السبت، 6 أغسطس 2011

الوقفة الثانية في جـ 6 مع قوله تعالى (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)


أول الأمر يجب أن يُعلم أنه رفع قربى وزلفى فيصبح معنى قول الله في آل عمران (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) ليس المقصود منها الوفاة التي بمعنى قبض الأرواح إنما المقصود منها استيفاء بعثتك ونبوتك ورسالتك ، ينتهي كونك نبي عند سنيّ رفعك (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أديت ما عليك (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)وليس هناك خبر وفاة وليس هناك قبض روح . هنا قال الله في النساء (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) لم قال - ولا مُلزم عليه ربنا - (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) ؟
لما كان عزيزا جلّ ذكره عزّ أولياؤه فارتفع عيسى ولم ينله أذى لأن مولاه هو الله ، والله عزيز لا يُغلب ، ولهذا لا تُلتمس عزة ولا تُطلب ولا تُبتغى إلا من الله ، ولما كان - جل وعلا - حكيما فإن هذا الرفع نجم عنه ثلاثة أمور : فتنة للكافرين ، وعلو درجة لمن صدق من المؤمنين ، ونكال بمن خان عيسى عليه السلام على القول بأن أحد أشباهه قُتل وصُلب ، ونكال بمن خانه من طلابه الذين قيل حسب الرواية التي بسطنا القول فيها أنه فشى به ألبسه الله شبه عيسى ، هذا معنى قول الله (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) .
ثم قال ربنا (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) فذكر الله حالين : حال يوم القيامة وهو متأخر ، وحال في الدنيا . فالحال في الدنيا جملة الآية أن عيسى سبنزل قال الله (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ) وفي قراءة ( وإنه لعَلم للساعة ) فينزل ، والنبي -صلى الله عليه وسلم - قال ( أنا أولى الناس بعيسى بن ابن مريم) .
يمرّ عليك وأنت تدرس الفرائض أو في غيرها أن الأبناء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام : يقال أبناء أعيان ، ويُقال أبناء أخياف ، ويُقال أبناء علات ، فأبناء الأعيان هم الأبناء الأشقاء الذين هم من أم وأب واحد ، وأما إذا كانت الأم واحدة والأباء مختلفون فالإخوة لأم يسمون أبناء أخياف أي مختلفين في ألوانهم وهيئاتهم ، بقية واحدة وهي الأخيرة أن يكون الأب واحد لكن الأمهات مختلفات وهؤلاء يُسمون أبناء علات، قال - صلى الله عليه وسلم - ( نحن معشر الأنبياء أبناء علات ) فأممهم شتى كل واحد من أمة ليس من أم ، من أمة يعني من قبيلة ما ، من أرض ما لكنهم جميعا دينهم واحد ، وقال ( أنا أولى الناس بعيسى بن مريم ) لأنه ليس بين نبينا وعيسى بن مريم عليهما السلام نبي ، هذه واحدة .
نزوله عليه السلام من علامات الساعة الكبرى ، ينزل واضعا يديه - كما في الخبر الصحيح - على أجنحتي ملَك إذا طأطأ رأسه يُرى كأنه ينحدر منه ماء ، كأن وجهه يقطر رغم أنه لا يقطر أصلا ، كأنه خارج من ديماس ، الديماس الحمام ، رجل لتوه مغتسل فعندما ينزل يراه عدو الله الدجال فإذا رآه الدجال ماع وذاب كما يذوب الملح في الماء مع ذلك يتبعه عيسى ويطعنه طعنة بحربة في يده ، قال بعض أهل العلم تعليلا : حتى يطمئن الناس أن الدجال مات .فيكسر الصليب شعار النصارى ويقتل الخنزير وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين ، يجمع الله الناس على عيسى بن مريم لكنه ينزل على أنه تابع لرسول الله لا على أنه نبي عليها الصلاة والسلام ، وهذا يقوي معنى قول الله - جل وعلا - (إني متوفيك ) بمعنى مستوفٍ نبوتك لأن نبوته لو لم تستوفى في الأول لأصبح بعدها نبيا وهو عندما ينزل لا ينزل على أنه نبي ، ينزل على أنه يعمل بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم .
عندما ينزل يكون المسلمون قد اجتمعوا يريدون أن يصلوا صلاة العصر فعندما ينزل يريد هذا الذي يؤم المسلمين قيل المهدي وقيل غيره أن يُقدم عيسى لكن عيسى يأبى ويُقدم من أُقيمت الصلاة له ، قال نبينا - عليه الصلاة والسلام - (إن منكم لمن يصلي عيسى بن مريم خلفه تكرمة من الله لهذه الأمة ) أنبياء الله يصلون وراء حفظة القرآن منها ، وقال بعض العلماء قولا مرضيا وهو :
أن هذا الإمام يتقدم لأن في صدره القرآن وعيسى الأصل أن في صدره الإنجيل ، والقرآن مهيمن على الإنجيل .إن صح هذا ، هذا تعليل حسن ، لكن هذا يُفهم منه قطعا أن القرآن أفضل علم حواه الصدر ، لا يمكن أن يكون في الصدور شيء أعظم من القرآن . فإذا رُزق عبد ما حفظ القرآن ثم رٌزق العمل بالقرآن ، ثم رُزق من العمل بالقرآن أنه يقوم بالقرآن في الليل فقد نال الشرف الذي لا يُبارى ، وعلو الكعب الذي لا يُجارى . هذا هو الشرف العظيم أن يحفظ الإنسان شيئا من القرآن في صدره ثم إذا جاء الليل وأظلم قام بهذا القرآن الذي في صدره بين يدي ربه ، قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ ( وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر ثم تلا (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ*فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )).
إن دبّ إليك كسل وضعُف فيك عزم وأنت على فراشك ذكّر نفسك بهذه الآية ، تذكر ولو تقلها بصوت مسموع ، تردد نفس الحديث ( ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جُنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر ثم تلا ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ*فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ثم استقبل القبلة وقم وأنت تتمنى على الله ذلك الوعد الذي وعده الله - جل وعلا - عباده ، حاول أن تجمع في قلبك ما بين الخوف منه - تبارك اسمه - وما بين الطمع في رحمته وحاول أن تقرأ في القرآن ولو أن تُعيد ما قرأت ما يرقق قلبك ويُدنيك من ربك ويقربك من خالقك فإذا سجدت فلو أتيت بعشر تسبيحات في الأول فهو أمثل تمجد فيها ربك ثم قل كما كان يقول - صلى الله عليه وسلم - ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أُحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) هذه وحدها وأنت في سجودك تأملها ( أنت كما أثنيت على نفسك ) ، الله - جل وعلا - لا يبلغ مدحته قول قائل ولا يجزي بآلائه أحد ، والله يقول ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) فلما لم يُحيط العباد بالله عِلما قطعا لن يبلغوا مدحته ، لن يبلغوا معرفة حق الثناء عليه فلذلك يقولون كما قال نبيهم ( أنت كما أثنيت على نفسك ) ثم سل الله من خيري الدنيا والآخرة . هذا هو المقصد العظيم من حفظ القرآن الكريم ، والمقصود من الآيات حتى لا نستطرد كثيرا : أن عيسى ينزل عليه السلام فيكسر الصليب ويقتل الخنزير .
على أنه تاريخيا لم يُعرف إلا بعد رفعه عليه السلام ، بعد أن ذُكر صلبه عندهم بثلاث قرون تقريبا ، فجاء رجل به مرض ،إلى مكان فيه قمامة - وإلى الآن تسمى كنيسة القمامة وتسمى كنيسة القيامة - فجاء يبحث وبه داء فقال للناس إنني وجدت الخشبة التي صُلب عليها المسيح وإنني برئت ففُتن الناس بالخشبة فاتُخذت لها نماذج ، ومن كانت تملك الرومان في ذلك الزمان أمرت أن تُزال القمامة وتُبنى عليها كنيسة وهي موجودة إلى الآن في أرض فلسطين . هذا سر تعظيمهم للصليب ونشرهم له كما تراه عيانا .
نسأل الله أن يُحيينا وإياكم على الفطرة ويُميتنا وإياكم على ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يوردنا حوضه ويحشرنا في زمرته والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق