الجمعة، 9 سبتمبر 2011

تفسير سورة المدثر من محاسن التأويل



الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد ألاّ إله إلا الله وحده لا شريك له ، شعار ودثار أهل التقوى وأشهد أن محمدا سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :

السورة التي سنشرع في تفسيرها في هذا المقام هي سورة المدثر ، ويظهر جليا أننا نتتبع قضية أول ما أُنزل وإن كنا لا نملِك دليلا قطعيا يُرتب أوائل ما أُنزل من حيث التفصيل لكن نتكلم فيه من حيث الجملة ،وسورة المدثر سورة مكية بالاتفاق ولا يثعلم لها اسم آخر إنما لها اسم توقيفي واحد وهي سورة المدثر وهذا موجود في المصاحف التي بين أيدينا ولا يُعلم فيها خلاف .
/ قال الله - جل وعلا - في أولها مستفتحا هذه السورة المباركة ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ ) المدثر نبينا صلى الله عليه وسلم ، وهذا مناداة له بوصف حاله عليه الصلاة والسلام ، وكنا قد قلنا في اللقاء الماضي عند حديثنا عن قول الله - جل وعلا - ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) وذكرنا قضية أنه نزل عليه الصلاة والسلام من الجبل يرجُف فؤاده وصل إلى خديجة ، خديجة - رضي الله عنها وأرضاها - منّ الله عليها بالعقل والروية والحكمة ولأمرما جعلها الله زوجة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - رغم أن سِنها أكبر منه لكن الله ادخرها لمرحلة وفترة عصيبة في عمر الدعوة قامت بها - رضي الله عنها وأرضاها - بها على أكمل وجه . فلما قدِمت عليه ذكرته بصنيعه عندها ، والإنسان قد يُظهر للناس شخصية غير شخصيته
لكن خلطاءه ، خواص أصحابه ، أهله ، أصحابه ، أبناءه ، طلابه ، لا يخفى عليهم كثيرا من شخصيته ، فإذا كان الإنسان كاملا أو شبه كامل أو عظيما في نظر أبنائه ، في نظر زوجته ، في نظر قرابته ، في نظر خواص طلابه ، في نظر خواص رفقائه فهذا من أعظم دلالات العظمة لأن هؤلاء يرونه على عظمته فخديجة ترى النبي - صلى الله عليه وسلم - على حقيقته فلما جاء يفاجئها بأن ملكا أُنزل عليه وألقى عليه وحيا ولِما تعرفه من خصيصة أحواله واطلاعها على أسراره جعلها تقبل الأمر بكل رضى لأنها على علم بأن هذا الرجل الذي هو الآن بعلُها أهل لأن يكون نبي هذه الأمة فأيدته وقالت إنك لتحمل الكَل وتعين على نوائب الحق وتُقري الضيف ، وأخذت تُعدد مآثره ومناقبه قبل أن يُبعث صلوات الله وسلامه عليه ، بل إنهم قالوا فيما نقله ابن اسحاق بسند مرسل - يعني فيه انقطاع - وهو من أعجب ما يُنقل ، قالوا إن من وسائل التثبيت التي ادخرتها خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم في مرحلة ما من مراحل الدعوة تريد أن تثبته قالت له ياابن عم إذا جاءك هذا الملَك فاخبرني ، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل قال لخديجة ، قال إنني أراه فقالت يا ابن عم اجلس هاهنا - على فخذها الأيمن ثم قالت له يا ابن عم أتراه ؟ قال : نعم ، قالت يا ابن عم تحول ، تعال على فخذي الأيسر أتراه ؟ قال : نعم ، قالت : يا ابن عم تحول ، تعال في حجري ، فجلس فقالت : يا ابن عم تراه ؟ قال : نعم ، فنزعت خمارها وحسرت عن شعر رأسها ثم قالت : يا ابن عم أتراه ؟ قال : لا ، قالت : يا ابن عم اثبت فوالله إنه لملَك وليس بشيطان " هذا نُقل بعدة طرائق لكن قلنا إن الطرائق التي نُقل عنها فيها انقطاع . موضع الشاهد منه : هذا لا يبعُد وقوعه لِما عُرف من رجاحة عقلها - رضي الله عنها وأرضاها - وهي المرأة الوحيدة التي بلّغها الله السلام بواسطة جبريل ، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له جبريل : هذه خديجة فإذا أتتك فأقرئها السلام من ربها ومني السلام . ورغم أنهم في أول الإسلام ولم ينتشر بعد الفقه والدعوة والعلم لكنها قالت : " وعليك وعلى جبريل السلام " ولم تقل وعلى الله السلام لأن الله هو السلام ، فهذا إذا علمته تلك المرأة في المراحل الأولى من الدعوة هذا برهان على عظيم عقلها ورفيع قدرها .
هذا المدثر هو نبينا - صلى الله عليه وسلم - .
/ الثياب قسمان : شعار ودِثار ، فما يُلبس ويكون ملاصق للجسد يُسمى شِعارا ، وما يُلبس فوق الثوب الملامس للجسد يُسمى دِثار ، وعليه الصلاة والسلام لما دخل على خديجة قال : دثروني ، دثروني ، وقطعا كان عليه ثياب ودثرته خديجة بأن أعطته أغطية ، ثياب أُخر يتغطى بها فأصبح ما أعطته خديجة هو دِثارا وليس شعارا لأن الشعار كان عليه - صلوات الله وسلامه عليه - وأصل المدّثر : المتدثر من الفعل تدثر لكنها أُدغمت لقُرب المخارج فلما أصبح - عليه الصلاة والسلام على هذه الحالة ناداه ربه بالحال والوصف الذي هو عليه ، فناداه نداء مُلاطفة ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) .
/ ( قُمْ فَأَنذِرْ ) قم من مضجعك فأنذر قومك في المقام الأول ولم يقل فبشر لماذا ؟ لأن الناس كانوا على معاصي هم في حاجة إلى النذارة أكثر من حاجتهم إلى البشارة فقال الله - جل وعلا - (قُمْ فَأَنذِرْ ) ، وكونه - عليه الصلاة والسلام سيصبح نذيرا للعالمين هذه مهمة صعبة فأوصاه الله - جل وعلا - بوصايا خمس ، قال له : ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) هذه الوصايا الخمس سندرسها علميا.
/ المعنى بقول الله - جل وعلا - (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) أي تعظيم الله وليس المقصود فقط قول كلمة " الله أكبر " لأن الصلاة لم تكن قد فُرضت بعد وإنما الآن تهيئة هذا النذير والبشير - عليه الصلاة والسلام - فتعظيم الله تبارك وتعالى الممهد له أصلا بأنه - عليه الصلاة والسلام - كان على جبل حراء يترفع عن الدنيا وعن أهلها ولا يدخل في سفسافها ، هذا جاءه الأمر الآن صريحا (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) أي عظمه وأجلّه ، وكلما عظُم الله في قلبك عرفت قدر المخلوقين ومن أعظم ما يُعينك على الطاعة ، يُذهب بك عن المعصية ويجعلك صبورا على طاعة الله علمك بعظمة الجبار جلّ جلاله . ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) وقد جاء في آخر سورة الإسراء (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ) وتسمى هذه الآية التي في الإسراء آية العِز. موضع الشاهد هذه أولى الوصايا : تعظيم الله .

/ ثم قال له ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) واختلف أهل العلم كثيرا في قضية الثياب ، قال قوم : إنه القلب ، وقال قوم : إنها الثياب المعهودة ، والصواب أن يُقال : أن المقصود بها كل ذلك ، طهارته - صلى الله عليه وسلم - حِسا ومعنى . والعرب تستخدم هذا : مضى طاهر الأثواب لم تبقَ روضة *** غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
والمقصود مضى طاهر الأثواب أي حسن السيرة جميل الأخلاق محمود الخصال وقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - كذلك . فأمره الله - جل وعلا - بأن يبتعد عن المعايب والمناقص ، وهذا الأمر للتأكيد فقط وإلا الله - جل وعلا - قد هيأه وأعده لذلك لكن أنت المتبع لهدي محمد - صلى الله عليه وسلم - إن رُمت أمرا صعبا ورُمت الإمامة في مسجد أو الخطابة في حي أو الدعوة إلى الله أو الشروع في طريق العلماء يجب أن تكون محمود الخصال ، كريم الأخلاق ، تنأى بنفسك عن مواطن الرذائل ولو كانت مباحة حتى لا تقع في دائر الشبهات فإن الناس تذُم بالحق وبالباطل ، ومن دعا الناس إلى ذمه ذموه بالحق وبالباطل .
/ (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) الرُجز المعاصي والمقصود في هجرانها توخي الحذر من غضب الله - جل وعلا - والبُعد عن غضب الله تبارك وتعالى لا يكون إلا بالبعد عن معاصيه لأن المعاصي هي أسباب النِقم ، قال الله - جل وعلا - ( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) في قضية موسى وفرعون .
/ (وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ) هذه قد نُنيخ المطايا قليلا :
من طرائق الهِبات أن الإنسا أحيانا قد يُعطي عطية رجاء أن يُكافأ أعلى منها ، طريق استثمارية في المال ، ويبلغكم أن بعض الناس يأتون الأمراء وبعض الوجهاء يعطونهم هدايا رغبة في أن هذا الأمير أو هذا الوجيه يُكافؤ المُهدِي بأكثر منها . هذا النبي مُعدّ لشأن عظيم أي شائبة يبنبغي أن يكون بعيدا عنها ، فهذا وإن كان هذا الشأن مباحا للأمة إلا أنه لا يجوز في حقه - صلى الله عليه وسلم - .
وإذا أردت أن تكون عظيما بحق لاتجعل لأحد من الخلق عليك منّة خاصّة في قضايا المال فالناس ثلاثة: رجل أحسنت إليه فأنت أميره ، وإن هو أحسن إليك أصبحت أسيره ، وإن لم تُحسن إليه ولم يُحسن إليك فأنت وهو نُظراء ، أي كل منكما نظير للآخر .
هذا النبي مُعدّ إلى أن يفيء الناس إلى رشده وعقله وحلمه وكرمه فلا يحسن أن يكون أحد من الخلق عليه منة ، هنا تتأمل جيدا لماذا عاش النبي - صلى الله عليه وسلم - يتيم الأبوين لم يُدرك أبوه ولا أمه بعثته - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يكون لهما حق عليه لأن حق الأبوة واجب حتى لو كان كافرا ، وحق الأمومة واجب حتى لو كانت كافرة ، فماتا قبل أن يُبعث ، مات أبوه وهو حمل وماتت أمه وهو ابن ست سنوات فانتفى بذلك إيجاب حق عليه - صلى الله عليه وسلم - لأن للوالدين حق أن الله جعلهما سببا في إيجادك فلما ماتا انتفى السبب الذي به تكون الولاية لهما فأصبح - صلى الله عليه وسلم - يمشي على الأرض ليس لأحد عليه فضل إلا ربه تبارك وتعالى .
قد يأتي دور أبو بكر لكن دور أبو بكر في الدِّين ليس على النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما على النبي بوصفه رسول ، ولهذا ادّخر أبو بكر النياق التي ادّخرهما للهجرة فرفض - صلى الله عليه وسلم - أن يقبلهما إلا بحقها وأعطى أبا بكر دنانير ، اشتراها منه ثمان مئة دينار أو درهم ، المقصود أنه اشتراها حتى يركب ذلولا ( ناقة ) هي له وليست لأحد وثمة بيت :

خُلقتُ عيوفا لا أرى لابن حرة *** عليّ يدا أغضي له حين يغضب
بمثال بسيط في حياتك اليومية : شخص تعطيه قلم أو يعطيك قلم تتناقشان علميا يغضب منك تذكر أن قلمك أو ساعتك أو جوالك هي له فتضطر تتنازل ، تتراجع ، فالحُرّ الذي ليس عليه يد لأحد . إذا وقع عليك فضل الأحرار ماذا تفعل ؟ تكافؤهم بأعظم حتى تدفع عن نفسك أن تكون في رِقة أحد وحتى لا يبقى لأحد عليك مِنّة ، من هنا تفهم لماذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويُكافئ بأعظم منها حتى لا يبقى لأحد عليه فضل صلوات الله وسلامه عليه . لكن هذا لا يمكن أن يطّرد في كل أحد لكن نحن نتكلم عن عظماء الرجال وأنتم طلبة علم ويُظن أن تكونوا كذلك إن شاء الله .
/ نعود فنقول (وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ) أي لا تفعل ذلك تستكثر المال . وهذه الأربع تحتاج إلى صبر ولهذا قال الله (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)
لكن الله قال (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) ولم يجعلها مُطلقة إنما جعلها مقرونة بالله لماذا ؟كل من يصبر رجاء عطاء أحد أو فعل أحد أيا كان ذلك الموعود يدِب إليه اليأس أما من كان يرجو فرج الله فلا يمكن أن يدّب إليه اليأس أبدا لسبب سهل وهو أن ما عند الله موثوق ، مضمون ، لا يُخلف الله وعده . نبيكم - صلى الله عليه وسلم - واعده جبريل ذات يوم أن يأتيه ، لما جاءت الساعة التي واعده فيها كان في يده صلى الله عليه وسلم عصا ، لم يأتِ جبريل ، ما زال يغدو ويروح في البيت ويُلقي عصاه ويقول : "لا يُخلف الله وعده ولا رسله " لماذا لم يأتِ جبريل ، ثم أبصر تحت سريره فإذا جرو " كلب " قيل للحسن أو للحسين ، قال : منذ متى هذا الجرو ؟ قالوا : لا ندري يا رسول الله ، قال : أخرجوه ، فما أن أخرجوه إلا أن جاء جبريل ،فلما سأل جبريل قال : إننا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة . موضع الشاهد قضية لا يُخلف الله وعده لكن التعامل مع الناس حتى في موعد اللقاء تنتظر ساعة ساعتين تصبر ثم لا تلبث أن تيأس لأنك تتعامل مع مخلوق لا تتعامل مع خالق . وتسمعون بالحطيئة شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام بذيء اللسان ، مشكوك في نسبه ، الشاهد : جاور أقواما بُغيت أن يُعطوه ، والشعراء يقتاتون بشعرهم فلم يُكرموه الإكرام اللازم ، حصل شيء من التقصير ، فما زال ينتظر ، ينتظر ، ينتظر ، وكان لهؤلاء القوم جيران ينافسونهم في الخير وفي المعروف ويطلبون من الحُطيئة أن يأتي وينتقل إليهم ويكرموه فيصبح بذلك العار على الآخرين ، فما زالوا بالحطيئة ،والحطيئة باق على جوارهم حتى لم يجد شيئا أصابه فانتقل إلى الآخرين ، فلما انتقل لامه الأولون - في موضوع طويل - فقال لهم البيت المشهور :
لما بدا لي منكم غيب أنفسكم *** ولم أجد لجراحي منكم مواسي
أزمعت يئسا مبينا من نوالكم *** ولن ترى طاردا للحُر كاليأس
لا يطرد الحُر شيء إلا اليأس ، تجلس عند طالب العلم رجاء أن يعلمك ، مرة مرتين ثلاث أربع ، لم يعطك ، تيأس وتتركه ، لكن صيغة التعامل هذه تصلح مع المخلوقين لكنها لا يمكن أن تقع مع الخالق قال الله - جل وعلا - على لسان المكلوم يعقوب ( وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) . هذا ما حكاه الله في وصاياه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم - .
ثم ذكر الله الساعة كنوع من الإشارة ( فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ) أي في الصور ( فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) بعض الفضلاء من المفسرين إذا مروا بهذه الآية يجتنبونها لأنهم لا يرون بلاغة في قول الله - جل وعلا - (عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) يقولون : قال قبل قليل (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) فالمعنى واحد فيلجؤون إلى أن يقولوا أن الثانية مؤكدة للأولى ، وهذا أصل بناء الفهم كان خطأ ، لماذا ؟
هناك فرق هناك فرق بين وصف اليوم ووصف من سيكون في ذلك اليوم " من " للعاقل ، والمعنى: أن يوم القيامة - الساعة هذا - عسير بطبعه فيه أحوال ، فيه أشياء تُشيب سواء أفلح الإنسان فيه أم لم يُفلح فـ (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ) هذه " عسير" وصف لليوم ليست وصفا لأهل ذلك اليوم لا من المؤمنين ولا من الكفار ، أما الثانية فذكر للحساب الواقع على الكافرين ، فلما ذكر الله " عسير " في الأول ما أراد الله أن يكررها عبّر عنها بطريقة أخرى فقال " غير يسير " مثل الامتحان ، فالامتحان له هيبة نجحت أو لم تنجح ، له هيبة خاصة به ، له طرائق معهودة ثم بعد ذلك يكون الاختبار يسيرا على المفلح غير يسير على من لم يُفلح .
/ ثم ذكر الله رجلاً - كما قصّ علينا نبأ أبي جهل في اقرأ - ذكر الله - جل وعلا هنا خبر الوليد بن المغيرة وهو رجل من كبار قريش سناً جاءت البعثة النبوية وقد شاخ وهرم وكان له نفوذ مستمد من أمرين : كثرة أولاده وكثرة ماله، والله عبّر عن ماله بقوله"ممدود" كلمة ممدود تعطيك مد بصري ، أي جنان تتبعها جنان ، زروع يتبعها زرع ، نخل يتبعها نخل ، بل إنه ممدود في مكة والطائف ومابينهما وما جاورهما ، أسباب المجد تختلف لكن من أعظم أسباب المجد الجرأة " الجود يُفقر والإقدام قتّال " لما أرادت هدم الكعبة لتعيد بنائها هابت أن تصل للبيت أول من تجرأ إلى أن يهدم الكعبة ويقلع حجرها الوليد بن المغيرة وهو أول من سنّ أن دخل الكعبة غير منتعل وهو الذي بدأ بهدم الحجر ، هذه كلها مع أولاده وماله أكسبته نوعا معينا في قريش ، صبغة معينة جعلته عظيما تلجأ الناس إليه بطبيعتها مع شيخوخته وهرمه وعلمه بالناس . هذا الرجل جاء الإسلام وورقة بن نوفل مثله في السّن لكن ليس في الجاه فهدى الله ورقة وأضل الله الوليد .
/ قال الله (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) أي خلي بيني وبين من خلقت وحيداً . ووحيدا من حيث اللغة "حال" بالاتفاق واختلفوا هل هي من فاعل أو مفعول ؟ فإذا قلنا إنها حال من فاعل يصبح المعنى : (خَلَقْتُ وَحِيدًا) "وحيداً" عائده إلى الله فيصبح المعنى أنني خلقته لوحدي ليس معي شريك في خلقه ، وهذا وإن كان يصح من حيث المعنى لكنني لا أعلم في كلام الله أن الله نعت نفسه وحيد ، فإن كانت اللغة تحتمله لكنني استبعده فنجعلها حالا من المفعول به الذي هو الوليد ثم نختلف في معناها ، واختلفوا في معناها على قولين :
1. "وحيدا" أي خلقته منفرداً وحيداً ضعيفاً في أول أمره
2. " وحيدا" أي جعلته رجلاً لا نظير له في قومه
ولا يمتنع الجمع ما بين الرأيين .
( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا ) " شهود " بمعنى حاضرين ، من كثرة أبنائه لا يمكن أن يغيبوا مجتمعين فلو غاب عشرة منهم يبقى ثلاثة ، كان له أكثر من عشرة أسلم منهم ثلاثة خالد واثنان اختلفوا في أسمائهم ، وهو مخزومي كأبي جهل ومخزوم فخذ من قريش لها وزن اجتماعي آنذاك .
/ (وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ) أي وطأت له في أن يصل إلى الرئاسة والجاه (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ) قال الله " كلا " لماذا كلا ؟ لأن السبب الحقيقي في استدامة النِعم رضوان الله وهذا عصى الله قال الله ( كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا ) .
/ ثم قال الله "سـ" استقبل القريب ( سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ) قل ما تشاء في "صعود" لكن المعنى الإجمالي لها أكلفه عذاباً شاقاً لا يطيقه سواء في الدنيا أوفي الآخرة . ثمّ علل لماذا هذا ، قال ( إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ) ثم لعنه الله قال (فَقُتِلَ) هذه لعنة ، ( كَيْفَ قَدَّرَ ) أي أنه رجلاً ليس سهلاً ، (ثُمَّ قُتِلَ) تكررت اللعنة عليه ، ( كَيْفَ قَدَّرَ ) هذا كله تعجب من قدراته . قال الله (ثُمَّ نَظَرَ) ونظر تأتي متعدية بحرف الجر إلى - نظرت إلى الشيء - بمعنى أبصرته ، ونظرت في الأمر بمعنى تفكرت وتمعنت فيه .
ونظر من غير حرف جر بمعنى تمهل وانتظِر وبكلٍ جاء القرآن ، هنا بمعنى التدبر والتفكر ، (ثُمَّ نَظَرَ) أي في أمر الرسالة .
/ (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ) هذه صورة لحالة وجهه التي تدل على ما في قلبه قال الله (ثُمَّ أَدْبَرَ) أي عن الحق (وَاسْتَكْبَرَ) أي عن الإيمان . (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ) والآن قريش كلها تنتظر حُكمه لأنه اجتمع بهم وقال "إن وفود العرب تأتيكم فإذا رأوا اختلافكم في محمد قبلوا قوله فمنكم من يقول ساحر ، منكم من يقول مجنون ، منكم من يقول شاعر ، منكم من يقول كاهن" ، فحتى لا يخسروه جعلوها فيه قالوا يا أبا المغيرة احكم أنت ، هذا زاده استكبار.
فقال الله عنه أنه قال ( إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) الآن لم يصل لما تريده قريش هذا جواب سياسي تعليقي ، قريش تريده أن يفصل ويُخبر بأنه ليس كلام الله فقال ( إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) كأن القرشيين لم يرضوا ، لم تكن وجوههم مستقبلة لكلامه بقوة فقال (إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ) أتى بها صريحة حتى يصل إلى رضوان قومه عنه فعظموه وأجلّوه وزادوه تعظيما وهلك بعد البعثة بقليل (إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ).
/ قال الله (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي النار، ثم قال (وَمَا أَدْرَاكَ) ـ بصيغة الماضي ـ وفي القرآن وما أدراك ،وما يدريكإذا قال الله " وما أدراك" يخبر نبيه عن ذلك الشيء ، وإذا قال "وما يدريك" لا يخبر نبيه عن ذلك الشيء ، (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) ولم يخبره متى الساعة ، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ) بيّن قال (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ) .قال (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ) بيّنها قال (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ ) لواحة أي حرّاقة ، " البشر " هنا ليس الناس وإنما جمع بشرة وهي الجلد الظاهر لبني آدم.

(عَلَيْهَا) أي على هذه النار (تِسْعَةَ عَشَرَ) مبتدأ مبني على فتح الجزأين مؤخر ، وهذه الأعداد من أحد عشر إلى تسعة عشر مبنية دائما على فتح الجزأين في أي موضع كانت إلا إذا ثنّيت اثني عشر ، اثنتي عشر فتعامل معاملة المثنى .
نعود فنقول قال الله (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) أي من الملائكة ، كأن هذا القول استخف به أهل الإشراك ، ( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) لأن العدد تسعة عشر هو العدد الموجود في التوراة والإنجيل فإذا قرؤها في القرآن وقرؤها في التوراة وقرؤها في الإنجيل استيقنوا (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) المؤمن أصلا مؤمن أنهم تسعة عشر ،هو يقبل كلام الله.
ثم قال الله - جل وعلا - (وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) ينفي الله - جل وعلا - عنهم الريبة التي أعطاهم الله اليقين ، ثم قال تبارك وتعالى (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا) يتعجبون من قلة العدد وهم لو التفتوا ميمنة وميسرة في آيات الله لعرفوا الجواب ، الذي يقبض أرواح الخلائق كلهم ملَك واحد فكيف يُعجز أهل النار تسعة عشر ملَكاً ، والأمر الذي أكثر توكيداً أن الله يعطي القدرة لمن يشاء من عباده وأنه لو جعل الله خزنة النار واحد لقام بهذه المهمة لكن مرض القلب مبني أساساً على عدم تعظيم الله والعلم هو الذي يبعد ما يأتي من شبهات والإيمان يبعد ما يأتي من شهوات.
قال الله ( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء ) ثم قال (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ) لا ينبغي حصر كلمة جنود في الملائكة فالله جل وعلا له جنود لا يعلمها إلا هو كما قال ، ثم إن جند الله قد يكونوا عارضين ومعنى عارضين إن الله جل وعلا يُهلك عباده بالشيء الذي أعدوه له يحاربوه به فيجعل ذلك جندا له فيُهلك به خصومه وأعداءه .
(وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ) اُختلف في "هي " عائدة على ماذا؟ الأعداد التسعة عشر ، خزنة النار ، النار نفسها ، الآيات التي ذكُرت كاملة ؟والأظهر - والله أعلم - في قول الله تعالى (وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ) أن ذكرنا لهذا الأمر إنما جعله الله ذكرى للبشر ، هنا البشر بمعنى بني آدم .
/ قال الله تعالى (كَلاَّ وَالْقَمَرِ ) كلا كلمة ردع وقال الكسائي كلا هنا بمعنى حقاً وقال بعضهم بمعنى نعم ، والصواب أن يُقال أن "كلا" هنا بمعنى "ألا" الاستفتاحية لأن كلمة حقاً لا يصح أن تكسر إن بعدها.
/ قال الله - جل وعلا - (كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ) هذه الثلاث مخلوقات عظام لن أفصل الكلام فيها لأنه سيأتي تفسير سورة الليل فيكون في موضعه الكلام لكنه قسم من الله جل وعلا بهذه المخلوقات الثلاث .
قال الله ( كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ ) والراجح أنها التذكرة بالآخرة أو جهنم.
(نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) من هنا فهم العلماء لا يوجد في طريق السير إلى الله أحد واقف فإما متأخر وإما متقدم .
/ ثم قال الله (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) هنا نحتاج أن نُنيخ مطايانا كثيرا :
الذي عليه الجمهور وأكثر ما اطلعنا عليه من كتب التفاسير أن معنى الآيات أن كل إنسان مرتهنٌ بعمله لا ينفك إلا إذا كان عمله صالحاً وأهل اليمين انفكوا بكونهم عملوا الصالحات وأنهم سيمكثون في الجنة يتساءلون عن أهل الإجرام وأهل الكفر الذين هم في النار .
هذا ما قاله أهل العلم والحق أن هذا غير مقنع لأن "كل" من ألفاظ العموم فاستثنى الله منها أصحاب اليمين يبقى سؤال هو الذي جعلنا نقول أن هذا الرأي غير مقنع وهو : أين المقربون ؟ والله لم يستثني هنا إلا أصحاب اليمين ، هم الذين خلصوا بأعمالهم وهذا من حيث التطبيق العلمي غير صحيح لأن المقربين أولى من أصحاب اليمين , إذا لابد أن يكون للآية معنى غير الذي فهمه أهل العلم ، حاولت أن أجد خيطا للوصول إليها وجدتها عند القرطبي نقلاً عن علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - أنهم أطفال المسلمين بهذه العبارة فقط ، والحق أن هذا خيط يقودك لحل المعضلة .
حل المعضلة : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي كل نفس مرهونة - والعمل لا يُخلص أصلا - إلا أصحاب اليمين لأنه لا عمل لهم - ماتوا قبل التكليف - فأصحاب اليمين هنا عام أريد به الخاص ، أريد به من مات على الإسلام من صغار المسلمين فهؤلاء لا عمل لهم فهم المستثنون أنهم مرهونون بأعمالهم لأنهم ماتوا قبل سن التكليف .
ومما يُستأنس به لصحة هذا الرأي أنا لو قلنا إن أصحاب اليمين هم أصحاب اليمين الكبار فهؤلاء لا حاجة في الأصل - ولا يوجد مانع - لكن لا حاجة في الأصل أن يتساءلوا فيما بينهم عن أهل الإجرام لماذا دخلوا النار ، لكن لو قلنا بالرأي الذي اخترناه وهو أنهم صغار المسلمين فيتوجه القول أنهم ماتوا صغارا لا يعلمون لأي سبب عُذب أولئك فلذلك يتساءلون عن المجرمين (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ).
(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) ذكروا أربع أسباب : عدم الصلاة وهي عمود الدين ، وعدم إطعام المسكين أي قسوة القلب ، والخوض مع أهل الباطل، ثم ذكروا قاصمة الظهر وهو التكذيب بيوم الدين . وانظر إلى دقة القرآن قال الله (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ) لابد أن يكونوا قد ماتوا على الكفر وإلا لا يخلدون في النار فكم من الصحابة قبل إسلامه كان مكذبا بالدين لا يصلي لكنه ما مات على هذا وإنما العبرة بالنهايات وثمة قول جميل " ليست العبرة بعثرة البدايات وإنما العبرة بكمال النهايات ".قال الله - إذا كان هذا حالهم - (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) ونحن نتكلم في تفسير القرآن حسب نزوله وسيأتي بعد ذلك من هم الذين حُق لهم أن يشفعوا لكن هذه أمور ينثرها الله في أول الدعوة ليس صوابا أن نقتحمها الآن لكن ستأتي في موضع كاملة (وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ) سيأتي هذا في مكانه .
(فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) لكن هذا النفع يوجد منه نفع غير كامل وهو انتفاع أبي طالب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع له فلا يخرج من النار إلى الجنة وإنما يُخفف عنه عذاب النار حتى يكون أهون أهل النار عذابا .
/ ( فَمَا لَهُمْ ) استفهامية ( عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ ) أي أهل النار ( حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ) قُرأت " مستَنْفَرًة " ـ بفتح الفاء ـ على أنها اسم مفعول ، وقرأت مستنفِرة ـ بكسر الفاء ـ على أنها اسم فاعل . (فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ) قيل الأسد بلغة الحبشة وقيل مجموعة من الرماة .أيا كان مجموعة مخيفة للحمر الوحشية إما أسود تريد أكلها وإما صيادون يريدون أن يصيدوها أو غير ذلك ، هذه الحُمر إذا قلنا مستنفَرة ـ بفتح الفاء ـ فالأمر واضح أي استنفرت من قبل تلك القسورة ، وإن قلنا مستنفِرة فالمعنى أن الخوف بلغ بها مبلغا عظيما حتى أصبح بعضها يستنفر بعضها بعضا كمن - والعياذ بالله - كمن هو في مكان فيه حريق فمن شدة الهلع كل منهم يوقظ أخاه ويدفعه إلى أن يخرج ، هذا معنى قول الله (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ) . لكن الحُمُر معذورة في فرارها لأنها تفِر مما يُهلكها أما هؤلاء السفهاء فإنهم يفرون مما فيه صلاحهم ونبيهم الذي يدعوهم إلى الخير وإلى النجاة ./ قال الله - جل وعلا - (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ) هذا العتو ( أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ) بلغ من طغيانهم في طلبهم أنهم يريدون أن ينزّل على كل فرد منهم كتابا - قرآنا - خاصا ، ثم لأن المسألة مسألة كِبر قالوا ولا يكفي أن يكون الكتاب مطويا حتى لا نُكلّف فتحه وإنما كتاب منشور مفتوح ، وهذا كله ردّ بالباطل فانظر إلى حلم الله جل وعلا على عباده .
/ ثم قال الله ما ذكرناه في سورة اقرأ أن العلة عدم إيمانهم بالآخرة قال (كَلاَّ بَل لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ ) ثم بين أنه مهما كان قولهم فإن القرآن حق إنه تذكرة قال - جل وعلا - (كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ )ثم ذكر الله تعالى مشيئته القدرية والشرعية قال ( وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ) فأثبت لهم المشيئة ثم قيدها بمشيئته (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) كل مطلوب لا يطلب إلا بحول الله وكل مرهوب لا يدفع إلا بحول الله ولهذا عظمت كلمة لاحول ولا قوة إلا بالله لأنها بها يعلم العبد أنه لا حول له ولا طول ، ومن جميل الدعاء أن يقال: "اللهم لست بريئاً فأعتذر ولا قويا فأنتصر ولكن لا حول ولا قوة إلا بك "/ ثم قال الله (وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) كان بالإمكان - ولا مُلزم على الله - أن يُقال هو أهل التقوى والمغفرة ، فلماذا كرر كلمة أهل ؟ كررها لأن "أهل" الثانية غير "أهل" الأولى ، كيف ؟الله جل وعلا أهل لأن يُتقى بمعنى أنه لازم على الخلق أن يتقوا ربهم دون سواه ، لا يوجد أحد أهل لأن يُعبد بحق إلا الله ، أما أهل المغفرة فليس لزاما على الله أن يغفر لكل أحد ، فلهذا فرق الله بينهما ولم يعطف مباشرة ويقول هو أهل التقوى والمغفرة . يستفاد من هذا أن قول الله هو أهل لأن يُتقى يجعلك تجنح إلى ربك فتعبده دون غيره ، وقول الله أهل المغفرة يجعلك تجنح إلى ربك فتطمع فيه أن يعينك على تقواه .
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله ،وقد لاحظت أنني تجاوزت بعض المسائل لأن حينها في النزول لم يحن بعد والمناسب أن يقول الإنسان الآية بتوسع في الموضع الذي نزلت فيه ، أما مانزلت الآيات من أجله كان الرد على الوليد بن المغيرة السورة ، وملاطفة النبي - صلى الله عليه وسلم بأنه مدثر ، وتصوير حال القرشيين وهم فرار خائب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما القسم وما شابهه لم نعرج عليه بكثرة لأنه سيأتي في سور مخصوصة .
بلغنا الله وإياكم من الخير فوق ما نؤمل, وصرف الله عنا وعنكم من السوء أكثر مما نخاف ونحذر ، هذا والله أعز وأعلى وأعلم, وصلى الله على محمد وعلى آله .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق