أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }[البقرة:188].
هذه الآية الحكم الرئيسي فيها تحريم أكل أموال الناس بالباطل، وأنه محرم سواءً كان سرقة أو غش أو غصب.
ومعنى قوله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} أي : تخاصموا بها إلى الحكام، بمعنى أنكم تأكلون أموال الناس بالباطل وتحتالون في تسويغها شرعًا حتى إذا رُفعت إلى الحاكم أو إلى القاضي ساغت لكم. ولذلك النبي صلى الله عليه يقول: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحوٍ مما أسمع» وهو على باطل لكن حُجته مقنعة «فأقضي له على نحوٍ مما أسمع»، هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومَن دونه من باب أولى «فمن قضيت له بشيء يعلم أنه باطل فإنما أقضي له بقطعةٍ من النار فليأخذ أو ليدع»، فالفكرة هنا أو نفس الحكم في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يُحرِّم أكل أموال الناس بالباطل على أي لونٍ من ألوان الأكل كان هذا.
وأن من فوائد هذه الآية وأحكامها: أن ما لم يُبح الشرع أخذه فهو محرم، فهو مأكول بالباطل أخذته بالغصب أو بالسرقة أو بالاختلاس أو بالاحتيال أو بأي شكلٍ من الأشكال فهو محرم.
ومن فوائد هذه الآية العظيمة: أن حكم الحاكم لا يُحرم حلالًا ولا يُحلل حرامًا.
يعني الآن رجل أكل مال بالباطل بحيلة، وأصدر له القاضي صكًا في عشر صفحات أن هذه الأرض لك، وأنت تعلم أنها ليست لك، فهي مُحرمةٌ عليك، وهذا الصك الذي أعطاك القاضي لا يُحلل لك هذا الحرام، وهذا من فوائد هذه الآية العظيمة، لأن البعض قد يُقدم على مثل هذا ويخرج له صك فيرى أنه ما دام عندي صك الحمد لله - فذنبها برقبة القاضي- بعضهم يقول هذا. فالله سبحانه وتعالى قال: لا، وهذا معنى قوله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}أنكم على باطل وأنكم لا يحل لكم ذلك.
قوله سبحانه وتعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[البقرة:189] .
هذه الآية العظيمة هي من الأسئلة التي كان يُسألها النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة، ورضي الله عنهم كانت أسألتهم محدودة وعملية، ولذلك لو لاحظتم – أيها الأخوة – هذا مما يُؤيد العلماء الذين يُحاولون أو يحصرون آيات الأحكام في الآيات الفقهية العملية التي يترتب عليها أحكام فقهية عملية، أن الأسئلة التي كان يسألها الصحابة كلها في هذا الجانب {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}، {يسألونك عن الأهلة}، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}، كلها أشياء عملية يترتب عليها أحكام فقهية. ولم يكونوا يسألون هل الأفضل الملائكة أم البشر؟ يسألون هل الجنة مخلوقة اليوم والنار أو غير مخلوقة؟ أسئلة لا يترتب عليها حكم ولا يترتب عليها عمل.
في هذه الآية يقول الله سبحانه وتعالى : يسألونك – أيها الرسول – عن تكوين الأهلة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ}، والله هنا لم يُحدد بالضبط لم يحددوا نوع السؤال، يسألونك عن الأهلة .. يسألونك عن شكل الأهلة .. يسألونك عن وظيفة الأهلة.. يسألونك كيف تتكون الأهلة؟ المفسرون يقولون: أنهم كانوا يسألون عن تكوينها، كيف أن الهلال يبدأ صغيرًا ثم يكبر حتى يستتم في نصف الشهر، ثم يبدأ يتناقص شيئًا فشيئًا حتى ينتهي. فالله سبحانه وتعالى أجاب فقال: قل مُجيبًا لهم عن حكمة ذلك: إنها مواقيت للناس وللحج، مواقيت للناس يتعرفون بها على أوقاتهم، ولأن التقنية تطورت اليوم أصبح الناس لا يعتمدون كثيرًا على الأهلة في معرفة الوقت، فيظنون أنها غير مفيدة، ولكن لو انقطعت الكهرباء لعرفنا قيمة الأهلة، وهذه من مزايا الشريعة الإسلامية – أيها الأخوة – أنها علّقت الأحكام بقضايا يُدركها العوام وجمهور الناس، ولم تُعلق الأحكام بقضايا لا يُدركها إلا المتخصص في الرصد الفلكي، أو المتخصص في الفيزياء النووية أو المتخصص في الجولوجيا، - وهؤلاء قلة من الناس - لكنه ربط الأحكام بالأشياء التي يُدركها عامة الناس ، بالأهلة ، إذا رأيتم الهلال فصوموا «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»، فيستطيع الواحد أنه يُتابع الصيام هذا، سواءً كان عنده مرصد فلكي، أوعنده ساعة ، أو عنده جوال، أو عنده بوصلة، هذه كلها أدوات لا نحتاجها، أشياء مساعدة.
لاحظوا في السؤال هنا يسألون سؤالًا ويأتي الجواب من زاوية أخرى، فهم يسألون عن الأهلة كيف تتكون؟ طيب افرض أني جاوبتك على كيف تتكون الأهلة، ماذا تستفيد؟ لكن الفائدة الأعظم التي تستفيدها أن أُبين لك الحكمة أنها مواقيت للناس وللحج يعرف الناس بها دخول العبادة وخروجها، وهذا هو الذي يترتب عليه عمل، وهذا الذي يُسميه العلماء في البلاغة أسلوب الحكيم أو الجواب الحكيم أن تُسأل سؤالًا ليس فيه فائدة للسائل فتجيبه بالجواب الذي يفيده، هذا يسمونه جواب الحكيم.
ومن فوائد هذه الآية: أن الليلة التي يُرى فيها الهلال هي من الشهر المستقبل وليست من الشهر الماضي، لذلك نحن اليوم الليلة تسبق النهار – كما تعلمون – فنحن نرى الهلال رمضان الليلة فنصوم غدًا، فالليلة التي نرى فيها الهلال هي تابعةٌ لليوم التالي.
ومن فوائد هذه الآية: أنها تُقبل في رؤية الهلال شهادة رجلٍ عدل إذا كان في السماء علة -كما يقول الفقهاء- بمعنى الغيم أو شيئًا يمنع رؤية الهلال فإنها تُقبل شهادة العدل، وإن لم تكن في السماء علةٌ لم يُقبل إلا شهادة الجماعة التي يُوجب خبرها العلم. بمعنى إذا جاء رمضان وكان فيه غيم أو فيه مانع أو فيه غبار فشهد شاهد قالوا: يُقبل، لكن إذا كان الجو صافيًا وإمكانية الرؤية متاحة للجميع لا نكتفي بشهادة الواحد وإنما نكتفي بشهادة مجموعة من الناس حتى ندخل في العبادة ، وهذا في الغالب يكون في رمضان أو في الخروج منه، أو يكون في دخول الحج ونحو ذلك من العبادات والمواسم التي يشترك فيها الناس جميعًا.
فيه فائدة أُريد أن أذكرها وهي تتعلق بقوله سبحانه وتعالى : {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ} البعض يظن أن هذه الآية أو بعض المفسرين لا أقول بعض الناس، بعض المفسرين يُفسر هذه الآية تفسيرًا عامًا بمعنى {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} أي تأتوا الأمور من وجهها ، تأتي الأمر من وجهه، والصحيح: أنها على ظاهرها لكنك لا تستطيع أن تفهمها على ظاهرها إلا إذا عرفت سبب النزول. تذكرون في {إن الصفا والمروة}، ذكرنا سبب النزول. ولذلك نحن نقول دائمًا في سبب النزول ما هو سبب النزول؟ سبب النزول هو ما نزلت الآية أو الآيات بشأنه وقت نزول الوحي كحادثةٍ أو سؤال.
يعني يكون هو سبب مباشر في نزول الآية، كسؤال - مثلًا- يأتي أحد الصحابة أو الأعراب فيسألون النبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله كيف نقسم هذه الأنفال في معركة بدر؟ أول معركة يخوضها النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة فلما اجتمعت الغنيمة اختلفوا كيف يقتسمونها فنزل الوحي، لأنهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}..الخ فإذًا هذا نقول: سبب نزول سورة الأنفال ما وقع في معركة بدر من الاختلاف في قسمة الغنيمة هذا سبب مباشر.
ومثل هذه الآية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ} كذا وكذا وكذا، يسألونك عن الشهر الحرام ، قل هو كذا وكذا.
إذا معنى هذا أن القرآن الكريم كله نزل لأسباب خاصة؟ الجواب: لا، خمسة وثمانون بالمئة من آيات القرآن الكريم البالغ عددها ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية نزلت ابتداءً دون أن يكون هناك سبب مباشر وإنما نزلت لهداية الناس، لأن القرآن الكريم كله نزل لهداية الناس {الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}، لكن هناك خمسة عشر بالمئة أو أقل نزلت لأسباب خاصة.
مثلًا حادثة الإفك التي وقعت، لما اتُهمت عائشة رضي الله عنها بما اتُهمت به، وكانت حادثة أثارت الرأي العام، فنزل الوحي بشأنها {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ}، إلخ الآيات، فنقول: سبب نزول هذه الآيات نقصد به السبب المباشر، وإلا فكل القرآن الكريم قد نزل هدايةً للناس، ولو قلت أنت في كل آية سألتك ما سبب نزول هذه الآية؟ فقلت: هداية للناس، الجواب صحيح، لكننا نسأل دائمًا في سبب النزول عن السبب المباشرة.
هذه الآية لا تُفهم إلا إذا عرفنا سبب النزول وهو: أن الأنصار رضي الله عنهم في الجاهلية كان عندهم اعتقاد أنه إذا ذهب الواحد منهم إلى الحج ثم رجع من الحج فإنه لا يدخل من باب البيت -لا يدخل من الباب الرئيسي للبيت - وإنما يثقب ثقبًا في آخر البيت أو في خلفية البيت ويدخل معه، ويرى أن هذا أكمل في خروجه من ذنوبه ، كأنه عندما يدخل من هذا المكان الخاص فكأنه خرج من ذنوبه، عقيدة من العقائد الباطلة الموجودة عند الجاهلية. فالله سبحانه وتعالى قال لهم في هذه الآية: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} فرُفع عنهم هذا الاعتقاد الباطل وألغاه. فالآية على ظاهرها وأنه نهيٌ عن هذه العقيدة الباطلة.
وهذا بالمناسبة – أيها الأخوة – عندما نتحدث عن أسباب النزول نقول: إن معرفة سبب النزول تعين على فهم الآية، لكن لا شك أن بعض أسباب النزول لا تُفهم الآية إلا بمعرفته مثل هذه الآية ومثل آية {إن الصفا والمروة}، لكن بعض أسباب النزول يمكن أن تعرف معنى الآية دون أن تعرف سبب النزول، فإذا عرفت سبب النزول زاد كذلك بياناً وإيضاحًا، لكنه لا يتوقف فهم الآية على معرفة السبب. ولذلك نحن نقول: نجعل ما يتوقف فهم الآية عليه من أسباب النزول جزءًا من أصول التفسير، وما زاد عن ذلك هو من علوم القرآن، لأن أصول التفسير هي ما لا يمكن فهم القرآن الكريم إلا به.
-----------------------------------------------------
جزى الله من قام بالتفريغ وقد نقلته (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق