الاثنين، 16 سبتمبر 2019

في ظلال آية (مَن كَانَ یُرِیدُ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا وَزِینَتَهَا نُوَفِّ إِلَیۡهِمۡ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فِیهَا وَهُمۡ فِیهَا لَا یُبۡخَسُونَ)



قال تعالى: (مَن كَانَ یُرِیدُ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا وَزِینَتَهَا نُوَفِّ إِلَیۡهِمۡ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فِیهَا وَهُمۡ فِیهَا لَا یُبۡخَسُونَ) [سورة هود 15]
هذا الإطلاق قيّده الله جل وعلا في الإسراء فقال سبحانه (مَّن كَانَ یُرِیدُ ٱلۡعَاجِلَةَ عَجَّلۡنَا لَهُۥ فِیهَا مَا نَشَاۤءُ لِمَن نُّرِیدُ ثُمَّ جَعَلۡنَا لَهُۥ جَهَنَّمَ یَصۡلَىٰهَا مَذۡمُومࣰا مَّدۡحُورࣰا) [سورة الإسراء 18]
قال العوفي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في هذه الآية : "أن أهل الرياء يُعطَون بحسناتهم في الدنيا وذلك أنهم لا يُظلمون نقيرا، يقول : من عمل صالحا التماس الدنيا صوما أو صلاة أو تهجدا بالليل يقول الله تعالى : أُوفّيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمله للتماس الدنيا وهو في الآخرة من الخاسرين" [تفسير بن كثير]

/ واختلف أهل العلم في معنى هذه الآية، فحملها بعضهم على الكفار لأن الإنسان لا يخلو من إرادةٍ للحياة الدنيا وزينتها وقد قال عن أهل بدر وهم خيار أهل الأرض (تُرِیدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡیَا وَٱللَّهُ یُرِیدُ ٱلۡـَٔاخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ) [سورة الأنفال 67].

/ ومن أهل العلم من حملها على أهل الرياء ولهذا لما حدّث معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- بحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في الثلاثة الذين هم أول من تّسعّر بهم النار يوم القيامة فبكى معاوية -رضي الله عنه- بكاء شديدا حتى ظنوا أنه هلك من شدة البكاء ثم أفاق ومسح عن وجهه وقال : صدق الله ورسوله (مَن كَانَ یُرِیدُ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا وَزِینَتَهَا نُوَفِّ إِلَیۡهِمۡ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فِیهَا وَهُمۡ فِیهَا لَا یُبۡخَسُونَ) فحملها معاوية -رضي الله عنه- على أهل الرياء، ولا يعني هذا أن أعمال أهل الرياء تحبط جميعا، بل يعذبون على قدر معصيتهم، أو تكون لهم حسنات ماحية ولا يُخلدون في النار إلا إذا وقع الرياء في أصل الإيمان.

/ ومن أهل العلم من قال : معنى هذه الآية من كانت الدنيا غايته وطلبه ومنتهى مُناه فانه لا يعمل إلا من أجلها ، فمن أجلها يقوم، ومن أجلها يقعد، ومن أجلها يعطي، ومن أجلها يمنع فهذا ليس له في الآخرة إلا النار.
والسياق يدل للقول الأول لقوله تعالى : (أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ لَیۡسَ لَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِلَّا ٱلنَّارُۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا۟ فِیهَا وَبَـٰطِلࣱ مَّا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ)" [فتاوى بن عثيمين]

- العمل لأجل الدنيا شرك ينافي كمال التوحيد الواجب و يُحبط الأعمال وهو أعظم من الرياء لأن مريد الدنيا قد تغلُب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرِض له في عمل دون عمل ولا يسترسل معه والمؤمن يكون حذرا من هذا وهذا" [تفسير ابن كثير]

- ولما سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن قوله تعالى (مَن كَانَ یُرِیدُ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا وَزِینَتَهَا نُوَفِّ إِلَیۡهِمۡ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فِیهَا وَهُمۡ فِیهَا لَا یُبۡخَسُونَ) ذكر أنها تشمل أنواعا:
/ النوع الأول: المشرك والكافر الذي يعمل أعمالا صالحة في هذه الدنيا من إطعام الطعام ، وإكرام الجار، وبر الوالدين، والصدقات والتبرعات، ووجوه الإحسان ولا يؤجر عليها في الآخرة لأنها لم تُبنَ على التوحيد فهو داخل في قوله : (مَن كَانَ یُرِیدُ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا وَزِینَتَهَا نُوَفِّ إِلَیۡهِمۡ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فِیهَا وَهُمۡ فِیهَا لَا یُبۡخَسُونَ) فالكافر إذا عمل حسنات فإنه قد يُجازى بها في الدنيا وأما في الآخرة فليس له جزاء عليها عند الله لأنها لم تُبنَ على التوحيد و الإخلاص لله عز وجل.
/ النوع الثاني : المؤمن الذي يعمل أعمالا من أعمال الآخرة لكنه لا يريد بها وجه الله وإنما يريد بها طمع الدنيا كالذي يحُج أو يعتمِر عن غيره يريد أخذ العِوض والمال، وكالذي يتعلّم و يطلب العلم الشرعي من أجل أن يحصل على وظيفة، فهذا عمله باطل في الدنيا وفي الآخرة وهو شرك أصغر.
/ النوع الثالث : من عمل العمل الصالح مخلصا لله عز وجل لا يريد به مالا أو متاعا من متاع الدنيا ، ولا وظيفة لكن يريد أن يُجازيه الله به بأن يشفيه الله من المرض، ويدفع عنه العين، ويدفع عنه الأعداء فإذا كان هذا قصده فهذا قصد سيء ويكون عمله هذا داخلا في قوله (مَن كَانَ یُرِیدُ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا وَزِینَتَهَا نُوَفِّ إِلَیۡهِمۡ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فِیهَا وَهُمۡ فِیهَا لَا یُبۡخَسُونَ) ، والمفروض من المسلم أن يرجو ثواب الآخرة، يرجو أعلى مما في الدنيا وتكون همته عالية، وإذا أراد الآخرة أعانه الله على أمور الدنيا ويسرها له.
/ النوع الرابع : وهو أكبر من الذي قبله ، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية أنها نزلت فيه وهو أنه يعمل أعمالا صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة.
ثم قال : بقي أن يُقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاه والصوم والحجّ ابتغاء وجه الله طالبا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالا قاصدا بها الدنيا مثل أن يحُجّ فرضه لله ثم يحج بعده لأجل الدنيا - كما هو واقع - فهو لما غلب عليه منهما، وقد قال بعضهم: القرآن كثيرا ما يذكر أهل الجنة الخُلّص وأهل النار الخُلّص ويسكت عن صاحب الشائبتين وهو هذا وأمثاله" [د. أمين بن عبدالله الشقاوي].

س: من كانت الدنيا مُراده ولها يعمل في غاية سعيه لم يكن له في الآخرة نصيب ، ومن كانت الآخرة مُراده ولها يعمل وهي غاية سعيه فهي له، بقي أن يقال فما حكم من يريد الدنيا والآخرة؟
قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي:
" وأما العمل لأجل الدنيا وتحصيل أغراضها، فإن كانت إرادة العبد كلها لهذا القصد ولم يكن له إرادة لوجه الله والدار الآخرة فهذا ليس له في الآخرة من نصيب ، وهذا العمل على هذا الوصف لا يصدر من مؤمن فإن المؤمن -وإن كان ضعيف الإيمان- لابد أن يريد الله والدار الآخرة.
وأما من عمل العمل لوجه الله ولأجل الدنيا والقصدان متساويان أو متقاربان، فهذا -وإن كان مؤمنا- فإنه ناقص الإيمان والتوحيد والإخلاص، وعمله ناقص لفقده كمال الإخلاص.
وأما من عمل لله وحده وأخلص في عمله إخلاصا تاما لكنه يأخذ على عمله جُعلا معلوما يستعين به على العمل والدِّين كالجُعلات التي تُجعل على أعمال الخير ، وكالمجاهد الذي يترتب على جهاده غنيمة أو رزقا، وكالأوقاف التي تُجعل على المساجد والمدارس والوظائف الدينية لمن يقوم بها فهذا لا يضر أخذه في إيمان العبد وتوحيده ، لكونه لم يُرد بعمله الدنيا وإنما أراد الدِّين وقصد أن يكون ما حصل له مُعينا على قيام الدين، ولهذا جعل الله في الأموال الشرعية -كالزكوات وأموال الفيء وغيرها- جزءا كبيرا لمن يقوم بالوظائف الدينية والدنيوية النافعة" [القول السديد في مقاصد التوحيد]

/ أمثلة تبين كيفية إرادة الإنسان بعمله الدنيا:
- أن يريد المال كمن أذّن ليأخذ راتب المؤذن وحجّ ليأخذ المال.
- أن يريد المرتبة، كمن تعلّم في كلية ليأخذ شهادة فترتفع مرتبه.
- أن يريد دفع الأذى والأمراض والآفات عنه ، كمن تعبّد الله كي يجزيه الله بهذا في الدنيا بمحبة الخلق له ودفع السوء عنه وما أشبه ذلك. 
- أن يتعبّد الله يريد صرف وجوه الناس إليه بالمحبة والتقدير.

/ إنما كان حب الدنيا رأس الخطايا ومفسدا للدين من وجوه:
- أحدها: أن حبها يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقّر الله.
- وثانيها : أن الله لعنها ومقتها وأبغضها الا ما كان له فيها ، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للعنتة ومقته وغضبه.
- وثالثها: أنه إذا أحبّها صيّرها غايته وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة فعكس الأمر وقلب الحكمة فانعكس قلبه وانعكس سيره إلى الوراء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق