الأربعاء، 29 مايو 2024

الفائدة من قوله تعالى (وما قلى) دون (وما قلاك) في سورة الضحى

س: قال السعدي رحمه الله: ({وما} قلاكَ الله أي: ما أبغضك منذ أحبَّك؛ فإنَّ نفي الضِّدِّ دليلٌ على ثبوت ضدِّه، والنفي المحض لا يكون مدحاً إلاَّ إذا تضمَّن ثبوت كمال) هل من توضيح جزاك الله خيراً؟

الجواب:
القِلَى في اللغة هو البغض والهجر بعد المحبة؛ فإذا كان بين شخصين محبة وتآلف ثم هجر أحدهما الآخر بعد هذه المحبة وأبغضه ونفر منه أو هجره؛ فهو قالٍ لصاحبه، قد قلاه أي: هجره وأبغضه بعد تلك المحبة التي كانت بينهما.
والمضارع يقليه، وروي: يقلاه، والأول أفصح وأشهر.

■ وقوله تعالى: {وما قلى} ولم يقل: [وما قلاك]
فيه فائدتان: 
الفائدة الأولى: تناسب فواصل الآيات، {والضحى . والليل اذا سجى . ما ودعك ربك وما قلى } وتناسب الفواصل له أثر لفظي بتحسين الكلام وتجويده، وله أثر معنوي على المخاطب لا يُنكر.

والفائدة الثانية: عموم نفي القِلى عن الله عزَّ وجل، وأنّ الله تعالى لا يقلي من أحبّه ملالةً ولا تبرماً، وهذا لا يختصّ بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل كل من أحبهم الله عز وجل فإنَّ الله لا يقليهم ولا يبغضهم بعد ثبوت محبته إياهم.
وهذه صفه كمال لله تعالى لأنَّ الله عز وجل لا يبغض عبداً أحبَّه ملالةً ولا تبرماً كما يكون في محبة كثير من الناس بعضهم بعضاً؛ فإنّ من الناس مَن إذا أحبّ شخصاً مدّة من الزمن قلاه وهجره وتبرّم منه، ولو لم يكن من محبوبه ما يستحقّ به القلى والبغض، إلا أنه قد يملّ هو هذه المحبة ويتبرّم منها؛ فيجد نفوراً في نفسه ممن كان يحبّه.
أمّا الله عز وجلّ فإنّه يتنزه عن ذلك، وهذا فيه فائدة عظيمة الأثر للمؤمنين، بأنّ الله عزّ وجلّ إذا أحبّهم فإنّه لن يقليهم، ولن يملَّ محبتهم ويتبرم منها، كما يكون ذلك من بعض المخلوقين؛ فمحبة الله عز وجل لعباده المؤمنين محبة ثابتة دائمة، ولها لوازمها التي لا تتخلّف عنها، من المعية الخاصة، والنصرة، والحفظ، والتأييد.
كما قال الله تعالى: {وأنّ الله مع المؤمنين}، وقال تعالى: {الله وليّ الذين آمنوا} ، وقال تعالى: {إنّ الله يدافع عن الذين آمنوا} وقال تعالى: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} ،

●- قال الوزير ابن هبيرة فيما نقله عنه الحافظ ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة: (وإنما قال: {وما قلى} ولم يقل: وما قلاك، لأن القِلَى بغضٌ بعد حبّ، وذلك لا يجوز على الله تعالى، والمعنى: وما قلى أحداً قط)ا.هـ.
والمقصود أنّ نفي القِلَى عن الله عزّ وجلّ صفة كمال لله تعالى، لأنه يستلزم ثبوت المحبة ودوامها، وتحقق آثارها ولوازمها.
والنفي المحض لا يُتمدح به؛ لأنه ليس بكمال، وإنما يُتمدّح بالنفي إذا أريد إثبات نقيضه من صفة الكمال.
فإذا قيل عن شخص: إنه غير بخيل؛ فإنّ ذلك مدح له بالكرم.
وإذا قيل: لا يفرّ عند اللقاء؛ فهذا لا يستريب فيه السامع أن المراد منه مدحه بالشجاعة والإقدام.
وإذا قيل: لا يخون ولا يكذب؛ فهذا مدح له بالأمانة والصدق.

ومن هذا الباب:
● قول الله تعالى: {ولا يظلم ربك أحداً} ، وقوله تعالى: {وما ربّك بظلام للعبيد} فيه إثبات عدل الله تعالى.
●وقوله تعالى: {وما ربك بغافل عما تعملون}.
●وقوله تعالى: {إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء}
●وقوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم}
●وقوله تعالى: {لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد}
ونحوها من الآيات التي فيها مدح لله عز وجلّ بصيغة النفي كلها دالة على ثبوت كمال أضدادها.
والمدح بالنفي أوقع في كثير من النفوس لاستلزامه ثبوت كمال الضد.

والمقصود أنّ نفي القِلَى عن الله تعالى صفة كمال لأنه يستلزم ثبات محبّته تعالى لأوليائه المؤمنين، ودوامها، وتحقق آثارها ومقتضياتها، وهذا له أثر عظيم في نفوس المؤمنين فيملأ قلوبهم سكينة ورضا بالله تعالى، ويقيناً بنصره وتأييده وصدق وعده ما داموا متّبعين لهداه.

■ وقول الله تعالى: {ما ودَّعك ربك وما قلى} يشمل نفي جميع احتمالات المفارقة والتخلي ويؤكّد ثبوت المحبة ودوامها، وثبوت لوازمها من النصرة والحفظ والتأييد.
●فقوله تعالى: {ما ودّعك ربك} قرئ: [ما وَدَعك ربك] بالتخفيف، أي: ما تركك، ولا أسْلَمَك لأعدائك.
فالمضارع من هذا الفعل "يدع"، والماضي: "ودع".

■وقراءة {ودّعك} بالتشديد تحتمل وجهين في التفسير:
●أحدهما: أنها تأكيد لـ[ودعك] المخففة.
●والآخر: من التوديع والمفارقة.

فاشتملت الآية على نفي القلى ونفي المفارقة ونفي إسلامه وتركه لأعدائه.
وكل هذه المنفيّات تدلّ على كمال أضدادها، وتبيّن عظمة محبّة الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم وتأييده له، ونصرته إياه، ومعيته الخاصة له.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبد العزيز بن داخل المطيري (بتصرف يسير)
https://t.me/rehabtanzeel

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق