النوع الثالث: قراءات قيل
فيها لغات قولا واحدا، يعني لم يقل أحد بأن هذه لها دلالة. وهذه لها دلالة. هذه
التي قيل فيها إنها لغات فائدة ورودها:
أولا: حفظ اللغات المستعملة
في الكلمة. ثانيا: التوسع
في الدلالات والتوسع في المعاني، وهذا سيقابلنا وأبينه لكم بحول الله وقوته.
عندما أبدأ ببيان كلمة
الرُشد
والرَشد، الدليل على أن لكل قراءة دلالة الآتي:
أولا: أن هناك موضع في سورة النساء في حق اليتامى عند تسليمهم أموالهم قال (فإن آنستم منهم رُشدا) فقط ولم يقرأ أحد من القُراء (فإن آنستم منهم رشدا) بفتح الراء والشين، لم يقرأ أحد هكذا، دليلا على أن المراد من الرُشد هنا الصلاح في الدنيا لأن تسليم اليتيم ماله لا يشترط فيه صلاحه في دينه، هل يشترط في تسليم اليتيم ماله صلاحه في دينه، أن يكون صالحا صلاحا كاملا؟ لا، لأن هذا فتح باب للوصيّ أن يأكله، فهنا لم ترد إلا قراءة الرُشد دليل على أن هذا المعنى هو المراد. عندنا أيضا (فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا) أي تحروا الصلاح الديني، فلم ترد فيها
قراءة رُشدا، (وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب
من هذا رَشَدا) أيضا لم يرد فيها إلا الرّشَد بفتح الراء والشين.
إنما (قال
له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما عُلّمت رُشدا) و(رَشَدا) لماذا؟ لأنه يقول له هل أتبعك
على أن تعلمني مما علمت من صلاح للدنيا وصلاح للآخرة، إذا هنا الأمران دين ودنيا.
(وإن يروا
سبيل الرُشد لا يتخذوه سبيلا) (وإن يروا سبيل الرَشد) فإذا المعنيان مرادان هنا.
إذن القول بأن الرُشد والرَشد لغات في الكلمة
ولا دلالة لها في المعنى ورود القراءة يثبت عكس ذلك.
عندنا
أيضا الضُّر والضَّر: (الضُّر) وردت
بقراءة واحدة في القرآن في بعض المواضع، و(الضَّر) وردت بقراءة واحدة
بفتح الضاد في بعض المواضع، وورد القراءتان في موضع واحد في القرآن كله، يعني موضع واحد ورد فيه (َضرا)
و (ضُرا). أيضا هذه من الكلمات التي قال
البعض إنها لغات، وقال البعض لكل قراءة دلالة في المعنى.
ما دلالات المعنى في كل
قراءة؟
قالو:
الضُر -بالضم- يدل على سوء الحال، وسوء
الحال غير إلحاق الأذى، يعني هناك فرق بين سوء حاله وبين إلحاق الأذى له. وعندما نبحث عن المواضع التي قُرأت بضم الضاد في القرآن كله
نجدها فعلا تدل على سوء الحال:
(وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضُر) ، (وإذا
مس الإنسان الضُر دعانا) ، (
وإذا مس الإنسان ضُر دعا ربه منيبا إليه) فهذا كله لا يعطي معنى الإيذاء إنما يعطي سوء
الحال.
ونجد
الضَر
الذي قابل النفع. القرآن فيه (ضرا ولا نفعا)، و (نفعا ولا ضرا) هذا نسميه الضرر
الذي قابل النفع، بالتأكيد الضرر الذي يقابل النفع يكون من باب إلحاق الأذى. فكل موضع يدل على ذلك، يدل على معنى إلحاق الأذى. تعالوا نذهب إلى موضع سورة الفتح الذي ورد فيه قراءتان (قل
فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضَرا)
(إن أراد بكم ضُرا)
لماذا
هذا الموضع هو الوحيد الذي ورد فيه القراءتان مع أن الضَّر هنا قابل النفع (أو
أراد بكم نفعا) فلماذا ورد فيه القراءتان؟
لأن إسناد الضَّر والضُّر إلى إرادة الله جل
وعلا، يعني الضَّر الذي قابل النفع كله مسند إلى البشر أو إلى الأصنام، لكن هذا
الموضع لا، مسند إلى إرادة الله (إن أراد الله بكم ضرا وإن أراد الله بكم نفعا)
فهنا يحتمل المعنيين: إن أراد الله بكم سوء حال، أو أراد بكم إلحاق أذى.
ننتقل لعنوان مهم في
تمهيدنا هذا لا بد منه وهو: كيف أقرأ توجيه القراءات حتى أصل إلى هذه المعاني. لأن فيه أمر مهم جدا هو أن كتب التوجيه في
الغالب لا تفصّل ولا تُبيّن أثر القراءة في المعنى إنما قد تعطيني توجيها مختصرا.
وأنا لا أسمي هذا توجيها لأني معنى التوجيه أن أُبين أثر القراءة في المعنى، أو
دلالة القراءة في المعنى.
فأنا
عندما
أريد أن اقرأ في قراءة وأحب أن أوجهها توجيها سليما ماذا أفعل؟
أقرأ كتب التوجيه
كلها، يعني لا أترك كتابا واحدا لأن كل كتاب قد يعطيني دلالة ولو من بُعد، ويكون
دارس القراءات ودارس علم التوجيه ذا حصافة وذكاء بحيث أنه يلتقط المعنى، ثم أذهب
إلى كتب التفاسير، كتب المفسرين هي التي ستعطيني هذه الدلالات. التفسير الذي اهتم بذكر القراءات كلها تقريبا
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، يعني البحر المحيط حتى كان بعض مشايخنا
يقول: من لم يمتلك البحر المحيط في مكتبته فهو لن يفهم توجيه القراءات. مع أني أرى
أنه غير كاف لكن هو ما ترك شاردة ولا واردة إلا وتكلم فيها وفصّلها. نعم، مجلدات، يعني
ممكن نجده سبع مجلدات ممكن نجده عشرة في بعض الطبعات، وهكذا. وهو موجود على
المكتبة الشاملة، يعني المكتبة الشاملة الآن تغني عن شراء الكثير من الكتب. ثم بعد ذلك ألجأ للقرطبي أيضا يغلب عليه بيان القراءات. البحر المحيط مستواه عادي جدا
وليس عالي، حتى للمبتدئين.
القرطبي والكشاف للزمخشري برضه إذا
تكلم في قراءة يتكلم بدقة، والطبري أيضا يتكلم. درة التنزيل هذا مستواه عالي جدا، لأن درة
التنزيل هذا في المتشابه اللفظي وأنا أشرحه لكم، وأيسره لكم. وأيضا التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور لكنه لا يتكلم في كل القراءات،
لكن إذا تكلم أتقن، يعني هو لا يذكر كل القراءات.
وأنا أمهد هذا لكم لأجل قضية مهمة وهو أننا سندرس التوجيه من خلال كتاب حجة القراءات لابن
زنجلة فبالطبع لن أكتفي بما يقوله ابن زنجلة، وإلا فيه مواضع هو لا يوجهها أصلا،
يعني يقول كلاما لا يفيد في التوجيه، لكن نحن سنجعله أصلا نبني عليه، لكن أنا
بفهمكم أني سأفهم لأفهمكم. وبعدين خلي بالكم. يعني كويس إنك تجدي من ييسر لكِ أمر
الفهم بكل سهولة ويسر. فأنا لازم أقرأ في كتب التفاسير مع كتب التوجيه ولو كتبتهم
معي إن شاء الله يغنيكم لكن أنا أعطيكم كيف تقرؤون. أيضا
فيه كتاب اسمه معاني القراءات للأزهري، هذا من أقدم الكتب التي تكلمت في معاني
القراءات، أيضا يعطينا دلالات طيبة.
ثانيا:
يكون استحضار مواضع الكلمة التي أبحث في معنى
قراءاتها استحضارها في ذهني -كما قلت لكم الآن- مثلا الرَّشد والرُّشد. أي المواضع
اللي جاء فيه قراءة واحدة بالرُّشد، وأي المواضع الذي جاء بالرَّشد، وهذا ما سياقه،
وهذا ما سياقه إيه، وأي المواضع اللي جاء فيه قراءتين. يكون عندي هذه الدلالات.
يعني مثلا لو أردنا أن نقرأ سويا قراءة (وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) (ووصى، وأوصى) ورد فيها قراءتان.
أجد
أن (أوصى) ستكون من الإيصاء، و(ووصى) من التوصية. أجد
بعض المواضع ورد فيها قراءة واحدة بالتخفيف مثلا: (يوصيكم الله في أولادكم) هذه من
الإيصاء. لماذا؟ لأن الآباء لا يحتاجون لكثير توصية وإنما هو مجرد إيصاء، زي ما
يكون عندك مثلا ولد أو بنت ما يحتاج أن تكرر الكلام عليه، هات لي معك الطلب
الفلاني، خلاص هي مرة واحدة وهو ما شاء الله يفهم الباقي. فيه أولاد كذا. وفيه أولاد
قبل ما يلبس لا تنسَ تأتي بالطلب الفلاني، وهو يلبس لا تنسَ، وبعد أن يلبس لا تنسَ،
وأول ما ينزل لا تنسَ، واتصل به لا تنسَ، وفي النهاية قد ينسى. فيه كده ولا ما فيش
كده؟ فيه كذا. فالذي كررت عليه التوصية هذه
توصية من وصّى. إنما الذي لم أكرر عليه التوصية هي تكون من أوصى ولذلك (وأوصى بها إبراهيم بنيه
ويعقوب) كأنهم قالوها لهم مرة واحدة ما كرروا عليهم، وأما (ووصّى) فتدل على أنهم كرروا التوصية عليهم أكثر من مرة. يعني
كل ما حدث موقف ذكّروهم بالوصية، كل ما حدث موقف ذكّروهم بالوصية، فأنا لا بد أن
أكون مستحضرا يُوصى ويُوصي في القرآن، ويُوصِّي في القرآن عشان أكون عارف الفرق
بين هذا وبين ذاك، وأكون عارف إن التشديد أو التثقيل فيه تكرار للفعل وأنه وصّاه
بكثير من التوصية. يبقى
أنا كده استطعت أن أوجه القراءة، أو بعض كتب التوجيه تقول أوصى من الإيصاء، ووصّى
من التوصية. وخلاص
صح؟ بل
الكثير، ويقولون أحيانا هذا بالتخفيف وهذا بالتثقيل وخلاص. لأنهم
يظنون أن القُراء أو قارؤا القرآن على دراية كبيرة وعلم وسيفهم. لكن الآن الكل
أصبح يحتاج إلى التفصيل.
عندما نأتي مثلا لقوله تعالى (وإن
كانت واحدةً فلها النصف) وعندنا
هنا قراءة (وإن كانت واحدةٌ فلها
النصف) كتب التوجيه ستقول على قراءة نصب (واحدةً) تكون كان ناقصة، وعلى قراءة
الرفع تكون كان تامة، وخلاص. طيب ما دلالة كان
الناقصة في المعنى؟ وما الذي دعا إلى القراءة التامة؟ التي هي بـ (كان) التامة -يعني
قراءة الرفع-، أكيد لها دلالة. تعالوا نتفاهم: (وإن كانت واحدةً) (واحدةً) خبر
كانت فأين اسمها؟
في
قول الله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم)، (أولادكم) هنا تشمل الذكور والإناث يعني
كلمة أولاد تشمل الذكور والإناث، فبدأ الله ببيان اجتماع الذكور مع الإناث لو
اجتمعوا وكانوا أبناء رجل واحد فقال (للذكر مثل حظ الأنثيين) وخلي بالكم أنا قلت
ذلك عندما أراد الله أن يرفع شأن المرأة جعلها هي الأصل في الميراث والذكر يُلحق
عليها يعني (للذكر مثل حظ الأنثيين) يعني لم يقل وللأنثى مثل نصف الذكر، أو وللأنثيين مثل حظ الذكر، لا، جعل الله الأنثيين
أصلا وألحق بهما الذكر. هذه
الصورة الأولى اجتماع الأولاد الذكور والإناث.
وطبعا لو كان الأولاد كلهم ذكور فلا مشكلة تحتاج إلى بيان، ولو كانوا جميعا ذكور
هل هناك مشكلة؟ ليست هناك مشكلة. خلاص.
ثم قال (فإن كن نساء) بدأ يتحدث عن انفراد
النساء الذي لم يُنجب إلا بنات (فإن كن نساء)، طب اسم (كن) هنا الذي هو ضمير النسوة يعود على من؟ يعود على الأولاد،
مهو الأولاد أنا خرجت منهم اجتماع الذكر والأنثى، أو إذا كانوا ذكورا فقط، فبقي
إذا كانوا إناثا فقط. فبين هنا هذه الصورة أنهن إذا كن
نساء فوق اثنتين فلهن كذا، فبقيت صورة من الصور الصورة وهي: أن تكون الوارثة بنتا
واحدة. يبقى هنا (وإن كانت واحدة) الضمير كانت هي يعود على
الأولاد المتبقي منهم الذي هم أن تكون بنتا واحدة. هذه معنى (وإن كانت
واحدةً فلها النصف).
س: ما دلالة
قراءة الرفع (وإن كانت واحدةٌ)؟
على قراءة الرفع (كان) هنا لن يكون لها اسم وخبر إنما (كان) هنا تكتفي بمرفوعها لأنها تامة، (وكان) التامة
تكون بمعنى وُجدت، أو وَقعت، أو حَدثت ...الخ. يعني (وإن
كانت واحدةُ) أي: وإن وُجدت واحدةٌ فلها النصف.
س:
ألم تُفد القراءة الأولى نفس المعنى تقريبا؟
جـ: أقول لك: لا، لأن القراءة
الأولى (كانت واحدةً) بالنصب أي مات أبوها وهي موجودة مولودة، قراءة النصب مات
الأب وليس عنده سوى بنت واحدة، إنما (وإن كانت
واحدةٌ) فالأب مات والأم حامل، لم تُوجد بعد ولم يعرفوا إن كان المولود سيكون بنتا
أو ولدا. ولذلك سيتوقف الإرث إلى أن تُولد، إذا (وان
كانت واحدةٌ) أي وإن وُجدت واحدة يعني وُلدت بعد موت أبيها ولم تكن موجودة وقت
وفاته. هذه فائدة القراءة
الأخرى (وإن كانت واحدةٌ فلها النصف) يعني وإن وجدت واحدة فلها النصف. وهذا من فائدة
فهم القراءة التي وردت ومرتبطة بعدة أمور. نتوقف هنا اليوم. وصلى الله
وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق