السبت، 12 نوفمبر 2011

تفسير سورة البقرة (١٤٢- ١٥٤ ) من دورة الأترجة

د. محمد بن عبد الله الربيعة


(سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) ) 
هذه الآيات حقيقة تحتاج منّا إلى تأمّل دقيق فهي آيات التشريف لهذه الأمة , آيات أنّ الله شرّف فيها هذه الأمة بأعظم شرف وهو ولاية القبلة , قبلة إبراهيم لهم , فهي تأتي اتصالاً في سياق السورة , ألسنا قلنا أنّ السورة في إعداد الأمة لحمل أمانة الدين والشريعة وتبليغها في الأرض , بلى , فتأتي هذه الآية في تأسيس القاعدة العظمى لهذه الأمة وتشريفها بها وهي ولاية البيت واتخاذه قبلة ولاشكّ أن القبلة من أعظم ما تُشرّف به أمة أنّ الله يخصّها بقبلة تجتمع عليها , فما أعظم أن نتأمّل هذه الآيات على وفق هذا المعنى , فكلها راجعة إلى المقصد الأعظم الذي ذكرت لكم وهو إعداد هذه الأمة المحمدية لأمانة الدين وتشريفها بشريعة الله وتبليغها.
 وصلتها بالآيات التي قبلها: أنه لما ذكر البيت وذكر تشريف إسماعيل ببنائه كأنّ المشركين وأهل الكتاب توجّسوا من أنّ الله عزوجل سيُشرّف وسيُكلف هذه الأمة بالقبلة ويشرفها بقبلة إبراهيم - عليه السلام - دليلاً على تنصيبها للخلافة وتكليفها بذلك فتوجّسوا في ذلك , فقال الله عزوجل تهيئة للمؤمنين - الله أكبر , ما أعظم هذا الإعداد نحن قلنا أنّ السورة كلها إعداد - فالله ينبِّه المؤمنين بما سيقع من الكافرين والمنافقين وأهل الكتاب قبل وقوعه فقال الله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا) لاحظوا قال الله سيقول" لم يقل "قال" مع أنّ الآية نزلت بعد أن حوّل الله المؤمنين إلى البيت الحرام , مباشرة نزلت (سَيَقُولُ السُّفَهَاء) لكنّ الله تعالى قدمهاهنا أو النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعها في هذا الموضع تهيئة للمؤمنين ليستقبلوها ويُعدوا أنفسهم لما سيُواجهونه ,لاشكّ أنّ الإنسان إذا استعدّ للأمر فسيُهيئ نفسه له ويرى كيف يواجه وكيف يردّ الشبهة ونحو ذلك .

قال الله - عز وجل - : (سَيَقُولُ السُّفَهَاء) من هم السفهاء؟! اختلف المفسرون في هذه الآية اختلافاً كبيرا , لكن حين نرى كل الآيات السابقة أين ذكر السفهاء في السورة؟! ذُكروا في موضعين :

الموضع الأول إشارة إلى المنافقين , قال الله: (ألا إنهم هم السفهاء) إذن هذا وصف للمنافقين فهم داخلون هنا وأنه سيقول المنافقون ذلك .
والثاني قوله: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) من هم؟! يدخل فيها المشركون أهل مكة لأنهم رغبوا عن إبراهيم , ويدخل فيها أهل الكتاب , فهذا ذكرٌ لهم جميعاً،جمعهم الله جميعا بهذا اللفظ ، , لم يقل سيقول المنافقون والمشركون واليهود , قال السفهاء , وإنما عبّر عنهم بالسفهاء تقليلاً لشأنهم أنهم ليس لهم شيء وليس لقولهم أهمية لا تنظر إليهم .
أنت -ولله المثل الأعلى- إذا قابلت سفيه تقول هذا سفيه اتركه -ولله المثل الأعلى- فالله تعالى يُخفف عن المؤمنين موجة المُعارضة التي سيُواجهونها من هؤلاء والاستهزاء والسخرية وغير ذلك ,تركوا قبلتهم واتبعوا قبلة آبائهم إلى غير ذلك , فكأنّ الله تعالى يقول اتركوهم , فهؤلاء لا عقول لهم , السفيه : هو ناقص العقل ، فالله يستنقص عقولهم تخفيفاًعلى المؤمنين وتهيئةً لهم .
قال: (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا) هذه الجملة اختلف فيها المفسرون اختلافا كبيرا وأشكلت عليهم , ما هي القبلة؟! قال بعضهم هذه القبلة هي قبلة الكعبة قبل أن يوجّه لبيت المقدس , وقال بعضهم هي بيت المقدس , وقال بعضهم هي بيت الحرام بعد أن وجّه وحُوّل من بيت المقدس, وبالتأمّل الثاقب في هذه الآية والتي بعدها يظهر - والله تعالى أعلم - أنها محتملة لجميع الأقوال ,لأنّ قول السفهاء يكون من الكفار ومن المشركين ومن المنافقين ومن اليهود , وكل قول سيلمز المسلمين بالقبلة التي توجّه إليها أولاً، فالمشركون حينما وُجّه إلى بيت المقدس قالوا ترك ما كان عليه آباءهم , واليهود حينما وُجّه من بيت المقدس إلى البيت الحرام قالوا رغب في قومه , رغب في أهله وبلده , انظر كيف يبثّون الشبه ، فالله تعالى هنا عمّم القبلة فقول: (مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا) شاملة للمواضع كلها .
قال الله: (قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) هذا رد عليهم , ما شأنكم ؟ الأمر لمن ؟ ومن الذي يقرّه ومن الذي يُدبّر الأمر؟! هو الله عزوجل , له المشرق والمغرب , هو المتصرّف في الأمور ,فإذا اطمأنّ الإنسان بأنّ الله تعالى هو الذي وجّهه فلا عليه من لوم لائم ولا من استهزاء مستهزئ .
قال الله: (يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) هذه لفتة وهذا إشارة إلى شرف المؤمنين بأنّ الله هداهم إلى الصراط المستقيم , وما الذي هداهم إليه؟! هداهم إلى قبلة الأنبياء جميعاً من إبراهيم - عليه السلام - إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أما ما كان عليه اليهود والنصارى من بيت المقدس فليس هو مما كان عليه أنبياؤهم ,وإنما قيل أنّ سليمان ـ عليه السلام ـ سأل ربه أن يُوجّه بني إسرائيل إلى بيت المقدس , وإلا كان موسى - عليه السلام - على قبلة أبيه إبراهيم ولم يكن إلى بيت المقدس هذا هو الصحيح الظاهر كما جاءت بذلك الآثار , فكأنّ الله يقول أم أنني هديتُ هذه الأمة إلى قبلة الأنبياء جميعاً , وهذا شرف وفضل ولاشكّ ، فهو تطمين للمؤمنين وتهيئة لهم إلى أنكم لا يضركم ولا يضيركم ما قاله هولاء السفهاء.
قال الله عزوجل في الآية الأخرى بعد ذلك: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) هذه الجملة ما علاقتها بالقبلة؟!هذه الآية تُشير إلى تشريف هذه الأمة المحمدية بالخلافة , تشريف أمة الإسلام بعد أن ولاها الله القبلة كأنّه قال أنتم الخُلفاء في الأرض,قال الله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ) ولاشكّ أنّ الوسط يُطلّ على جميع الجهات , وإن كان الوسط هنا له دلالات كما سيأتي , فانظر ليس له علاقة في القبلة هنا ، لكنها دلالة على تشريف هذه الأمة وإعدادها للخلافة وتشريفها , الله أراد أن يمنحها ويجعلهم في الأرض خلفاء (ثم جعلناكم خلائف في الأرض) فهذه الجملة أشكلت على كثير من المفسرين في موضعها في ما علاقتها بالقبلة؟! ليس لها علاقة صريحة واضحة , ولكن بعد التأمّل وقد أشار إلى ذلك بعض المفسرين إلى أنّ هذه الآية ليس لها ارتباط بالقبلة مباشرة ولكن ارتباطها بأنّ الله لمّا ولى أمة محمد للقبلة وأراد لها أن تشّرف بالقبلة قال أنتم الخلفاء في الأرض , أنتم الذين تنالون شرف الأمانة أمانة الدين ولاشكّ أنّ هذا هو أعظم الشرف، والعجيب في الأمر وإن كان هذا والله أعلم موافقةً أوتوافقاً (كتابٌ أُحكمت آياته) هذه الآية جاءت في وسط سورة البقرة تماماً , سورة البقرة 286 آية , وسطها 143 والله أعلم ولعلّ ذلك له دلالة أشار إليه بعض المفسرّين , ولذلك قال الله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) ما قال الله هنا خلفاء , لماذا؟!
ليدلّ على أنّ هذه الأمة المحمدية وسط في الأمم , شرّفها الله بان تكون وسطاً في الدين , في كل التكاليف هي وسط , هي وسط بين التكاليف , بين اليهود في تشدّدهم وتشديد الله عليهم وبين اليهود في تساهلهم وتيسير الله عليهم فكانت أمةً وسطاً.
والوسط في اللغة: هو الخيار العدول , (قَالَ أَوْسَطُهُمْ ُ ) (1) ليس أوسطهم عمراً , (قَالَ أَوْسَطُهُمْ ُ) أي خيرهم وأعدلهم وأكملهم , فالمقصود هنا الكمال , الخيار , العدول , فهذه الأمة خير أمة , في سورة آل عمران قال الله في فضل هذه الأمة (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) (2) , فهذه الآية دالة على الخيرية ودالة على العدالة , والعدل هو الذي يستشهد وتُقبل شهادته هو العدل الثقة خير الناس , فلهذا نأخذ من هذه الآية أنّ مشروعية الشهادة خصوصاً في أمور الدين لمن كمُل إيمانه وعدالته وديانته.قال لله: (لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) لماذا هذه الأمة كانت شهيدة على الناس؟! لأنها آخر أمة , فهي أعلم بالأمم جميعاً , من كانت على الحق ومن كانت على الباطل , وهذا شرفٌ من الله لها، وهي شهيدة على الأمة في الدنيا وفي الآخرة , أمّا في الدنيا فهم شهداء على الناس في إقامة الدين وهذا تكليفٌ من الله عزوجل لهذه الأمة إلى أن تقوم بالدين , فالشهيد هو الذي يُبلغ كما قال الله:(إنا أرسلناك شاهداً ومُبشّراً ونذيراً) فالأمة هنا شاهدة على الأمم بإقامة الدين الصحيح ,الله - عز وجل - كلّفها ، وهذا نأخذ منه أنّنا مأمورون بتبليغ هذا الدين , ونحن شهود عليه بتبليغه لأّنه الحقّ الله - عز وجل - أكرمنا به , فلابدّ أن نبلّغ , نحن مأمورون أن نبلّغ الأمم بدين الله عزوجل يوم أن شرّفنا به وأكمل لنا الدين , فما أعظم هذه الآية . ثم أيضا هذه الآية دالة على أنّ أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - تشهد على الأمم يوم القيامة , تشهد على الأنبياء أنهم بلّغوا رسالة الله , وتشهد على الأمم لأنهم لم يكونوا على الدين الصحيح , أعظم من هذا شرف أنّ الله تعالى يُنصّبها للشهادة يوم القيامة على الأمم الأخرى والله إنّ هذا لهو الفضل العظيم , والخير والكرامة والشرف الكريم , (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) أي الرسول شهيداً عليكم بتبليغكم , وشهيداً عليكم بتمسّككم بالدين وقيامكم به حقّ القيام , في ذلك حقيقة توثيق لهذه الأمة أنكم مربوطون بهذا النبي فانظروا بماذا يعمل فاعملوا بما كان عليه (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) (3) فهو شهيد عليكم (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ) (4) فكونوا على ما كان عليه ,ثم اعلموا أنه يوم القيامة يشهد عليكم , لاشكّ أنّ هذا توثيق أيها الإخوة , لو قلت لشخص ولله المثل الأعلى ولكتابه , هذا الشخص ترى يتابعك شهيداً عليك , لاشكّ أنّك ستُراقب نفسك وأعمالك وستقوم بالأمر خير القيام , فالله عزوجل يقول أنّ الرسول يشهد عليكم إن كنتم على حقّ أو على باطل فاستقيموا كما أمركم الله .
ثم قال الله عزوجل: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) ما هذه القبلة؟!اختلف فيها المفسرون كاختلافهم في القبلة الأولى , إنّ هذه الآية واردة قبل قوله : (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) هذه آية التحويل لكن الآية التي قبلها واردة قبلها فأشكلت على بعض المفسرين , كيف تلك قبلها مع أنّ الآية التي فيها التوجيه (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) لكن الصحيح وهي لفتة مهمة أنّ الآيات السابقة نزلت بعد آية (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) والله أعلم لكن النبي وضعها في موضعها هذا لتهيئة المؤمنين ومحاجّة الكافرين والله أعلم .
ثم قال الله تعالى : (لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) لاشكّ أنّ تحويل القبلة أمره عظيم , تصوروا أننا نؤمر بتحويل القبلة لاشكّ أنّ هذا داعي لليهود , وهم الذين تُحوّل النبي عن قبلتهم ، ماذا تتوقعون أن يقولوا؟! لاشكّ أنهم سيستهزؤن ويسخرون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، ترك قبلته ، كأنهم يقولون هذا دين على حسب أهوائهم مرةً هنا ومرةً هناك , هذا لسان حالهم وقولهم كيف مرة تتجه لبيت المقدس ومرة للبيت الحرام , فالله تعالى قال: ( لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ) من هو صادق من المؤمنين في إتباع الرسول فيما ولاه الله عليه , لو قال لك الرسول وأمرك بأمر فهل أنت متبّع له أم لا؟! ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) هذا الصدق , فهو لاشكّ أنه ابتلاء للمؤمنين , لأن المنافقين سيسخرون بهم والكافرون سيسخرون بهم واليهود سيسخرون بهم , فهذا موضع الامتحان والابتلاء في هذه القبلة , فكانت هذه القبلة اشتملت أمرين , تشريف وتكليف وابتلاء ,تشريف بأنّ الله ولاهم قبلة إبراهيم , وتكليف بأنّها ستُلاقي بسبب هذا الابتلاء هذا النيل والاستهزاء والسخرية من هؤلاء المعارضين , قال الله: (وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ) يعني تحويل القبلة كبير أمره عظيم (إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ) إلا من كان إيمانه مستقرّ وهداهم الله لهذا الدين المستقيم وهم المؤمنون الصادقون المتبعون للنبي - صلى الله عليه وسلم - , أمّا المنافقين فكان في قلوبهم ريب , وبثّهم لذلك الشبه , وكذلك اليهود .
قال الله عزوجل: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) معنى هذه الآية أنّ الله تعالى لما حوّل القبلة من البيت المقدس إلى البيت الحرام , وكان من المؤمنين منهم عثمان بن مظعون وغيره من كان على بيت المقدس وتوفي , قال المنافقون الآن من المؤمنين من مات على غير الإسلام , ووقع في نفوس المؤمنين الصحابة ما حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟! هل كمُل إيمانهم؟! هل نقص؟! ما هي أعمالهم البيت عملوها وصلاتهم هل تقبّلها الله؟! كان ذلك سبيل للشيطان وسبيل لأولئك المنافقين واليهود في زعزعة قلوب المؤمنين , فانظروا الله عزوجل هنا يسدّ كل شبهة على المؤمنين حتى يكونوا مطمئنين بأمر الله عزوجل , ويكونوا على تمام اليقين بهذا الحكم , فما أعظم رعاية الله لهذه الأمة , قال الله: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) الإيمان المقصود به الصلاة , لكن لماذا عبّر عن الصلاة بالإيمان؟! للدلالة على أنّ الإيمان هو مناط القبول في الصلاة , وأنّ الله سيتقبّل من أؤلئك صلاتهم لإيمانهم وصدقهم في التوجّه , ليس المقصود التوجّه (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) فكأنّ الله يقول ما داموا ماتوا على الإيمان فإنّ الله سيتقبّل منهم كل شيء عملوه لله عزوجل مّما أمرهم الله فشملت الصلاة وغيرها , هذا من فضل الله عزوجل أنّ الله أجابهم بما أشكل عليهم وزيادة توضيحاً تحقيقاَ وبياناً تامّاً , وهذا يؤكدّ في هذه الآية أنّ الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان , لأنّ الله سمى الصلاة إيمان فلزم أن يشتمل الإيمان على هذه الأمور الثلاثة الاعتقاد والقول والعمل الذي منه الصلاة .(إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) لماذا ختم الله الآية بالرأفة والرحمة وما الفرق بينهما؟!


قالوا أنّ الرأفة أرقّ من الرحمة وهي عناية ورعاية في أمر شاقّ , وأنّ الرحمة عناية ورعاية في أمر فاضل ، بمعنى أنّ هؤلاء المؤمنين أصابهم بسبب تحويل القبلة مشقّة أليس كذلك؟! وهو استهزاء هؤلاء المنافقين فكانوا بحاجة إلى رأفة الله وعنايته , فالرأفة تكون لمن أصابه ضرّ أو أصابه مشقّة , والرحمة مقابل ما أكرمهم الله عزوجل بولاية البيت تشريفاً وتكرماً فهو رحمة , من رحمة الله أنّ الله أكرمهم بهذا البيت وهذه القبلة فانظروا إلى هذا الختام العجيب الدقيق للدلالة على رعاية الله للمؤمنين بحفظهم من كيد هؤلاء المنافقين والكافرين واليهود وردّ كيدهم -كيد اليهود- ورحمته بهم بأنّ ولاهم الله هذا البيت تشريفاً لهم وتكميلاً ورحمة منه سبحانه وتعالى وفضلا .

قول الله - عز وجل - : (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) 

هذه الآية وما بعدها واردة في الأمر الصريح باستقبال القبلة ، واردة في الأمر الصريح باستقبال البيت الحرام بعد التأكيد وتكرار الأمر والتهيئة إليه ، وبعد أن مهد الله لذلك بعدة ممهدات كما سبق أن ذكرنا قبل ذلك كما قال الله ( قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) أي له أن يولي من يشاء ما يشاء سبحانه وتعالى ، وقوله تعالى (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى ) وقوله تعالى (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ) وقوله (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ) وقوله (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ) كل ذلك تهيئة لهذه الأمة لأن تتلقى أمر الله عزوجل بالقبول والتسليم والانقياد التام والطمأنينة التامة في مواجهة ما يلاقونه من استهزاء وسخرية وكيد المنافقين واليهود ، ولذلك جاء الخطاب هنا للنبي مباشرة ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ) لاحظوا أن الله تعالى قال (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء) وهذا يدل على عناية الله عزوجل بنبيه محمدـ صلى الله عليه و سلم ـ كيف ذلك ؟ الله تعالى قال (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) نرى أنك تتطلع إلى ربك إلى أن يحولك من بيت المقدس إلى البيت الحرام ، فكان النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ بعد أن مهد الأمر وذكر إبراهيم ، وذكر بناء البيت ، وذكر إسماعيل وبناءه مع إبراهيم ، تطلع النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ إلى قبلة أبيه ، وقيل كان علم النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أنه من علم أهل الكتاب أنهم في كتبهم أن آخر نبي ستكون قبلته البيت الحرام ، وقيل أن الله تعالى أخبره أو جبريل ، على كل حال الروايات بهذا والأقوال مختلفة ، فقوله (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء) ولم يقل " قد نعلم " فهذا يدل على عناية ربانية بنبينا ـ صلى الله عليه و سلم ـ و يدل أيضا ً على كريم و عظيم أدب النبي صلى الله عليه و سلم مع ربه،كيف ذلك؟ تصورا يا إخواني ... النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يريد و يتطلع إلى أن يُحول إلى بيت الله الحرام ، لكنه لم يسأل ربه ، لماذا ؟ أدبا ً منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في أن يسأل ربه شيئا ً ، يخشى أن يكون كلفةً على نفسه أو على أمته عليه الصلاة و السلام ، و لهذا نهى ـ النبي صلى الله عليه و سلم ـ أمته و أصحابه أن يكثروا السؤال ، فلم يستعجل ـ عليه الصلاة و السلام ـ سؤال ربه , وإنما كان تطلعا وترقبا ً له ، و هذه هي عادته عليه الصلاة والسلام في جميع أمر التشريع ، لا يسأل ربه تشريع أمر من الأمور ، بل ينهى عن كثرة السؤال المؤدي لذلك خشية أن تعجز أمته أو تضعف عن القيام به فيكون أعظم حجة عليها ،وهذا من عظيم حكمته ورحمته بأمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

تأملوا أيها الأحبة ، قول الله ـ عز و جل ـ (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) التعبير في قوله " فلنولينك " ماذا يفيد؟

لم يقل لنصرفنك أو لنحولنك ، التولية تدل على ولاية وعناية ربانية من الله عز و جل بنبيه ، ( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) يعني بمعنى سنمنحك رعاية و كرما ً وشرفا ً قبلة ، أشرف قبلة ، فقوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ ) من الولاية و الرعاية التي تشمل التكريم و التشريف . وفي هذا إشعار بتولي هذه الأمة أمر البيت كله ، وتولي عهده وأنه سيكون هذا البيت قبلتهم دون غيرهم أو مِمَنْ تبعهم ، وفيه أيضا ً بشارة بقرب زوال أمر قريش ، لأنه إذا تولى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر البيت ويدخل في ولايته رعايته فإن ذلك مؤذنٌ بقرب زوال أمر قريش وهو بشرى من الله لنبيه .

ثم تأملوا قال الله - عز وجل - ( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) لم يقل هنا " تهواها أو تحبها " أو نحو ذلك ، قال ( تَرْضَاهَا ) و ما معنى ترضاها؟
الرضا : رغبة ومحبة ناشئة عن تعقل ، يعني رضيت بالشيء ، أي بعد أن عرفت أنه هو المصلحة التامة وهو الذي يناسب حالي ، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رأى الأمر وأن ذلك قبلة أبيه إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - أبواه فرضي أن تكون تلك القبلة هي قبلة أمته ، فقال الله عز و جل (تَرْضَاهَا) و لم يقل " تهواها أو تحبها " ، فما أعظم هذا التعبير .

ثم قال الله عز و جل ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) فخص الأمر ابتداء إليه عليه الصلاة والسلام ، لماذا ؟ لأنه هو المبلغ ، وهو النبي الكريم عليه الصلاة و السلام ، فهو الأصل في التبليغ وأمته متبلغة عنه ، أو متبعة له في ذلك الأمر .

قال ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) في هذه الآية نأخذ عدة أحكام ، وقبل هذه الأحكام ، نلحظ أن الله قال ( فَوَلِّ وَجْهَكَ ) وهذا نأخذ منه حكما ً ، وهو لزوم تولي الإنسان وجهه إلى القبلة ، وعدم جواز الالتفات في الصلاة وقد جاءت السنة بذلك وإن كانت السنة جاءت بذلك بعد فترة من فرض الصلاة فهذا دليل يمكن أن نستنبطه من هذه الآية .
قوله (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) ولم يقل " عين المسجد الحرام " ، ماذا يدل عليه ؟ يدل على أن الواجب في الاستقبال جهة القبلة لمن لم يكن معاينا لها والآية نزلت في المدينة والمدينة لا يمكن معاينة الكعبة فيها ، فقال هنا (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) والشطر هو الجهة كأنه قال" فولِ وجهك جهة القبلة "، فيؤخذ من هذا حكم وهو لزوم استقبال جهة القبلة ، لا عين القبلة لمن لم يكن معاين لها ، و قد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (5) (ما بين المشرق والمغرب قبلة ) أي في المدينة ، يعني الجهة ما بين المشرق والمغرب كل هذا الاتجاه قبلة لأهل المدينة بين المشرق والمغرب ، أما نحن فما بين الشمال والجنوب من جهة الغرب فلو مال الإنسان قليلا ً غير عامد فلا بأس ولا حرج عليه ، ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة و السلام ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) ، وهذه رحمة من الله وإلا لو أمرنا تعيينا باتجاه القبلة بالتوجه لعين القبلة لشق ذلك مع أنه في هذا الوقت بالذات في هذا الزمن يمكن للإنسان أن يعاين عين الكعبة ، كيف ذلك ؟هذه الأجهزة المتطورة التي توصلك إلى النقطة الدقيقة في التوجه لجهة الكعبة نفسها ، فـلكن لا نلزم الناس بأن يأخذوا بهذه الآلة ، لا يمكن للمصلي أن يأخذ هذا الجهاز فيتوجه به نحو القبلة و نحو ذلك ، لكن من استطاع ذلك لا شك أنه أولى وأكمل.


لاحظوا أن الله تعالى قال ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) ولم يقل شطر البيت لماذا ؟لأن الأمر متعلق بالصلاة فسماه مسجدا ، فلما كان متعلق بالصلاة قال المسجد الحرام ، ثم أيضا أن هذا الإطلاق دال على أن أول ما أطلق لفظ المسجد الحرام في الإسلام ، أول ما أطلق لفظ المسجد الحرام (المسجد الحرام ) بهذا الاسم في الإسلام ، فهو دال على شرف الأمة في تسميته بهذه التسمية .

ثم قال الله - عز وجل - ( وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ) بعد أن خص النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ بالأمر ، عممه للأمة ليتعين أمرها و إلا فإن أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كاف ٍ ، لكن لما أن الأمر متعلق بالقبلة والقبلة أمرها عظيم في الإسلام ، وهي أصل في الدين ولذلك سمي أهل الإسلام أهل القبلة ، أكد الله عليه بتأكيدات كثيرة في هذه الآيات كما سيأتي .
ثم قال الله - عز و جل - مخبرا ً عن حال أهل الكتاب قال (و َإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) كيف علم أهل الكتاب أنه الحق من ربهم ؟ علموا ذلك بما في كتبهم ولذلك قال (أُوْتُواْ الْكِتَابَ) ولم يقل وإن أهل الكتاب أو وإن اليهود أو بني إسرائيل ، قال (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ ) ، أي أن في كتبهم ما يدل على أن هذا النبي ستكون قبلته البيت الحرام و قد ورد في بعض الروايات أن النبي في آخر الزمان ستكون قبلته البيت الحرام ، يعلمون ذلك في كتبهم لكنهم كتموه .
( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) عما تعملون وفي قراءة يعملون ، عما تعملون أنتم أيها الأمة في اتباع أمر الله لكم , وعما يعملون هم في مخالفتهم وفي كتمانهم ، فانظر إلى أمر القراءات كيف دلت على هذين المعنيين.
ثم قال الله : ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ) هذه الآية واردة في تأكيد عدم متابعة أهل الكتاب للنبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أنهم لا يمكن أن يتبعونك ، لأنهم لو تبعوك تبعوك في الأصل على دينك وملتك ، كيف وقد كفروا بالله من قبل ، كفروا بأنبيائهم ، فكيف يؤمنون بك ، فالله تعالى آنس نبيه عليه الصلاة والسلام وطمأنه وسلاه لئلا يضيق صدره وصدر المؤمنين ، قال ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ) فهذا دليل على المفاصلة ، و لهذا قال بعدها ( وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ) لا يمكن لك يا محمد أيها الرجال أن تتبع قبلتهم بعد ذلك ، هذا دليل على ثبوت أمر القبلة إلى قيام الساعة ، يعني التوجه للكعبة . 


ثم قال الله تعالى (ومَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ) يعني مما يدل ويؤكد على أنهم لن يتبعوك ، أن بعض أهل الكتاب لا يمكن أن يتبعوا قبلة بعض ، يعني اليهود لن يتبعوا قبلة النصارى ولا النصارى يتبعون قبلة اليهود فكيف بقبلتك يا محمد ؟!.

ثم قال الله عز و جل (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) هذا الخطاب للنبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ لاحظ قال الله (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) خطاب شديد و عظيم فيه توعد ولكن الخطاب ليس للنبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ بذاته ، إنما لما كان الأمر عظيما ً و متعلقا ً بإتباع أهل الكتاب شدد الله تعالى فيه و خاطب فيه نبيه ـ صلى الله عليه و سلم ـ كما قلت لكم في قاعدة من قواعد القرآن أن الخطاب إذا كان عظيما ً ، يتوجه ابتداءً للنبي صلى الله عليه و سلم ، ليعظم أمر هذا الخطاب وليتبعه أمة محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ بعده ، وكما قال الله ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ )(6) هذا ليس مقصود به ذات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما المقصود به ذات الأمر ، وهو عظم الشرك وعظم أمره وعظم من اقترفه ، فلاحظوا هذا الملحظ العظيم العجيب الدقيق ، في كتاب الله تلحظونه في كثير من الآيات التي وُجه الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم ، تحذيراً ولا يمكن وقوعه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو المعصوم .
ولهذا بعد أن نزلت هذه الآية وبعد أن حول الله تعالى القبلة إلى البيت الحرام ، كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتقصد مخالفة أهل الكتاب بعد ذلك ، فإذا رآهم على أمر خالفهم عليه ، حتى قالوا ما بال محمد ما أن يرانا على أمر إلا خالفنا عليه ، بعد القبلة كانت هناك مفاصلة مع اليهود لأنهم دعوا وبأساليب مختلفة من أول السورة كما ذكرت لكم ، ثم هيأهم الله ـ عز وجل ـ في الدعوة أو أدخلهم في الدعوة في القبلة لكن القبلة لما كانت فيها تحويل عن قبلتهم تمت المفاصلة ، فكان النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ يخالفهم مخالفة ً تامة و هذا يؤكد لنا عِظم أمر وتشريع مخالفة اليهود ، و أن ذلك أمر متأكد في أمة الإسلام ، يخالفون أهل الكتاب وما حكمة قول الله في سورة الكافرون (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2) ) إلا المخالفة التامة و يدخل في ذلك أهل الكتاب ، لهذا حذر النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أمته من اتباعهم (7) ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ) إنما قال ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحذيراً لأمته من اتباعهم وإنك حين ترى الواقع ترى و للأسف الشديد مخالفة أمة الإسلام فيما رسم لها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من منهج في مخالفة أهل الكتاب ، و كيف نرى اليوم تبعية أمة الإسلام للغرب ، و كيف تأثرهم و توجههم إليهم في أمورهم العظمى قضاياهم الكبرى يتوجهون فيها إلى الكافرين أو إلى الغرب ، و لا شك أن هذا مخالفة لله ورسوله ومخالفة للمنهج النبوي وهذا الذي جعل الأمة اليوم يا إخواني في منزلة من الضعف والذلة عند أهل الكتاب.

ثم قال الله - عز وجل - : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُون ) 
هذا يفيد أن الكفار يعرفون محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما أتى به ويدخل في ذلك أمر القبلة لأن المفسرين اختلفوا في هذه الآية ، "يعرفون" من الذي يعرفون ؟ هل هم يعرفون أمر القبلة ، أو يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يعرفون القرآن ؟

 الظاهر -والله تعالى أعلم- أن المقصود به هنا النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به لماذا ؟

لأنه قال في سياق الآية ( كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ ) فشبهه بأبنائهم يعني الإنسان لا يشك في ولده ، وهو يعلم أنه ولده لا يمكن أن يشك فيه يعرفه ، إذا جاء ولده فأعرف الناس به أبوه ، فلذلك هم أهل الكتاب يعرفون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه نبي وأنه صادق وما جاء به صدق ومن ذلك القبلة لأنه في كتبهم ، وصفه في كتبهم واضح ، هم أعرف من العرب ، هم أعرف بالنبي من العرب ، فلذلك قال يعرفون ولهذا قال (وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ ) الحق الذي في كتبهم (وَهُمْ يَعْلَمُون ) .
ثم قال الله ـ عز وجل ـ كلمة فيها الفصل وفيها إثبات الأمر حتى يستقر الأمر في نفوس المؤمنين لا يتزعزعون في أمر القبلة لأن وقت التحول مثل ما يقال وقت الأزمة الناس يموجون فيها بالكلام والأخذ والعطاء وأصحاب الشُّبه يقولون شبههم والمنافقون كذلك واليهود كذلك فالله تعالى أراد أن يرسخ في قلوب المؤمنين أن هذا هو الحق ، وأن هذه القبلة هي قبلتكم ولا شك فيها .

قال الله (الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) الخطاب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكنه متوجه لأمته فلهذا قال ( فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) أي الشاكين في أي أنواع الشك ، لأن الامتراء أدق من الشك فالله تعالى أراد أن يرسخ في نفوس المؤمنين هذا الحق حتى يعبدونه على بصيرة فلا يكون الشيطان يدخل عليهم فيه مدخل.
ثم قال الله تعالى (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) ما مناسبة هذه الآية ؟ ما علاقتها ؟
يعني تتابع الآيات ماذا تفيد هذه الآية (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) يعني أن كل أمه لها قبلة ، اليهود لهم قبلة ، والنصارى لهم قبلة وأنتم يا أمة الإسلام لكم قبلتكم فاغتنموا هذه النعمة وهذه الهبة الربانية لكم ، فاستبقوا الخيرات واتركوهم وأعرضوا عنهم كأن الله تعالى أراد أن يصرف الناس عن الكلام -أي المؤمنين - عن الخوض في هذا الكلام ، و أن يدخلوا فيه بجدال مع أهل الكتاب إن هذه قبلتنا حق أو قبلتكم باطل ، أراد أن يقطع هذا الكلام و يقول (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) أي أنتم لستم مسؤولون عنهم اتركوهم إن كانوا يريدون الحق عرفوه أما أنتم فاستبقوا الخيرات واغتنموا هذه القبلة التي شرفكم الله بها وصلّوا إليها واحرصوا على ذلك واستمسكوا به ، لكن هنا سؤال:

 لماذا قال " فاستبقوا الخيرات " ولم يقل " استبقوا توجه القبلة " ؟ليعم ذلك جميع الأعمال لأن القبلة أصل فيتبعه كل عمل صالح فكأن الله تعالى من رحمته ورعايته وحرصه ورحمته بهذه الأمة سبحانه وتعالى أمرها بالاستباق للخيرات كأنه قال اسبقوهم إلى الخير لتكون أنتم السابقون الأولون يوم القيامة فما أعظم هذه الرعاية الربانية الكريمة بعد أن أمرهم بالقبلة أمرهم باستباق الخيرات والتوجه إليه كاملا في جميع أعمالهم .

/ ثم قال الله (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) لعلنا نشنف أذاننا في سماع الآيات :( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ (152) )لاحظوا تأملوا الآيات لعلكم تتأملون وتتدبرون معي في المصحف ، لاحظوا أنه جاء الأمر بالتوجه في الآيات ثلاث مرات - كما ذكرت لكم من قبل - ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) وهنا قال (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ، ثم قال (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) فما فائدة هذه الإعادة وهذا التكرار ؟قلت لكم أن الإعادة والتكرار في القرآن للشيء دليل على عِظم الأمر الذي ورد فيه ، وأنه أمر تحتاج النفوس إلى هزّ أكثر من مرة والـتأكيد أكثر من مرة حتى يرسخ في نفوسها عظمه، النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما جاءه الوحي أول مرة كيف جاءه ؟ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، هزه ثم تركه ، قال اقرأ قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أنا بقارئ ، ثم أخذه مرة أخرى فغطه حتى بلغ منه الجهد ، ثم الثالثة ، لماذا ؟ ليستعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استعدادا تاما في جميع حواسه وإدراكاته لهذا الأمر العظيم الذي نزل عليه من السماء فليس الأمر بالهين (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (8) فإدراك الإنسان لا يكون إلا حينما يهتز ويهزه الإنسان ، فلذلك المعلم إذا أراد أن ينبه الطالب أو الطفل ربما يهزه انتبه!، أو خشيت على إنسان من شيء انتبه! ، تؤكد عليه مرة أو مرتين أو ثلاثة ، وهذا سر التكرار في القرآن والله أعلم ، لاحظ في سورة الرحمن كيف ورد (فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) (9) تأكيد ثم تأكيد ثلاثين مرة ، وأيضا في آية الدّين كرر لفظ الكتابة في وجه واحد عشر مرات ، لأهمية الكتابة في الإسلام حتى يتعلمون الدّين ويكتبونه بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتعلمون الكتابة مع أنه أمرهم بالكتابة في شأن مدايناتهم لكنهم إذا تعلموا كتابة المداينات سيكون منهم ناس يكتبون شريعة الله ودينه ، هنا قلت لكم أن هذا من باب التأكيد ، وأيضا فيه معاني يمكننا أن نقتبسها :
أولًا : أن الأمر بالتوجه ابتداءً، الأمر الأول الأمر ابتداءً بالتوجه


والثاني: لإثبات أنه الحق ، ولهذا قرنه بقوله (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ) لاحظ الأمر الأول لأنه أول الأمر متوجه إلى الابتداء ثم الثاني لإثبات أنه الحق ثم الثالث ماذا؟ لاحظوا اقترن بقوله (لئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) يعني هو أمر قطعا لحجة المعارضين ، فانظروا هذا الترتيب وهذا التأكيد المقترن بالقرينة في السياق .

قال الله ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ....) من هم الناس ؟الظالمون الكافرون ، اليهود والمنافقون والمشركون لئلا يكون لهم عليكم حجة بعد ذلك بعد هذا البيان التام لا حجة لأحد لأن الله بينه بيان تام ، قال ( إلا الذين ظلموا منهم ) يعني إلا الذين ظلموا وخرجوا عن أمر الله - عز وجل - وجاءوا بأمر من عندهم وكذبوا أمر الله ، قال الله بعد ذلك هؤلاء (فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) لا عليكم منهم ، ليس عليكم منهم ضرر ولا تخشوهم ، وفي هذه الآية دليل على حفظ الله ومدافعته للمؤمنين بعد إقامة الدين (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا )(10) ، فهذه الآية فيها دليل على أن الله يدافع عن هذا الدين إلى يوم القيامة ، كما قال الله (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (11) ، فهذا الدين محفوظ بحفظ الله له قام به من قام وارتد عنه من ارتد ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) (12) فالدين قائم ، لكن من ينصره فهو الموفق المهدى إلى الطريق الصحيح.
ثم قال الله ـ عز وجل ـ : (وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ) نعمة الدين، (وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) يعني (وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ) بأن حوّلكم للقبلة وأتم نعمتي عليكم بعد ذلك بالشرائع وهذه الجملة فيها اشارة للتشريعات التي ستنزل بعد تحويل القبلة ، يعني كأن الله يشعر هذه الأمة ان الله يوم أنعم عليها بالقبلة سينعم عليها بالتشريع كله ، ولهذا جاءت التشريعات بعد هذه الآية وفي السورة كلها ، انظروا إلى هذا الملحظ الدقيق في هذه الآية.

(ولعلكم تهتدون) أي أن الله أراد هدايتكم ، فهدايتكم حاصلة بتحويل القبلة ، وهدايتكم حاصلة بإتمام نعمة الله عليكم بهذا التشريع الذي سيُشرِّعه لكم .

ألا تلحظون أن هذا مشوق للتشريع ، يعني كأنه أراد -والله تعالى أعلم- يشوقهم للتشريع ، فإذا كانوا متشوقين لأمر لا شك أنهم يتلقوه بالقبول ، فانظر إلى رعاية الله وإعداد الله لأمة الإسلام لأن تتلقى التشريع وهذا ما قلنا لكم أكثر من مرة محور السورة عليه، إعداد الأمة لتلقي التشريع ، لا شك أخي الكريم أنك حين تقول لابنك - ولله ولكتابه المثل الأعلى - سأعطيك هدية تسعد بها ، أو سأمنحك شي ستكون به سعيدا، أترى هذا الطفل أو هذا الابن أو هذا الموظف حين يقول له رئيسه سأكلفك بأمر هو حقيقة فيه عز لك وشرف وفيه صدارة ، سينتظر هذا الخبر وسينتظر هذا الأمر وسيكون بشوق عظيم ، فكذلك الله ـ عز وجل ـ يشوقنا بأن هذا التشريع من تمام نعمته علينا ، ولهذا قال في سورة الفاتحة (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ) (13) أنعمت عليهم بالدين فتمّ ذلك ، ثم قال الله (ولعلكم تهتدون ) أي أن الله أراد لنا الهداية وهذه من كمال نعمة الله علينا ، أراد لهذه الأمة الهداية التامة وهذا معنى قوله اهدنا الصراط المستقيم الذي نسأل الله تعالى دائما في كل صلاتنا هذا السؤال العظيم .

ثم قال الله تعالى (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ ) الكاف هنا متعلقة بماذا ؟
هذه اختلف فيها المفسرون ، كما أرسلنا ماذا ؟ يعني هديناكم كما أرسلنا ، أنعمنا عليكم كما أرسلنا أو حولناكم إلى القبلة كما أرسلنا ! الظاهر ـ والله تعالى أعلم ـ كأن الله تعالى يقول : أتممت عليكم نعمتي بمنحكم هذه القبلة التي هي خير قبلة كما أرسلنا فيكم خير رسول ، لاحظوا المعنى الدقيق العظيم ، أتممت عليكم بأن منحتكم خير قبلة كما أرسلنا فيكم خير رسول ، فاغتبطوا بهاتين النعمتين ، واستمسكوا بهما وعضوا عليهما بالنواجذ ، ولهذا قال في مهنة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمته (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) .
هنا سؤال هو قال هنا (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ ) في الآيات السابقة في قصة إبراهيم قال (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) (14) هنا قال (يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ) قدم التزكية ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ما الفرق بين الموضعين ؟

الفرق بين الموضعين هو أن الحديث هناك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً) فوظائف الرسول بالترتيب ، تلاوة وتعليم وتزكية ، هذه وظائف الرسول ، هذه الأصل في التعليم ، هنا الحديث عن الأمة وما منّ الله تعالى عليها في رعايتها وإكمال الدين لها فقال : يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم فلا شك أن التزكية أحق بالأمة أو في نتيجتها هي راجعة للأمة أكثر من التعليم ، لأنها هي النتيجة التي ترجع للأمة هي الثمرة المرجوة للأمة . حينما الإنسان يتعلم العلم لماذا ؟ ليزداد به إيمانا وتزكية وعملا ، وهذا يا إخواني نأخذ منه درسا عظيما وفائدة جليلة دقيقة ؛ هي أن العلم إذا لم يورث العمل لا خير فيه، وأن الاصل في العلم والتعليم هو الأصل في التربية والتزكية، نحن نقيم هذه المدارس لتزكية أبنائنا لا لملئ عقولهم بالمعلومات ، إذا كان هدف المدرس ملئ عقول الأبناء بالمعلومات فوالله لن يتربوا ، ونحن أيضا في دروسنا هنا وفي بيوتنا إذا كان المقصد أن ترسخ في عقول أبنائنا معلومات كثيرة فليس هذا تربية ، القصد هو التزكية ، ومما يدل أيضا هنا من الفوائد أن أقرب طريق للتزكية هو تلاوة القرآن ( يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ ) فأعظم ما يزكي النفوس كتاب الله ، (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) ، فلا شك أن أعظم ما يزكي هو التلاوة ، ولكن التلاوة المقصودة هنا التلاوة المتدبرة التي يعرف القارئ فيها مراد الله ، ماذا يريد الله منه فيتبعه .

ثم قال الله : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) وقد ذكرنا أن الكتاب هو القرآن وما فيه من تشريعات والحكمة هي السنة التي هي مبينة للقرآن ، ثم قال: ( وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) ما المقصود (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) ؟
هذه فيها إعجاز قرآني ، وهو أن الله وعد الأمة بأن يفتح لها العلم والعلوم، قال ويعلمكم ما لم تعلمون الآن فكل من قرأها سيعلمه الله علما جديدا ، ولا زال العرب منذ إنزال هذا القرآن يتعلمون علوم جديدة ، حتى بعد أن توفي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكم تعلم الصحابة من العلوم ؟ لا شك واليوم قد انفجرت العلوم ، وانفتحت الدنيا على مصراعيها بعلومها حتى سبق أهل هذا الزمن من قبلهم في علوم الفلك (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (15) هذا معنى ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ، أي من أخذ هذا القرآن حقا وتعلمه وتزكى به فإن الله سيفتح له آفاق العلم ، لأن هذا القرآن يا إخواني كل شيء فيه كل العلوم فيه، ما في اكتشاف يا إخواني اليوم اكتشفوه وأصبح حقيقة إلا وقد أشار القرآن إليه ، سبحان الله ، ما أعظم هذا القرآن ، ما فرطنا في الكتاب من شيء، تبياناً لكل شيء ، فما أعظم هذا القرآن لو أخذناه ليكون مصدرا لنا في علمنا  ولهذا قال الله تعالى في آية الدين (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ ) (16) أي أنكم إذا أخذتم هذا القرآن وهذا الدين واستمسكتم به فإن الله سيفتح لكم آفاق العلم كله .
ثم قال الله تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) فهنا ما مناسبتها ؟

مناسبتها أنك بعد أن يبين الله لك هذا البيان ويمنحك هذه القبلة خير قبلة ويمنحك هذا الرسول الذي هو خير الرسل يشرع لك أن تذكر الله ، وأن تشكره حق شكره على هذه النعمة ، يعني أن تغتبطوا ، يعني كأن الله ـ عز وجل ـ قال اغتبطوا بهذه النعم واشكروا الله عليها ومنحكم نعما لم يمنحها أحد قبلا ، ولهذا قال فاذكروني أذكركم ، اعرفوا قدري وفضلي أعرف ما لكم من الجزاء وأزيدكم من فضلي ، فما أعظم اتباع هذه الآية بعد الآيات السابقة ، ولهذا قال " اشكروا لي " ولم يقل اشكروني ، اشكروا لي يعني بالعمل ، فرق بين اشكروني واشكروا لي ، كلاهما دالان لكن هنا عبّر بقوله (لي) للإشارة إلى العمل ، اشكروا لي بالتمسك بهذا الدين وباتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
نسأل الله التوفيق لنا ولكم والتحقيق للعبودية التامة وصلى الله وسلم على نبينا محمد. 
--------------------------------------------
(1) القلم28
(2) آل عمران110
(3) الأحزاب21
(4) الأحزاب 45
(5) أخرجه الترمذي في باب مَا جَاءَ أَنَّ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌوابن ماجة في باب الْقِبْلَةِوالنسائي في باب ذِكْرِ الاِخْتِلاَفِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِى يَعْقُوبَ فِى حَدِيثِ أَبِى أُمَامَةَ فِى فَضْلِ الصَّائِمِ )
(6) الزمر65
(7) أخرجه البخاري في صحيحه باب قَوْلِ النَّبِىِّ - - « لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ )
(8) المزمل5
(9) الرحمن
(10) الحج38
(11) الصف8
(12) المائدة54
(13) الفاتحة7
(14) البقرة129
(15) فصلت53
(16) البقرة282
------------------------
مصدر التفريغ ملتقى أهل التفسير / (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق