الخلق قد يسبق درجة الصائم القائم (8 )، أو كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فدل على أن الخلق كماله دليل على كمال الأعمال ودليل على كمال الإيمان فليُنتبه لذلك ، وليس هو الخُلق فقط اللسان في حسن كلامه فقط للناس بينما يوغل في صدره الحقد والحسد ، لا ، لا بد أن يتوافق القلب واللسان كله .
قال الله ( وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ) هذا ملحظ دقيق في قوله " عَلَى حُبِّهِ " للدلالة على أن الإنسان يؤتي المال بطواعية ورغبة ، يؤتي المال على حبه ، فمن آتى المال مع أنه يحبه فلا شك أن ذلك دليل على صدق إيمانه ، وبدأ بايتاء المال ، قدمه على الصلاة والصيام ، في آخرها قال (وأقام الصلاة وأتى الزكاة) ، لماذا ؟

قدم المال أيها الأخوة لأن أهم أنواع البر المتعلقة بالخَلق بعد الدين ، البر بالمحتاجين ، المتعلقة بالخَلق بعد الدين هو قضاء حاجات المحتاجين ، ثم أيضًا أنه من أولى ما ينبغي الإهتمام به بعد الإيمان فيما يتعلق بقيام المجتمع المسلم وتقوية أواصره ، هذه الصورة كما قلت لكم في تأسيس المجتمع المسلم فقدم هذه الصفة تحفيزا للنفوس عليها، لأن إقامة الصلاة قد فرضت في مكة فتقديمها هنا لا حاجة إليه ، فالحاجة إلى مايعزز في نفوس المسلمين في بدء نشأة الدولة المسلمة تقوية أواصرهم وتكاتفهم وقيام هذه الدولة .
ثم قال الله - عز وجل - ( وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى ) والمراد بذوي القربى هم الذين يقربون من الإنسان بولادة الأبوين أوبولادة الجدين يعني أصوله وفروعه ، أصوله الآباء وفروعه الأبناء ، هؤلاء هم ذوي القربى ويدخل في هذا من جانب الأبوين الأخوة والأخوات ، والمقصود بهم هنا هم المستحقون للنفقة والحاجة فهم أحوج مايكونوا في الإيتاء ، ولذلك بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي القربى أو ذي الرحم (9 ) صدقة وصلة ، فأكد في ذلك في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما أن الإحسان إليهم -ذوي القربى- يورث مودة وتوثيقًا لأواصر المحبة والقربى ، فكل شيء يوثِق القربى بين ذوي القربى وذوي الرحم فهو مشروع لهذا المقصد العظيم الذي رعاه الإسلام في كثير من شعائره ، أما الأصناف الباقية وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب فتخصيصهم لأنهم أحوج الناس للكافية لضعفهم وعجزهم وانقطاع أمرهم وحصول سبب دافع لإيتائهم المال ، والمقصود الأعظم هو الأمر بإيتاء المال هو رفع شأن هؤلاء وقضاء حاجاتهم وتقوية رابطة المجتمع المسلم التي قصدها الإسلام أصلًا في أصوله في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) (10) .
وجه ذكر إقامة الصلاة وصلتها بالبر : إقامة الصلاة أيها الاخوة لأنها الركن الروحي في بناء الفرد والمجتمع ، فبعد الركن المادي فيما ذكر قبل ذلك ، فقيل الركن الروحي الذي يعزز الركن المادي فاجتمع في ذلك البناء التام ، بناء مادي جسدي ، وبناء روحي قلبي فبذلك يكتمل بناء المجتمع المسلم بهذا الأمر ، فانظروا سر الجمع في هذه الآية بين هذين العملين، وخصّ اقامتها كما ذكرت لكم في أول السورة ولم يقل يصلون ، قال وأقاموا الصلاة ، يعني أقاموها على أكمل وجة كما أمر الله تعالى ورسوله . هنا سؤال : قال الله تعالى أقام الصلاة وآتى الزكاة ، ذكر الزكاة مع أنه قال ( وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى ) فهل هذا تكرار ؟

لا ليس هذا تكرار وانما المقصود هنا تأكيد فريضة الزكاة وأنها من الدين أصلا ، أما ما سبق فهو في الحديث عن النفقة ، يعني والصدقة والرعاية فضلاً عن الزكاة والزكاة داخلة في الأول ، لا شك لكن الله تعالى خصها هنا لأنها ركن باعتبار ركنيتها وأنها من الدين ، فلعل الأول ممهد للثاني والله أعلم .
ثم ذكر الله تعالى أصول الأخلاق ، ما هي أصول الأخلاق ، قال الله تعالى ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) فهاتان الصفتان هما أصول الأخلاق ويدُل على ذلك أن الصبر أيها الأخوة فيه صفات عظيمة ولهذا جعله النبي - صلى الله عليه وسلم نصف الدين، فدل على أن الصبر يتمثل أخلاقا عظيمة فلذلك خصه ، وأما تخصيصه الوفاء بالعهد ، ففيه مناسبة وهي : أنها تعريض ببني اسرائيل الذين لم يوفوا بالعهد وأن السورة كما ذكرت لكم تهيئة لما بعدها من التشريعات ، فكأن الله تعالى قال : والموفون بالعهد الذي سيأتي بيانه ، وقد جاء في السورة هنا بيان أمرين :ـ

 الأمر الأول التشريعات 
والأمر الثاني التكليفات -القتال وغيرها-
فانظروا جمع هذين الأمرين ، فالوفاء بالعهد يوافق التشريع والصبر يوافق التكليف بالجهاد "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ "وآيات طالوت ونحوها ، فما أعظم هذا الترتيب وهذا البناء !!
قال الراغب : " لما كان الصبر من وجه مبدأ للفضائل ومن وجه جامعا للفضائل إذ لا فضيلة إلا وللصبر فيها أثر بليغ "، ولذلك هنا غيّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد قال الله " والصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء" وما قال والصابرون ، لماذا غير الإعراب هنا مع أنه معطوف على الموفون؟
إشعارا بأهميته وعظمته وأنه أساس لذلك كله ، وهذه لفتة مهمة في كتاب الله - عز وجل - فتغيير الإعراب هنا على الحكاية إشعارًا لأهمية الصبر وأنه ذو منزلة عظيمة جامعة لما قبله . الإيمان لا يكون إلا بالصبر والأعمال الصالحة لا تكون إلا بالصبر والأخلاق الفاضلة لا تكون إلا بالصبر ، فكان الصبر أهمها ، ولذلك خَتم الآية به ، وغير إعرابه إشعارا بأنه جامع لذلك كله. وهو أيضا دال على ما ذكرنا قبل قليل ، أنه دال على ما بعده من التشريعات . ثم ذكر أنواع الصبر (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ ) المقصود بالبأساء من البؤس وهو الفقر وهو نحو المكروه فهو في شدة المال وغالب في أحوال الناس عامة ، والبأساء هو سوء الحال ، والضراء هو شدة الحال على الإنسان وهو مشتق من الضر والضرر ويقابلها السراء ، والبأساء الفقر ، والضراء شدة الحال في الضرر أي ضرر الإنسان قد يكون في مرض هذا يحتاج إلى صبر ، أما البأساء فهو في فقر -قلة مال- وحين البأس ، ما المقصود بحين البأس ؟ الحرب والقتال ، ولهذا اشتملت السورة على ذلك فيما بعد .
ثم ختم الله الصفات ( أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) إشارة إلى علو منزلتهم في الصدق ، لاحظوا قال أولئك الذين صدقوا فأعظم الصدق كمال الصدق في التحلي بهذه الصفات وكمال التقوى في التحلي بهذه الصفات ، فهاتان الصفتان الصدق والتقوى مجتمعتان في هذه الخصال ولذلك قال الله (أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أما الصدق فهو في الامتثال والتقوى في الاجتناب ، لاحظوا كيف جمع بينهما مما يدل على كمال أمر هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات ، ولهذا أعاد اسم الإشارة هنا ، فقال ( أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ) وقال (وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) للدلالة على كمالهما في الوصفين .
/ ثم ابتدأ الله الحديث في الأحكام مباشرة ، جاءت الأحكام مباشرة ، ما هي الأحكام الذي افتتح الله تعالى وابتدأ بها ، أهي الصلاة ، أو الصيام ، أو الحج أو الزكاة ؟ كل ذلك لم يبتدئ الله - عز وجل - به ، وإنما ابتدأ بأحكام القصاص، لاحظوا الحكمة الإلهية العظيمة في افتتاح الله - عز وجل - هنا بالقصاص قال ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ) يعني أول تشريع في السورة تشريع القصاص ، جاء بعده الصيام ثم بعده الحج ، ثم أحكام الأخرى المتعلقة بالأسرة ، ما السر يا ترى ؟ هل القصاص أهم من الصيام وأهم من الحج؟ 

لا وإنما السورة كلها في بناء المجتمع المسلم والدولة المسلمة ترسيخها وتثبيتها لإقامة الدين ولا يقوم الدين إلا حين يلتئم الأمن وتستقر الحياة ، كيف يقيم الناس دين الله وهم على خوف في أنفسهم ؟! ما أعظم حكمة الله أيها الأخوة في هذا الافتتاح ، أن الله أراد أن يحفظ حياة الناس أولا قبل أن يشرع لهم التشريعات ، كأنه يقول حياتكم أولا فهل تقيمون ديني بعد أن أقيم لكم الأمن ؟ والله إن هذه الأية تحتاج منا إلى تأمل ووقفة في حكمة الله ورحمته في أن الله تعالى أراد هنا استقرار الأحوال وتوطد الأمن ليقام الدين على أكمل وجه . أرأيتم كيف هي حال الدول التي يضطرب فيها الأمن من الدول المجاورة ، والله إنهم لا يستطيعون إقامة الشعائر الظاهرة أحيانا من الصلاة !!!كثير منهم لا يستطيع أن يصلي في المسجد لماذا ؟ يخشى التفجير . كم فُجِر من مسجد في العراق، في الصومال في باكستان كم نسمع خلال هذه السنة فجر عدد من المساجد بمن فيها من مصلين ، أرأيتم كيف أن إقامة الأمن واستقرار الأمن سبب لإقامة الدين ، فهذه الآية دليل صريح ظاهر على العناية الإلهية قبل العناية البشرية بأمر الأمن واستقراره ، وأنه السبب الأول لإقامة دين الله عز و جل، والله ما أعظم الله حينما عنى بذلك وما أعظم أن يقوم الإنسان بشكر الله عز وجل بإقامة دين الله يوم أن يبقى مستقراً قد وفر الله - تعالى - له أسباب العيش تامة . ولهذا أيها الأخوة تأملوا افتتاح الآيات بقوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ) ثم قال ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ) كتب يعني فرض وأوجب عناية بكم وبحياتكم وبأمنكم ، والكتابة هنا ليس هي الفرض بمعنى المتعين على كل شخص أن يقيمه ، لا ، وإنما هو القصاص إذا وقعت واقعة من قتل أونحوه تحتاج إلى إقامته ، فليس كمثل ( آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) وإنما هو لإقامة هذه الشعيرة وهذه الفريضة وهذا الحد ، إذا استدعى ذلك حدث لزِمه . والمقصود بالقصاص ما هو؟ المماثلة والمساواة في الِقوَد ، ولذلك عُبِرَ فيه لتضمنه معنى المساواة والتعبير به -أيها الأحبة- القصاص الذي يعني المساواة والمماثلة ، يفيد ماذا؟ يفيد في إظهار حكمة الإسلام في التشريع وهو إقامة العدل والمساواة بين الناس في حفظ حقوقهم ، ليس هناك فرق في الإسلام بين غني وفقير ، ورئيس ومرؤوس ، في حق الحياة كلهم سواء عند الله عز و جل ، ليس هناك فضل في الإسلام لرئيس على مرؤوس ولا لذكر على أنثى ، كلهم سواء في حق الحياة ، فمن اُعتدي عليه ، فيُعتدى على من اعتدى عليه بالقصاص ، ولوكان غير مكافئ له في الجنس من ذكر أو أنثى، وفي المنزلة بين رئيس أو مرؤوس أو ضعيف غني أو فقير ، وما أعظم هذا في حكمة الله وشرع الله الذي يثبت لنا حقاً أن هذا الدين -دين الله عز وجل- أقامه لعباده المؤمنين سويا ، أو عباده سويا ، ولاحظوا أنه هنا ذكر الأنثى ولم يذكر الذكر لماذا ؟ قال ( وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى ) و لم يقل الذكر بالذكر من يذكر لي السر ؟
لما لم يذكر حق الرجل ؟ أهو أقل منزلة من المرأة ؟ أولا ً قبل أن نجيب ، هذا دليل صريح عظيم على عناية الله بالمرأة ، بأنه ذكرها ونص عليها ولم ينص على الرجل . أما عدم ذكر الرجل فلأن حكم القصاص للرجل في الجاهلية معروف ، يقيمون حقه إذا قتل رجل قتل رجل وزيادة ، لكنه إذا قتلت امرأة  لا يقيمون حقها فأقام الله حقها صريحا ً هنا وذكرها بالخصوص لأنها مما أبطله وأزاله أهل الشرك وأهل الجاهلية أرأيتم كمال هذه الشريعة !!وأن هذه السورة تمحص ما أبطله و أزاله وحرف فيه أهل الكتاب والمشركون ، وهذا ظاهر في كمال شريعة الإسلام .
 ثم قال ( الْحُرُّ بِالْحُرِّ ) المقصود التساوي وعدم التعدي والتجاوز دون إرادة الحصر ، ثم قال الله رحمة بالأمة يعني من فضل الله وتخفيف من الله شرع لها ما لم يشرع لليهود ، وهو " العفو " ، العفو في القصاص لم يكن من شريعة اليهود ، كان القصاص عند اليهود حتما لا عفو فيه وكان القتل عند النصارى عفوا ً  فجاءت الشريعة معتدلة ً ومتوسطة ً في ذلك ، قال الله ( فمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ ) لا حظوا كلمة "تخفيف" لأنها كانت قبلكم ليست مخففة فهذا إظهار لكمال الشريعة .
إخواني الكرام أريد أن أقول أمر ، أرجو أن ترعوا لي سمعكم ، في هذه السورة لاحظت فيها والله جليا ظاهرا -كما سيأتي- أن جميع الأحكام التي ذكرت في السورة فيها إظهار كمال شريعة الإسلام ، و التيسير فيها و التخفيف ، لماذا ؟ بالذات هذه السورة ، بالذات مع أنه في السور الأخرى قد جاءت لكن رُكز في هذه السورة بيان كمال الإسلام ، وبيان الرحمة و التخفيف ورعاية المحتاج ، لماذا ؟ لأنني قلت لكم تكرارا ً ومرارا أن هذه السورة في إعداد هذه الأمة في تلقي هذه الشريعة ، يوم أن نعرف أن هذه الشريعة فيها رعاية لنا وتخفيف وتيسير ورحمة والله ستتلقاها النفوس بكل طواعية وبكل امتثال وبكل انقياد واستجابة لله عز وجل ، ولذلك قال الله تعالى ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ) فهذا من رحمة الله تعالى بنا وكمال شريعته سبحانه و تعالى ، وتشريع العفو موافق لأصل من أصول الإسلام وهو ( إِ نَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) فيه عفو ، فيه صُلح ، هذا الدين بالذات أيها الأخوة بني فيه الصلح والعفو ، والصلح خير ، فلذالك شرع هذا تكميلا ً لهذه الشريعة وتحقيقاً لهذا الأمر .
قوله تعالى في ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ ) التعبير بـ "أخيه" يفيد الترغيب بالعفو يعني كأنه يقول هذا أخوك ، أخوك المسلم فأعفوا عنه ، لم يقل فمن عفي له من وارث المقتول شيئا ً قال (من أخيه ) ليحفزه ويدعوه لاستشعار هذه الأخوة فيعفو ، ثم أيضا ترغيبا بالعفو قال" شيءٌ " مما يدل على أن أي عفو من أي فرد من أفراد المقتول يسقط به القصاص ، يعني لو قتل شخص عمدا ً وحق على القاتل القصاص فأي فرد من أفراد ورثة هذا المقتول لو عفى ، قال أنا عفوت سقط القصاص ، يعني لا يلزم أن يعفو جميع الورثة ، أرأيتم رحمة الله وعنايته وحرصه على العفو ، لا شك أن هذا من كمال الشريعة ، حتى لو جاءت امرأة ، قالت أنا عفوت ، فلها الحق ويسقط القصاص ويسقط حد من حدود الله من أجل هذه المرأة ، ما أعظم حكمة الله و ما أعظم رحمة الله بنا في هذه الشريعة العظيمة الكاملة .
قال الله - عز وجل - ( فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) ما معنى هذه الكلمة ؟ هذه الكلمة وِصاية من الله ، وصية من الله عز وجل للعافي ، للعافي الذي عفى ، الذي يعفو ، الذي له الحق - الورثة - وصية له بالمسامحة ومطالبة الدِيَة بالمعروف من غير تعنيف ، قال الله عز وجل ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) قد يكون العفو هنا يشمل القصاص أو يشمل الدية ، فلذلك يؤمر العافي ويؤمر الوارث بالمسامحة والمطالبة بالدية بالمعروف من غير تعنيف وتشديد وإلحاح ، الله - عز وجل - كتبها وفرضها لك فلا تطالب فيها بشق الأنفس ، ثم وصى المعفو عنه بقوله ( وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) يعني حثٌ المعفو عنه على أن يؤديها بإحسان من غير مماطلة وبخس ونقص وتأخير ففي ذلك ضبط لباب العفو حتى لا يكون مجال لأحد الطرفين في المراوغة أو المماطلة ، قال الله - عز وجل - نصًا صريح في التخفيف ( ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ) وعطف رحمة على تخفيف ، ليؤكد أن شريعة الله - عز وجل ـ اشتملت على ذلك رحمة بكم وتخفيفا عليكم ، فما أعظم هذا التعبير القرآني الكريم ، ولاحظوا أنه قال ( ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ ) ولم يقل "من الله " أي رعاية من ربكم ، فالرب سبحانه و تعالى هو المصلح لأحوال عباده و الناظر لهم بما فيه منفعتهم فهو رعاية بكم فاشكروه و أقيموا دينه كما أمركم . ثم قال الله( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ ) المراد بالاعتداء هنا اعتداء ولي المقتول يعني الورثة فمن اعتدى بعد ذلك بأن يقتل أحد من ورثة من اعتدي عليه القاتل بعد أن عفي عنه أو اعتدى على أهل القاتل أيا كانوا قال الله ( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) وإنما جاء بهذا قطعا ً لباب الاعتداء الذي كان في أمر الجاهلية حيث كانوا يقتلون بالواحد الواحد والإثنين والثلاثة والعشرة ، فإذا قتل شخص من تلك القبيلة ، تلك القبيلة تأتي فتقتل ما شاءت واحد أو اثنين أو عشرة ، رأيتم حكم الجاهلية ،أين العدل؟ أما هنا في شرعية الإسلام قال فمن اعتدى على حقه إن كان قصاص فهو قصاص وإن كان دية فهو دية ( فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )

ثم قال الله تثبيتا لهذا الحكم في نفوس المؤمنين وإشعارا بأن هذا مصلحة ، حتى لو رأيتم أن هذا فيه إزهاق لتلك النفس ، وهذا إشعار لأهل هذه الأرض الذين ينادون اليوم في الغرب بمعارضة حكم القصاص في الإسلام ، و استهزائهم وسخريتهم بذلك و استخفافهم بحكم الله أن الإسلام يزهق الأنفس ، قال الله تعالى ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) من أحكم و أعلم بأمور الناس؟ الله ، أنك بهذا القتل تقطع سبيل الاعتداء على الآخرين ، كم أحييت ؟ أحييت الناس جميعا ولذلك قال الله ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) ، فلا شك أنه بقتل هذا الرجل يُمنع الناس جميعا الاعتداء ، ومن يجرؤ على القتل وهو يعلم أن مصيره القتل ؟! فقال الله عز وجل ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) وهذه الكلمة أيها الأحبة يقال أنها أعظم كلمة بليغة جمعت معانٍ عظيمة - عند العرب - وإلا فكلام الله تعالى كله بليغ ، قال صاحب المنار - محمد رشيد رضا - في كلام جيد نفيس : " و قد بينت هذه الآية حكمة القصاص بأسلوب لا يُسامى وعبارة لا تُحاكى واشتُهر بأنها من أبلغ آي القرآن التي تُعجز في التحدي فرسان البيان ومن دقائق البلاغة فيها أن جعل فيها الضد متضمن لضده وهو الحياة في الإماتة التي هي قصاص ، - جعل في الضد وهو الحياة مقام ضده وهو الموت - ونكّر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس من الحكم نوعا ً من الحياة عظيم لا يُقدر قدره ولا يُجهل سره ...." إلى آخر كلامه النفيس فيه هذه الآية ، و لهذا قال ( يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ) لما كان إظهار حكمة القصاص و غايته ، يحتاج إلى نظر العقول ودقة التدبر لمعرفة المصلحة الباقية ، ليست المصلحة الحالية ، وهذه مسألة مهمة في التشريع ، أن التشريع لا ينظر إلى المصلحة الحالية ، ينظر إلى المصلحة المستقبلية الكاملة الواسعة التي تعم الناس جميعا ، فالإنسان إذا نظر للمصلحة الحالية الآن ، من غير نظر للعواقب يكون ذلك ربما يتجرأ أو يسبب له خطأ في تصرفه وعمله ، ثم قال الله( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) وهذا نظمٌ للتقوى في السورة كم مررنا بكلمة التقوى في السورة ؟ كثير، كل حكم قُرن بالتقوى ، كما ذكرت لكم أنه ذكرت التقوى في السورة خمسة و ثلاثين مرة في السورة هذه ، يعني كأنه عقد التقوى توثيقا ً للأمر تأكيداً عليه ، فما أعظم ما بُنيت عليه هذه السورة .
ثم ذكر الله - عز وجل - حكم ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) 

ما مناسبة ذكر الوصية بعد القصاص ؟
واضحة أن القصاص داعي إلى الموت أليس كذلك ؟ فكأن ذكر الوصية هنا حكم متعلق بذلك المقتول أن يوصي عناية ورحمة برعيته ، الله أكبر ، يعني الله - عز وجل - مع أنه فرض قتله حفظ ذريته ، بقوله (كتب كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ) يعني فليوصي للوالدين و الأقربين (بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) يعني هذه الآية تدلنا على كمال رعاية الله ـ عز وجل ـ حتى بالجاني ، الجاني حفظ الله حقه وذريته من بعده .
 أقول أن هذه الآية أصل في حفظ الحقوق المالية ، وأصل في آيات المواريث ، هذه الآية أصل في آيات المواريث يعني هي نازلة قبل آية المواريث ، ولذلك اختلف فيها المفسرون اختلاف كثيرا في نسقها هل هي منسوخه بآيات المواريث أم لا ؟ والصحيح والظاهر ـ والله أعلم ـ أنها ليست منسوخة وإنما هي باقية في الأمر بالوصية ، والأمر بالوصية لغير الورثة ، فلذلك ذكر الأقربين هنا ، أما حق الوالدين فهو مذكور في تقسيم الإرث في آية النساء ، فهذه الآية أصل في ذلك ، قال القرطبي " هذه آية الوصية و نزلت قبل نزول الفرائض و المواريث " .
هنا ذكر الله تعالى حق الوالدين و الأقربين أين الأبناء؟ أين حق الأبناء؟ حتى الوالدين في الأقربين ، ارجعوا إلى السؤال الأول ، السورة في تمحيص هذا الدين مما أبطله و حرم فيه أهل الجاهلية ، أهل الجاهلية كانوا لا يورثون إلا الأبناء الذكور ، أو إذا لم يوجد الأبناء فهي لأول رجل ذكر له حق العصبة ، أرأيتم ؟!! هنا الله قال ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ) فخصهما لأنهما مما أبطله أهل الجاهلية ، أما حق الأبناء فباق لا يحتاج إلى ذكره والتنصيص عليه - والله أعلم - و لهذا لاحظوا أنه في سورة النساء ، ذكر الله سبحانه و تعالى حقوق النساء الورثة لماذا ؟ فصلها و جاءت السورة بالنساء لماذا ؟ ما السر ؟
لأن النساء ممن يهضم حقهن في الجاهلية بل هن مظنة هضمهن في الإسلام ، ونحن اليوم يا إخواني في واقعنا بل والله في مجتمعنا الذي يرجى أن يكون مستمسكا ً بحدود الشرع و حقوقه ، كم نجد من صور هضم حق النساء و منعهن ، فهذا يدل على كمال الإسلام - والله أعلم - .

نعود أيها الأحبة ... ختم آيات الوصية بآيتين فقال الله ( فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) وهذا توثيق لحق الميت في وصيته ، أن من بدله فإنما إثمه على الذين يبدلونه ، فعليه إثم عظيم عند الله - عز وجل - ( إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) سميع لما يقال عليم بما يُفعل ، ثم قال ( فمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً ) يعني من خاف من موصي في حياته أو بعد مماته ، جنفا -ميلا- أو إثما -اعتداءً- فأعطى حق الورثة دون الآخرين أو أوصى لولد دون الأخر فأصلح فلا إثم عليه فهذا يدل على أن الوصية في الأصل لا تغير ، ( بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) لكن إذا ظهر فيها حيف أوميل أوإثم أو علِم هذا بسماع عن الميت قبل موته أنه يريد المنع مثل إنسان أوصى لابن البنت - ابن البنت لا يرث - لكنه أراد أن يوصي له غير حق الورثة لتأخذه البنت ، رأيتم مثال ذلك ، فإذا عُلم ذلك ، أُبطلت الوصية قال الله ( فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ثم بعد ذلك أيها الأحبة جاءت آيات الصيام .
و ما سر تشريع الصيام بعد القصاص و الوصية ؟أن الصيام مما يربي في الإنسان الصبر ، و احتمال مشاق الطريق و تكاليف الدين ، لا حظوا أنه مازال الأمر بالتأسيس فذكر الأساس الأمن ثم ما يعين على تحمل الشريعة بعد ذلك وهو الصبر وأعظم ما يتمثل ذلك في الصيام ، أعظم ما يربي على الصبر هو الصيام ، فلذلك شرعه هنا ، قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) يعني فرض عليكم الصوم (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) يأتي هنا تربية وإعداد للأمة بأنه قال (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) تهيئة لكم يعنى لا تحسبوه فريضة عليكم فقط بل هو قد فرض على من كان قبلكم حتى تتقبله النفوس بطواعية ، الإنسان لو قلت يا أخي ترى كلف به فلان و فلان و فلان ، أليس هذا داع لأن يتكلف به ؟ بلى ، فالله تعالى يقول لنا : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الأمم السابقة قال الله ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) أيضا ً أن هذا الصيام سبب لتقواكم ، سبب لقيام التقوى وهي القيام بما أمر الله و الانتهاء عن ما نهى الله ـ عز و جل ـ و التخلي عن المحذورات و التحلي بالأوامر و التشريعات ، فالصوم أعظم ما يعين على تحمل الشرائع و القيام بها على أكمل وجه ، قال الله ( أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ) يعني أيضا ً ما يمهد الله ـ عز وجل ـ به ويخفف عن المسلمين هذا التكليف قال أيام معدودات ، ليست بشي ، يعني مقابل السنة كم ؟ ثلاثين يوم مقابل ثلاث مئة وستين يوم ، ليست بالكثيرة بل هي بقليلة " مَّعْدُودَاتٍ " لماذا الله ـ عز وجل ـ كل هذا تهيئة ؟ لأن الصيام لم تعتده العرب ، لا يعتده العرب فهو شاق عليهم ، لذلك شرع الصيام في بداية الأمر بالتخيير ، فمن شاء صام ومن شاء فدا ، يقدم فدية ، طعام مسكين كل يوم ، لماذا ؟ لأن العرب لم تتهيأ له ، فالله أراد لأمته أن يهيئها بهذا التشريع حتى إذا استقر الأمر ، فرض الصيام حتما ً رمضان كاملا ً ليس بالخيار و إنما بالإلزام لمن قدر عليه ، وعفي عن المريض والمسافر والكبير ، أرأيتم رحمة الله حكمة في هذا لإعداد وهذا التهيئة وهذا التخفيف ؟!
والله إنه لرعاية لا يضاهيها ولا يماثلها أي شريعة أو نظام في العالم ، قال الله ـ عز و جل ـ ( مَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) يعني ليس بلزام من كان عنده ظرف فلا يصم ، أرأيتم التخفيف أيها الإخوة ؟ ثم قال ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) و في قراءة ٍ " يُطَوقونَهُ " يعني على الذين يصومون و عليهم مشقة ، فالطوق ما هو ؟ الطوق هو القدرة على الشيء مع الكلفة ، الله يقول وعلى الذين ( يصومونه ) يطيقونه وعليهم مشقة يعني مشقة ولو يسيرة قال ( فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) في قراءة " طعام مساكين " فالله عز و جل خفف ، وذكرت حكمة هنا في التشريع في بداية الإسلام بالتخيير بين الفدية و الصيام ، لأن أول الإسلام كان حال المسلمين في فقر ، هم بحاجة إلى المال فعوّض الصيام بالفدية ، لأن يقوم الصيام بالفقراء فيغنيهم شيء ما و يقوم الأغنياء بالإنفاق ، أرأيتم الرعاية الإلهية وفي التساوي وفي القيام بحقوق بعضهم بعضا ً ، قال الله تعالى (مَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ) ترغيب بالصيام وهذا يؤكد لنا أن الصيام خير ، حتى الصيام في السفر لمن لا مشقة فيه فهو الأكمل والأفضل ، وحتى للمريض إذا لم يقر طبيب أنه به ضررا ً بالصيام ، لأنه يصوم في شهر رمضان في شهر الصيام ، و لا شك أن أيام رمضان أفضل من غيرها ( إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )ثم قال الله تعالى أيضاً تهيئة للصيام إلى الآن لم يأتي تعيين الصيام ، كل هذه ممهدات أيها الأخوة كلها ممهدات ، قال الله (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ، يعني أنتم مأمورون بصيام شهر فاضل ، أنزل فيه القرآن يستحق أن يصام ، و الله يا أخوان رعاية لا يماثلها أي رعاية ، و لا إعداد ، لو استشعرنا هذا بالتربية ، و لهذا نأخذ منها يا إخواني فائدة عظيمة ، أن الإنسان يأخذ ذلك مع تربيته مع أبنائه في تكليفهم حتى في الصلاة يشوقهم لها ويبين فضائلها وأنها تبعث في نفسك السرور تزيد أجرك وتقربك إلى الله ، فهو أولى من أمره مباشرا ً صريحا ً بالتعريف ، لاحظوا هذا أيها الأخوة الكرام ملاحظة جليلة ، قال الله ـ عز وجل ـ ( الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) يعني هذا الشهر الكريم إنما فضل وإنما شرع فيه الصيام لأنه أنزل في هذا الشهر القرآن ، وانظروا ما العلاقة بين الصيام والقرآن ؟أن كلاهما يحققان التقوى والكمال والإيمان ، فلاحظوا أن الصيام يحقق التقوى ، ومن حقق التقوى استحق هداية القرآن في قوله (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) ، أرأيتم أن الصيام له علاقة بالقرآن أنه يوصلك إلى مرتبة المهتدين من كمل اهتداءه بالقرآن ، في قوله ( هُدًى لِّلمتقين ) طيب كيف أحقق التقوى ؟ذكر الله الصفات في أول السورة و هنا ذكر الصيام الذي فيه تحقيق التقوى ، فمن أراد اهتداء بالقرآن ، فعليه بالصيام ، و لهذا قال الله هنا (هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) هنا ملحظا ً دقيقٌ نفيسٌ ، أيها الأخوة وهو أنه قال (هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) ، ( هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى) أعاد الهدى ما الفائدة هنا ، ما الفائدة من ذكر الهدى هنا ؟
الفائدة هنا الإشارة إلى أن الصيام يورثكم القدرة على بيان القرآن، وفهمه والوصول إلى هدايته ، أليس الصائم أيها الأخوة بصفاء ذهنه وقلبه وجسمه يصفو عقله وقلبه لتأمل القرآن والتبصر فيه والاهتداء ؟ ولهذا شرعت صلاة التراويح لأن النفوس بالصيام تسمو ثم في صلاة التراويح تهتدي ويتفتح لها القرآن ببيانه وهداياته ، قال " الفرقان " إشارة إلى النصر بالدين ، يعني أن هذا الصيام سيورثكم بيان الشرائع ، كمال الشرائع و كمال التمكين في الأرض بالنصر فما أعظم هذا الذي يورثه شهر رمضان بإنزال القرآن فيه ، وأنتم تعلمون أن شهر رمضان هو شهر الجهاد ، جهاد النبي صلى الله عليه و سلم ، فما أعظم هذه الدلالة ، قال الله - عز وجل - وفي هذا يأتي الأمر الصريح بقوله ( فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) والشهادة تكون بالحضور والعلم ، (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فدل على أن كل من شهد بعلمه أو برؤيته ، ما قال " فمن رأى " ، قال " فمن شهد " الشهادة تكون بأمرين بالعلم أو الحضوربالرؤية ، فيدخل في ذلك علمه ورؤيته حضوره قال (مِنكُمُ الشَّهْرَ) والألف واللام تدل على فمن شهد منكم الشهر كاملا ً فليصمه ، يصوم الشهر كاملا ً فهذا يدل على لزوم صوم الشهر كاملا ً ، قال الله عز و جل إعادة للتخفيف مرة أخرى ( وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ ) لماذا أعاد الله تعالى هذه الآية مع أنها ذكرت في الآية السابقة ؟خشية أن يظن أنها نسخت مع نسخ التخيير ، أليس وقع التخيير بالفدية أوالصيام فنسخ التخيير وكان من ضمنها ، من ضمن نزول التخيير العفو عن المريض فلما جاء الأمر هنا خشية أن يُظن أن المريض ، حق المريض ورخصة المريض والمسافر قد نسخت أعادها الله هنا و أكد عليها ، فما أعظم حكمة الله في ذلك في هذا البيان !!
قال الله عز و جل تأكيدا ً لنا و تأكيدا ً لأمة الإسلام لهذه الفريضة العظيمة ، قال( فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ثم قال ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) إي والله قد أراد الله بنا اليسر !!
أن فرض علينا أيام معدودات ورخّص للمريض ورخّص للمسافر ورخّص للكبير الذي لا يقدر فوالله هذه عناية ربانية كبيرة حقاً تمثل فيها اليسر والتيسير ، لاحظوا أنه قال هنا " يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ " وهناك " ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ " في القصاص، ما الفرق ؟ أنه في العبادات فيها التيسير وفي المعاملات التخفيف فهذا سر التعبير هنا باليسر و هناك بالتخفيف ثم قال الله " وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ " ما هي العدة ؟لماذا لم يقل لتكملوا الشهر يعني العدة أي الشهر أوالذي أفطر في الشهر فيتم العدة بالقضاء ؟
فهذه الآية دالة على القضاء لتكملوا العدة أي عدة الشهر أو عدة الأيام التي أفطرتم بها في رخصتكم ، أنظروا إلى كمال التعبير قال الله " وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " والله إن هذه النعمة وهذه الرعاية الإلهية تماما ً تستحق منا الشكر والعناية والتكبير ، ولذلك من هذه الآية أُخذ مشروعية التكبير ليلة العيد ، من هذه الآية أخذت مشروعية التكبير ليلة العيد ، ومن هذه الآية شرع الشكر لله والحمد لله بعد كل عبادة على إتمامها والهداية لها ولذلك قال الله : (لِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) ما قال شرعها قال (عَلَى مَا هَدَاكُمْ) و الله إنها الهداية لو قارنا أنفسنا بالأمم غيرنا .
ثم قال الله " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ " الله أكبر!! والله ما أعظم الله حين شرع لنا هذه الآية !! لاحظوا أيها الأخوة جاءت هذه الآية متى في آخر أيام الصيام كأن الله تعال يقول هذه جائزتكم ، جائزتكم إن أقمتم أمر الله و استجبتم و لذلك ختمت بقوله (فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) فكأنه قال ـ عز و جل ـ إذا أتممتم هذه الشريعة فهذه جائزة مفتوحة " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ " - ولله المثل الأعلى - لو أن إنسان أراد أن يكلف إنسان قال اعمل هذا العمل و لك شيك مفتوح ، جزاء مفتوح ، فالله تعالى ربنا هنا شرع لنا وأعطانا هذه الجائزة ولذلك شُرع الدعاء في ختام الصوم عند الفطر وللصائم دعوة عند فطره لعل النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ انتزع هذا الحكم من هذه الآية في تعقيب آيات الصيام بآيات الدعاء ، وهذه الآية يا إخواني ولولا ضيق الوقت لذكرنا فيها جميع آداب الدعاء جميع آداب الدعاء في هذه الآية لعلنا إن شاء الله تعالى أن نشير إليها إن يسر الله وقتا ً بعد الصلاة ، نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا وأن يرزقنا الاستجابة لأمره والاهتداء به والكمال والرشد و صلى الله و سلم على نبينا محمد .

---------------------------------------------
1) البقرة172
(2) البقرة168
(3) قال شيخ الإسلام في مجموع لفتاوى وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ إخْبَارٌ عَنْهُ أَنَّهُ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ فَأَحَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ مِثْلَ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فَإِنَّهَا عَادِيَةٌ بَاغِيَةٌ فَإِذَا أَكَلَهَا النَّاسُ - وَالْغَاذِي شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذِي - صَارَ فِي أَخْلَاقِهِمْ شَوْبٌ مِنْ أَخْلَاقِ هَذِهِ الْبَهَائِمِ وَهُوَ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ كَمَا حَرَّمَ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ قُوَى النَّفْسِ الشهوية الْغَضَبِيَّةِ وَزِيَادَتُهُ تُوجِبُ طُغْيَانَ هَذِهِ الْقُوَى وَهُوَ مَجْرَى الشَّيْطَانِ مِنْ الْبَدَنِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ . وَلِهَذَا كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ إذَا دَخَلَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ لِأَنَّ الصَّوْمَ جُنَّةٌ . فَالطَّيِّبَاتُ الَّتِي أَبَاحَهَا هِيَ الْمَطَاعِمُ النَّافِعَةُ لِلْعُقُولِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْخَبَائِثُ هِيَ الضَّارَّةُ لِلْعُقُولِ وَالْأَخْلَاقِ كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ أُمُّ الْخَبَائِثِ لِأَنَّهَا تُفْسِدُ الْعُقُولَ وَالْأَخْلَاقَ فَأَبَاحَ اللَّهُ لِلْمُتَّقِينَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ الَّتِي تَضُرُّهُمْ فِي الْمَقْصُودِ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ وَأَمَرَهُمْ مَعَ أَكْلِهَا بِالشُّكْرِ وَنَهَاهُمْ عَنْ تَحْرِيمِهَا فَمَنْ أَكَلَهَا وَلَمْ يَشْكُرْ تَرَكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ . وَمَنْ حَرَّمَهَا - كَالرُّهْبَانِ - فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ قَالَ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ .....)
(4) صحيح ابخاري باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه و باب هل يدرأ المعتكف عن نفسه وباب صفة إبليس وجنوده و باب النحر والذبح و باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء أو قبل ذلك للخصم
(5) وهذه الاية عظيمة جليله القدر من أعظم آى القرآن واجمعه لامر الدين وقد روى ان النبى سئل عن خصال الايمان فنزلت وفى الترمذى عن فاطمة بنت قيس عنه أنه قال ( ان فى المال حقا سوى الزكاة وقرأ هذه الآية ) وقددلت على امور
أحدها انه اخبر ان الفاعلين لهذه الامور هم المتقون وعامة هذه الامور فعل مأمور به
الثانى انه أخبر ان هذه الأ مور هي البر واهلها هم الصادقون يعنى فى قوله ( آمنا ) وعامتها امور وجودية هي افعال مأمور بها فعلم أن المامور به أدخل فى البر والتقوى والايمان من عدم المنهى عنه وبهذه الاسماء الثلاثة استحقت الجنة كما قال تعالى ( ان الابرار لفى نعيم وان الفجار لفى جحيم ) وقال ( أم نجعل المتقين كالفجار ) ( ان المتقين فى جنات ونهر ) وقال ( افمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) (كتب وفتاوى ورسائل شيخ الإسلام )
(6) زاد المهاجر
قال صاحب المنار في تفسيره : (وَلَكِنَّ الْبِرَّ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ إِلَخْ ، وَهَذِهِ النُّكْتَةُ مَفْهُومَةٌ مِنَ الْعِبَارَةِ ; فَإِنَّهَا تُمَثِّلُ لَكَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْمَوْصُوفِ بِهِ فَتُفِيدُكَ أَنَّ الْبِرَّ هُوَ الْإِيمَانُ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِهِمَا ، وَتَلَبُّسِ الْمُؤْمِنِ الْبَارِّ بِهِمَا مَعًا ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِيمَانَ بَاعِثٌ عَلَى الْأَعْمَالِ ، وَهِيَ مُنْبَعِثَةٌ عَنْهُ وَأَثَرٌ لَهُ تَسْتَمِدُّ مِنْهُ وَتَمُدُّهُ وَتُغَذِّيهِ ; أَيْ : أَنَّهَا تُمَثِّلُ لَكَ الْمَعْنَى فِي
الشَّخْصِ ، أَوِ الشَّخْصَ عَامِلًا بِالْبِرِّ ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي النَّفْسِ هُنَا مِنْ إِسْنَادِ الْمَعْنَى إِلَى الْمَعْنَى ، وَمِنْ إِسْنَادِ الذَّاتِ إِلَى الذَّاتِ كَمَا هُوَ مَذُوقٌ وَمَفْهُومٌ ).
(7) شعب الإيمان للبيهقي
(8) أخرجه الترمذي وابن ماجة والبيقهي فيشعب الإيمان .
(9) رواه مسلم في باب تَرَاحُمِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَعَاضُدِهِمْ.
مصدر التفريغ / ملتقى أهل التفسير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق