الاثنين، 23 يناير 2017

تفسير سورة التحريم - ٢ - د. رقية المحارب



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
 يقول الله جل وعلا :
{عَسَىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }
وذكرنا في الأسبوع الماضي أن هذا فيما وافق فيه عمر أو ما تنزّل به القرآن مُوافقاً به لعمر رضي الله تعالى عنه وذلك أنه دخل على ابنته وقال لها - ما ذكرناه في الأسبوع الماضي - قال لها : يا بنيتي أو يا ابنتي سليني من مالي ما شئت ولا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً وقال : عسى أن يطلقكن. فذكرنا الحديث بطوله وذكرنا موافقات عمر رضي الله تعالى عنه للوحي وما جاء في ذلك وذكرنا منها ما جاء في الأنفال، وما جاء في مقام إبراهيم، وما جاء في الحجاب وغير ذلك مِما يطول ذكره وعدّه أكثر من عدّه في واحد وعشرين موضع.
/ قال الله جل وعلا :{ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ } وهذا أول وصف يليق بزوجات الأنبياء وأهمُه أن يكن مسلمات ، فإن كن غير مسلمات فلا يلقن بنبي من الأنبياء ولذا جاء ذِكر من كُن زوجات لأنبياء وخانت في مسألة الإيمان و مسألة الإسلام وبعد ذلك أهلكها الله مع من أهلك وسنأتي على ذلك إن شاء الله.
/ قال الله جل وعلا : { مُسْلِمَاتٍ } والمسلمات من يدِنّ لله جل وعلا بالتوحيد وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مِما أمر به الله جل وعلا أن يُؤتى  إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام.
/ قال : { مُؤْمِنَاتٍ } والإيمان أمر يقِرُ في القلب وله أركان ، نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم والآخر وبالقدر خيره وشره ، فهن مؤمنات بهذا ، أيضاً مُكتملات الإيمان من جانب الإيمان بالأعمال القلبية من الإخلاص والتقوى والخشية والخوف من الله والرجاء وحُسن الظن به إلى غير ذلك من أعمال القلوب.
 قال الله جل وعلا تفصيلاً لأوصاف هؤلاء الزوجات اللاتي لو لم يكُن زوجاته على مثل هذه الأوصاف لأبدلهن بزوجات على هذه الأوصاف.
 / قال : { قَانِتَاتٍ } والقنوت هو: طول القيام والخشوع لله جل وعلا.
/ { تَائِبَاتٍ } يعني ما فعلنه من خطيئة أو من ذنب أو من تقصير فإنهن يتُبن منه مباشرة. فهذه الأوصاف اللائقة بزوجات النبي اللاتي سيكُن عنده لو لم يكن زوجاته على هذا.
/ { عَابِدَاتٍ } وهذه أوصاف ظاهرة والعبودية لله جل وعلا بالتقرب إليه بما أمر والانتهاء عن ما نهى.
/ { سَائِحَاتٍ } والسائحات هنا هل المقصود بالسياحة الصيام كما جاء في حديث ( سياحة أمتي الصيام ) ؟
أو أن المقصود سائحات أي مهاجرات لأنهن هاجرن في سبيل الله جل وعلا وهجرن الشرك وبلده إلى الإسلام وبلده وهجرن أهاليهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ يعني من كانت ذات أهل مشركين فإنها هجرت أهلها إلى دين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 فهؤلاء كُن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنهن الثيب ومنهن البِكر ولذلك قال الله جل وعلا :{ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } يعني كما أنتن عليه من الحال فإن الله يرزق نبيه لو طلقكن مثل هذه الأوصاف فكُن عليها، وكون النبي صلى الله عليه وسلم أمسك على زوجاته حتى مات عنهن شهادة من الله جل وعلا على أن هذه الأوصاف فيهن فلا يجوز لأحد أن يظن أن واحدة من نسائه ليست مقيمة لهذه الأوصاف لأن الله جل وعلا هذا الذي يرضاه لنبيه ، ما رضي الله لنبيه إلا من كُن بهذه الأوصاف ، فإن كنتن لستن على هذا الوصف فإن الله جل وعلا يُبدله عنكن من تكون على هذا الوصف ، إذاً فمادام النبي صلى الله عليه وسلم أبقى عليهن وكُن على ذمته حتى توفي عنهن صلى الله عليه وسلم فإنهن يحتملن هذه الأوصاف أو يتصفن بهذه الأوصاف قطعاً.
 وفي هذا أيضاً يمكن أن يُرد على الرافضة الذين يسبون أو يصفون عائشة رضي الله تعالى عنها بأوصاف أو بعض نسائه بأوصاف ليست كذلك كحفصة - مثلا - ليست كالأوصاف التي وصف الله بهن الله جل وعلا فهذا رد عليهم في ذلك ، لا أقول رد عليهم إذ لم يكونوا لكن يرد به من يواجههم بالقرآن فيقول : هؤلاء نساء النبي صلى الله عليه وسلم مات عنهن صلى الله عليه وسلم والله جل وعلا لم يرضَ لنبيه إلا بهذه الأوصاف الظاهرة التي يعلمها كل أحد.
 ولما جاء ابن كثير على هذه الآية وذكر { مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَات } قال : "هذه الأوصاف ظاهرة" يعني ظاهرة المعنى ووقف عند قوله : { سَائِحَاتٍ } قال: أي صائمات قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد وفي حديث مرفوع : ( سياحة هذه الأمة الصيام ) ويُقال كما قال زيد بن أسلم يُقال : { سَائِحَاتٍ } أي مهاجرات وتلا فالسائحون أي المهاجرون - والله أعلم - أن السياحة يمكن أن تكون الصيام ويمكن أن تكون الهجرة ولا مانع أن تكون الإثنين معاً ، ودائماً أختار ما لم يتنافر المعنيَان فإن الآية تُحمل على الإثنين معاً.
/ قال الله جل وعلا : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } الثيب هي: سابقة الزواج - من سبق لها الزواج - أما البِكر فهي من لم يسبق لها الزواج وكان ذلك كله عند نبينا صلى الله عليه وسلم.
/ يقول الله جل وعلا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ۖ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }
يقول الله سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة } فينادي الله جل وعلا أهل الإيمان بالإيمان ولا أجمل ولا أحسن من هذا الوصف وهذا النداء ينادي به الله جل وعلا أهل الإيمان فمن يستجاب له دخل في هذا الوصف وكان من الذين ناداهم رب العالمين ، ومن أعرض عنه كان من الذين لم يدخلوا في هذا الوصف ولم يقبلوا نداء الله جل وعلا إذ ناداهم ، فكل من أراد أن يكون من الذين يناديهم الله دخل تحت هذا الوصف واستجاب له.
 الآن لو قيل إن الملِك يعطي دعوات لشأن من الشؤون ويخصّ ناس دون ناس ألا يفخر من يُعطى دعوة من الملِك، تجدينه يمكن يخبر جميع الناس أتتني دعوة من الملك ، أنا مدعُو من الملك ، فحينما ينادي الله جل وعلا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } من الذي يدخل تحت هذا النداء لا شك أنهم أهل الإيمان ، هل يدخل فيه اليهود أو النصارى أو المشركين أو البوذيين؟ ما يدخلون تحت هذا يعني هم لا يدخلون في دعوة الله التي دعاهم بها ولا ندائه الذي ناداهم به ، فأهل الإيمان يتميزون بدخلوهم في هذا الباب.
 ثم بعد ذلك حين ناداهم ناداهم ليأمرهم ولينهاهم ، ناداهم لأجل أن يُحدِّثهم فماذا سيُحدثهم؟ ماذا عسى أن يحدثهم ؟ يُحدِّثهم بأمره ونهيه وقصصه ووعدِه ووعيده وخبره وما يحبه وما يُسخِطه فهو يدعوهم إلى ذلك ، وهذه الدعوة يُقيم لهم مأدبة ، أين مأدبته ؟ القرآن ، القرآن مأدُبة الله ، حيا على مأدُبة الله ، مأدبة الله القرآن - كما جاء - فهذه المأدُبة التي دُعي الناس لها من كتاب الله جل وعلا ، هذه المأدُبة فيها عِزّ الذين يستحيبون النداء ، فيها عزهم وفخرهم ورشادهم وهداهم وفوزهم ونجاتهم ونجاحهم وفلاحهم وسعادتهم ، فيها كل ذلك الخير إذا هم استجابوا لهذا النداء.
 يقول الله جل وعلا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } يعني اجعل أيها المؤمن بينك وبين النار وقاية ، واجعل بين أهلك وبين النار وقاية ، من هم الأهلون ؟ يدخل في ذلك الأولاد والزوجات والخدم والعبيد وكل هؤلاء - المماليك يعني - كل هؤلاء داخلون في الأهل ، ويدخل في ذلك أيضاً - إذا قيل وأهليكم - فيدخل فيه كل من ينتسب إلى هذا ، و الآل أو الأهل بينهم تارات تخُص وتارات تعُم ، فإذا ذُكرَت مُطلقة كانت على العموم ، مولى الرجل (مولى القوم منهم) كما جاء في الحديث ولذا يقال : آل محمد صلى الله عليه وسلم وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم من آله علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وعلي بن أبي طالب ليس من أولاده وإنما ابن عمه فإذا كان أحد - يعني الأولاد وأزواج الأولاد - يدخلون في الآل ، ولكن إذا قيل أهل الرجل فالمقصود بهم زوجته ، إذا قيل أهله زوجته ويدخل في ذلك أيضاً أولاده والله جل وعلا قال في موسى : { فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا } فهذا دليل على أن الأهل إذا كانوا خاصة الرجل فهم أهله يعني زوجته وأولاده دون غيرهم.
/ قال الله جل وعلا : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } والمقصود في هذا - والله أعلم - هو التعبير الثاني الذي هو أهل الرجل زوجته وأولاده. قال : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } يعني أدبوهم وعلموهم ، قال ابن عباس : "اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وأمروا أهليكم بالذكر ينجيكم الله من النار" ، وقال مجاهد : "اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله" ، وقال قتادة : "تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله وأن تقوم عليهم بأمر الله وتساعدهم عليه فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها" ، وقال الضحّاك : "حق على المسلم أن يُعلِّم أهله من قرابته - وأدخل الضحّاك قرابته فكأنما مال إلى الرأي الثاني يعني أن يُعلِّم أهله قرابته - وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه " وفي معنى هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : ( مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها ) يعني إذا بلغ عشر سنين وهو لا يصلي فاضربوه عليها ، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم فرصة لتعليم الأهل مدتها ثلاثة أعوام لِم ؟ لأجل أن يتدرب وأن يتعلّم ، والأهل بما أنهم يُلازمون الإنسان فينبغي أن تكون موعظتهم بالتي هي أحسن وأن تكون بالتعليم والتدريب والحب والتعهد لذلك الله جل وعلا أمر العبد أن يتعاهد أهله بالصلاة قال الله جل وعلا : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} فقال :{ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ٰ} مع أنه قال : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } وهنا قال : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } { قُوا } يعني اجعلوا وقاية والتقوى هي: جعل الوقاية ، إذاً فمعنى ذلك نستنبط من هاتين الآيتين معاً أن من جاهد أهله من زوجته وأولاده وخدمه أوغِلمانه وإمائه ممن هم تحت أمره ونهيه إذا جاهد في ذلك ليقيهم النار أن العاقبة تكون لذلك تكون للأمر والنهي ، أن العاقبة تكون لذلك  ولكن عليه أن يسلُك مسلكها ، ما مسلكها ؟ مسلكها هو مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسلك أصحابه : التعليم بالسُّنة ، التربية بالسُّنة والأمر بالسُّنة ، الأمر بالسنة كيف هو ؟ هو ذكر المحفزات ، ما المحفزات يا ترى ؟
المحفزات هي العطاء ، يُذكر للعبد من رضوان الله جل وعلا وجناته وأجره وثوابه ، هذه من المحفزات.
ومن المحفزات الثناء عليه (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل) الثناء عليه.
 من المحفزات أيضاً ذكر أنه تابع للصالحين.
 من المحفزات القُدوات.
 من المحفزات أن يكون في مسميات أهل الإيمان وأهل الصدق وأهل الصلاح.
 من المحفزات أيضاً ذكر ما للعمل من أجر، فإن العبد إذا ذكر الأجر العظيم يُعطاه على فعل من الأفعال المأمورة بها فإنه على ذلك يجتهد في العمل ولذا ترين كثير من الناس إذا جاء - مثلاً - يوم عرفة نشروا في بعضهم البعض قوله صلى الله عليه وسلم في صوم يوم عرفة يُكفِّر عام الذي فيه يوم عرفة والعام الذي يليه فيعني يكفر عامين فيجتهدون في صيامه كثيرا أكثر من غيره لماذا ؟ لأنه مذكور فيه ما له من الكفارة ، ولذا تجدين الناس يجتهدون في - مثلاً - قيام ليلة القدر ما لا يجتهدون في قيام غيرها ، وكذلك كل الأعمال التي عُقِّب عليها بمضاعفة الأجور يجتهدون فيها مع أنه هناك أعمال أخرى أجورها عظيمة ربما لا ينتشر فيها على سبيل التذكير والموعظة ما ينتشر في مثل هذه الأعمال فلذلك تجدينهم  يمكن أن -مثلاً- يأتون ليلة القدر يأتون الصلاة ليلة القدر أكثر من ما يأتون يوم الجمعة أو صلاة الفجر مع إن صلاة الفجر مُجمع على وجوبها بل إن من تركها وُصِف بالنفاق بينما لا أحد يقول إن من لم يصلي ليلة القدر منافق السبب في ذلك هو ظهور المحفزات ، فالناس يحبون المحفزات وينشطون لأجلها فلذا من وسائل التربية تربية الأهل والأولاد بل تربية النفس والتربية تربية النفس والله جل وعلا قال : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ } يعني حفزوها بهذه المحفزات المذكورة بكتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 وبدأ في الآية بوقاية النفس قبل وقاية الأهل قال : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ } لأن الإنسان إذا لم يعمل هو ذاته بالعمل لن يقبل أهله بنصيحته ولن ينتفعوا من موعظته ولذلك فإنه من الرشاد أن يبدأ الإنسان بنفسه في الوقاية فإذا وقاها أيضاً التفت إلى أهله فوقاهم.
 ولم يقل ثم أهليكم وإنما قال : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ } ليدل على تلازم وقُرب إصلاح الأهل أو الأولاد بعد إصلاح النفس ، إصلاح الأولاد بعد إصلاح النفس قُربه لدرجة أنه جاء معطوفا عليه.
 قال الله جل وعلا : { نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } قوهم، ماذا نقيهم ؟ قال : { نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } ولا شك أن الوقاية تكون في الدنيا ، فهل من جزاء في الدنيا نقيهم ، هل من شيء نقيهم فيه في الدنيا ؟ لم يُذكر إنما ذُكر الذي يُوقَون منه في الآخرة لأنه لزاما من لم يكن داخلاً في هذه النداء لن يقي نفسه ولا أهله من عذاب النار ، من لم يدخل في هذا النداء { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } ولذلك فإن الله جل وعلا قال : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } والنار هي عذاب الله الذي توعّد بالعذاب به ، والنار  ليست هي ما يُحرق فقط وإن كان ذلك من أوصافها فهي تُحرق وهي تُحزِن وفيها أمور من أمور العذاب لا يعلمه إلا الله جل وعلا وُصِف لنا بعضه ، من هذا الموصوف لنا قال الله جل وعلا : { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } وذلك أن الناس يُكبَون فيها ويُكبُ معهم الأصنام التي كانوا يعبدونها على أغلب ما يكون وأنتن ما يكون وأحرّ ما يكون فيصطلون هم وأصنامهم التي عبدوها ، وقد جاء ذلك في القرآن بصراحة.
 أين جاء ؟
جـ : {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ}.
 وفيها قول الله جل وعلا في سورة الأنبياء : { إِنَكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } يعني أنتم الناس والذين يعبدونه {حَصَبُ جَهَنَّمَ} قال الله جل وعلا ذلك في سورة الأنبياء فلذا فإن الناس هم حصب جهنم وهم حطبها يُلقوَن فيها تطبُخ بهم إلى ما في ذلك أيضاً من العذاب ، من ذلك : أنهم يصطرخون فيها فهم فيها بصراخهم يصطرخون يعني يصرخون و يتعذبون بالصراخ ، ومن ذلك الروائح الكريهة التي تظهر من بعضهم ، ومنها أن بعضهم يلعن بعضاً ، ومنها أن بعضهم يتبرأ بعضهم من بعض ، ومن ذلك أنه يفر بعضهم من بعض { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } ، ومن ذلك أيضاً أن فيها من الحيات والعقارب والأغلال والسلاسل يسحبون على وجوههم ويتلَقون النار بوجوههم وليس بأيديهم ، وقد جاء وصف النار في حديث رواه البخاري في كتاب الجنائز في باب ما جاء في أولاد المشركين في حديث سمُرة بن جُندَب قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال : ( من رأى منكم الليلة رؤيا، قال : فإن رأى أحد قصّها فيقول ما شاء الله ) يعني يُعبرها فسأَلَنا يوماً فقال : ( هل رأى أحد منكم رؤيا ) قلنا : لا، قال : ( لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة فإذا رجل جالس ورجل قائم ) هنا جاء فيه ذِكر النار قال : ( فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كُلُوب من حديد ) قال بعض أصحابنا عن موسى - يعني الراوي - ( إنه يُدخل ذلك الكلوب في شِدقه حتى يبلغ قفاه - شِدقه من أول فمه إلى قفاه - ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك) ويلتئم شِدقه هذا إذا شق هذا التأم هذا ثم يأتي يشق هذا يلتئم هذا وهو هكذا أبداً آبِداً خالداً فيها بهذا العذاب ، هذا عذاب من العذاب الذي قد لا يتصوره إنسان لكنه يقع ( فيعود فيصنع مثله قلت : ماهذا ؟ قالا : انطلق ، فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة - صخرة كبيرة أو الفِهر الكبير - فيشدخ به رأسه فإذا ضربه تدهده الحجر فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا -لا يرجع إليه- حتى يلتئم رأسه وعاد رأسه كما هو فعاد إليه فضربه ) طبعاً مع كل ضربة عذاب ( فضربه قلت : من هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا إلى ثَقبٍ مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته ناراً فإذا اقترب ارتفعوا حتى كاد أن يخرجوا فإذا خمدت رجعوا فيها وفيها رجال ونساء عُراة فقلت من هذا ؟ قالا : انطق فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم على وسط النهر ) قال : يزيد ووهب بن جرير - هؤلاء من الرواة عن جرير بن حازم - قالا : ( وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فِيه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج ) يسبح في دم وكلما اقترب يخرج رماه في فِيه بحجر حتى يرجع به الحجر في الوسط  فإذا رجع مرة أخرى سبح في هذا الدم ووصل إلى الخروج قذفه مرة أخرى وهكذا هو (فيرجع كما كان فقلت ما هذا قالا : انطلق فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ وصبيان وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوكلها فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني دارا لم أرَ قط أحسن منها فيها رجال شيوخ وشباب ونساء وصبيان ثم أخرجاني منها فصعِدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل فيها شيوخ وشباب، قلت طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت،  قالا : نعم .. أما الذي رأيته يُشق شِدقُه فكذّاب يُحدِّث بالكذّ بَة فتُحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيُصنع به إلى يوم القيامة ) من أجل الكذب الذي يكذبه ( والذي رأيته يُشدخ رأسه فرجل علّمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار يُفعل به إلى يوم القيامة ، والذي رأيته في الثَقب فهم الزُناة، والذي رأيته في النهر آكل الربا والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام والصبيان حوله فأولاد الناس - الذين ماتوا وهم صغار - ، والذي يوقد النار مالك خازن النار، والدار الأولى التي دخلت دار عامّة المؤمنين وأما هذه فدار الشهداء وأنا جبريل وهذا ميكائيل فارفع رأسك فرفعت رأسي فإدا فوقي مثل السحاب قالا : ذاك منزلك ، قلت دعاني أدخل منزلي قالا : إنه بقي لك عُمُر لم تستكلمه فلو استكملت أتيت منزلك ) هذا يصف لنا النار وما يكون فيها أو بعضا مما يكون فيها ، وقد ذُكر في أحاديث كثيرة أوصاف النار منها أنهم في السلاسل يسحبون ( إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ) وأيضاً يقول الله جل وعلا : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } وأيضاً يقول الله جل وعلا :{ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَل } فهم { يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } يصطرخون يعني يصرخ بعضهم من شدة الألم ، وأما الخِصام بينهم فهم (قالوا وهم فيها يختصمون) فهم يختصمون أيضاً، وأيضاً قال الله جل وعلا : { وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } فهم يلعن بعضهم بعضاً.  
فإذاً هكذا حالهم في النار ولو أننا أردنا أن نذكر عذاب النار وما يكون فيها لطال بنا الكلام لكن الله جل وعلا قال : { عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ } فما هذه الملائكة الغلاظ الشداد ؟ هذه ملائكة النار فيها خازن النار، وفيها خزنة النار ، وفيها أيضاً حرس النار ، وفيها المعذِّبون في النار قال الله جل وعلا : { عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ } أي طباعهم غليظة قد نُزِعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله
 { شِدَادٌ } أي تركيبهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج ، روى ابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال : "إذا وصل أول أهل النار إلى النار وجدوا على الباب أربع مائة ألف من خزنة جهنم سودٌ وجوههم كالحة أنيابهم وقد نزع الله من قلوبهم الرحمة ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة" .. الحديث ، وهذا الحديث إذا كان يرويه عكرمة مرفوعاً فإنه منقطع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما ذكره ابن أبي حاتم وحكاه ابن كثير أيضاً في هذا ، وما ذكرته من ما قرأناه قبل قليل من صحيح البخاري أولى بالذكر هنا وهو كاف.
 يقول الله جل وعلا : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } يعني ما يعصون الله ما أمرهم في تعذيب الكافرين الذين أمر الله بتعذيبهم فهم يعذبونهم لا تأخذهم بهم رحمة ولا شفقة بل يفعلون ما يؤمرون به من تعذيب الكافرين ، وهم أيضاً وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم أصلاً لأن الملائكة جميعاً لا يعصون الله ما أمرهم ما أمرهم فيه فعلوه ، فإذا أمرهم بأهل النار أن يفعلوا به فعلاً كما جاء في القرآن فإنهم يفعلونه على أبلغ وجه دون تردد.
 يقول الله جل وعلا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ } فينادي الله جل وعلا الكافرين بكفرهم ، يناديهم بكفرهم وكفى بندائه بالكفر كفى به مُرعباً ومُرهباً فإن أهل الكفر مُتوعدون بالنار.
 يقول لهم الله جل وعلا إذ ذاك حينذاك يقول لهم : { لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ } يعني هذا اليوم الذي أنتم فيه تحاسَبون وتعذَّبون { لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْم َ} لا ينفع الآن من العذاب { لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } يعني لا ينفع منهم العتب والاعتذار لأنه لو كان في الدنيا نفعهم الاعتذار لكن في الآخرة بعد أن دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يعتذرون لا ينفعهم الاعتذار، وينقضي الاعتذار ببلوغ الإنسان الأجل حين تُغرغر النفس في الحلق، الروح حين تبلغ الحلقوم حينئذ لا ينفع الاعتذار، أما ما دامت روحه تتردد أو نفسه تتردد بين جنبيه فإن باب التوبة مفتوح له فهل ينتظر الإنسان أن يصاب بمرض أو أن يصاب ببلاء أو أن يقول له تموت غداً أو تموت بعد غد حتى يعتذر وحتى يتوب وحتى يُقلِع!! ما دام يعلم هذا الباب وهذا الطريق وهذا الدرب الذي يسير عليه الناس أولهم وآخرهم ، جِنهُم وإِنسهم ، كبيرهم وصغيرهم ، ملِكهم وأميرهم وفقيرهم ، جميلهم وقبيحهم ، غنيهم وفقيرهم ، كل هؤلاء الناس كلهم يسيرون على هذا الدرب فهو يعلم أن هذا الدرب يصِل إليه في يوم من الأيام سيصل إلى هذا الدرب فما باله لا يُقلع ، ما باله لا يتوب ، ما باله لا يعتذر يقول الله جل وعلا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ۖ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } لا أجزيكم شيئاً ما تعملونه أنتم تُجزَون بما كنتم تعملونه في الدنيا فأنتم تُجازَون به في الآخرة ، وقد جاء في ذلك البيان أن من كان عنده بعيراً أو إبلاً لا يعطي زكاتها ( ما من أحد عنده إبل لا يعطي زكاتها إلا جاء بها يوم القيامة أعظم ما تكون تطأوه بأخفافها ) أعظم ما تكون .. أثقل ما تكون .. أكبر ما تكون ولا ينتهي آخرها إلا وقد عاد أولها فهم يسيرون على بطنه وظهره كل الوقت ما ينتهي واحد إلا ويأتي الثاني الذي عنده إثنين يذهب الأول يرجع الثاني ، عنده عشرة يذهبون كلهم ويرجعون من أولهم وهكذا، ولا يأتي ببقر إلا وجاءت أثقل ما تكون لها صوتها الذي هو خُوار فتأتي على هذا، ولا تكون شياه إلا جاءت كذلك لها ثغاء وأعظم ما تكون وتطأوه بأظلافها ، وإن كان صامت يعني إن كان ذهب وفضة ضُرِب بها في وجهه وأُحميت ووضعت في جبهته { يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } فكل من عمِل عملاً بشيء فإنه يُجزى من جنسه.
/ يقول الله جل وعلا بعد ذلك مادام الناس علموا أن هذا الذي ينتظرهم ماذا يفعلون؟
 يقول الله جل وعلا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } إن كنتم علِمتم ذلك يا أهل الكفر فتوبوا إلى الله آمنوا فتكونون لاحقين بأهل الإيمان وتدخلون في وصف أهل الإيمان.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } والتوبة النصوح هي: أن يتوب الإنسان توبة يُقلِع فيها عن ذنبه ويعزِم أن لا يرجع إليه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له وكذلك الذي يدخل في الإسلام يخرج من ذنوبه لا ذنب له كأنما ولدته أمه وقد جاء في ذلك الحديث قال : ( ألم تعلم أن الإسلام يجب ما قبله وأن التوبة تجُب ما قبلها ) وكذلك ( من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) والمقصود كبائر الذنوب لا صغائرها وهذا جاء فيه أنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ويوم ولدته أمه ما عليه ذنوب ، ما عليه كبائر ولا صغائر ولا شيء.
 فيقول الله جل وعلا : { تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا } فما هي النصوح ياترى ماهي التوبة النصوح ؟
التوبة الصادقة الجازمة التي تمحوا ما قبلها من السيئات وتلُم شَعث التائب وتجمعه وتكُفُه عما كان يتعاطى من الدناءات ، قال عمر : "التوبة النصوح أن يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه ولا يريد أن يعود فيه" وقال أبو الأحوص : سُئل عمر عن التوبة النصوح فقال : "أن يتوب الرجل من العمل السيء ثم لا يعود إليه أبداً" وقال ابن مسعود : توبة نصوح قال : "يتوب ثم لا يعود" ولهذا قال العلماء : "التوبة النصوح هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر ويندم على ما سلف منه في الماضي ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل ، ثم إن كان الحق لآدمي رده إليه بطريقه" يعني بأي طريق من طرقه يرده إليه إما يعطيه من هنا أو يعطيه من هنا أو يعتذر إليه أو يُدخله عليه المهم أنه يرجع عن ما ظلمه فيه وفي الحديث الصحيح ( الندم توبة ) ولذلك فإن السلف الصالح عرفوا طريق التوبة ووصفوها بأوصاف منها ما ذكرتُ ومنها مثل ما قال الحسن : "التوبة النصوح أن تُبغض الذنب كما أحببته وأن تستغفر منه إذا ذكرته" فأما إذا ألتزم بالتوبة وصمم عليها فإنها تجُب ما قبلها من الخطيئات كما ثبت في الحديث الذي ذكرته قبل قليل ( الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها ) أما ماذا يكون له بعد أن يتوب توبة نصوحاً فما الذي له ؟
الذي له إذا تاب توبة نصوحاً نادماً على ما سلف عازماً على أن يُصلٍح ما يأتي مستغفراً لما عمِل ساعياً في الخير راغباً فيه فإنه قد أخبرنا الله جل وعلا بأنه الأمر في ذلك أنه يُضاعِف له الحسنات فيما يأتي وأنه يبدل سيئاته حسنات قال الله جل وعلا : { فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قد ذكرنا قبل معنى { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } تذكرون أو لا ؟ يعني كيف يبدل الله سيئاتهم حسنات ؟
 { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قال أهل العلم { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } يعني يصبحون يعملون بدل المعاصي الطاعات يبدل الله سيئاتهم فيما يأتي بالطاعات في المستقبل يعني إنهم إذا تابوا ألهمهم الله حب الطاعة فتتبدل السيئة هذا معنى.
 والمعنى الثاني : أنهم يأتون في صحائفهم بذنوب فيجدونها قد تبدّلت إلى حسنات. وهذا أقرب ، لِم ؟
لِما جاء في الحديث حديث علي بن أبي طالب توضأ ثم ضحك تذكرون الحديث ؟
توضأ ثم ضحك فقالوا من ما ضحكت يا أمير المؤمنين ؟ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثلما فعلت وضحك ، قلنا ما يُضحكك يا رسول الله ؟ قال : ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيذكّره الله ذنوبه فيؤتى بكبائر ذنوبه وصغائر ذنوبه فيُذكره بها ) يذكره بالصغائر قبل الكبائر يذكره بها ( فيقول فعلت كذا وفعلت كذا وهو مشفق من ذنوبه ثم يقول : فأنا أُبدِلها لك حسنات فيقول يارب كنت فعلت سيئة ما أراها هنا فضحك الله جل وعلا ) وهذا الذي أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكرون هذا الحديث.
 فالعبد حين جيء به وكان يُذكَّر بسيئاته كان مُشفق منها لكن لما قال الله جل وعلا : بدلتها لك حسنات قال : يارب أنا فعلت سيئة ما أراها هنا ي سجلي مكتوبة، كان أول مشفق منها والآن هو يذكرها من أجل أن تكون حسنة وهذا من طمع ابن آدم في الخير وحرصه عليه وهذا الذي يجعلني أقول إن معنى { يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } يعني من كان فعل سيئات وتاب منها واغتاض منها وندم عليها وأسف عليها أنها تُبدَّل حسنات.
 والدليل الآخر -هذا الدليل النقلي الدليل من السنة- الدليل أيضاً من موافقات ذلك لأصول الدين أن العبد إذا ندم على الذنب ندم على ذنوبه فإنه يجازَى عن ما فعل تبدل الحسنة لأجل التوبة والتوبة هذه لا شك أنها نوع من الحسنة هذه التوبة حسرة على القلب هذه الحسرة على الذنب والندم عليه والبكاء والأسف عليه هذا عند الله جل وعلا حسنة تكون بدلا من تلك السيئة التي فعلها ، فعلى قدر ذنوبه وتوبته من تلك الذنوب يبدلها الله جل وعلا بحسنات تكون له في ميزانه يوم القيامة.
 إذاً هل على الإنسان إذا تاب أن يستحضر بين عينيه كل ذنب أذنبه ويحدث له توبة أم أنه يتوب بالجملة ؟
الأولى له أن يستحضر ذنوبه بين يدي ربه وهو يعلن توبته في سجداته ودعواته فإذا ذكر ذنوبه ذكر ما عمل هنا وذكر ما عمل هنا ، ذكر إن كان عقّ ، وذكر إن كان قطع ، وذكر إن كان كذب ، وذكر إن كان زنا ، وذكر إن كان شرب خمر ، وذكر إن كان اغتاب ،  وكل ذنب من ذنوبه يستحضره بين يديه يقول اللهم أغفره لي اللهم تب علي منه اللهم إني أتوب إليك منه فيتوب بين يدي الله جل وعلا وهو ساجد وهو داعٍ وهو مستحضر أنه بين يدي الله جل وعلا يقرره بذنوبه { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } فهو يحاسب نفسه في الدنيا قبل أن يحاسبه الله جل وعلا في الآخرة فإذا فعل ذلك فإنه يأتي ربه بالتوبة النصوح التي أرادها الله جل وعلا منه فإذا فعل ذلك بدّل الله سيئاته حسنات. اللهم بدل سيئاتنا حسنات واغفر لنا وتجاوز عنا.
/ يقول سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } وعسى إذا قال الله جل وعلا عسى فهي من الله موجبة ، إذا قال الله بنفسه أو عن نفسه لعباده في كتابه (عسى) فهي موجبة أوجبها الله جل وعلا على نفسه قد جاء في الحديث الصحيح أنه مكتوب على العرش (إن رحمتي سبقت غضبي).
/ قال الله جل وعلا : { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } يعني أن لا يجعل من سيئاتكم شيئاً فقال : { أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُم } وأنا أتفاءل بهذا كثيراً لأن معنى التكفير التغطية وهذا دليل على أن الله جل وعلا إذا غفر الذنوب سترها وإذا ستر الذنوب غفرها - اللهم أغفر لنا ذنوبنا وخطايانا - فإن الله جل وعلا لا يفضح عباده وإن هم تابوا إليه وأنابوا إليه لم يفضحهم سبحانه وتعالى.
 فقال : { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } ففي المقابل فهو { يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } يدخلهم تلك الجنات التي وعدهم الله سبحانه وتعالى جنات وأنهار في مقعد صدق عند مليك مقتدر،  جنات لهم فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بشر ، جنات لهم فيها النعيم المقيم ، جنات لهم فيها خضرة وفيها النضرة وفيها النظر لرب العالمين ، جنات فيها الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقاً ، فيها ما لا يخطر على القلب ، فيها من النعيم .. فيها من الخير .. فيها من الرضوان .. فيها من الجمال .. فيها من الخُلد .. فيها كل خير ، هي جنات أعدها الله سبحانه وتعالى فما ظنك بشيء أعدّه الله جل وعلا رضاً منه لعباده المؤمنين تجري من تحتها الأنهار وفي ذلك اليوم يقول الله جل وعلا : { يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } فلا يُخزيهم الله جل وعلا أبداً وقد جاء في مسند الإمام أحمد عن يحيى ابن غسان عن رجل من بني كنانة قال : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فسمعته يقول : ( اللهم لا تخزني يوم القيامة)  فإبراهيم  يقول : { وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول : ( اللهم لا تخرني يوم القيامة ) - اللهم لا تخزنا في الدنيا ولا في الآخرة - وقال صلى الله عليه وسلم : ( أنا أول من يؤذَن له في السجود يوم القيامة وأول من يؤذَن له برفع رأسه فأنظر بين يدي فأعرف أمتي من بين الأمم وأنظر عن يميني فأعرف أمتي من بين الأمم وأنظر عن الشمال فأعرف أمتي من بين الأمم ، فقال رجل : يارسول الله وكيف تعرف أمتك من بين الأمم ؟ قال : غرٌ محجّلون من آثار الطَهور ولا يكون أحد من الأمم كذلك غيرهم وأعرِفهم يؤتَون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود ، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم ) اللهم يا ربنا أجعلنا من أتباعه صلى الله عليه وسلم.
 { نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فهم يدعون بهذه الدعاء فيقولون { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } يعني ياربنا يكون لنا نورنا تام إلى حين أن ندخل الجنات فهم يخافون أن يذهب نورهم فيقعون في النار ، ونور العبد على قدر أعماله فإن كان جاء بأعمال كثيرة من الصالحات والحسنات جاء ونوره طويل نوره بالغ بعيد المدى فيجري على الصراط أو يكون كالريح أو كالحصان - الجواد السريع - أو يكون كلمح البصر، على قدر عمله يكون مدى نوره وعلى قدر مدى نوره يكون جريه ، وأما الذين يأتون بأعمال قليلة وأعمال قد تخطفتها السيئات وحظوظ الناس وحقوق الناس فإنه يأتي يوم القيامة يترنح على هذا الصراط نوره بالكاد يرى موضع قدميه فإما أن ينجو وإما أن يُكردس في النار - نسأل الله النجاة وأن نكون من الذين يمرون على الصراط كلمح البصر - ويدعون بذلك الدعاء فيقولون { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا } فهم مستمرون على دعواتهم على ذلك الحال الذي كانوا فيه فهم يدعون الله يقولون : { إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ } والله جل وعلا على كل شيء قدير إن شاء أن يعذبهم عذبهم وإن شاء أن يُهلكهم أهلكهم وإن شاء أن يرحمهم رحمهم فلا مكره له سبحانه وتعالى وهو لا يظلم كما قال الله جل وعلا: { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا }.
 ثم بعد هذا النداء للمؤمنين والنداء للكافرين على ما بينهم من المفارقة والمباعدة والمجافاة واختلافهم ، اختلاف قلوبهم واختلاف أعمالهم واختلاف منازلهم في الدنيا ومنازلهم في الآخرة يُنادي الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } هذه الآية هذه السورة جاء فيها النداء { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّم } وهنا جاء { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم } فيناديه الله جل وعلا بجهاد الكفار والمنافقين وهما جميعاً أعداء للإسلام وللدين الكفار والمنافقون جميعاً أعداء الدين وأعداء أهل الدين فيقول :
 { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم } يعني كن عليهم غليظاً ، كن عليهم شديداً لا تأخذك بهم رحمة إن هم بقوا على ماهم عليه من الكفر والنفاق وذلك بعد أن يبلُغهم دين الله وأن يبلُغهم الحق فإن بلغهم الحق وكذّبوه وعاندوا وكانوا على ما هم عليه من الكفر والكيد للمسلمين فجاهدهم وشُد عليهم واغلُظ عليهم { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } يعني مأواهم في الآخرة.
 وأما أمره بجهاد الكفار والمنافقين فجهاد الكفار بالسلاح والقتال ، وأما جهاد المنافقين فبإقامة الحدود عليهم وبالكلام وبدحض شبهاتهم وبقمعهم عن إبداء شكوكهم وتشكيكهم وابتغائهم الفساد في المسلمين وفي نساء المسلمين كل ذلك يشُد عليهم فيه ويُقبحون ويخذلون ويفضحون كما فضحهم الله سبحانه وتعالى ، ولا يفضح الأعيان بأسمائهم لأن هذا أمر لا يُعلَم ، لا يُعلَم إن كان ذلك منهم نفاق أو لا ولكن يُفضح عمل المنافق يُفضح وصف المنافق يفضح كيد المنافق فيقال هذا الفعل نفاق وهذا القول نفاق وهذه الشُّبَه نفاق وهذا حتى يبن الذين آمنوا من المنافقين.
/ يقول الله جل وعلا : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا } يعني كانتا تحتهما زواجاً ومعاشرة ويعيشون معهما في نفس البيت كل واحد معه زوجته امرأته امرأة لوط وامرأة نوح فخانتا.
 ما نوع تلك الخيانة ؟
ليست خيانة العرض وإنما خيانة الدين وذلك أنهما لم يتابعا زوجيهما على ما هم عليه من الدِّين ولذا أخذهم الله جل وعلا مع الهالكين أهلكم الله جل وعلا مع الهالكين. قال ابن كثير : "{ فَخَانَتَاهُمَا } أي في الإيمان لم يوافقاهما ولا صدقاهما في الرسالة فلم يجدي ذلك كله شيئاً ولا دفع عنهما محذوراً" يعني كونهم أزواجهم ما نفعهم ذلك شيئاً ولذلك قال الله تعالى : { فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } أي لكفرهما.
 والخيانة هنا خلاف النُصح ، والنُصح هو: أن يكون الإنسان ناصحاً لصاحبه الذي يكون معه ، وأولى من يُنصح له الزوج أولى من يُنصح له في عرضه في ماله في أولاده في معاشرته الزوج لأنه للعشرة الطويلة بينهما ولما يكون بينهما من إفضاء بعضهما إلى بعض كما قال الله جل وعلا : { وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } فإذا أفضى الرجال إلى النساء وأفضى النساء إلى الرجال وكل واحد ائتمن الآخر فالخيانة في هذا عظيمة، وكذلك الخيانة أيضاً عظيمة في شأن الدِّين خاصة الأهل فأولى من يكون معك على دينك وعلى ما أنت عليه هو زوجك فإذا كان زوجك ليس معك على نفس اتجاهك ولا على نفس دينك ولا على نفس نهجك ، لا أقول ما تحب وما لا تحب هذا أمر كل إنسان له خياره لكن ما يكون فيه الإنسان من ناحية دينه وتعبده لله سبحانه وتعالى فلا يجوز في ذلك الخيانة وإن خان فلا يستحق أحدهما أن يكون زوجاً للآخر.
 وقد تورد الخيانة والخيانة أنواع منها ما هو عظيم مثل هذه الخيانة ، ومنها ما هي في المشورة - في الرأي - فمثلاً قد يأتي رجل إلى زوجته ويقول لها : يازوجتي ما رأيك نشتري -مثلاً- بيتاً أو -مثلاً- نجمع مالاً ونشتري بيتاً لأولادنا أو كل سنة نسافر بجمعنا لهذا المال في نهاية العام نسافر -ونوسع صدورنا- وكذا فتجدينها تقول خلينا نسافر وبعدين كذا، فبعض الناس قد يرى أن هذا خيانة من أي ناحية خيانة ؟ ليست الخيانة في الدين وإنما هو ضعف المشورة قلة الرأي ولذلك جاء في الحديث ( لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها ) وهذا الحديث صحيح في البخاري والمقصود بذلك لم تخن امرأة زوجها لولا حواء المقصود به ضعف المشورة لأن آدم لما شاور حواء في الأكل من الشجرة قالت : كُل منها، تعال نأكل منها فأكلا منها أكلا من هذه الشجرة فبدت لهما سوآتهما فكان في ذلك الذنب الذي عاتبهم الله جل وعلا به (قالا ظلمنا أنفسنا) واستعتبوا وقبِل الله توبة آدم ولكنه مع ذلك أخرجه من الجنة فشقيا. فكانت تلك المشورة ليست مشورة رُشد فمن أشار بمشورة ليست مشورة رُشد فإنه أشبه فعل حواء حينما أشارت على آدم. وقد استضاف رجل للنبي صلى الله عليه وسلم وأحسن ضيافته فقال : ( أليس عندك خادم ؟) قال : لا ليس عندي خادم قال : إذا جاء السبيّ فأتني فجاء سبي ففرّقه النبي صلى الله عليه وسلم بقي رجلان من السبيّ فجاء كالرجل فقال : يا رسول الله اُذكِّرك ما وعدتني قال : بقي هذان فخذ أحدهما ، قال: أشِر عليّ يا رسول الله - أنا أستشيرك فيهم هؤلاء الإثنين أي واحد - قال : خذ هذا فإني رأيته يُصلي - أشار عليه لا يدري النبي صلى الله عليه وسلم عن نشاطه وجُهده وصِدقه وكذا لكنه يصلي وهذا أعظم ما في الإنسان أنه يصلي ، أول شيء تسألين عنه الصلاة - قال : خذ هذا فإني رأيته يصلي واستوصي به خيراً ، فأخذه وذهب به لزوجته فقال هذا غلام أعطاني إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي استوصي به خيرا قالت زوجته  فإنك لن تبلغ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تُعتِقه - مع أن المرأة أحوج ما يكون إلى الخادم من الذي يشتغل في البيت ويتعب؟ المرأة ومع ذلك ماذا قالت؟ قالت : لن تبلغ وصيه رسول الله حتى تعتقه فأعتقه - فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر الغلام وخبر زوجته قال : ( ما بعث الله نبياً إلا جعل له بطانتين بطانة تنصح له وبطانة تخونه ) يعني تأمره بالمعروف أو تأمره بالشر، فأما تلك المرأة فنصحت له، فأما لو كانت لم تنصح له النصيحة الصحيحة لقالت له : اتركه عندنا وكذا ، فهي أبلغت في النصيحة.
 والخيانة أنواع : منها ما يؤدي إلى إثم ما يؤدي إلى مكروه ، ومنها ما يؤدي إلى مُحرم ، ومنها ما يحرِم من مستحب ، ما يحرِم من فضل، فلاشك أن كل إثم وكل خيانة لها درجات ، هذه الخيانة التي خانتاها هي من أبلغ الخيانة وأعظمها وأقبحها وهي خيانة الدِّين، فخانتاهما قال الله تعالى { فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } فقيل للمرأتين : { ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } وليس ينفعهما صلاح زوجيهما ولا إيمان زوجيهما ولا أن أزواجهما من الأنبياء. 
قال ابن عباس تأييداً لذلك قال : "{ فَخَانَتَاهُمَا } ما زنتا أما خيانة امرأة نوح فكانت تُخبر أنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه" ، وقال الضحاك عن ابن عباس "ما بغت امرأة نبي قط إنما كانت خيانتهما في الدين" هذا معنى قول الله جل وعلا { فَخَانَتَاهُمَا }. قال الله جل وعلا : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا } والآن هؤلاء عاشوا في بيت نبوة وجاوروا أنبياء ومع ذلك ما نفع عنهم شيء ، لا تربوا ولا آمنوا ولا فازوا بالجنات.
 في المقابل ضرب الله مثلاً ، يعني كأن الله جل وعلا يقول { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا } هذا المثل ضربه الله وفي البيوتات أمثاله كثير.
 لماذا جاء هذا الضرب للمثلين يا ترى؟ لأن الله جل وعلا قال : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } النتيجة أنتِ تحاولين تصلحين أولادك وتصلحين زوجك وكذا لكن هل أنت على كل حال تهديهم؟ لا ، وإذا لم يطاوعوك فاعلمي أن لك مثل امرأة فرعون { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } فضرب الله هذا المثل للمؤمنين أنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم لأنه عندهم تشربوا من الإيمان والدِّين والهُدى ما يمنعهم من مخالطة أولئك ، ولكن مع ذلك فإنهم لا يجاورونهم وإن استطاعوا أن يخرجوا منهم يخرجون ، وإن استطاعوا أن لا يساكنوهم لا يساكنوهم لأن الله جل وعلا قال : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } لكن احياناً الإنسان يُرغم على ذلك ارغاماً ، لا تنظروا إلى من هم أمثالكم فيه بعض الناس مثلاً تُسلِم وهي في بلاد الكفر، أنا تأتيني رسائل واحدة أرسلت لي رسالة تقول : أنا أسلمت وانا أهلي لو أني لبست حجاب قتلوني فهل يجوز مثلاً أني أسلم وأصلي ولا أتحجب؟ واحده تقول لي : هل يجوز إني أصلي في الحمام لأني لا أستطيع أن أُصلى لو صليت عند أهلي سيقتلوني فهل أصلي في الحمام؟ فمثل هذا هذا الذي يقول الله جل وعلا فيه { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّة } فالناس أحياناً يصلون إلى درجة - واحدة كانت من طالباتي في الكلية تقول : كان اهلي يربطونني في السرير حتى لا أصلي، يربطونها في السرير حتى لا تصلي فتقول : كيف أفعل؟ يعني مسألة الحجاب هذه مفروغ منها ما يمكن أنها تتحجب لكن على الأقل الصلاة هل آثم على هذا؟ فكيف أفعل؟ هل يمكن أن أكون هكذا حتى أتزوج على الأقل؟
أخرى تقول :أنا أرفض الزواج لأنهم لن يزوجوني مسلم لن يزوجوني إلا كافر فهل أستطيع أني أكذب عليهم؟ هل يباح لي الكذب؟ فعندك مسائل كثيرة بسبب أن هولاء يعيشوا في بيئات مختلفة عن بيئاتهم ، فاحمدوا الله جل وعلا أنكم في بلد مسلم في بيئة مسلمة أهلكم مسلمون.
 يقول الله جل وعلا { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّة }
قال قتادة: " كان فرعون أعتا أهل الأرض وأكفرهم فوالله ما ضر امرأته كُفر زوجها حين أطاعت ربها ليعلموا أن الله تعالى حَكَمٌ عدلٌ لا يؤاخذ أحد إلا بذنبه".
 وروى ابن جريرعن سلمان قال : " كانت امرأة فرعون تُعذَّب بالشمس فإذا انصرف عنها أضلتها الملائكة بأجنحتها وكانت ترى بيتها في الجنة " طبعاً متى أسلمت؟ ما أسلمت مباشرة هي تخفي إسلامها لكن عُلِم بعد ذلك إسلامها فعُذبت وكانت ترى بيتها في الجنة فقولها { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّة } قال العلماء : اختارت الجار قبل الدار وقالت:{ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } أي خلصني فإني أبرأ إليك من عمله { وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } هذه المرأة هي آسيا بنت مزاحم رضي الله عنها ، وهذه المرأة كمُلت من النساء قال النبي صلى الله عليه وسلم ( كمُل من الرجال كثير - يعني الانبياء كُثُر - وما كمُل من النساء إلا أربعة ) وجاء في البخاري ( وما كمُل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسيا امرأة فرعون _وهي آسيا بنت مزاحم_ عذبها فرعون فشدّ يديها ورجليها بالأوتاد وهي صابرة فرأت بيتها في الجنة فضحكت حين رأته فقال فرعون : ألا تعجبون من جنونها إنا نعذبها وهي تضحك فقبض الله روحها في الجنة رضي الله عنها).
 / وقوله تعالى : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } فهذه أنموذج آخر من النساء غير هذين الأنموذجين { أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } أي حفظته وصانته، والإحصان معناه العفاف فهي عفيفة لم تدنسها آصار ولا أوزار ولا آثام الذين كانت معهم ولاشك أنه يوشِك أن يكون ذلك الأمر - الذي هو العفاف - أمر نادر في عهدها وفي زمانها ولذلك تميّزت به رضي الله تعالى عنها وهي صدِّيقة كما قال الله جل وعلا : { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ }.
 { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } ولذلك سُميت الصدِّيقة لأنها صدّقت بكلمات ربها لما جاءها جبريل وأخبرها أنه بعثه الله جل وعلا وتعلمون أن جبريل جاءها في صورة بشر، تمثّل لها بشراً سوياً يعني في صورة بشر سوي وأمره الله وتعالى أن ينفخ فيها يعني في جيبها قال : { فَنَفَخْنَا فِيهِ } يعني في جيبها فنزلت النفخة فولجت في فرجها فكان منه الحمل عيسى عليه السلام، وهذا قدر الله وصدَّقت بذلك لأنها أعلم بنفسها أنه لم يأتها بشر وما كانت بغية رضي الله تعالى عنها وهي آمنت بذلك وصدقت ، والتصديق هنا ليس التصديق يعني خلاف التكذيب وإنما التصديق الصبر على ذلك وعلى تبعاته ، الصبر عليه وعلى تبعاته والعمل بمقتضاه.
 قال الله جل وعلا :{ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } يعني بقدرِه وشرعِه.
 { وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه ما ذكرته من كمال الرجال ولم يكمل من النساء إلا آسيا امرأة فرعون ومريم بنت عمرآن، وجاء في حديث آخر (وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم) قال نبينا صلى الله عليه وسلم : ( وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ).
 قال الله جل وعلا : { وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } أي كانت من الذين قنتوا لله جل وعلا بطول الصلاة وهي قد اتخذت مكاناً شرقياً تتعبد فيه وكانت تتبعد ربها في هذا المكان المُنزّه المقدس فإذا أصابتها الحيضة خرجت إلى بيت أختها فمكثت فيه حتى تطهُر ثم عادت إلى المسجد مرة أخرى.
 أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من القانتين، وأن يجعلنا وإياكم من المُحصنات، وأن يجعلنا وإياكم من الصادقات، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الطاعة والرضوان، وأن يكفر عنا سيئاتنا وأن يغفر ذنوبنا وأن يتجاوز عن خطايانا وأن يرحمنا رحمة من عنده. اللهم أرحمنا برحمتك .. اللهم إرحمنا برحمتك .. اللهم ياحي يا قيوم يا سميع الدعاء .. يا بر يارحيم .. ياذا الجلال .. ياذا الكمال .. ياذا الإكرام .. ياذا المن .. ياذا الطَّول .. ياذا المُلك .. ياذا القوة المتين .. اللهم نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العُلا أن تُصلح قلوبنا وأن تجعلنا من الصادقين اللهم اجعلنا من الصادقين اللهم اجعلنا من الصادقين اللهم اجعلنا مع الصادقين واجعلنا في زمرة المتقين وأوصلنا إليك بزمرة المتقين تحت راية محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم أظلنا تحت ظلك يوم لا ظل إلا ظلك ، اللهم أكرمنا .. اللهم أكرمنا .. اللهم أكرمنا بنُزل عندك يارب العالمين ، اللهم اجعلنا في مقعد صدق عند مليك مقتدر ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا وإخواننا وأخواتنا وجيراننا وأحبابنا وأقرابنا ومشايخنا وطالباتنا .. اللهم آمين آمين ياذا الجلال والإكرام اللهم فيها شقياً ولا محروماً ، اللهم لا تجعا لنا هماً إلا فرجته ولا ديناً إلا قضيته ولا كرباً إلا نفسّته ولا مريضا إلا شفيته يارب العالمين.
 اللهم صلِ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق