الشيخ د . محمد بن عبدالله الربيعة
/ ثم قال الله - سبحانه وتعالى - أيضا في تمام دعوتهما ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) أي هنا دعوة من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأن يكونا مسلمين محققين للإسلام . وتسمية الإسلام هنا دلالة على أن دين الإسلام هنا ، دين أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي سماه الله الإسلام موصولا بدعوة إبراهيم وأنه هو الحق كما أخبر الله في سورة الحج ( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ) امتنانا على هذه الأمة أن إبراهيم هو الذي سمى هذه الأمة أمة مسلمة بهذه الدعوة ، قال ( وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) هذه الذرية هي أمة محمد لأنه ليس هناك ذرية وليس هناك أمة من ذرية إسماعيل وذرية إبراهيم إلا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أما ما سبق من الأمم فهي من ذرية إسحاق فكأن الله تعالى أراد أن يُورث هذا البيت ، ويُورث هذا الدين والإمامة فيه إلى ذرية إسماعيل بعد أن ورثه بنوا إسحاق وبنوا يعقوب ،بنوا إسرائيل الذي هو يعقوب ، ورثوه فلم يقوموا به حق القيام ، كفروا وكذبوا ، فلما لم يقوموا بذلك أراد الله أن يُشرف هذه الأمة المحمدية التي هي أمة واحدة أما بنوا إسرائيل فأنبياؤهم كُثُر يزيدون على الثلاث مائة نبي ورسول مما يدل على فضيلة هذه الأمة أن الله لم يرسل منها إلا نبي واحد وقد آمنت واستجابت وانقادت لأمر الله - عز وجل - .
/ ثم قال الله ( وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ) المناسك قيل أنها التعريف بمناسك الحج كله ، معالم البيت والحج ، وهذا صحيح ولكن الأكمل منه أن النُسُك في اللغة هو : غاية العبادة ، كأن الله تعالى أراد أن يُبيّن أن إبراهيم وإسماعيل دعيا لهما ولذريتهما بكمال الدين،وقد أكمل الله لذريتهما الدين ، أكمل الله تعالى هذا الدين الذي هو دين الإسلام وأراهم مناسكهم وعبادتهم بأتم صورة وأوضح بيان ( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فما أعظم رحمة الله وحلمه أن الله استجاب لدعوة إبراهيم وإسماعيل بأن يريهما وذريتهما مناسكهما أي أمور العبادة حتى يعبدون الله على بصيرو ولا يكون هناك مشقة وأن يكون ذلك في يُسر وهو ما حققه الله لهذه الأمة فهذا فضل الله تعالى عظيم .
/ قال الله تعالى ( وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) إشارة في دعوتهم هذا للعصاة بأن يتوب الله عليهم من هذه الأمة التي قد ظلمت فلعل الله أن يتوب عليهم ، فهنا دعوة للتوبة للعصاة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - دعوة موصولة منذ عهد إبراهيم إلى قيام الساعة بالتوبة ، وهذا يدعوا العصاة إلى أن يتوبوا إلى الله وأن يحققوا دعوة أبيهم إبراهيم وإسماعيل بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى فما أعظم أن يستشعر العاصي حينما يعصي الله - عز وجل - أن إبراهيم وإسماعيل دعا له فيجب أن يُحقق هذه الدعوة .
/ قال الله ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً ) وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - ذكر الله في مهمة الرسول ثلاث وظائف : الأولى : ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ) وهو القرآن ، ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ) أي يعلمهم ما في هذا القرآن ، ( وَالْحِكْمَةَ ) أي تطبيق هذا القرآن وهي السنة ، فالمقصود بالحكمة السنة ، والحكمة هي موضع الشيء في موضعه ، فكأنه يأمرهم بوضع هذه الأحكام في موضعها في الواقع في حياتهم وسلوكهم وأعمالهم . قال الله ( وَيُزَكِّيهِمْ ) التزكية تكون بالإيمان ، بالعمل الصالح والتربية الصحيحة الكاملة . فهذه وظائف النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا يؤكد لنا أن خير ما يتزكى به الإنسان هو كتاب الله لأن الله تعالى قال (يتلو) ثم التعليم بأن يتعلم هذا القرآن لمعرفة معناه وفهم ما فيه من دلالات ومقاصد وماذا يريد الله،ثم العمل به ثم التزكية التي هي تمام الأمر وامتثاله والعمل به.
فما أعظم هذا المنهج لو سلكه الإنسان،أن يتلو كتاب الله ويتعلم ما فيه من العلم والحكمة والعمل ، ثم يتزكى بامتثاله في واقعه .
/ ثم قال الله - سبحانه وتعالى - ( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ) إشارة إلى بني إسرائيل ، كأن الله قال لما بيّن حق إبراهيم وأنه حقق التوحيد وهو الذي بنى البيت ، حق إسماعيل ودعوتهما ونبوتهما قال الله - عز وجل - ( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ) .
ثم قال بعدها ( وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ) وهذا من مناقب إبراهيم ، ( وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) أي أن الله أصلح له شأنه في الدنيا وفي الآخرة .
/ ثم قال الله تعالى ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ) لاحظوا كلمة الإسلام هنا ، فقال ( أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) لم يقل لربي للدلالة على أنه يعتقد ربوبية الله عز وجل من جميع الخلق ، أن جميع الخلق مسلمون لله طوعا أو كرها وأنهم مربوبين لله تعالى ، عباد له جميعا .
/ قال الله - عز وجل - ( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ) التي وصى بها هي كلمة التوحيد التي هي الإسلام ، وهي إشارة لبني إسرائيل أن هذه وصية إبراهيم لكم والدليل على ذلك أنه قال ( وَيَعْقُوبُ ) ذكر نبيهم وأبوهم يعقوب عليه السلام لأنهم ينتسبون إليه ( يا بني إسرائيل ) فإسرائيل هو يعقوب فكأن الله هنا بعد أن ذكر حال هذه الأمة المحمدية وشرفها انتقل حديثه إلى بني إسرائيل ليشير لهم أن هذه الدعوة موصولة لكم أيضا وهي وصية إبراهيم ووصية يعقوب لكم فاتبعوها واسلكوها ولا ترغبوا عنها وتتركوها ( يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) فانظروا كيف أعاد ذكر الإسلام هنا للتأكيد على أنه الدين الحق .
وهنا سر عظيم وهو : أن تكرار الشيء في القرآن يدل على التأكيد عليه ويدل على أهميته فتأملوا هنا تكرار لفظ الإسلام ، تأملوا في آية الدَّين تكرار لفظ الكتابة ، تأملوا في آية القبلة تكرار ( فولِّ وجهك ) كل ذلك تأكيد .- ولله المثل الأعلى ولكتابه - أنت لو أرادت من ابنك أمر عظيم أن يلتزمه ، مثلا : سلمته قيادة السيارة فقلت له : يا ولدي لا تسرع ، لا تسرع ، فكررت عليه هذا الأمر لأهميته لأنك تخشى على نفسه ، فتكرار الشيء وإعادته تأكيد على عظمه وأهميته وأنه مهم في حياة الإنسان فلذلك الله تعالى هنا كرر لفظ الإسلام وأمر به ووصى به لأهميته وليحققه بنو إبراهيم من بني يعقوب وإسماعيل .
-----------------------------
مصدر التفريغ / ملتقى أهل التفسير
( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ*وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ *وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ *وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ *رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ*إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ *وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )
هذا المقطع يبين لنا الأصل الثاني الذي ترجع إليه هذه الأمة المحمدية ، فهو ذكر في بداية السورة قصة آدم وهي الأصل الأول الذي ترجع إليه في البداية ثم ذكر الأصل الثاني وهو الأصل الإبراهيمي مما تتفق عليه الأمم السابقة وتنتسب إليه دعوة واقتفاء وبيانا لأن هذه الأمة المحمدية الأحق بوراثة إبراهيم عليه السلام وذلك لأنها هي الأمة التي اتبعت ملته وكانت على منهجه في التوحيد فكأن الله - عز وجل - أراد هنا أن يبين لبني إسرائيل الأمة المستخلفة أنكم إن كنتم صادقين في ولاية الدين وفي وراثة إبراهيم فكونوا على ملته فإن لم تكونوا كذلك فلستم أهلا لولاية الدين .
قال الله - عز وجل - بعد أن انتهى من قصة بني إسرائيل مباشرة " وإذ " أي واذكروا ، أو واذكر يا محمد ( إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ) . تأملوا أيها الأحبة : أن الله تعالى قال ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ) مما يدل على أن الدين لابد له من الابتلاء ، فإن الله ابتلى إبراهيم وهو من صفوة الخلق ، وهذا يؤكد لنا أن الدين أيها الأحبة لابد فيه من صبر وفيه مشقة ، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( حُفت الجنة بالمكاره ) المكاره المشاق ،قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أشد الناس بلاء الأنبياء ) لماذا ؟ ليصفو دينهم ولتمحيصهم وتصفيتهم وتخليصهم لربهم - عز وجل - فإن المعدن لا يمكن أن يصفو إلا بعد تصفية ومشقة تصفو منه خلاصته وصفوته ، فكذلك الناس في الدين لابد حين يُصفى الناس لدين الله - عز وجل - لابد من الابتلاء .
/ قال الله - عز وجل - ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ) قدّم إبراهيم هنا مع أن المُبتلي هو الله ، فالأصل أن يقول : وإذ ابتلى الله إبراهيم ، فقدّم إبراهيم هنا لأن الحديث عنه والسياق عنه وتكريما وتشريفا له .
/ قال ( رَبُّهُ ) ولم يقل " وإذ ابتلى إبراهيم الله " دليل على أن الله ابتلاه تربية له وتهيئة له من الله - عز وجل - وهذا يؤكد أن المؤمن حين يُصاب بهذا البلاء فإن هذا تربية له من الله - عز وجل - وتهيأة له إلى أن يخلص لربه سبحانه وتعالى .
/ ثم قال الله ( بكلمات ) وهنا وقفة مهمة في قول الله - عز وجل - ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ) : لماذا لم يقل بالدين أو بالأمانة أو بالحنيفية أو بالصلوات أو بأركان الدين أو شعائر الدين أو غير ذلك ؟
الكلمات هنا إشارة إلى أن بنوا إسرائيل حين خالفوا ملة إبراهيم الحنيفية أراد أن يُخفيها هنا لينظر ما هي هذه الكلمات ، لعلهم قد اتصفوا بها فيكونوا هم الذين حازوا على ولاية إبراهيم ووراثته في ملته فأخفاها هنا .
وفي هذا مناسبة لطيفة مهمة وهي : أن الأمر النفيس يُخفى ليُعلم قدره كما يُقال خبأت لك أمر أي أمر مهم ، فهنا الذهن يجوب في البحث عن هذا الأمر المهم ، فالسر - والله تعالى أعلم - في إخفاء الكلمات هنا وعدم التصريح بها لكي تتحفز النفوس المؤمنة الصادقة في اتباع إبراهيم بالنظر إلى هذه الكلمات ومعرفتها لتحقيقيها والتمسك بها لأنها سبب لنيل الإمامة . فما كان سببا لنيل الإمامة فلا شك أنه نفيس وعظيم ، فأخفاها الله تعالى لتتحفز النفوس المؤمنة الصادقة في معرفتها ،وهذا مثله مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إن لله تعسة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة ) ولم يذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - لتتحفز النفوس إلى البحث عنها ومعرفتها وتحقيقها وتدبرها وما وراءها من معاني ودلائل حتى تتمكن منها فكذلك أخفاها هنا لتبحث عنها النفوس وتتحلى بها لتنال شرف الإمامة في الدين .
/ وهذه الكلمات اختلف فيها العلماء على أقوال كثيرة عشرة أقوال أو تزيد :- فبعضهم قال أنها شرائع الدين
- وبعضهم : قول إبراهيم " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر "
- وبعضهم قال : أن الكلمات المواضع التي ابتلى فيها إبراهيم في التوحيد كإخراج قومه له من بلده ، وإبقاء زوجته وابنه في موضع البيت ، وأمره بذبح ابنه ، وإلقائه في النار ، كل ذلك مما ابتُلي به إبراهيم .
- وقيل : هي الكواكب التي حاجّ بها إبراهيم قومه ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )
- وقيل : هي خصال الفطرة التي أُمر إبراهيم أن يتحلى بها .
كل هذه الأقوال لاتعارض بينها لكن الذي يجمعها ويحققها وهو المقصود هنا ، هو أن المقصود هنا كلمات التوحيد التي من حققها وحقق كمالها فإنه سينال الإمامة في الدين ،لأن المقصود من السياق أيها الإخوة ليس سياقا طبيعيا بل هو سياق في تحقيق الإمامة ، ولا شك أن أعظم كلمة تكون سببا لنيل الإمامة هي كلمة التوحيد فجمعها الله هنا للدلالة على أن كل ما يدلّ عليها داخل فيها ، فالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد داخل فيها ، وكذلك شعائر الدين داخل فيها ، فتعدادها هنا دليل على أنها تشمل شعائر الدين كله ولكن أصلها هي كلمة التوحيد التي يخلُص فيها المؤمن لربه عز وجل موحدا مخلصا .
/ قال الله تعالى ( فَأَتَمَّهُنَّ) ولم يقل "وأتمهنّ" للدلالة على أن إبراهيم كان حريصا عازما على إتمام التوحيد لأن الفاء للتعقيب ، فهو حريص على مجاهدة نفسه لتحقيق التوحيد لربه - عز وجل - لأنه يعلم أن هذا التوحيد هو السبب لإمامته
وسبب للقرب من ربه - عز وجل - وخلوص دينه . قال الله - سبحانه وتعالى - ( فَأَتَمَّهُنَّ) وهذا يؤكد أن إبراهيم قد أتمّ الدين وأكمله ، وهو ممن كمُل من خلق الله عز وجل في دينه . وكما قال الله - عز وجل - (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) أي وفى الدين وكمّله ويبين لنا أن أعظم طريق لتحقيق الكمال هو التوحيد ، من حقق التوحيد فقد حقق كمال الدين كله ، لأن من حقق التوحيد خالصا فلا يمكن أن يصرف عملا من أعماله إلا لله - عز وجل - لأنه يعرف أنه عبد لله ويعرف أنه متوجه إلى الله ، ويعرف أنه مأمور بعبادة الله فلا يمكن الموحد أن يصرف شيئا بل من خواطره لغير الله تعالى فلذلك الله تعالى ابتلى إبراهيم في ابنه وأمره أن يذبحه لكي لا يقع في قلبه تعلق بغير الله - عز وجل - فلما رأى الله تعالى صدقه في تخليه عن ابنه لوجه الله ، لله تعالى لأمره فدلّ ذلك على خلوصه وكمال التوحيد في قلبه .
فأيها الأحبة : إذا كان الإنسان غير مستعد للتنازل عن شيء لأجل الله فليس محققا للتوحيد أما إذا كان لديه استعداد صادقا وليس تمنيا ، وليس تلفظا وإنما صدقا أن يتخلى عن كل شيء لأجل الله - عز وجل - حتى ماله وحتى بلده وحتى كل ما عنده يدلّ ذلك على صدق توحيده لله - سبحانه وتعالى - وإيمانه .
/ بعد أن أتمّ سبحانه التوحيد قال ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) الله أكبر ، ما أعظم هذا الجزاء العظيم ، والجزاء من جنس العمل ، لما أنه أخلص دينه لله أخلصه الله لنفسه وجعله إماما يُقتدى به ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) كلا الآيتين دالتان على هذا المعنى .
قوله ( لِلنَّاسِ ) يدل على أن إبراهيم هو مرجع الأنبياء بعده ، جميع الأنبياء بعد إبراهيم من سلالته ، كلهم يرجع إليه ، وفي هذا فضل ومنقبة لإبراهيم ، والحديث كله هنا في مناقب إبراهيم .
قال ( إِمَامًا ) أي جامعا للخير كله وقدوة يُقتدى به في الخير كله . انظر ماذا كان جواب إبراهيم ؟ مباشرة لما أن الله أكرمه في نفسه جعله إماما كان حريصا على أن تبقى هذه الإمامة في ذريته قال ( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) ولم يقل " وذريتي " لماذا ؟
لأنه يعلم أنه سيكون من ذريته من هم كفار من ليسوا على الدين لأن هذه سنة الله في خلقه لابد أن يكون من خلق الله ناس كفار وناس مؤمنون ، سنة باقية إلى قيام الساعة ، فهو يعلم لما قال ( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) أي من الصالحين المؤمنين .
ماذا قال الله ؟ وهذا يجعلنا نقول أن الحرص عى الذرية أمره عظيم ، الحرص على بقاء الصلاح فيهم من أهم المهمات للمسلم بل من أهم ما يدعو المسلم ربه - عز وجل - أن يُصلح الله ذريته بعد أن يمُنّ الله تعالى عليه بالصلاح . فها هو إبراهيم ما قال ( وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ) تأخر قوله ( وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ) فبدأ بذريته لكي تصلُح بعده ، لاشك أن صلاح الذرية صلاحٌ للإنسان يُعينونه والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر من الأعمال التي لا تنقطع بعد موت الإنسان ولد صالح يدعو له ، فهذا نأخذ منه درسا عظيما لنا تربويا أن الإنسان يدعو أن يُصلح الله ذريته وأن يُبقي الدين فيهم وأن يجعلهم أئمة في الدين وهذا مصداقه دعاء عباد الرحمن ( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) فقوله ( اجْعَلْنَا ) يشمل الذرية في الإمامة .
/ (قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) لماذا لم يقل الله عز وجل نعم لك ذلك ، قال الله ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) تعريضا باليهود والمشركين الذين هم من سلالة إبراهيم وليسوا أهلاً للإمامة لأنهم قد تخلو عما كان عليه إبراهيم من الخصال الحميدة وهو التوحيد فظلموا ، فالله تعالى يقول هؤلاء ليسوا أهلا بالإمامة فكأنه تعريض بهم أنكم أنتم أيها الظالمون بعد أن تخليتم عن ملة إبراهيم لستم أهلا للإمامة ، فوسع الله دائرة القبول وخصّ دائرة عدم القبول وهي الظالمين تكريما لإبراهيم هنا .
والحظوا - أيها الإخوة - التعبير بقوله " الظالمين " فإن هذا الوصف من الأوصاف الدالة على أن من كان فيهم هذا الوصف حقا فليس أهلا للإمامة . والظلم ثلاثة أنواع :- ظلم الإنسان لنفسه بالسيئات والمعاصي ،فأهل المعاصي ليسوا بأهل للإمامة إلا من تاب وصدقت توبته ورجع إلى الله وجدد إيمانه وعبوديته هذا لا يدخل في ذلك .
- ظلم الإنسان للعباد بغيبتهم وأكل أموالهم وسبهم والعدوان عليهم وغير ذلك ، وما أكثر أنواع الظلم بين الناس .
- والثالث وهو الأكبر ظلم الإنسان في عبوديته لله - عز وجل - بإشراكه وريائه ، الشرك الأصغر والأكبر .
كل ذلك ظلم ، فكأن الله يقول من كان في هذا الوصف ليس أهلا للإمامة . فهذا حري أن نضعه أمام أعيننا واهتمامنا أن يتجرد الإنسان من الظلم كله ما استطاع إلى ذلك سبيلا .
/ ثم قال الله - عز وجل - ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً ) هذه الآية في بيان فضيلة البيت الحرام الذي ورثه إبراهيم وأسسه فكأنه تهيئة وتمهيد لمن ينال هذا البيت ، من هم أحق الناس ، كأن الله يقول أحق الناس بولاية هذا البيت هم من كان على ما كان عليه إبراهيم ولذلك قال الله بعد أن بيّن مناقب البيت ( مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً ) ما معنى مثابة ؟ أي مرجع يثوب إليه يرجع إليه فالناس كلهم يثوبون إلى البيت ويرجعون إليه ، وها نحن نرى المسلمين في أقطار الأرض تهوى أنفسهم أن تثوب وترجع إلى البيت ويتعلقون به في كل مكان وهذا سنة من سنن الله - عز وجل - في المؤمنين أن الله حبب في قلوبهم البيت والرجوع إليه والإثابة إليه والإتيان إليه .
/ ثم قال ( وَأَمْناً ) وهذه خاصية ومنقبة للبيت أن جعل الله له الأمن التام ، الأمن إلى يوم القيامة .
/ ثم قال الله عودا في السياق إلى إبراهيم قال ( وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) في مقام إبراهيم ثلاثة أقوال :
- قيل هو البيت ، مقام إبراهيم هو البيت لأنه هو الذي أسسه .
- وقيل هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم لبناء البيت
- وقيل مقام إبراهيم هو شعائر الحج .
والظاهر والله أعلم أن المقصود هنا القولان الأولان وهما الحجر تشريفا لأن إبراهيم جُعل له مقام عند البيت ، والبيت الحرام الذي أسسه إبراهيم ، ويدل على ذلك أن الآية فيها قراءتان :
- القراءة الأولى (وَاتَّخَذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى )- والقراءة الثانية متوجهة في الخطاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ( وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) وهاتان القراءتان قراءتان صحيحتان على هذين المعنيين .
وهذا منقبة لإبراهيم ، شرف أن الله تعالى جعل له مقاما يُذكر به ولا شك أعظم شرف ، أي شرف أعظم من أن يُوضع لرجل في الأرض مقاما عند البيت فيذكره الناس ويصلون خلفه لله - عز وجل - لاشك أن هذا خصلة عظيمة دالة على فضل إبراهيم وشرفه .
/ ثم قال الله تعالى (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) وهذه منقبة من مناقب إبراهيم أن الله تعالى عهد إليه ولاية البيت وتطهيره فلاشك أن هذا دال على فضله .
لكن السؤال أيها الأحبة ما حكمة ذكر إسماعيل هنا ولم يذكر يعقوب وإسحاق ؟الحكمة : إشارة إلى هذه الأمة المحمدية أنها أولى الناس بولاية البيت بعد نزول هذه الآية ، لأن الله حين شرف إسماعيل بأن كان مع أبيه في ولاية البيت وعهده وبنايته فلاشك أنه أولى الناس بوراثته من بعده ولذلك كأنها إشارة إلى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أولى من يرث هذا البيت إن كانت على ما كان عليه إبراهيم .
/ ثم قال الله (طَهِّرَا بَيْتِيَ) والتطهير هنا يشمل معنيين : تطهير معنوي بإقامة الدين ونبذ الشرك ، وتطهير حسي بتنزيه هذا البيت من النجاسات والأصنام وغيرها .
وهذا يدلنا على فضيلة القيام على المساجد وأن القائم على المسجد تنظيفا ، صيانة وتهيئة لاشك أن له فضيلة لأن الله ولى وعهد إلى إبراهيم وإسماعيل ولاية البيت الحرام وتطهيره فلاشك أن بيوت الله من قام بها فله من الفضل بمقدار ذلك البيت ، بيت الله تعالى فحري بنا أيها الأحبة أن نعني بهذه الخصلة التي كانت من خصال إبراهيم وإسماعيل أبينا عليهما الصلاة والسلام .
/ قال الله تعالى ( لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أما الطائفون فذُكِروا وقُدِموا لأن ألصق عبادة بالبيت هي الطواف ، وأما العاكفون فاختُلف فيهم : قيل هم الملازمون للبيت القائمون العاكفون الجالسون فيه ، وقيل : هم أهل البيت وهذا هو الأصح أهل البيت الذين هم حوله ملازمون فيه سُكنا . كأن الله تعالى أراد أن يُهيئ لهم إبراهيم هذا البيت ويطهره ليُقيموا فيه عبادة الله تعالى .
وقال ( وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) خصّ الركوع والسجود ولم يقل المصلين لأمرين :الأول : إشارة إلى خاصية الصلاة وأنها خضوع لله - عز وجل - وأن المقصود بالصلاة تعظيم الله والخضوع له ، فالركوع إشارة إلى تعظيم الله تعالى ، والسجود إشارة إلى الخضوع والتذلل لله - عز وجل - لهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يُستجاب لكم ) فهذا المعنى الأول .
المعنى الثاني : هو إشارة إلى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن الركوع دالّ على صلاة أمة الإسلام ، فاليهود ليس في صلاتهم ركوع فدلّ ذلك على أن أولى الناس بالبيت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
فانظروا كيف جاءت العناية الربانية بهذه الأمة تهيئة لها وإعدادا لها وتعريضا بغيرها صرفا لهم عن ذلك .
/ قال الله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) هذه فضيلة من فضائل إبراهيم ومنقبة من مناقبه أنه دعا ربه تهيئة البيت لعبادة الله ، ودليل على حرصه لأمته أن يُقيموا الدين في استقرار وأمن ورغد عيش فقال ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ) .
هنا قال ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) وفي سورة إبراهيم قال ( هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) فما الفرق بينهما ؟
الفرق بينهما : أن هذا الدعاء كان ابتداء يوم أن أبقى زوجته وابنه عند البيت فقال ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا) قبل أن يُقام فيه البيت ويبنيه ابتداء ، ثم لما بناه قال ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) الألف واللام للتعريف . فهذا أوجه المعاني بين المتشابه بين اللفظين .
/ إبراهيم عليه السلام دعا للبيت بأمرين :
- الأول : أن يكون آمنا
- الثاني : أن يرزق أهله من الثمرات .
وهذان هما عصب الحياة للإنسان وبقائه واستقراره ، عصب الإنسان في الحياة استقرار أمنه واستقرار عيشه ، ولاشك إذا كان الإنسان آمنا في بلده ، معافا في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها . فإبراهيم يريد أن يُهيئ الله تعالى لمن يلي هذا البيت باستقرار تام ، وهذا دليل على فضل إبراهيم وسعة أفقه وبُعد نظره أنه يعلم أنه لن يُقام الدين إلا باستقرار ، وهذا يؤكد أيها الأحبة أنه لا يقوم الدين قياما كاملا إلا بالأمن التام وتوفر المعيشة لأنه إذا لم تتوفر المعيشة كان الناس مشتغلون بعيشهم عن عبادة ربهم ، فإبراهيم عليه السلام أراد أن يُهيئ للناس حتى لا يُشغلهم شاغل عن عبادة ربهم - عز وجل - فما أعظم وأحكم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وفضله علينا بهذا كبير .
واستجاب الله دعاءه فجعل الله تعالى لنا حرما آمنا يُجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا ، من يوم أن دعا إبراهيم إلى قيام الساعة ومكة بلد الله آمنا يُجبى إليه ثمرات كل شيء فضلا من الله ورزقا .
وتأملوا أنه قال " من الثمرات " ولم يقل ثمرة دليل على أن إبراهيم أراد أن يوسع على أهل هذا البلد بالثمرات والرزق ، ولا يكون عيشهم شظفا ليُقيموا الدين إقامة كاملة كما أمرهم الله تعالى ولهذا قال ( مَنْ آمَنَ مِنْهُم ) هو يدعو هنا لمن آمن منهم بالله واليوم الآخر فنأخذ من هذا أيضا درسا وهو : أن طلب العيش لإقامة الدين والاستغناء عن الناس أمر مشروع بشرط ألا يُشغل الإنسان هذا العيش عن عبادة ربه ، أما إذا كان هذا العيش وهذا الرزق الذي يسعى إليه الإنسان يُعينه على طاعة ربه ورعاية أهله والنفقة في سبيل الله تعالى والبذل مما آتاه الله فلاشك أن هذا من العبادة لله - عز وجل - التي أمر الله بها .
/ قال الله (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) يعني أن الذين كفروا سيُهيئ الله لهم العيش لكنه يمتعهم في الدنيا قليل ثم يضطرهم يوم القيامة بعد كفرهم وعنادهم وتكذيبهم إلى عذاب النار وبئس المصير ، وهذا تعريض بالمكذبين من اليهود والمشركين الذين وَلَوا هذا البيت وكفروا مع أن الله متعهم لكن الله تعالى يقول ( فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ) يوم أن ولاهم الله فكفروا ثم اضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير .
/ ثم تأتي بعد ذلك منقبة أخرى من مناقب إبراهيم وهي تأسيس هذا البيت وبنائه قال الله ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ) هذه منقبة لإبراهيم أنه هو الذي أسس البيت ورفعه ، ولم يقل " بنى " قال " رفع " وهنا خلاف بين المفسرين هل إبراهيم هو الذي أسس البيت أم آدم عليه السلام ؟فيه خلاف وفيه روايات أن اليت كان موجودا قبل إبراهيم وأنه موجود في عهد نوح فجاء الطوفان فجرفه مع السيل وقيل إن الذي بناه آدم لكن يظهر -والله تعالى أعلم - بعد التأمل والبحث أن إبراهيم هو الذي أسس البيت لأمرين :
- الأول : أن الله تعالى لم يذكر عن نوح ولا عن آدم مع عِظم هذا الأمر أنهما بنيا البيت ، ولاشك أن بناء البيت ليس بالأمر الهين والسهل وقد ذكر هنا أن إبراهيم هو الذي رفع قواعد البيت .
- الثاني : أنه قال هنا (الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) أي الأسس ، معناه أنه هو الذي أسسه ، وإلا لو لم يكن هو الذي أسسه لما قال القواعد لو لم يكن هو لقال وإذ يرفع إبراهيم البيت ، قواعده موجودة من قبل لكن يظهر أن قوله " القواعد " أنه هو الذي أسسه . أما ماذا كان البيت قبل ذلك فقيل : أنه قبل إبراهيم كان مرتفعا من الأرض أي تلة من الأرض وكانوا يطوفون حولها وكانت معروفة أن هذا بلد الله أو بيت الله ، مثل الصفا والمروة الآن ما بُنيت إلى عهد قريب وإلا فإن الأصل جبلان يُسعى بينهما فموضع البيت أيضا كان مرتفعا ومعروف أنه هو البيت كانوا يطوفون حوله . هذا هو الأظهر والله تعالى أعلم بالصواب .
/ قال ( وَإِسْمَاعِيلُ ) إشارة إلى فضيلة إسماعيل ببناء البيت ومشاركته وأنه لم يشاركه إسحاق الذي هو نبي وأب بني إسرائيل اليهود والنصارى . فذِكر إسماعيل يدل على أن هذه الأمة أولى الناس بالبيت بعد نزول هذه الآية .
ثم تأملوا قولهما ( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) يدلنا على صدقهم وإخلاصهم أن يكون هذا البيت لله خالصا ، ونأخذ من هذا - وفقنا الله وإياكم - إلى أن الإنسان وهو يقوم بالعمل الصالح أن يتقبله الله خالصا ، يجعله خالصا لله تعالى .هذا البيت هو من أعظم الأعمال ولاشك أننا نأخذ من هذا أيها الأحبة فضيلة رفع بيوت الله وبنائها ، ونأخذ من قوله ( يرفع ) فضيلة الرفع في المساجد وليس معناها رفعها أن تكون شاهقة بمبالغة وإنما رفعها بمعنى أن يكون لها سمة الرِفعة ، والبروز عن بيوت الناس بما أمكن . ونأخذ منه وهو الأصل رفعها عما لا يليق بها فلابد أن تُرفع هذه المساجد بذكر الله ، والله تعالى يقول في سورة النور ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ) بماذا تُرفع ؟ بالذكر والإيمان والصلاة وقراءة القرآن والتبتل لله - عز وجل - فهذا لاشك أيها الأحبة من الأمر الواجب الذي يمكن أن نستنبطه من هذه الآيات .
قال الله - عز وجل - بعد أن انتهى من قصة بني إسرائيل مباشرة " وإذ " أي واذكروا ، أو واذكر يا محمد ( إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ) . تأملوا أيها الأحبة : أن الله تعالى قال ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ) مما يدل على أن الدين لابد له من الابتلاء ، فإن الله ابتلى إبراهيم وهو من صفوة الخلق ، وهذا يؤكد لنا أن الدين أيها الأحبة لابد فيه من صبر وفيه مشقة ، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( حُفت الجنة بالمكاره ) المكاره المشاق ،قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أشد الناس بلاء الأنبياء ) لماذا ؟ ليصفو دينهم ولتمحيصهم وتصفيتهم وتخليصهم لربهم - عز وجل - فإن المعدن لا يمكن أن يصفو إلا بعد تصفية ومشقة تصفو منه خلاصته وصفوته ، فكذلك الناس في الدين لابد حين يُصفى الناس لدين الله - عز وجل - لابد من الابتلاء .
/ قال الله - عز وجل - ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ) قدّم إبراهيم هنا مع أن المُبتلي هو الله ، فالأصل أن يقول : وإذ ابتلى الله إبراهيم ، فقدّم إبراهيم هنا لأن الحديث عنه والسياق عنه وتكريما وتشريفا له .
/ قال ( رَبُّهُ ) ولم يقل " وإذ ابتلى إبراهيم الله " دليل على أن الله ابتلاه تربية له وتهيئة له من الله - عز وجل - وهذا يؤكد أن المؤمن حين يُصاب بهذا البلاء فإن هذا تربية له من الله - عز وجل - وتهيأة له إلى أن يخلص لربه سبحانه وتعالى .
/ ثم قال الله ( بكلمات ) وهنا وقفة مهمة في قول الله - عز وجل - ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ) : لماذا لم يقل بالدين أو بالأمانة أو بالحنيفية أو بالصلوات أو بأركان الدين أو شعائر الدين أو غير ذلك ؟
الكلمات هنا إشارة إلى أن بنوا إسرائيل حين خالفوا ملة إبراهيم الحنيفية أراد أن يُخفيها هنا لينظر ما هي هذه الكلمات ، لعلهم قد اتصفوا بها فيكونوا هم الذين حازوا على ولاية إبراهيم ووراثته في ملته فأخفاها هنا .
وفي هذا مناسبة لطيفة مهمة وهي : أن الأمر النفيس يُخفى ليُعلم قدره كما يُقال خبأت لك أمر أي أمر مهم ، فهنا الذهن يجوب في البحث عن هذا الأمر المهم ، فالسر - والله تعالى أعلم - في إخفاء الكلمات هنا وعدم التصريح بها لكي تتحفز النفوس المؤمنة الصادقة في اتباع إبراهيم بالنظر إلى هذه الكلمات ومعرفتها لتحقيقيها والتمسك بها لأنها سبب لنيل الإمامة . فما كان سببا لنيل الإمامة فلا شك أنه نفيس وعظيم ، فأخفاها الله تعالى لتتحفز النفوس المؤمنة الصادقة في معرفتها ،وهذا مثله مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إن لله تعسة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة ) ولم يذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - لتتحفز النفوس إلى البحث عنها ومعرفتها وتحقيقها وتدبرها وما وراءها من معاني ودلائل حتى تتمكن منها فكذلك أخفاها هنا لتبحث عنها النفوس وتتحلى بها لتنال شرف الإمامة في الدين .
/ وهذه الكلمات اختلف فيها العلماء على أقوال كثيرة عشرة أقوال أو تزيد :- فبعضهم قال أنها شرائع الدين
- وبعضهم : قول إبراهيم " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر "
- وبعضهم قال : أن الكلمات المواضع التي ابتلى فيها إبراهيم في التوحيد كإخراج قومه له من بلده ، وإبقاء زوجته وابنه في موضع البيت ، وأمره بذبح ابنه ، وإلقائه في النار ، كل ذلك مما ابتُلي به إبراهيم .
- وقيل : هي الكواكب التي حاجّ بها إبراهيم قومه ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ )
- وقيل : هي خصال الفطرة التي أُمر إبراهيم أن يتحلى بها .
كل هذه الأقوال لاتعارض بينها لكن الذي يجمعها ويحققها وهو المقصود هنا ، هو أن المقصود هنا كلمات التوحيد التي من حققها وحقق كمالها فإنه سينال الإمامة في الدين ،لأن المقصود من السياق أيها الإخوة ليس سياقا طبيعيا بل هو سياق في تحقيق الإمامة ، ولا شك أن أعظم كلمة تكون سببا لنيل الإمامة هي كلمة التوحيد فجمعها الله هنا للدلالة على أن كل ما يدلّ عليها داخل فيها ، فالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد داخل فيها ، وكذلك شعائر الدين داخل فيها ، فتعدادها هنا دليل على أنها تشمل شعائر الدين كله ولكن أصلها هي كلمة التوحيد التي يخلُص فيها المؤمن لربه عز وجل موحدا مخلصا .
/ قال الله تعالى ( فَأَتَمَّهُنَّ) ولم يقل "وأتمهنّ" للدلالة على أن إبراهيم كان حريصا عازما على إتمام التوحيد لأن الفاء للتعقيب ، فهو حريص على مجاهدة نفسه لتحقيق التوحيد لربه - عز وجل - لأنه يعلم أن هذا التوحيد هو السبب لإمامته
وسبب للقرب من ربه - عز وجل - وخلوص دينه . قال الله - سبحانه وتعالى - ( فَأَتَمَّهُنَّ) وهذا يؤكد أن إبراهيم قد أتمّ الدين وأكمله ، وهو ممن كمُل من خلق الله عز وجل في دينه . وكما قال الله - عز وجل - (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) أي وفى الدين وكمّله ويبين لنا أن أعظم طريق لتحقيق الكمال هو التوحيد ، من حقق التوحيد فقد حقق كمال الدين كله ، لأن من حقق التوحيد خالصا فلا يمكن أن يصرف عملا من أعماله إلا لله - عز وجل - لأنه يعرف أنه عبد لله ويعرف أنه متوجه إلى الله ، ويعرف أنه مأمور بعبادة الله فلا يمكن الموحد أن يصرف شيئا بل من خواطره لغير الله تعالى فلذلك الله تعالى ابتلى إبراهيم في ابنه وأمره أن يذبحه لكي لا يقع في قلبه تعلق بغير الله - عز وجل - فلما رأى الله تعالى صدقه في تخليه عن ابنه لوجه الله ، لله تعالى لأمره فدلّ ذلك على خلوصه وكمال التوحيد في قلبه .
فأيها الأحبة : إذا كان الإنسان غير مستعد للتنازل عن شيء لأجل الله فليس محققا للتوحيد أما إذا كان لديه استعداد صادقا وليس تمنيا ، وليس تلفظا وإنما صدقا أن يتخلى عن كل شيء لأجل الله - عز وجل - حتى ماله وحتى بلده وحتى كل ما عنده يدلّ ذلك على صدق توحيده لله - سبحانه وتعالى - وإيمانه .
/ بعد أن أتمّ سبحانه التوحيد قال ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) الله أكبر ، ما أعظم هذا الجزاء العظيم ، والجزاء من جنس العمل ، لما أنه أخلص دينه لله أخلصه الله لنفسه وجعله إماما يُقتدى به ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) كلا الآيتين دالتان على هذا المعنى .
قوله ( لِلنَّاسِ ) يدل على أن إبراهيم هو مرجع الأنبياء بعده ، جميع الأنبياء بعد إبراهيم من سلالته ، كلهم يرجع إليه ، وفي هذا فضل ومنقبة لإبراهيم ، والحديث كله هنا في مناقب إبراهيم .
قال ( إِمَامًا ) أي جامعا للخير كله وقدوة يُقتدى به في الخير كله . انظر ماذا كان جواب إبراهيم ؟ مباشرة لما أن الله أكرمه في نفسه جعله إماما كان حريصا على أن تبقى هذه الإمامة في ذريته قال ( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) ولم يقل " وذريتي " لماذا ؟
لأنه يعلم أنه سيكون من ذريته من هم كفار من ليسوا على الدين لأن هذه سنة الله في خلقه لابد أن يكون من خلق الله ناس كفار وناس مؤمنون ، سنة باقية إلى قيام الساعة ، فهو يعلم لما قال ( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) أي من الصالحين المؤمنين .
ماذا قال الله ؟ وهذا يجعلنا نقول أن الحرص عى الذرية أمره عظيم ، الحرص على بقاء الصلاح فيهم من أهم المهمات للمسلم بل من أهم ما يدعو المسلم ربه - عز وجل - أن يُصلح الله ذريته بعد أن يمُنّ الله تعالى عليه بالصلاح . فها هو إبراهيم ما قال ( وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ) تأخر قوله ( وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ) فبدأ بذريته لكي تصلُح بعده ، لاشك أن صلاح الذرية صلاحٌ للإنسان يُعينونه والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر من الأعمال التي لا تنقطع بعد موت الإنسان ولد صالح يدعو له ، فهذا نأخذ منه درسا عظيما لنا تربويا أن الإنسان يدعو أن يُصلح الله ذريته وأن يُبقي الدين فيهم وأن يجعلهم أئمة في الدين وهذا مصداقه دعاء عباد الرحمن ( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) فقوله ( اجْعَلْنَا ) يشمل الذرية في الإمامة .
/ (قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) لماذا لم يقل الله عز وجل نعم لك ذلك ، قال الله ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) تعريضا باليهود والمشركين الذين هم من سلالة إبراهيم وليسوا أهلاً للإمامة لأنهم قد تخلو عما كان عليه إبراهيم من الخصال الحميدة وهو التوحيد فظلموا ، فالله تعالى يقول هؤلاء ليسوا أهلا بالإمامة فكأنه تعريض بهم أنكم أنتم أيها الظالمون بعد أن تخليتم عن ملة إبراهيم لستم أهلا للإمامة ، فوسع الله دائرة القبول وخصّ دائرة عدم القبول وهي الظالمين تكريما لإبراهيم هنا .
والحظوا - أيها الإخوة - التعبير بقوله " الظالمين " فإن هذا الوصف من الأوصاف الدالة على أن من كان فيهم هذا الوصف حقا فليس أهلا للإمامة . والظلم ثلاثة أنواع :- ظلم الإنسان لنفسه بالسيئات والمعاصي ،فأهل المعاصي ليسوا بأهل للإمامة إلا من تاب وصدقت توبته ورجع إلى الله وجدد إيمانه وعبوديته هذا لا يدخل في ذلك .
- ظلم الإنسان للعباد بغيبتهم وأكل أموالهم وسبهم والعدوان عليهم وغير ذلك ، وما أكثر أنواع الظلم بين الناس .
- والثالث وهو الأكبر ظلم الإنسان في عبوديته لله - عز وجل - بإشراكه وريائه ، الشرك الأصغر والأكبر .
كل ذلك ظلم ، فكأن الله يقول من كان في هذا الوصف ليس أهلا للإمامة . فهذا حري أن نضعه أمام أعيننا واهتمامنا أن يتجرد الإنسان من الظلم كله ما استطاع إلى ذلك سبيلا .
/ ثم قال الله - عز وجل - ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً ) هذه الآية في بيان فضيلة البيت الحرام الذي ورثه إبراهيم وأسسه فكأنه تهيئة وتمهيد لمن ينال هذا البيت ، من هم أحق الناس ، كأن الله يقول أحق الناس بولاية هذا البيت هم من كان على ما كان عليه إبراهيم ولذلك قال الله بعد أن بيّن مناقب البيت ( مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً ) ما معنى مثابة ؟ أي مرجع يثوب إليه يرجع إليه فالناس كلهم يثوبون إلى البيت ويرجعون إليه ، وها نحن نرى المسلمين في أقطار الأرض تهوى أنفسهم أن تثوب وترجع إلى البيت ويتعلقون به في كل مكان وهذا سنة من سنن الله - عز وجل - في المؤمنين أن الله حبب في قلوبهم البيت والرجوع إليه والإثابة إليه والإتيان إليه .
/ ثم قال ( وَأَمْناً ) وهذه خاصية ومنقبة للبيت أن جعل الله له الأمن التام ، الأمن إلى يوم القيامة .
/ ثم قال الله عودا في السياق إلى إبراهيم قال ( وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) في مقام إبراهيم ثلاثة أقوال :
- قيل هو البيت ، مقام إبراهيم هو البيت لأنه هو الذي أسسه .
- وقيل هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم لبناء البيت
- وقيل مقام إبراهيم هو شعائر الحج .
والظاهر والله أعلم أن المقصود هنا القولان الأولان وهما الحجر تشريفا لأن إبراهيم جُعل له مقام عند البيت ، والبيت الحرام الذي أسسه إبراهيم ، ويدل على ذلك أن الآية فيها قراءتان :
- القراءة الأولى (وَاتَّخَذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى )- والقراءة الثانية متوجهة في الخطاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ( وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) وهاتان القراءتان قراءتان صحيحتان على هذين المعنيين .
وهذا منقبة لإبراهيم ، شرف أن الله تعالى جعل له مقاما يُذكر به ولا شك أعظم شرف ، أي شرف أعظم من أن يُوضع لرجل في الأرض مقاما عند البيت فيذكره الناس ويصلون خلفه لله - عز وجل - لاشك أن هذا خصلة عظيمة دالة على فضل إبراهيم وشرفه .
/ ثم قال الله تعالى (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) وهذه منقبة من مناقب إبراهيم أن الله تعالى عهد إليه ولاية البيت وتطهيره فلاشك أن هذا دال على فضله .
لكن السؤال أيها الأحبة ما حكمة ذكر إسماعيل هنا ولم يذكر يعقوب وإسحاق ؟الحكمة : إشارة إلى هذه الأمة المحمدية أنها أولى الناس بولاية البيت بعد نزول هذه الآية ، لأن الله حين شرف إسماعيل بأن كان مع أبيه في ولاية البيت وعهده وبنايته فلاشك أنه أولى الناس بوراثته من بعده ولذلك كأنها إشارة إلى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أولى من يرث هذا البيت إن كانت على ما كان عليه إبراهيم .
/ ثم قال الله (طَهِّرَا بَيْتِيَ) والتطهير هنا يشمل معنيين : تطهير معنوي بإقامة الدين ونبذ الشرك ، وتطهير حسي بتنزيه هذا البيت من النجاسات والأصنام وغيرها .
وهذا يدلنا على فضيلة القيام على المساجد وأن القائم على المسجد تنظيفا ، صيانة وتهيئة لاشك أن له فضيلة لأن الله ولى وعهد إلى إبراهيم وإسماعيل ولاية البيت الحرام وتطهيره فلاشك أن بيوت الله من قام بها فله من الفضل بمقدار ذلك البيت ، بيت الله تعالى فحري بنا أيها الأحبة أن نعني بهذه الخصلة التي كانت من خصال إبراهيم وإسماعيل أبينا عليهما الصلاة والسلام .
/ قال الله تعالى ( لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أما الطائفون فذُكِروا وقُدِموا لأن ألصق عبادة بالبيت هي الطواف ، وأما العاكفون فاختُلف فيهم : قيل هم الملازمون للبيت القائمون العاكفون الجالسون فيه ، وقيل : هم أهل البيت وهذا هو الأصح أهل البيت الذين هم حوله ملازمون فيه سُكنا . كأن الله تعالى أراد أن يُهيئ لهم إبراهيم هذا البيت ويطهره ليُقيموا فيه عبادة الله تعالى .
وقال ( وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) خصّ الركوع والسجود ولم يقل المصلين لأمرين :الأول : إشارة إلى خاصية الصلاة وأنها خضوع لله - عز وجل - وأن المقصود بالصلاة تعظيم الله والخضوع له ، فالركوع إشارة إلى تعظيم الله تعالى ، والسجود إشارة إلى الخضوع والتذلل لله - عز وجل - لهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يُستجاب لكم ) فهذا المعنى الأول .
المعنى الثاني : هو إشارة إلى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن الركوع دالّ على صلاة أمة الإسلام ، فاليهود ليس في صلاتهم ركوع فدلّ ذلك على أن أولى الناس بالبيت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
فانظروا كيف جاءت العناية الربانية بهذه الأمة تهيئة لها وإعدادا لها وتعريضا بغيرها صرفا لهم عن ذلك .
/ قال الله تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) هذه فضيلة من فضائل إبراهيم ومنقبة من مناقبه أنه دعا ربه تهيئة البيت لعبادة الله ، ودليل على حرصه لأمته أن يُقيموا الدين في استقرار وأمن ورغد عيش فقال ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ) .
هنا قال ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) وفي سورة إبراهيم قال ( هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) فما الفرق بينهما ؟
الفرق بينهما : أن هذا الدعاء كان ابتداء يوم أن أبقى زوجته وابنه عند البيت فقال ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا) قبل أن يُقام فيه البيت ويبنيه ابتداء ، ثم لما بناه قال ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) الألف واللام للتعريف . فهذا أوجه المعاني بين المتشابه بين اللفظين .
/ إبراهيم عليه السلام دعا للبيت بأمرين :
- الأول : أن يكون آمنا
- الثاني : أن يرزق أهله من الثمرات .
وهذان هما عصب الحياة للإنسان وبقائه واستقراره ، عصب الإنسان في الحياة استقرار أمنه واستقرار عيشه ، ولاشك إذا كان الإنسان آمنا في بلده ، معافا في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها . فإبراهيم يريد أن يُهيئ الله تعالى لمن يلي هذا البيت باستقرار تام ، وهذا دليل على فضل إبراهيم وسعة أفقه وبُعد نظره أنه يعلم أنه لن يُقام الدين إلا باستقرار ، وهذا يؤكد أيها الأحبة أنه لا يقوم الدين قياما كاملا إلا بالأمن التام وتوفر المعيشة لأنه إذا لم تتوفر المعيشة كان الناس مشتغلون بعيشهم عن عبادة ربهم ، فإبراهيم عليه السلام أراد أن يُهيئ للناس حتى لا يُشغلهم شاغل عن عبادة ربهم - عز وجل - فما أعظم وأحكم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وفضله علينا بهذا كبير .
واستجاب الله دعاءه فجعل الله تعالى لنا حرما آمنا يُجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا ، من يوم أن دعا إبراهيم إلى قيام الساعة ومكة بلد الله آمنا يُجبى إليه ثمرات كل شيء فضلا من الله ورزقا .
وتأملوا أنه قال " من الثمرات " ولم يقل ثمرة دليل على أن إبراهيم أراد أن يوسع على أهل هذا البلد بالثمرات والرزق ، ولا يكون عيشهم شظفا ليُقيموا الدين إقامة كاملة كما أمرهم الله تعالى ولهذا قال ( مَنْ آمَنَ مِنْهُم ) هو يدعو هنا لمن آمن منهم بالله واليوم الآخر فنأخذ من هذا أيضا درسا وهو : أن طلب العيش لإقامة الدين والاستغناء عن الناس أمر مشروع بشرط ألا يُشغل الإنسان هذا العيش عن عبادة ربه ، أما إذا كان هذا العيش وهذا الرزق الذي يسعى إليه الإنسان يُعينه على طاعة ربه ورعاية أهله والنفقة في سبيل الله تعالى والبذل مما آتاه الله فلاشك أن هذا من العبادة لله - عز وجل - التي أمر الله بها .
/ قال الله (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) يعني أن الذين كفروا سيُهيئ الله لهم العيش لكنه يمتعهم في الدنيا قليل ثم يضطرهم يوم القيامة بعد كفرهم وعنادهم وتكذيبهم إلى عذاب النار وبئس المصير ، وهذا تعريض بالمكذبين من اليهود والمشركين الذين وَلَوا هذا البيت وكفروا مع أن الله متعهم لكن الله تعالى يقول ( فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ) يوم أن ولاهم الله فكفروا ثم اضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير .
/ ثم تأتي بعد ذلك منقبة أخرى من مناقب إبراهيم وهي تأسيس هذا البيت وبنائه قال الله ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ) هذه منقبة لإبراهيم أنه هو الذي أسس البيت ورفعه ، ولم يقل " بنى " قال " رفع " وهنا خلاف بين المفسرين هل إبراهيم هو الذي أسس البيت أم آدم عليه السلام ؟فيه خلاف وفيه روايات أن اليت كان موجودا قبل إبراهيم وأنه موجود في عهد نوح فجاء الطوفان فجرفه مع السيل وقيل إن الذي بناه آدم لكن يظهر -والله تعالى أعلم - بعد التأمل والبحث أن إبراهيم هو الذي أسس البيت لأمرين :
- الأول : أن الله تعالى لم يذكر عن نوح ولا عن آدم مع عِظم هذا الأمر أنهما بنيا البيت ، ولاشك أن بناء البيت ليس بالأمر الهين والسهل وقد ذكر هنا أن إبراهيم هو الذي رفع قواعد البيت .
- الثاني : أنه قال هنا (الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) أي الأسس ، معناه أنه هو الذي أسسه ، وإلا لو لم يكن هو الذي أسسه لما قال القواعد لو لم يكن هو لقال وإذ يرفع إبراهيم البيت ، قواعده موجودة من قبل لكن يظهر أن قوله " القواعد " أنه هو الذي أسسه . أما ماذا كان البيت قبل ذلك فقيل : أنه قبل إبراهيم كان مرتفعا من الأرض أي تلة من الأرض وكانوا يطوفون حولها وكانت معروفة أن هذا بلد الله أو بيت الله ، مثل الصفا والمروة الآن ما بُنيت إلى عهد قريب وإلا فإن الأصل جبلان يُسعى بينهما فموضع البيت أيضا كان مرتفعا ومعروف أنه هو البيت كانوا يطوفون حوله . هذا هو الأظهر والله تعالى أعلم بالصواب .
/ قال ( وَإِسْمَاعِيلُ ) إشارة إلى فضيلة إسماعيل ببناء البيت ومشاركته وأنه لم يشاركه إسحاق الذي هو نبي وأب بني إسرائيل اليهود والنصارى . فذِكر إسماعيل يدل على أن هذه الأمة أولى الناس بالبيت بعد نزول هذه الآية .
ثم تأملوا قولهما ( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) يدلنا على صدقهم وإخلاصهم أن يكون هذا البيت لله خالصا ، ونأخذ من هذا - وفقنا الله وإياكم - إلى أن الإنسان وهو يقوم بالعمل الصالح أن يتقبله الله خالصا ، يجعله خالصا لله تعالى .هذا البيت هو من أعظم الأعمال ولاشك أننا نأخذ من هذا أيها الأحبة فضيلة رفع بيوت الله وبنائها ، ونأخذ من قوله ( يرفع ) فضيلة الرفع في المساجد وليس معناها رفعها أن تكون شاهقة بمبالغة وإنما رفعها بمعنى أن يكون لها سمة الرِفعة ، والبروز عن بيوت الناس بما أمكن . ونأخذ منه وهو الأصل رفعها عما لا يليق بها فلابد أن تُرفع هذه المساجد بذكر الله ، والله تعالى يقول في سورة النور ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ) بماذا تُرفع ؟ بالذكر والإيمان والصلاة وقراءة القرآن والتبتل لله - عز وجل - فهذا لاشك أيها الأحبة من الأمر الواجب الذي يمكن أن نستنبطه من هذه الآيات .
/ ثم قال الله - سبحانه وتعالى - أيضا في تمام دعوتهما ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) أي هنا دعوة من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأن يكونا مسلمين محققين للإسلام . وتسمية الإسلام هنا دلالة على أن دين الإسلام هنا ، دين أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي سماه الله الإسلام موصولا بدعوة إبراهيم وأنه هو الحق كما أخبر الله في سورة الحج ( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ) امتنانا على هذه الأمة أن إبراهيم هو الذي سمى هذه الأمة أمة مسلمة بهذه الدعوة ، قال ( وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) هذه الذرية هي أمة محمد لأنه ليس هناك ذرية وليس هناك أمة من ذرية إسماعيل وذرية إبراهيم إلا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أما ما سبق من الأمم فهي من ذرية إسحاق فكأن الله تعالى أراد أن يُورث هذا البيت ، ويُورث هذا الدين والإمامة فيه إلى ذرية إسماعيل بعد أن ورثه بنوا إسحاق وبنوا يعقوب ،بنوا إسرائيل الذي هو يعقوب ، ورثوه فلم يقوموا به حق القيام ، كفروا وكذبوا ، فلما لم يقوموا بذلك أراد الله أن يُشرف هذه الأمة المحمدية التي هي أمة واحدة أما بنوا إسرائيل فأنبياؤهم كُثُر يزيدون على الثلاث مائة نبي ورسول مما يدل على فضيلة هذه الأمة أن الله لم يرسل منها إلا نبي واحد وقد آمنت واستجابت وانقادت لأمر الله - عز وجل - .
/ ثم قال الله ( وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ) المناسك قيل أنها التعريف بمناسك الحج كله ، معالم البيت والحج ، وهذا صحيح ولكن الأكمل منه أن النُسُك في اللغة هو : غاية العبادة ، كأن الله تعالى أراد أن يُبيّن أن إبراهيم وإسماعيل دعيا لهما ولذريتهما بكمال الدين،وقد أكمل الله لذريتهما الدين ، أكمل الله تعالى هذا الدين الذي هو دين الإسلام وأراهم مناسكهم وعبادتهم بأتم صورة وأوضح بيان ( كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فما أعظم رحمة الله وحلمه أن الله استجاب لدعوة إبراهيم وإسماعيل بأن يريهما وذريتهما مناسكهما أي أمور العبادة حتى يعبدون الله على بصيرو ولا يكون هناك مشقة وأن يكون ذلك في يُسر وهو ما حققه الله لهذه الأمة فهذا فضل الله تعالى عظيم .
/ قال الله تعالى ( وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) إشارة في دعوتهم هذا للعصاة بأن يتوب الله عليهم من هذه الأمة التي قد ظلمت فلعل الله أن يتوب عليهم ، فهنا دعوة للتوبة للعصاة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - دعوة موصولة منذ عهد إبراهيم إلى قيام الساعة بالتوبة ، وهذا يدعوا العصاة إلى أن يتوبوا إلى الله وأن يحققوا دعوة أبيهم إبراهيم وإسماعيل بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى فما أعظم أن يستشعر العاصي حينما يعصي الله - عز وجل - أن إبراهيم وإسماعيل دعا له فيجب أن يُحقق هذه الدعوة .
/ قال الله ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً ) وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - ذكر الله في مهمة الرسول ثلاث وظائف : الأولى : ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ) وهو القرآن ، ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ) أي يعلمهم ما في هذا القرآن ، ( وَالْحِكْمَةَ ) أي تطبيق هذا القرآن وهي السنة ، فالمقصود بالحكمة السنة ، والحكمة هي موضع الشيء في موضعه ، فكأنه يأمرهم بوضع هذه الأحكام في موضعها في الواقع في حياتهم وسلوكهم وأعمالهم . قال الله ( وَيُزَكِّيهِمْ ) التزكية تكون بالإيمان ، بالعمل الصالح والتربية الصحيحة الكاملة . فهذه وظائف النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا يؤكد لنا أن خير ما يتزكى به الإنسان هو كتاب الله لأن الله تعالى قال (يتلو) ثم التعليم بأن يتعلم هذا القرآن لمعرفة معناه وفهم ما فيه من دلالات ومقاصد وماذا يريد الله،ثم العمل به ثم التزكية التي هي تمام الأمر وامتثاله والعمل به.
فما أعظم هذا المنهج لو سلكه الإنسان،أن يتلو كتاب الله ويتعلم ما فيه من العلم والحكمة والعمل ، ثم يتزكى بامتثاله في واقعه .
/ ثم قال الله - سبحانه وتعالى - ( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ) إشارة إلى بني إسرائيل ، كأن الله قال لما بيّن حق إبراهيم وأنه حقق التوحيد وهو الذي بنى البيت ، حق إسماعيل ودعوتهما ونبوتهما قال الله - عز وجل - ( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ) .
ثم قال بعدها ( وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ) وهذا من مناقب إبراهيم ، ( وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) أي أن الله أصلح له شأنه في الدنيا وفي الآخرة .
/ ثم قال الله تعالى ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ) لاحظوا كلمة الإسلام هنا ، فقال ( أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) لم يقل لربي للدلالة على أنه يعتقد ربوبية الله عز وجل من جميع الخلق ، أن جميع الخلق مسلمون لله طوعا أو كرها وأنهم مربوبين لله تعالى ، عباد له جميعا .
/ قال الله - عز وجل - ( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ) التي وصى بها هي كلمة التوحيد التي هي الإسلام ، وهي إشارة لبني إسرائيل أن هذه وصية إبراهيم لكم والدليل على ذلك أنه قال ( وَيَعْقُوبُ ) ذكر نبيهم وأبوهم يعقوب عليه السلام لأنهم ينتسبون إليه ( يا بني إسرائيل ) فإسرائيل هو يعقوب فكأن الله هنا بعد أن ذكر حال هذه الأمة المحمدية وشرفها انتقل حديثه إلى بني إسرائيل ليشير لهم أن هذه الدعوة موصولة لكم أيضا وهي وصية إبراهيم ووصية يعقوب لكم فاتبعوها واسلكوها ولا ترغبوا عنها وتتركوها ( يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) فانظروا كيف أعاد ذكر الإسلام هنا للتأكيد على أنه الدين الحق .
وهنا سر عظيم وهو : أن تكرار الشيء في القرآن يدل على التأكيد عليه ويدل على أهميته فتأملوا هنا تكرار لفظ الإسلام ، تأملوا في آية الدَّين تكرار لفظ الكتابة ، تأملوا في آية القبلة تكرار ( فولِّ وجهك ) كل ذلك تأكيد .- ولله المثل الأعلى ولكتابه - أنت لو أرادت من ابنك أمر عظيم أن يلتزمه ، مثلا : سلمته قيادة السيارة فقلت له : يا ولدي لا تسرع ، لا تسرع ، فكررت عليه هذا الأمر لأهميته لأنك تخشى على نفسه ، فتكرار الشيء وإعادته تأكيد على عظمه وأهميته وأنه مهم في حياة الإنسان فلذلك الله تعالى هنا كرر لفظ الإسلام وأمر به ووصى به لأهميته وليحققه بنو إبراهيم من بني يعقوب وإسماعيل .
مصدر التفريغ / ملتقى أهل التفسير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق