السبت، 16 يوليو 2011

سبب نزول آية (6) من سورة المائدة / آية التيمم


الشيخ : محمد صالح المنجد

روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه أنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ ـ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ ـ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسِ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ ‏.‏ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ فَقَالَ حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ ‏.‏ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا ‏. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ ‏.‏ قَالَتْ فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ ‏.

هذا الحديث رواه الإمام البخاري - رحمه الله - في عدة مواضع في صحيحه ‏، في باب من لم يجد ماء ولا ترابا ، وباب فضل عائشة رضي الله عنها ، وباب ( وإن كنتم مرضى أو على سفر ) وباب قول الرجل لصاحبه هل أعرستم الليلة ، وباب طعن الرجل ابنته في الخاصرة عند العتاب ، وباب استعارة ... ، وباب استعارة القلائد ، وباب من أدب غيره أو أهله دون السلطان . والحديث هذا ترويه عائشة - رضي الله عنها - وتقول فيه :

"خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ " وهذا فيه بيان سفر الرجل بزوجته الحرة أنه يأخذها معه في السفر وأنها لا تمتنع إذا لم يكن السفر فيه معصية ، فلو قال الرجل سآخذك معي فإنها تسير معه ما لم يكن شرط في العقد ألاّ يخرجها من بلدها مثلا وما لم يكن السفر محرما ، فإذا كان السفر إلى بلاد الكفار من غير حاجة فإنها لا يلزمها أن تطيعه لكن في الأحوال العادية إذا أراد أن يسافر بها لا تمتنع عليه .
وقول عائشة رضي الله عنها "حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ ـ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ ـ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي" البيداء وذات الجيش موضعان بين المدينة وخيبر ، هما اسمان لموضعين بين المدينة وخيبر .
قالت " انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي " العِقد : ما يُعقد ويُعلق في العُنق وقد يُسمى قلادة ، وقولها " عِقْدٌ لِي" جاء في رواية أخرى أنها استعارة العقد من أختها أسماء زوجة الزبير بن العوام وبذلك يكون الرسول - عليه الصلاة والسلام - مع الزبير بن العوّام يكون كل منهما عديلا للآخر لأنهما تزوجا أختين ، عائشة استعارة العقد من أسماء وقالت هنا "عِقْدٌ لِي" لأنه بيدها لكن الملك الحقيقي للعقد لأسماء ، وقالت عائشة في الحديث " فهلكت " أي هلكت هذه القلادة أي العقد يعني ضاعت .
/ وهذا الحديث يدل على جواز استعارة ... أن المرأة يجوز أن تستعير الحُلي من امرأة أخرى.
/ وفي الحديث جواز السفر في العارية إذا أذن المُعير ، فلو أنت استعرت شيئا من شخص هل يجوز أن تحمله وتسافر به ؟ يجوز إذا كان بإذن المُعير الذي أعارك .
/ وفيه جواز لبس النساء للقلائد، وفيه الاعتناء بحقوق المسلمين وأموالهم لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - لما فُقد تقول " انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي ،فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْتِمَاسِهِ ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ " هذا عقد لأسماء والنبي - عليه الصلاة والسلام - لأن هذا المال حق للغير أقام ليعثر عليه ومكث في هذه الفترة بالجيش ليعثر عليه ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره لنا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال فإذا ضيع الواحد مالا يبحث عنه ولا يقول مثلا :خلاص أتركه يضيع ويذهب بل إن المحافظة على الأموال من الشريعة خصوصا أموال الآخرين ، الإنسان قد يُسامح في مال نفسه لكن مال الغير لابد من العناية به والبقاء حتى العثور عليه .
/ واستنبط العلماء من الحديث جواز الإقامة في موضع لا ماء فيه وإن احتاج إلى التيمم مادام هناك حاجة شرعية للبقاء في هذا المكان.
قالت " فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ " رضي الله عنه لأن الناس ذهبوا إليه فقالوا : ابنتك حبست الجيش ، لولا ابنتك ما انحبسنا هنا بدون ماء ، ذهب أبو بكر لابنته وإذا بالنبي - عليه الصلاة والسلام - نائم على فخذها وهي قاعدة فجعل يُعاتب ابنته ويوبخها ويقول ما شاء الله أن يقول يعني من العتاب والتوبيخ يعني حبست الناس ، كل الجيش من أجلك من أجل العقد ، وجعل يُعاتبها ، ما شاء الله أن يقول .
" وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي " جعل يطعن بيده في خاصرة ابنته عائشة ولكن عائشة ما كانت تتحرك مع أن الطعن في الخاصرة - وأظن لو فعلناها الآن مع أي واحد ليقفزن - لكن لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - زوجها على فخذها ما تحركت ففيه رعاية المرأة للزوج وأنها تتحمل من أجله ، وعائشة تحملت ما يأتيها الآن ولم تتحرك من مكانها ليبقى زوجها - عليه الصلاة والسلام - نائما مستريحا فبينما هم كذلك وإذا بالنبي - عليه الصلاة والسلام - حينما يقوم ولا يوجد ماء يُنزل الله آية التيمم . فقال أسيد بن الحضير : ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، أنتم مباركون ، أنت يا أبا بكر مبارك وابنتك مباركة وبسببكم نزلة الآية ونزل فرج للمسلمين " ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر " .
"قَالَتْ فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ " كان العقد تحت البعير وهم يبحثون يمينا وشمالا . وجدها أسيد تحت البعير وكان قد ذهب بنفسه للبحث .
/ وفي هذا الحديث فضل عائشة ، وفضل عائشة كفضل الثريد على سائر الطعام كما قال - عليه الصلاة والسلام - وكذلك فإنها وزجة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة ، وكان - عليه الصلاة والسلام - في مرضه يدور في نسائه ويقول : أين أنا غدا ؟ أين أنا غدا ؟ حرصا على بيت عائشة قالت عائشة : فلما كان يومي سكن - بقي عندها - وفيه جواز استئذان الرجل زوجاته الأخريات أن يُمرّض عند واحدة منهن إذا مرض . وكذلك فإن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة فإذا أراد الواحد أن يهدي شيئا للنبي - صلى الله عليه وسلم - انتظر حتى يكون عند عائشة فيرسل الهدية في يوم عائشة لأنهم يعلمون أن النبي - عليه الصلاة والسلام يُحب عائشة فكانوا يتحرون في هداياهم يوم عائشة فاجتمع ضرائر عائشة يوما عند أم سلمة فقلن يا أم سلمة والله إن الناس يتحرون هداياهم يوم عائشة وإنا نريد الخير كما تريده عائشة فامري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر الناس أن يُهدوا إليه حيثما كان أو حيثما زاره .
طبعا النبي - عليه الصلاة والسلام - كيف يقول للناس الذي يريد أن يُهديني ، يُهديني في يوم ، الطلب هذا لم يكن طلبا وجيها ، فذكرت ذلك للنبي - عليه الصلاة والسلام - قالت : فأعرض عني فلما عاد إليّ ذكرت له ذلك فأعرض عني فلما كان في الثالثة ذكرت له ذلك فقال : يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل عليّ الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها .
/ ومما يُبيّن فضل عائشة حديث أحمد رحمه الله أن ذكوان مولى عائشة استأذن لابن عباس على عائشة وهي تموت وعندها ابن أخيه عبد الله بن عبد الرحمن فقال : هذا ابن عباس يستأذن عليك وهو من خير بنيك وعائشة أم المؤمنين فقالت : "دعني من ابن عباس ومن تزكيته " ابن عباس كان إذا رأى رجلا يموت ذكّره بمناقبه وحسّن له الظن بربه يريد - من فقهه رضي الله عنه - أن يذكر للرجل أو للشخص الذي يموت أشياء طيبة حتى يموت وهو على رجاء - يرجو الله - فعرفت عائشة أن ابن عباس سيأتي ويُثني عليها فقالت " دعني من ابن عباس ومن تزكيته" فقال لها عبد الله بن عبد الرحمن إنه قارئ لكتاب الله فقيه في دين الله فأذني له فليسلم عليك وليودعك ، قالت : فأذن له إن شئت ، قال فأذن له فدخل ابن عباس ثم سلّم وجلس وقال أبشري يا أمّ المؤمنين فوالله ما بينك وبين أن يذهب عنك كل أذى ونصب وتلقي الأحبة محمدا وحزبه إلا أن تفارق روحك جسدك فقالت : وأيضا ، فقال ابن عباس كنت أحب أزواج رسول الله إليه ولم يكن يحب إلا طيبا وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات فليس في الأرض مسجد إلا وهو يُتلى فيه - أي نبأ تطهير عائشة - آناء الله وأناء النهار وسقطت قلادتك بالأبواء فاحتبس النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنزل والناس معه في ابتغائها أو في طلبها حتى أصبح القوم على غير ماء فأنزل الله - عز وجل - ( فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا ) الآية فكان في ذلك رخصة للناس عامة بسببك فوالله إنك لمباركة ، فقالت : "دعني يا ابن عباس من هذا فوالله لوددت أني كنت نسيا منسيا " وهذا من تواضعها رضي الله عنها .
/ وفيه تحسين ذكر أشياء طيبة للإنسان عند موته حتى يخرج من الدنيا وهو مُحسن الظن بالله يرجو ثواب الله سبحانه وتعالى .
وعائشة رضي الله عنها أعلم زوجات النبي - عليه الصلاة والسلام - على الإطلاق بلاشك ، قال ابن تيمية : " جهات الفضل بين خديجة وعائشة متقاربة " فكأنه ترفق في التفضيل . وقال ابن القيم : " إن كان المراد بالتفضيل كثرت الثواب عند الله فهذا أمر لا يطّلع عليه إلا الله سبحانه ، وإن أُريد كثرت العلم فعائشة لا محالة أنها أعلم " ولكن خديجة رضي الله عنها كانت أول من أجاب من النساء إلى الإسلام ودعا إليه وأعان على ثبوته بالنفس والمال والتوجه التام فلخديجة ميزة خاصة لأنها نصرت النبي - عليه الصلاة والسلام في وقت الكربة والشدة .
حديث البخاري هذا فيه فوائد تقدمت ومنها :- 
/ تأديب الرجل ولده بالقول والفعل كما قال العلماء.
/ وفيه تأديب الرجل ابنته وإن كانت كبيرة مُزوّجه خارجه عن بيته، فيبقى للأب نوع من الميزة ولا ينزع سلطانه عن الأولاد بعد الزواج بالكلية ، يبقى له نوع من الإشراف مثل المسؤولية والسلطة في التربية والتأديب.
/ وفي الحديث تدخل أب الزوجة التدخل الحميد في تأديب ابنته خصوصا عندما تضايق زوجها ، وأبو بكر قد تدخل عدة مرات مع عائشة ،وتدخل عمرو بن العاص مع ولده بعدما زوّجه ، وتدخل عمر مع ابنته حفصة بعدما تزوجت كل ذلك للمصلحة،مصلحة الزوجية فليس في القضية بعد الزواج نفض الأب يده من البنت والولد والتخلي عن كل شيء بل يبقى عليه واجب وعليه مسؤولية وله نفوذ يستعمله في التأديب والإصلاح . وهذه الآية فيها الفرج بالتيمم .
يقول الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه الآية العظيمة من سورة المائدة اشتملت على أحكام كثيرة فلنبيّن بعض الأحكام مادمنا في سبب نزولها وقد عرفنا القصة وبقي أن نعرف تفسير الآية وما انطوت عليه من الأحكام .
--------------------------------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق