الاثنين، 15 أبريل 2024

فوائد من سورة البقرة - الوجه الثالث -

أخذنا إن القسم الأول من السورة أو الربع الأول من الجزء الأول من السورة كان مقصد إنزال القرآن وأقسام الناس أمامه، وتناولنا صفات المؤمنين وصفات الكفار، ثم بعض صفات المنافقين، لكن في صفات المنافقين لم يكن السياق فقط يعدد صفات وإنما ثنى بأمثال وهذه الأمثال كانت تبين أو تزيد الأمر وضوحا نظرا لما في أحوال المنافقين من خطورة بحيث أن الإنسان يحتاج إلى مزيد بيان فيما يتعلق بهم.

■ ضرب المثل في اللغة العربية إجمالا وفي القرآن الخاصة هو صورة من صور تقريب المعاني و تجسيمها واستحضارها بصورة حسية، بحيث تكون أكثر ورودا على الذهن، وأكثر استقصاء للخصال والصفات داخل ما يراد وصفه.
● وهناك مواضع في القرآن يزيد الوصف فيها أكثر، ويزيد الوضوح وضوحا بأن لا يكتفى في الموضوع الواحد بمثل واحد وإنما يؤتى بهذا الأمر المراد التمثيل له بمثلين وليس مثل واحد، وهذا طبعا لا يكون إلا في القضايا الكبرى.
يعني مثلا لو استعرضنا في القرآن الكريم ما الأمور التي سيقت في حيز المثل وسيق لها مثلا في سياق واحد، نجد المنافقين في سورة البقرة، الشرك في سورة الحج، النور والظلمة في سورة النور، الحق والباطل في سورة الرعد. طبعا لن نستقصيها ولكن فقط مجرد ضرب أمثلة على إن مهمات الدين الكبرى تأتي لها الأمثال، وداخل هذه الأمثال تُعدد الأمثال فهذا من المؤشرات على أهمية الفقه بأحوال المنافقين وصفاتهم.

■ المثل الذي بين أيدينا كما سماه ابن القيم مثل ناري ومثل مائي، المثل الناري لما قال (استوقد نارا)، والمثل المائي الذي هو (أو كصيب من السماء) الذي هو المطر.
وكذلك قضية المثل الناري والمائي أيضا تكررت في سورة النور، وأيضا تكررت في سورة الرعد نظرا لما في هاتين المادتين المحسوسة من أمور إذا عملت عملية مقايسة بين المُمثل والمُمثل له تظهر لك صفات كثيرة ربما تكون غائبة عن الذهن وما زادت وضوحا إلا لما مُثل بها.
نأتي لتفصيل هذا المثال ولن نعطيه تمثيلا أو فوائد استقصائية، إذ أن شرح المثل يحتاج إلى محاضرات كاملة، لكن سنأخذ مجرد أمثلة على هذا الأمر.
انتقاء النار وانتقاء الماء:
كما قال ابن القيم: "لما في الماء من الحياة، ولما في النار من الإضاءة والإشراق" وفي المقابل ممكن أن تكون إحراق، فمن الممكن أن تستلهم من الآيات معاني كثيرة إذا تم التمثيل بها.
/ الماء ممكن أن يكون إغراق وممكن أن يكون مادة حياة، النار ممكن تكون إضاءة ممكن تكون إحراق. فعلى حسب ما يجري المثل على حسب ما تتسع الدِلالات وتتسع المعاني.

من الفوائد التي تؤخذ من سياق هذا المثل:
1- أن من شأن المنافقين الخوف الشديد كما في قوله تعالى (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت) فهذه وإن كانت في الصورة الحسية إلا إنها هي جزء من الصورة المعنوية، ونظيره تصريحا في الصورة المعنوية ما ورد في سورة المنافقون (يحسبون كل صيحة عليهم)، أيضا في قوله تعالى (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون) فإذا هم إذا كانوا في حال الضعف فهم أشد ما يكونون خوفا، وفي حال ضعف المؤمنين أشد ما يكونون إيذاء للمؤمنين.

2- من قوله تعالى (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) يؤخذ فيها وصف للمناقين في الدنيا كما قال ابن كثير "هكذا يكونون يوم القيامة" يعني هم في الدنيا أحوالهم كذلك وأيضا في الآخرة أحوالهم كذلك، قال "هم يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم فمنهم من يُعطى من النور ما يُضيء له مسيرة فراسخ، وأكثرهم من يُطفأ نوره تارة ويُضاء له تارة فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى فهذا هو حالهم في اليوم الآخر". وهذا الأمر بُين في سورة الحديد، وبُين أيضا في مواطن متعددة أيضا في سورة التحريم بُينت. إذا هذه صورتهم الحسية في الدنيا (كلما أضاء لهم مشوا فيه) وهذا طبعا يعكس قضية أنهم في حال ما هم يعلنون الإيمان تأتيهم شيء من الخيرات فعندها يكونون يمشون بمعنى أنهم يصبح هناك ضوء لهم في الطريق ولكنهم ما يستمر عندهم هذا النور يُطفى فيقيمون في المكان ويثبتون فيه لا يستطيعون المُضي نظرا للظلمة التي هم فيها.

3- من الفوائد أن أهل الإيمان في نور وبه يعرفون الصراط المستقيم في الدنيا والجزاء من جنس العمل فأحوالهم يوم القيامة نور، كما أن المنافقين كما صورت الآيات أحوالهم في ظلمة، ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنه "ليس أحد من أهل التوحيد إلا يُعطى نورا يوم القيامة، فأما المنافق فيُطفئ نوره، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين بهم فيقولون (ربنا أتمم لنا نورنا)" ولذلك ورد في الحديث الصحيح استشعار أهمية الصراط المستقيم سواء في الحياة الدنيا نستقيم فلا نضل، أو في يوم القيامة في عرصات القيامة حتى نجتاز الصراط ونصل إلى الجنة، فكان رسول صل وسلم يقول "اللهم اجعل في قلبي نورا ، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا، ومن أمامي نورا، ومن خلفي نورا، ومن فوقي نورا، ومن تحتي نورا، واجعلني نورا..) ذكر تقسيمات كثيرة، وهذا ينبغي أن يُحيله المؤمن دعاء وليس فقط مجرد أن يقرأها كأمثال، لا، هذا أمر له اعتباره في مسيرتنا في الحياة. 

4- من خلال المثلين المضروبين للمنافقين أفادت أن المنافقين قسمان:
قسم نفاق كامل أو منافقون خُلص، وهؤلاء هم الذين ضُرب لهم بالمثل الناري (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) فالنور ذهب وما بقي لهم إلا الإحراق، لم يقل ذهب الله بنارهم وإنما بنورهم، فبقي الإحراق وذهب النور، فلم يجنوا إلا سوء، فهؤلاء المنافقون نفاقا اعتقاديا الذي هو أخلصوا في النفاق.
القسم الثاني الذي هو (أو كصيب من السماء) نلمح فيها أنه مرة يُضاء ومرة يُطفى وليس أنه ذهب بالكامل لما قال (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) فقالوا القسم الثاني هم المترددون في النفاق تارة يلمع لهم الإيمان وتارة يخبو، فهذا هو المذكور فيها.
ونظيرها في التوزيع في الأمثال في سورة النور لما ذكر أهل الظلمات ذكر مثلين (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة) ثم المثل الثاني (أو كظلمات في بحر لجي) فمن الفوائد المستفادة في سورة النور نظير هذا المثال الذي هو أن أصحاب الظلمة منه ما هو ظلامه مُستحكم ولا رجاء أن يُنار طريقه، وهناك من ظلامهم يُرجى برؤه ويمكن أن يستنيروا لأن الفرق بين المثلين ظاهر.

5- أيضا من الفوائد التي تؤخذ من سياق الأمثال في المنافقين: تخلي الله سبحانه وتعالى عن المنافقين لما قال الله عز وجل (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) هذه من أساليب القرآن في الأمثال أنك وانت ماشي مع الصورة الحسية يظهر لك شيء في الصورة المعنوية حتى لا تُغرق في الحس وتنسى أصل المثال، فلما قال الله عز وجل (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) إشارة إلى فعل الله عز وجل بهم أو من العقوبات الشرعية لهم أن يكِلهم إلى أنفسهم ويتركهم بمعنى أنه لا يوفقهم إلى العمل أو إلى التوبة التي تردهم إلى طريق النور.

6- من الفوائد: أن القرآن تحيا به القلوب كما تحيا بالأرض المطر لأنه (كصيب من السماء) كانت هذه إشارة إلى الإيمان وإلى الوحي النازل الذي تحيا به القلوب، فكما أن المطر إذا نزل على الأرض أنبتت وأثمرت، فكذلك الوحي إذا نزل على القلوب فإنه تحيا به القلوب.

7- أيضا من فوائد الآيات التي مثلّت للمنافقين: لا يغني حذر من قدر، والحِيل لا ترد بأس الله سبحانه وتعالى، لأن الله عز وجل ذكر في الصورة الحسية (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت) ثم قال (والله محيط بالكافرين) فإذا أراد الله شيء فإنه يوقعه مهما بلغ الإنسان من قوة الحيلة ما لم تدركه رحمة الله سبحانه وتعالى فإن قدر الله واقع.

8- من الفوائد أيضا: أن الهدى يدخل للعبد من ثلاث من السمع ومن البصر ثم عقل القلب لما سمِع وبصر ولذلك قال في وصفهم (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) فإذا فلنحذر من هذه الآلات ونسخرها لطاعة الله، فنجعل أعيننا ما تقع إلا على حلال وعلى طلب العلم، وأسماعنا كذلك، وليكن قلبنا إذا سمِع وإذا أبصر يعقِلها ويحيلها عملا واستسلاما وانقيادا، وإلا فإنه سيكون مثل هؤلاء (صم بكم عمي) حال كونهم عندهم آلة السمع وعندهم آلة البصر ولكنهم نُزلوا منزلة من يفقدها.

9- في الآيات وحّد الله النور وجمع الظلمات (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات) وهذا لأن الحق واحد وهو الصراط المستقيم، والباطل طُرقه متعددة، وهذا أمر من كليات أسلوب القرآن في أكثر من موضع، كما في قوله في سورة الأنعام (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) فوحّد الصراط أما سُبل الباطل جمعها فقال (السُبل).

10- من الفوائد أيضا: من النِّعم أن يمتعك الله عز وجل بسمعك وبصرك، فهي الآلات التي تُوصلك للعلم بالشريعة ولذلك قال الله (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير) فإذن لنتجه بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى أن يمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحيانا ويجعله الوارث منا، ونستعملها في طاعة الله عز وجل، وليس في معصيته.
-----------------------------------
https://t.me/fwaidalayat

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق