الثلاثاء، 27 سبتمبر 2011

القاعدة الثامنة (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)

د. عمر المقبل




بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وصلى الله وسلّم وبارك على خير خلقه أجمعين نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد ..
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته أيها المستمعون والمستمعات ومرحبا بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم المتجدد قواعد قرآنية نقف فيها مع قاعدة من قواعد القرآن العظيم التي تؤسس لمبدأ من أشرف المبادئ ألا وهو مبدأ العدل . هذه القاعدة لطالما استشهد بها العلماء والحكماء لعظيم أثرها في باب العدل والإنصاف، تلكم هي القاعدة التي دلّ عليها قوله سبحانه وتعالى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر: 7](١)  والمعنى: أن المكلفين إنما يُجازون بأعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وأنه لا يحمل أحدٌ خطيئةَ أحد ما لم يكن سببا فيها، وهذا من كمال عدل الله تبارك وتعالى وحكمته.
 وتأمل في التعبير عن الإثم بالوِزر ولعل الحكمة في ذلك لأن الوزر هو الحِمل ـ وهو ما يحمله المرء على ظهره ـ فعبر عن الإثم بالوِزر لأنه يُتَخّيَلُ ثقيلاً على نفس المؤمن(٢).
وهذه القاعدة القرآنية تكرر تقريرها في كتاب الله تعالى خمس مرات، وهذا ـ بلا شك ـ له دلالته ومغزاه. وهذا المعنى الذي دلت عليه القاعدة ليس من خصائص هذه الأمة المحمدية بل هو عام في جميع الشرائع، تأمل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (*) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (*) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (*) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (*) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (*) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (*) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (*) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (*) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: ٣٣ - ٤١].
وهذا المعنى الذي قررته هذه القاعدة لا يُعارض ما دلّ عليه قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: ١٣]، وقولُه: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: ٢٥] لأن هذه النصوص تدل على أن الإنسان يتحمل إثم ما ارتكب من ذنوب وإثم الذين أضلهم بقوله أوفعله، كما أن الدعاة إلى الله تعالى في المقابل يُثيبهم الله تعالى على عملهم وعمل من اهتدى بهديهم، واستفاد من عِلمهم.
ولهذا لما اجتهد جماعة من الكفار في إبقاء بعض الناس على ما هم عليه من الكفر، أو حثّ من كان مؤمناً ليكفر بدينه أغروهم بخلاف هذه القاعدة تماماً، فقالوا ـ كما حكى الله عنهم ـ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: ١٢، ١٣].
وإنك أخي المتوسم إذا تأملت في كلام العلماء في كتب التفسير والحديث والعقائد، والفقه وغيرها لرأيت عجباً من كثرة الاستدلال بهذه القاعدة في مواطن كثيرة:
فكم من رأي نقضه فقيه بهذه الآية، بل كم مسألة عقدية صار الصواب فيها مع المُستدل بهذه الآية، والمقام ليس مقام عرض لهذه المسائل، بل المقصود التنبيه على عظيم موقعها.
وإذا أردنا أن نبحث عن أمثلة تطبيقية لهذه القاعدة في كتاب الله، فإن من أشهر الأمثلة وأظهرها تطبيق نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم لهذه القاعدة وذلك أنه حينما احتال على أخذ أخيه بنيامين بوضع السقاية في رحل أخيه ـ في القصة المعروفة ـ جاء إخوته يقولون: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: ٧٨] فأجابهم يوسف قائلاً: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ }[يوسف: ٧٩].
قارن هذا ـ بارك الله فيك ـ بقول فرعون حينما قال له كَهَنته: إنه سيولد من بني إسرائيل غلامٌ ستكون نهاية مُلكك على يده فماذا فعل؟ لقد أصدر مرسومه الظالم بقتل جميع من يُولد من بني إسرائيل ـ وربما كانوا بعشرات الآلآف ـ من أجل أن يضمن أنه قضى على ذلك الطفل وهو طفل واحد!! ولكن من كان يقول للناس: أنا ربكم الأعلى فلا يستغرب منه هذا الأمر.
وفي واقع الناس من سار على هدي يوسف عليه الصلاة والسلام فتراهم لا يؤاخذ إلا من أخطأ أو تسبب في الخطأ، ولا يُوسِع دائرة اللوم على من ليس له صلة بالخطأ بحجة القرابة أو الصداقة أو الزمالة ما لم يتبين خلاف ذلك! وفي المقابل فمن الناس من يأخذ المحسنين أو البُرءاء بذنب المسيئين.. 

وإليك هذه الصورة التي قد تكرر كثيراً في واقع بيوتنا:
يعود الرجل من عمله متعباً فيدخل البيت فيجد ما لا يعجبه من بعض أطفاله: إما من إتلاف تُحفة، أو تحطيم زجاجة، أو يرى ما لا يعجبه من قِبَلِ زوجته: كتأخرها في إعداد الطعام، أوعدم اتقان في صُنعه أو غير ذلك من الأمور التي قد تستثير بعض الناس، فإذا افترضنا أن هذه المواقف حقا مما يستثير الغضب، أو أن هناك خطأً يستحق التنبيه، أو التوبيخ، فما ذنب بقية الأولاد الذين لم يشاركوا في كسر تلك التحفة ـ مثلاً ـ؟! وما ذنب الأولاد أن يَصُبَّ عليهم جام غضبه إذا قصّرت الزوجة في شيء من أمر الطعام؟!
 والعكس أيضا ما ذنب الزوجة ـ مثلاً ـ حينما يكون المخطئ هم الأولاد؟! ومثله يقال في علاقة المعلم والمعلمة مع طلابهم، أو المسؤول في عمله مع زملائه فإن المفترض من هؤلاء ألا ينقلوا مشاكلهم إلى أماكن عملهم، فيكون من تحت أيديهم من الطلاب والطالبات أو الموظفين ضحية لمشاكل ليس لهم علاقة بها.
وهنا يستحضر المؤمن المُعظِم لكلام الله عز وجل أموراً، من أهمها: 
تذكر هذه القاعدة القرآنية العظيمة: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فإن هذا والله خيرٌ  وأحسن تأويلاً، وأقرب إلى العدل والقسط الذي قامت عليه السماوات والأرض.
وثمة فهمٌ خاطئ لهذه القاعدة القرآنية وهو: أن بعض الناس يظن أن هذه القاعدة مُخالفة لما يراه من بعض العقوبات الإلهية التي تصيب مجتمعاً من المجتمعات، أو بلداً من البلاد، حينما تفشو المنكرات والفواحش والمعاصي ويُستعلَن بها وسَبَبُ خطأ هذا الفهم، أن المنكر إذا استعلن به الناس، ولم يوجد من ينكره فإن هذا ذنب عظيمٌ اشترك فيه كلُّ من كان قادراً على الإنكار ولم ينكر، سواءٌ كان الإنكار باليد أو باللسان أو بالقلب وذلك أضعف الإيمان، ولا عذر لأحد بترك إنكار القلب، فإذا خلا المجتمع من هذه الأصناف الثلاثة ـ عياذاً بالله ـ مع قدرة أهلها عليها حينئذ استحقوا العقوبة وإن وجد فيهم بعض الصالحين.
تأمل معي قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: ٢٥]!
يقول العلامة السعدي(٣): في تفسير هذه الآية: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} " بل تصيب فاعل الظلم وغيره، وذلك إذا ظهر الظلم فلم يُغير، فإن عقوبته تعُم الفاعل وغيره، وتقوى هذه الفتنة بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا يُمكّنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن ".
ويوضح معنى هذه الآية الكريمة جملة من الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ومن ذلك:
ما رواه الإمام أحمد بسند حسن ـ كما يقول الحافظ ابن حجر(٤) ـ من حديث عدي بن عميرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( إن الله عز وجل لا يُعذِّب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ـ وهم قادرون على أن ينكروه ـ فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصة والعامة ) (٥).
وروى الإمام أحمد: في مسنده (٦) بسند جيد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه خطب فقال: " يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير ما وضعها الله {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه يُوشِك أن يعمهم الله بعقابه".
وفي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش - رضي الله عنها - أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثُر الخبث".
 والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وفيرة يضيق المقام بذكرها وعرضها والمقصود إزالة هذا الإشكال الذي قد يعرض لبعض القارئين في فهم هذه القاعدة القرآنية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
و قبيل أن أضع شباة القلم، أجره إلى قول المؤمل المحاربي:
قَد بَيَّنَ الله في الكتاب *** فلا وازِرَةٌ غَيرَ وِزرِها تزرُ
--------------------------------------
(١) وقد نص على كونها قاعدة الإمام المجدد في تفسيره: (٥٧).
(٢) ينظر: التحرير والتنوير لابن عاشور ٥/٢٩٣.
(٣) تفسير السعدي (٣١٨).
(٤) فتح الباري لابن حجر (١٣/٤).
(٥) المسند ٢٩/٢٥٨ رقم (١٧٧٢٠).
(٦) المسند ١/١٧٨.
المصدر / موقع المسلم (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق