الجمعة، 8 يوليو 2011

التفاؤل في القرآن الكريم/ من برنامج "الحياة حلوة" على قناة الأسرة الفضائية



التفاؤل في القرآن الكريم
د. محمد بن عبد العزيز الخضيري الأستاذ المساعد في جامعة الملك سعود


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
كتاب الله عز وجل هو كتاب التفاؤل والحيوية والإيجابية وهو الذي يبعث الناس على العمل وعلى أن ينظروا للحياة نظرة رائعة وعلى أن يغزوا كل ميدان يطلبون فيه رضى الرحمن. أنت تجد التفاؤل في كتاب الله من أول لحظة تقرأ فيها كلام الله عز وجل. أول آية في القرآن (بسم الله الرحمن الرحيم) يعني استعانة بالله والاستعانة بالله هي عنوان التفاؤل فأنا بعون الله أستطيع أن أرِد كل ميدان وأن افعل كل شيء يرضي الله سبحانه وتعالى ويكون متسقًا مع شرعه.
أجد التفاؤل في أول كلمة في سورة الفاتحة (الحمد لله) كلام في غاية الروعة والجمال! الحمد لله على نِعمه! أتذكر نِعم الله علي في سمعي وفي بصري، أتذكر نِعم الله علي في عقلي وفي فكري، أتذكر نِعم الله علي في مجتمعي وأسرتي، أتذكر نِعم الله علي في ديني، أتذكر نِعم الله عليّ في أصل خلقتي، أتذكر نِعم الله عليّ في هذا الهواء وهذا الماء وهذه السماء وهذه الأرض فأقول الحمد لله. لما تنظر إلى الحياة بعين (الحمد لله) ستجد أن الحياة حلوة .

القرآن كله يدعو الناس إلى العمل، يأتي بهم إلى هذه المائدة العظيمة ليقول لهم انطلقوا في حياتكم باعتبارأن هذه المائدة وَقود لكم. عندما تنظر إلى أول آية في سورة البقرة (الم*ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى) الهداية تفاؤل عندما تعلم أن هذا القرآن سيهديك للتي هي أقوم ويدلك على كل خير ستعلم أنك أمام كتاب يدفعك للعمل والنشاط والنظرة الإيجابية وأن تبتعد عن السوداوية في الحياة وأن تبتعد عن كل ما يعيقك عن العمل والتقديم والإثمار والنفع العام والإبداع، كل ذلك موجود في كتاب الله عز وجل، إقرأ مثلا في قصص الأنبياء :

لما نرى نوحًا - عليه الصلاة والسلام - يبقى 950 عامًا ( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ) وهو يدعو ، دعاهم ليلا ونهارا ، سرا وجهارا هذا ألا يبعث التفاؤل في نفوسنا؟!

هذا النبي العظيم يبقى هذه المدة الطويلة وهو في اتجاه معين يبين للناس شيئًا واحدًا وهو توحيد الله سبحانه وتعالى لا يمل ولا يكل ، يعمل بكل ما هو متاح له بكل طريق بكل أسلوب من أجل أن يحقق هدفه وهذا مثال لكل داعية .

/ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وهو يدعو أباه أو يدعو قومه تجده يستعمل أساليب متنوعة لا يمل لا يكل لا يتوقف لا يتردد لا يقول أنا يئست ولذلك الرب سبحانه وتعالى يقول لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - لما بدأ الياس يداعب قلبه قال (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) إصبر كصبر أولئك الذين كانوا أهل عزائم قوية وأهل إرادات تهد الجبال.

وليس هناك تناقض بين الصبر والتفاؤل بل التفاؤل ركنه الركين هو الصبر أنك تتفاءل بأن الأمور ستكون طيبة وأنك ستجد نتائج إيجابية وأنك ستحقق ما تريد ولكن يجب أن يكون متكأك وعمادك هو الصبر.

/ قال تعالى (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ) قبلها قال تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ) هذا وعد من الله سبحانه وتعالى كتبه على عباده وأنه سيكون لكل عبد نصيب منه حتى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كتب عليه نصيبه من البلاء ، في الزوجة والولد وفي النفس وفي البلد حتى أنه اضطر إلى الهجرة من بلد كان يحبه عليه الصلاة والسلام ، فهذا من البلاء الذي كتبه الله على العباد كلهم .

هذا يُذكَر في القرآن ليقال لك أن ما يصيبك من عوائق ومكدرات ونصب وتعب شيء طبيعي قد كتبه الله على كل العباد لا تظن أنك أنت الوحيد عندما تتكدر عليك الأمور أو تقف في وجهك العوائق أنك أنت الوحيد في هذا الميدان بل كل الناس كذلك لكن المؤمن يمضي ويعلم أن هذا قد كتب من عند الله سبحانه وتعالى ولا بد له من الصبر.

وأذكر في هذا الباب قصة جميلة جدا : إمرأة حصل بينها وبين زوجها كلام وخلاف حتى ضربها زوجها فخرجت من عنده تريد أن تذهب إلى بيت أهلها مما أصابها من الضيم والظلم فمرت بالمسجد وإذا بالإمام يقرأ (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ*وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ*وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ*لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) لما سمعت هذه الاية قالت سبحان الله! (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) يعني الإنسان سيعيش كبدًا ، سيعيش نصبا ومشقة وتعبًا! إذن لا بد لي من الصبر، كبدي مع زوجي وأولادي أحبُّ إليّ من كبدي مع والدي وزوجة والدي.

هذه الآية فتحت أبواب الأمل لها، ليس هناك حياة ليس فيها كدر ولكن يجب على الإنسان أن يكافح ويجاهد وأن يتقدم ولا يتأخر وأن يبدع وألاّ يتأثر بما يصيبه من أنكاد الحياة وأكدارها ، فرجعت ، دخلت بيتها وجاءت إلى فراش زوجها فاستغرب وقال ما الذي ردّك؟ قالت والله ما ردني والدي ولا زوجة والدي ولكن ردني القرآن سمعت الله يقسم يقول (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) فعلمت أنه عليّ كبد ولا بد أن أكافح وأن أصبر وأصابر وأرابط وأعلم أن العاقبة للمتقين، يقول (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) فردّني القرآن.
نعود للآية الأولى قال (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) قالها بعد الآية (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ) بشّر الآن تساق البشارة لأولئك الذين سيصابون بالبلاء ما قال يا أيها الناس إصبروا حتى تلقوا الله، لا، هي بشارات تساق لهؤلاء الذين يصابون بالأنكاد والأكدار والأتعاب والأنصاب أنكم على بشارة من الله ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) يسلون أنفسهم بكلمتين عظيمتين وأنا أعلم أن كثيرًا من الناس ينطقون بهاتين الكلمتين عند المصيبة ولا يدركون ما فيهما من المعنى العظيم الذي لو تأملوه ذهب عنهم كل كدر المصيبة ، ما بقي عليه شيء من كدر المصيبة .

علينا أن نتأمل هذه الكلمات ونستشعر ما فيها من معاني (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) (إنا لله) أنا ملك لله يتصرف الله تعالى بي كما يريد وأنا لا أدبر أمري بل أمري مدبر من قبل الله سبحانه وتعالى وهذا الذي وقع علي ما وقع باختياري وإنما هو بقدر الله عليّ ولله أن يفعل بي وفي سائر الخلق ما شاء، نحن ملك لله نحن لا يحق لنا أن نعترض على الله فيما يريده في ملكه .

الثانية : (وإنا إليه راجعون) يعني نحن جميعًأ سنرجع إلى الله، يعني هذا الذي مات بالأمس أو هذا القريب الذي ذهب منك أو المال الذي سرق منك رجع إلى الله وأنت سترجع إلى الله إذن هذه الدنيا ممر والجميع سيرجع إلى الله فأنت لماذا تتألم؟! الآن إذا قيل لك تبكي على والدك؟ على أمك التي ماتت؟ أنت سترجع إليها وتجتمع بها وتلتقي بها بعد أيام، تقول إذن كان الأمر كذلك سأصبر. فلا ينبغي إذن أن تكون هذه المصيبة التي وقعت بي سببًا في أن يكدر عليّ أو يوقف الحياة أو يجعل الحياة سوداء بالنسبة لي! لا، أمضي وأفعل ما أمرني الله عز وجل به واقدم وأجاهد وأكافح . والله عز وجل في أواخر سورة آل عمران بعد قصة غزوة أحد وما فيها من آلآم وما فيها من مشقة على رسول الله حتى قال الله (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ) قال الله تعالى في آخر السورة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) يأمرنا بأن نصبر لأن الحياة لا بد أن تكون كذلك وأن نعلم أن صبرنا هذا سيؤدي إلى نتيجة (إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ).
بحمد الله حين يفتح الإنسان كتاب الله - عز وجل - سيجد الكثير من الآيات التي تُبيّن رحمة الله وأن هناك أشياء تبعث على التفاؤل لكن
كيف يستشعر الإنسان هذا الأمر ؟ إن مع العسر يسرًا؟ إن الله مع المؤمنين؟
ما وقع الإنسان في مصيبة إلا بسبب تركه أمرًا من أوامر الله. مهما حاولت أن تبحث عن سبب لما يقع فيه الإنسان من مصائب ومشاكل إلا وهي ترك أوامر الله تبارك وتعالى فالناس لما تركوا أمر الله بتدبر كتاب الله لم ينتفعوا كثيرًا بهذا الكتاب العظيم الذي هو كتاب التفاؤل والإيجابية وكتاب العمل والجد والنشاط والحياة الحلوة.

أنت عندما تقرأ القرآن بتدبر تجد أن القرآن كله خير وبركة تجد أنه يفتح لك أبواب الأمل.

يوسف عليه الصلاة والسلام انظر في قصته، هذه قصة كل من أصيب، حتى السلف كانوا يقولون يجب أن يوصى كل من أصيب بمصيبة بقراءة سورة يوسف حتى ينفتح له باب الأمل ، هذا الولد الذي يُعتدى عليه وهو صغير طفل فيُغيّب في بئر مظلمة ويذهب إخوانه ثم لما يأخذه السيّارة يبيعونه على أنه عبد رقيق ثم يبقى في العبودية ثم يضطهد من زوجة ذلك الذي اشتراه وهو عزيز مصر ثم يتهم بأنه يريد فعل الفاحشة بها وأنه يخطط لذلك (قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ).

الأسرار التي تبعث التفاؤل من قصة يوسف - عليه السلام - :

يوسف إتُهم بتهمة كان بريئا منها وأودع في السجن ظلما وعدوانا ، دخل السجن ، لما دخل السجن ما قال أنا كُتب علي أن أكون محروما وأن أكون مظلوما، ويجب عليّ أن أبقى كئيبًا تعيبا، لا، صار يعمل في السجن ، يُسلي السجناء ويحسن إليهم ويتصدق عليهم ويخفف عليهم وطأة السجن ولذلك (دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) يعني يوسف مظلوم ويوسف مسجون ويوسف مُتهم ويوسف استُرِقّ وبِيع ظلما وعدوانا ، ويوسف - عليه الصلاة والسلام - أُخذ من أبويه وحُرم من الحياة معهما ومع هذا يقولان له (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)،هل قال لهم يوسف ابتعدا عني أنا مشغول بآلآمي وهمومي ومصائبي ومشاكلي؟ لا، بدأ يدعوهما إلى الله عز وجل (قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ*وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) الحاصل أن يوسف بدأ يدعو هؤلاء القوم ويذكِّرهم بالله عز وجل لكنه لم ينس مصيبته وقضيته والتذكير بها (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ ) يعني قضيتي باقية، فيوسف مع أنه يشعر بأن هناك ظلم وأنه يتمنى أن يخرج مما هو فيه إلا أنه لم يترك عمله بل قدم العمل الأساسي والإيجابية في الحياة والدعوة إلى الله على أصل القضية التي أُودع من أجلها السجن، وجعلها آخر شيء عنده لأنه يعلم أن هذا قدر من الله سبحانه وتعالى وأنه متى كتب الله أنه ينجو سينجو.

خرج يوسف عليه الصلاة والسلام من السجن وهذه أكبر عبرة لأولئك الذين يبتلون في هذه الحياة فيكتئبون نقول لهم انظروا إلى يوسف عليه السلام خرج من السجن إلى عرش المُلك، الملِك يصطفيه ويقول ماذا تريد؟ يقول له المُلك (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ) (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ثم يبدأ الآن مسلسل النتائج ما يشعر إلا وإخوته يأتون إليه ويدخلون عليه ( فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) والفترة طويلة جدًا، الفترة ما بين فقده إلى اليوم طويلة لذلك إخوته ما كان عندهم شك أن هذا الرجل لا يمكن أن يكون يوسف ولذلك عرفهم وهم له منكرون. من يقول أنه كان يتنكر بقناع أو كذا، هذا غير صحيح لأنه لو كان يتنكر بقناع لكانوا معذورين لكن (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) من هذا ! لا يمكن أن يكون هذا يوسف - عليه الصلاة والسلام - .

ثم يأتي مسلسل الفرج، تأتي قضية أخرى تشعرنا بأن يعقوب عليه السلام قد ربّى في يوسف هذا الأمل لما جاؤوا إليه وقالوا إن أخاه أيضاً قد أُخذ معه وأن أخانا الأكبر أيضا قد بقي في مصر (ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) قال يعقوب عليه السلام (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) يا الله! هذه الكلمة الجميلة التي يقولها يعقوب عليه السلام في هذا الموقف غاية في الروعة يقول (عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا) غاية الأمل وعدم الياس من روح الله سبحانه وتعالى يقول (عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) الآن إذا كنت تريد أن يأتي هذا الإبن الأصغر بنيامين والأخ الأكبر فهذا معقول لأنهما موجودان في مصر معروفة قضيتهم لأنهم احتبسوا لأمر معين لكن أين يوسف؟! يوسف ذهب في الدهر الأول من أربعين سنة ما لك فيه خبر ، الآن في عداد الموتى وليس في عداد المفقودين، يقول يعقوب عليه السلام (عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ثم يقول بعد ذلك (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ ) هنا تفاؤل عمل ، ثم يأتي بقاعدة قرآنية عظيمة جدا وهي : أن الإنسان لا ييأس من فرج الله ولا من روحه (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) طيب كيف؟! الآن الإخوة يذهبون ليأتوا بالأخ الأصغر بنيامين والأخ الأكبر لكن يوسف أين هو؟ يعقوب يفكر في أمر بعيد لكنه لم ييأس من روح الله ،يعطينا ويعطي كل واحد الأمل الكبير في أنه مهما كثُرت المصائب ،مهما عظُم الخطب فإنه لا يأس من روح الله . والواقع يدل على ذلك ففي العصر الحديث نلسون مانديلا بقي في السجن سبع وعشرين سنة مسجونًا لأنه كان معارضًا للحكومة في جنوب إفريقيا وبعد سبع وعشرين سنة يخرج من أقبية السجون إلى عرش الرئاسة ويكون رئيسًا لدولة جنوب إفريقيا ويكون محبوبًا من الشعب ويكون رمزًا للصبر والمثابرة والأمل وفي السجن كان يكتب ويحرر الأوراق ويدعو المناضلين من أمثاله للمصابرة وكان هناك مفازة بعيدة أمام تغير الوضع ولكن أراد الله تبارك وتعالى ذلك، هذا مع كافر! فكيف مع مسلم؟ كيف إذا كان يقرأ القرآن؟ كيف إذا كان يسمع قصص الأنبياء؟ كيف إذا كان يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لما كان في الغار والمشركون حول الغار جالسون ينظرون ويتحدثون وأبو بكر يسمعهم ويقول يا رسول الله القوم وصلوا إلينا فيقول له النبي - صلى الله عليه وسلم - مُسليًا ومُصبّرًا ومُؤمِّلا ومُرجيًّا "ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟" (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) ما دام الله معنا فلن يضيرنا شيء ولن يكون إلا ما قدّره الله سبحانه وتعالى وقضاه فأبشِر وانتظر الفرج من عند الله سبحانه وتعالى.
النتائج في قصة يوسف كثيرة لما دخلوا على يوسف قالوا ( يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) هنا أراد يوسف عليه السلام أن يكشف الحقيقة ويبين لهم من هو (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ) هذه قاعدة قرآنية (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) فنحن نقول لكل مُبتلى ، لكل إنسان ، لكل من يدخل في غمار هذه الحياة اتق الله واصبر.في سورة آل عمران آية قال الله عز وجل (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ).
الناس أصبحوا الآن في قضية يأس وجزع مما يدور بالمسلمين من قتل وتشريد وتدمير، شيء لا يُطاق، أصبح الإنسان في مرحلة من اليأس والإحباط لما يحصل للمسلمين في كل مكان من الكافرين ، هل نجد في كتاب الله عز وجل ما يبعث الأمل في النفوس لكي يتعزز التفاؤل في أنفسنا ونكون مساهمين في رقي هذه الأمة وإعادة هيبتها؟

لو نقرأ في سورة الشرح (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴿1﴾ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ﴿2﴾ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ﴿3﴾ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴿4﴾ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿5﴾ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿6﴾) انظر كيف جاءت هذه الآية :

أولًا : أكدت بـ (إنّ) للدلالة على أن هذا حق واجب وأن الله سبحانه وتعالى قد وعد به عباده بأن أي عسر سيكون معه يسر.

وثانيًا : أن الله عز وجل كرر هذا المعنى مرتين حتى يتأكد كل إنسان أن كل عُسر نزل به وضُر حل به وبواديه أن الله سبحانه وتعالى سيجعل معه يسرًا وليس بعده، اليسر ينزل معه.

ثم أيضا قال العلماء : لن يغلب عسر يسرين، فالعسر المذكور في الآيتين هو في الحقيقة واحد لأنه جاء معرفة واليسر المذكور في الآيتين هو يسران وليس واحدًأ لأنه جاء نكرة. وأوضح هذا الأمر لو قلت لأحد جاء رجل ودخل رجل وجلس رجل وسلمت على رجل، كم هؤلاء؟ أربعة. لكن لما أقول جاء الرجل ودخل الرجل وسلّمت على الرجل فهم واحد لأنه جاء معرفة والأول نكرة. فجاءت العسر في الآيتين معرفة لما تعددت صارت شيئًا واحدًا وجاء اليسر في الآيتين مرتين فلما تعدد صار معددًا.

قال العلماء لن يغلب عسٌر يُسرين فالله وعدنا أن يكون مع العسر يسرين وليس يسرًا واحدًا والدليل على ذلك أنك تلاحظ عندما يصاب الإنسان بحادث يجد - سبحان الله - اليُسر من الله واضحًا أمامه أول شيء أنك ما تُحس بشيء من آلآمك، عندما يصاب الإنسان بحادث يخرج من دون أن يشعر بشي وهذا من يسر الله له، لأنه لو كان يشعر بالآلآم من تلك اللحظة كان يزعج نفسه ويزعج الآخرين بحيث لا يستطيع أحد أن يسعفه ، ولكنه سبحان الله يقف مصدر الألم عنده حتى يصل إلى المستشفى.

ثم انظر إلى نفسك ما تفكر في عسر نزل بك إلا وتجد أن الله تعالى قد جعل فيه يسرًا ثم يسر فإذا أصابك كسر في رجلك تقول الحمد لله أنه لم يكن في الرجلين ولا في اليدين ولا في العينين ولا في القلب فالحمد لله أنا في نعمة فيخف عليك الألم الذي أنت فيه ، لذلك يقول النبي "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم". من أراد ألا يزدري نعمة الله عليه وأن ينبعث الأمل في نفسه لا تنظر إلى من هو فوقك في الرزق والمال والصحة والأمن والولد والأهل والوطن لا تنظر إلى من هو فوقك لأن هذا سيبعثك على الإحباط والتسخط لقضاء الله وقدره ، انظر إلى من هو أقل منك ستجد أنك مسرور وفرح الحمد لله أنا في خير وعافية وما عندي إلا أن عساي أن أشكر الله عز وجل.

إفترض أن راتبك ألفين ريال تقول أنا راتبي قليل كيف سأصنع في هذه الحياة؟! وماذا ستصنع لي هذه الألفين ريال.!

أُنظر إلى هذا العامل الذي يشتغل من بعد صلاة الفجر إلى بعد صلاة العصر بثلاثمائة ريال! ماذا يأكل؟! وماذا يبقي لأهله؟! وماذا يدّخر؟! أنت راتبك ضعف راتبه ثمان أو تسع مرات! احمد الله على ما أنت فيه من النعمة وقل الحمد لله أنا في خير لكن لو قلت أخي راتبه عشرون ألفًا وأنا ألفين معناه أنا سأبقى تعيسًا طول حياتي!. "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم".
أنا متفائل ولله الحمد والمنة وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يديم علي نعمته ولا أنكر أنه قد يأتيني أحيانًا من نزغ الشيطان ما يضيق صدري ولكن الإنسان يذكر الله فيطمئن قلبه ويتذكر نعمة الله فيتفاءل ويشعر أنه مُقبلٌ على خير ويحمد الله ويُحسن الظنّ بالله. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي: (أنا عند حسن ظن عبدي بي) ، يعني كما تحسن الظن بالله يكون الله معك على ما أحسنت الظن به، إذا ظننت أن الله ينصرك ويوفقك وييسر أمورك ويعطيك فعل الله بك ذلك، وإن ظننت أن الله سيحرمك وأن الله سيقدّر عليك المكاره والمصائب والآلآم والمشاق فإنك ستنتظر منه ذلك. "وأنا معه حين يذكرني".

----------------------------------
المصدر : موقع ملتقى أهل التفسير / بتصرف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق