الاثنين، 11 أكتوبر 2010

الدرة القرآنيــــــــة الرابعــــــــــــــــة / نبي الله يوسف عليه السلام











نقول مستعينين بالله تبارك اسمه وجلّ ثناؤه :
حديثنا اليوم عن شخصية نبوية عظيمة هي : نبي الله يوسف ، سمى الله - جل وعلا- سورة كريمة كاملة باسمه ، ذكر فيها أخباره وقصصه صدّرها الله - جل وعلا- بقوله ، أو جاء في القرآن قوله - تبارك وتعالى - {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } .أدرك جيدا أن أكثر المؤمنين والمؤمنات طالما تدبروا في هذه السورة الكريمة ، وطالما تعرض للحديث عنها أكابر العلماء وأجلاء الفضلاء عبر تاريخ الأمة كلها ، لكننا نسعى الآن إلى نوع من التدبر قد لا يكون جديدا لكن لعله يحمل في طياته بعض الفوائد في عمومها وعرضها ، فنقول :
هذا النبي الكريم طيّبه الله - جل وعلا- ظاهرا وباطنا ، وإذا أراد الله بعبد خيرا جعل باطنه يُعين على ظاهره ، فظاهره -عليه الصلاة والسلام- كان في منتهى الجمال البشري تقريبا ، إذا رأته العيون بهُرت ، ولهذا لما رأته النسوة قلن {حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } ، وظاهر الأمر في غير أنبياء الله ورسله فيمن أُوتي حظا من الجمال ، ونصيبا من الوسامة ، يكون في الغالب مندفعا نحو الشهوة -إلا ما رحم الله - لكن يوسف بفضل الله عليه ورحمته ، كما كان في الذروة من الجمال الظاهر كان في الذروة من الجمال الباطن فرُزق العفة ، هذا أول ما يُمكن أن يلحظه الإنسان في نبأ هذا النبي الكريم ، المزج ما بين الظاهر والباطن ، لكننا نتجاوز ذلك إلى الحديث عن أجمل ما في الباطن وهو : صدق السريرة القائم على توحيد ربنا تبارك وتعالى ، لا زينة بحق أعظم من التقوى ، ولا تقوى يُمكن أن تُبنى بناءا حقيقيا على شيء أعظم من توحيد الله -جل وعلا- {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } قبلها يقول : {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ *وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ثم يُبيّن هدي النبيين وطريق المرسلين {مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } فطرنا ربنا على التوحيد فبقينا عليه ، هذا ما أراد يوسف -عليه السلام - أن يقوله .
ما نريد أن نقوله نحن : إن الوصول إلى الذروة من الكمال يستوجب ، يستلزم بفضل الله -جل وعلا- ورحمته التنوع في العلم ، من كان لا يفقه إلا فنا واحدا ، من لا يُجيد إلا طريقا أو طريقين فلن يكون في الذروة من الكمال مهما سعى واجتهد .
لما أراد الله لهذا الصّديق والنبي الصالح أن يتبوأ هذه المنزلة العالية ، وأن يمكث على عرشه ويرى أباه وأمه وإخوته يسجدون له سجود تحية ، كان ذلك بفضل الله ورحمته ثم بفضل تلكم الأسباب التي آتاه الله -جل وعلا- إياها ، تلكم الأسباب كانت متنوعة ولهذا نبه العلامة بن سعدي وغيره -رحمة الله تعالى على علماء المسلمين أحياء وأمواتا- أن الأسباب تنوعت في شخصية يوسف ، أن العلم لدى يوسف كان علما متنوعا ، علم لا غنى للمؤمن عنه وهو العلم بالله ، وكان فيه في الذروة لأنه يتلقى الوحي من السماء ، عِلم بالسياسة ، عِلم بتأويل الرؤيا ، عِلم بمخاطبة الكبار وعِلم بمخاطبة العامة والرعية ، وعِلم بالزراعة وتسييس أمور الناس وتصريف الأمور وتدبير الأحوال ، هذه مجموعة من العطايا آتاها الله -جل وعلا- هذا النبي الصادق . فلما آتاه الله -جل وعلا -إياها كان لِزاما أن يكون له -بفضل الله ورحمته - تلك المكانة التي وصل إليها .
هنا نستل فائدة قالها العلامة الألباني في أثناء حديثه عن المهدي المنتظر -مهدي أهل السنة- قال : " غالب الظن أنه رجل أُتي حظا من علوم جمة ، من علوم متنوعة ، من معارف شتى ،لذلك كان قادرا على أن يسوس الأمة " لكن من كان يعلم شيئا واحدا ، أو يُجيد شيئا واحدا قد ينال فيه الذروة من الكمال ، لكن يبقى محصورا ، وإنما يعُمّ نفع المرء إذا كان علمه متنوعا متعددا شاملا . يُحسن مُخاطبة الصغير والكبير ، يعلم في الفقه كما يعلم في العقيدة ، ويعلم في العقيدة والفقه كما يعلم في اللغة ، ويقرأ في السياسة ، وله حظه من الأدب ، وهكذا في شتى أفنان العلم ، هذا الذي يكون لأقدر من غيره في أن يبني للأمة بنيانا عظيما .
لا يعني إغفال الأولين ، ولا يعني همز أحد ولا لمز زيد ولا عمر ، لكن نحن نتكلم عن الصفوة من الخلق وهم الأنبياء ، ثم الصفوة من أتباعهم ، ولا ريب أن أتباع الأنبياء يتفاوتون تفاوتا عظيما في سيرهم على هدي الأنبياء وخُطاهم هذا أعظم ما دلت عليه سورة يوسف ، ولهذا جاء الخطاب عن هذا النبي الكريم ، أحيانا يُنبئك عن علمه بالرؤيا ، وأحيانا ينبئك لخطاب عن عفته ، وأخرى ينبئك الخطاب عن سياسته ، وهكذا متنوعا متفننا يدلّ على عظيم الشخصية ، ومنتهى ما يُمكن أن يصل إليه الإنسان لا يمكن أن يوجد إلا في حياة الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- .
من ثنايا هذا الخبر القرآني عن هذا النبي الكريم يُعرف أن الأحداث هي الأحداث لكن الشخوص ، الناس ، الأنفس تختلف . يستطيع المرء أن يجمع ما بين آيات عديدة في القرآن وما بين خبر اله -جل وعلا- عن نبيه يوسف ، الله يقول : {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } وتلحظ أنه لم يأتِ بالعموم ، والبعض يستوجب بقاء غيره ، الباقي من الظن قد يكون فطنة ، قد يكون فراسة ، قد يكون كياسة ، قد يكون بصيرة ثاقبة وهذا ما دلت عليه يوسف ، دليل ذلك أن نبي الله يعقوب قال لبنيه لما طلبوا منهم الأخ قال : {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ } فذكَّرهم بما مضى ، فما كان لهم من صنيع مع أخيهم يوسف من قبل جعل والدهم يظن بهم سوءا لما طلبوا الأخ الأصغر بنيامين ، وهو معذور .
فالظن في مثل هذه المواطن ليس ممنوعا ولا محرما لأن القرائن والشواهد دلت عليه ، وهذا حق مُكتسب لكل أحد ، نعم لا يحق لك أن تحكم حُكما ينجُم عنه أخذ مال أو ما أشبه ذلك من ممتلكات الناس ، لكن من حقك أن تحتاط وأن تتعامل مع من غلبت القرائن في الغالب على أن سريرتهم ليست حميدة ، وأفعالهم ليست مجيدة .
من ثنايا هذا الخبر : أحيانا لا يجد الإنسان مفرا من أن ينصح غيره فيخشى وهو يقوم بالنصح أن يُعدّ هذا غيبة يؤثم عليها ، والأمر ليس كذلك فإن يوسف لما ذهب إلى أبيه وأخبره بالخبر قال له أبوه { قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا } فهو كأب لاحظ وتنبه من مخالطة هذا الأخ لإخوته أن إخوته غير متقبلين له ، هذا والحال ليس فيها شيء ظاهر فكيف لو أخبرهم رؤيا ، وأن فيها كذا وكذا مما هو ظاهر أن فيها علو مجد عليهم فلا ريب أن الكيد سيزيد ، والحال ستتغير ، والحسد سيتفاقم ، لهذا قال {يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا }.
قد يأتيك رجل خالط أقواما تعرف أنت عنهم الشر وهو لا يعرف فيستشيرك ، هل أخالطهم في مال ؟ هل أجاورهم في بُنيان ؟ هل أُصاحبهم في سفر ؟ فيكون حقا عليك أن تُنبهه وتدله على سواء السبيل ، وهذا من كمال النصح ، وتمام القيام بالاستشارة ، ولا يُعد مذموما ولا ممنوعا ولا حراما .
من قصة يوسف نلحظ أن عزيز مصر لما اشتراه أخذه بيده وقال لزوجه { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } । أعظم العطايا المعنوية والحسية إن كانت لدى رجل كريم . وعى يوسف وهو فتى هذا الخطاب من عزيز مصر {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} ، فلما بلغ شيئا من الأشُد وظهرت فتنة جماله أشدّ ،وهو يغدو ويروح أمام عيني امرأة العزيز ، قال ربنا { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ } فبدأ أولا بتعظيم ربه ثم قال { إِنَّهُ رَبِّي } أي سيدي ، يقصد بقوله { إِنَّهُ رَبِّي } عزيز مصر ،أي سيده الذي تولاه وأكرم مثواه قال { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } .
المعروف عند أهل الوفاء يبقى ، وأعظم ما يمكن أن يستودعه الإنسان عند غيره معروفا يضعه في يد كريم فيحفظه له ، وكم من أفاضل الرجال وأجلاء النبلاء من استُودع معروفا فحفظه حتى إذ حالت الأيام وتبدل الزمان بمن أسدى إليهم المعروف جاء دورهم ليُكافؤه ،
في الحديث الشريف سئل - صلى الله عليه وسلم - أي الذنب أعظم ؟ قال ( أن تجعل لله ندا وهو خلقك ) ثم ذكر لما سئل قال ( أن تزني بحليلة جارك ) أي بزوجة جارك لأن الشأن في زوجة الجار أن تحميها وهو مؤتمنك عليها فإذا انقلب الأمر إلى ضده دلّ ذلك على تعمق الخيانة في الفاعل .
لكن انظر إلى جواب الصّديق يوسف عليه السلام قال { مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } لهذا قال أهل العلم و الفضل والحكمة من قبل : إن من أعظم الظلم في التعامل الإنساني أن يحسُد أحدٌ أحداً أنعم عليه ، قال أبو الطيب : 
وأظلم أهل الأرض من بات حاسدا *** لمن بات في نعمائه يتقلب
تعيش في قصر أحد الأثرياء وهو مُغدق ، ومُنعِم عليك ، يُحسن إليك ويُكافؤك على ما صنعت وما لم تصنع ، يتوخى أيام الأعياد فيُعطيك ويُنعم عليك بما أنعم الله به عليه ثم تبقى حاسدا له ، مبغضا هذا العُلو الذي هو فيه ، هذا يدل - عياذا بالله - إن وُجد في أحد على شيء من السريرة غير محمود.

عالِم تعيش في ركابه ، يُغدق عليك من المعارف والعلوم واللطائف ويخصك بها ، ويدنيك ويُقربك ، ويُشاركك في مجالسك الخاصة والعامة ، وفي قلبك شيء عليه وحسد لمكانته وبُغض لما وصل إليه ، ما أن تجد سانحة أن تلمزه إلا فعلت ، هذا كله يدل على فساد الطوية ، وأُعيد :
وأظلم أهل الأرض من بات حاسدا **** لمن بات في نعمائه يتقلب .
في خبر الصديق جاء ت الدلائل على أن الأخذ بالقرئن أمر جاء به الشرع ، فإن عزيز مصر قد قبِل قول الشاهد { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ *وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ*فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }ويقول - جل وعلا- قُبيل نهاية هذه السورة المباركة قال :{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ } فسلموا له الإخوة لأن القرائن دالة ، فالأخذ بالقرائن مما لا يُكلف الإنسان بعده شيئا ، صحيح قد يُخطئ الإنسان في الأخذ بالقرائن لكنه غير معاتب ، غير ملوم إذا أخذ بها لأن الله يقول -وقوله الحق- {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}>
هذه بعض الاستنباطات لعلماء أجلاء ، شيء نقلناه بنصه ، وشيء وارينا بعضه ، وشيء زدنا عليه ، لكن المقصود أن تدبر القرآن والنهل منه هو الكنز الأعظم الذي يدخره المرء لنفسه ، من جعل القرآن حكما يحتكم إليه ساد في كل شأنه ، لكن من جاء لأحداث الزمان وأقاويل الرجال وما سطّره من جاء عبر التاريخ كله ثم جعل القرآن يُحتكم به إلى هؤلاء فقد ضل سوء السبيل لكن القرآن هو الأصل والسّنة معه
بأيديهما نوران ذكر وسُنة *** فما بالهم في حالك الظلمات
هذا الطريق الأمثل للوصول إلى الغايات وتحقيق المآرب ، أن يجعل الإنسان القرآن رأسا في العلوم مع سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم - مما صح منها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق