/ قال الله - جل وعلا - ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ )
الياء هنا - أيها المبارك - حرف نداء بالاتفاق ، والمُنادى بنوا إسرائيل ، و"إسرائيل" هو يعقوب .
/ ( وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) اختلف العلماء في المراد بالعهد هنا ، لكن الأظهر أنه جميع الدين ، أوامر الله ونواهيه ومواثيقه كلها داخلة في العهد .
( وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) وعهد الله أن من أطاعه دخل الجنة .
/ الآن ذكر الله - جل وعلا - ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) إجمالا ثم بعدها بآيات بيّن - جل وعلا - اثنتين من تلكم النِعم قال الله ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ )
الآن استصحب ذهنك : هناك بقاء ديني وهناك بقاء بدني ، فقول الله (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ) هذه نعمة البقاء البدني لأنه عندما نجيناكم نجت أبدانكم ، قال بعدها بآية أو آيتين قال ( وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) فلما آتى الله موسى الكتاب والفرقان هذا بقاء ديني ، لِمَ ؟
لأنهم لو بقوا متمسكين بالتوراة حق التمسك لبقي لهم دينهم ، فتمسك أي أمة بكتابها هو الذي يجعلها باقية ، لكنهم عيروا التوراة وبدلوا وحرفوا ، وإلا لو استقاموا على التوراة لدلتهم التوراة بصورة جلية على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، لكنهم حرفوا التوراة ولهذا قال الله - جل وعلا - ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) والمقصود أن الله - جل وعلا - أنعم عليهم بنعمتين ، نعمة بقاء بدني ونعمة بقاء ديني .
من هنا يفقه المؤمن أن الأمة ، أي أمة إن جاءها كتاب من السماء وتمسكت به حُق لها أن تبقى دينيا ، لكن الله - جل وعلا - جعل القرآن مهيمنا على الكتب كلها ، وجعله خاتم الكتب المنزلة كما أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه ، فلا نبي بعد محمد صلوات الله وسلامه عليه ، ولا أمة بعد هذه الأمة ، ولا كتاب منزل بعد القرآن .
/ قال الله ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ )
الرهبة : هي الخوف القريب من الخشية المتعلق به تعظيم الله ، وهي الدين كله ، ولهذا نعت الله الأصفياء ،قال ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) والخشية من الله تظهر بحق حال القدرة ، إما القدرة على الإفساد أو القدرة على نيل الشهوات . فنقصد بالإفساد الشيء المتعدي .
أحد من الناس له زوجة منقطعة لا عصبة لها يحمونها إما أنها غريبة عنه وطنا أو قبيلة أو أسرة ، فيجد في نفسه القدرة عليها فربما دعته نفسه ذات يوم أن يرفع يده عليها من غير ما سبب وإنما منعه خشيته من الله تبارك وتعالى .
فكلما قصُر الإنسان بيده عمن يقدر عليه ممن تحت يده إجلالا لله كان أقرب إلى أن يأمن يوم الوعيد ، وكلما استطالت يد أحد على من يقدر عليه لأنه لم يقع بين عينيه إلا قدرته وتناسى في علمه قدرة الله تبارك وتعالى كان أقرب إلى أن ينتقم الله - جل وعلا - منه ، والله يقول ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) ويقول ( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) ويقول ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) ولا يصح أن تُقرأ كل آية لوحدها .
والمقصود ( وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) أن تعلم أن الله قادر ولا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، وأن الله قد يخذل بعض عباده - عياذا بالله - في مواطن لا يظن أحد أبدا أنه يُخذل فيها فيُخذل بسبب ذنب قديم ، لكن غالب الذنوب التي يكون بسببها الخذلان لا تكون بالذنب الذي بينك وبين الله ولا علاقة للخلق به ، فهذا مبني على المسامحة لأن الله رؤوف رحيم ،لكن تلكم الذنوب التي يكون فيها انتهاك عرض أو أخذ مال أو سفك دم هي التي يقع فيها الخذلان من الله تبارك وتعالى للعبد .
وهذه الآية ( وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) - كما يظهر - فيها تقديم وتأخير أي كأن الله يقول لا ترهبوا أحدا غيري .
وحتى يصل الإنسان إلى هذا المقام - مقام الخشية - عليه أن يعرف الله - جل وعلا - حقا ، وفي الخبر : أن رجلا كان يُحسن لبنيه فلما حضرته الوفاة - إلا أنه لا خير له - قال : أي بني أي أب كنت لكم ؟
قالوا : خير أب - لم يمنعهم شيء - قال : فإذا مت فأحرقوني واجعلوا نصفي في البر ونصفي في البحر فإن الله إذا قدر علي ّ سيُهلكني ، سيعذيني . فلما فعل بنوه ما وصى به ، قال الله للبر أخرج ما عندك ، وقال للبحر أخرج ما عندك ، فاستوى قائما بين يدي الله فقال له ربه : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : خشيتك يارب . فلما قال خشيتك يارب عفا الله - جل وعلا - عنه .
فهو التمس طريقا في الخشية بالجهل ولعله معذور بجهله . وأيا كان عذره فإن مقام الخشية أعظم ما يصلك برب العالمين - جل جلاله - .
بهذا نكون قد وقفنا على الجزء الأول من كلام الله تبارك وتعالى ، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق