الاثنين، 31 أكتوبر 2016

تفسير سورة التغابن / د. رقية المحارب

  
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٥) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا ۚ وَاسْتَغْنَى اللَّهُ ۚ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ۚ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ۚ وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ۗ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۚ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ ۗ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)}.

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فسورة التغابن هي من المُسبحات وهي آخر المُسبحات وهي سورة اختلف فيها أهل التفسير هل هي مكية أم هي مدنية والراجح أنها مدنية، فالذين قالوا أنها مكية باعتبار أنها تُرسخ أُسس العقيدة وموضوعها أشبه بموضوعات المكية.
 والذين قالوا إنها مدنية لِما جاء في آخرها.
 والراجح والصواب -والله أعلم- أنها مدنية وأنها جاءت أوائلها على سياق المكي من حيث التذكير بأُسس العقيدة ومُثبتات الإيمان والتذكير بنعمة الله جل وعلا على عباده وفضله وأن الله سبحانه وتعالى يسبح له مافي السماوات ومافي الأرض فهذه المقدمة أو هذه الآيات التي في أوائلها هي من نوع موضوعات السور المكية الحمد لله .
 إذاً فالسورة هذه سورة التغابن سورة مدنية ولكن افتتاح هذه السورة متناسب مع موضوعها فكان في بدئها تأسيس الاعتقاد والتذكير بأن الله جل وعلا يسبِّح له مافي السماوات ومافي الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
 أجد أن هذه السورة تشبه أيضاً استفتاح سورة الجمعة وتشبه أيضاً استفتاح سورة الحديد من حيث التسبيح ومن حيث التسبيح بالفعل المضارع، فإن التسبيح بالفعل المضارع دال على أن التسبيح المذكور في هذه السور الثلاث مستمر والسبب في التذكير بأن التسبيح مستمر أن ذلك أبلغ في عِظة الناس الذين ينظرون إلى الحياة الدنيا وقد ينشغلون فيها بُضعةً من الأيام أو بُرهة من الزمن فينشغلون بشيء من دنياهم سواء كان الانشغال بأنفسهم وملذاتهم ونعيمهم فيها وحتى أدّى ذلك إلى قسوة قلوبهم، أو كان الانشغال أيضاً بتجارة الدنيا ، الأولى كما في سورة الحديد، والثانية كما في سورة الجمعة وتجارة الدنيا وأموال الدنيا ، والثالثة -كما في هذه السورة- الانشغال بالأزواج والأولاد { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ } فكان التذكير بأنه { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } على سبيل الدوام وعلى سبيل الاستمرار وهذا جاء في هذه السور الثلاث المُرتبطة موضوعاتها بعِظة الناس بما يُشغلهم عن الله جل وعلا سواء كان الذي يشغلهم أنفسهم أو كان أموالهم أو كان أزواجهم وأولادهم .
قال الله جل وعلا : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } وقد جاء في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أطت السماء وحُق لها أن تئط مافيها موضع أربعة أصابع إلا وفيها مَلك راكع أو ساجد يسبحون الله تعالى ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرا .. ) الحديث [١] فهذا يدل على أن التسبيح لله سبحانه وتعالى قائم في السماوات وفي الأرض وإن أعرض المعرضون من بني آدم، وإن كفر الكافرون من بني آدم، وإن قلّ الموحدون أو أهل الإيمان في أي فترة من فترات الزمن فإن الله سبحانه وتعالى لا ينقطع التسبيح له ولا تنقطع العبودية له سبحانه وتعالى، فإن الله يعبُده ويسبح له من في السماوات ومن في الأرض وما في السماوات ومافي الأرض وكل ذلك التسبيح كائن له سبحانه وتعالى سواء أكان ذلك من الجمادات أو من البهائم أو من بني آدم، وسواء أكان ذلك مما عظُم ومما صغُر، وسواء كان ذلك أيضاً مِما دق ومِما عَظُم، وسواء كان ذلك مما خفي وما أُعلن . وعلى كل حال فكما ذكرت لكم إن التسبيح هذا جاء بصيغة المضارع على أنه جاءت سور أخرى بصيغة الماضي ولكن هذه السور كما ذكرت من أجل التذكير بالديمومة والاستمرار وعدم الانقطاع .
ولا شك أن هذه السورة سورة التغابن كما ذكرت أنها سورة مدنية -على الراجح كما قلت قبل قليل- والسبب في ذلك ما جاء في ثناياها من ذِكر أحداث إنما وقعت هذه الأحداث في المدينة وهذا يدل على أن السورة مدنية .
وأما الحاجة إلى كون السورة فيها شيء من التذكير بأُسس الإيمان فلا شك أنه لا يمكن أن يَنزع الإنسان عن دنياه إلى أُخراه إلا بالتذكير بأُسس الاعتقاد لأن الله جل وعلا قال : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } وهذا لا شك هو صناعة تصور أو إيجاد تصور إسلامي ، تصور وِفق هذه الحقائق العظيمة حقائق العبودية لله سبحانه وتعالى .. حقيقة التوحيد .. حقيقة الاستسلام لله جل وعلا  .. حقيقة الطواعية لله جل وعلا .. حقيقة الاتباع .. حقيقة التصديق، كل هذه التصورات التي تصنعها هذه السورة وتوجدها في قلب المؤمن وهي أشبه ما تكون -كما ذكرنا- في السور المكية وإن كانت يمكن أن تكون في السور المدنية إذا اقتضت المصلحة أن تُعاد هذه المعاني مرة أخرى وتُعاد هذه التصورات مرة أخرى ، ومن هذا الذي لا يحتاج إلى مثل هذه التصورات يُذكّر بها بين الفينة والأخرى!! وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعظ أصحابه وقد قال العِرباض رضي الله تعالى عنه في حديثه : ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون ) وقد كان صلى الله عليه وسلم يعِظ أصحابه دوماً وقد كان يتخولهم بالموعظة الحسنة ولولا تلك التخولات لما شُرعت الخُطَب في الجُمَع والأعياد والنوازِل والآيات الكونية التي تستهدف يقظة القلب وإعادته إلى الجادة حينما يركن إلى الحياة الدنيا وحينما ينسى ويغفل وتشدّه الأرض بطبيعتها وبملهياتها وبمشاغلها. فلا شك أن هذه الآيات ثبتت هذه المعاني، وفي الغالب أن السورة التي يكون فيها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } ويُنادى أهل الإيمان بالإيمان أشبه ايضاً بالسور المدنية كما ذكرت قبل .
أما أسلوب هذه السورة فإنه أشبه بالسور المدنية فالسور المكية في الغالب فِقارها قصيرة أما هذه السورة ففقارها أطول وإن كانت متوسطة في الطول يعني ليست طويلة جداً وليست قصيرة جداً ولكن الاعتبارات تلك، اعتبارات صناعة التصورات أحوج إلى التوسط أو قِصَر الفِقار ، يبقى القول بأنها مدنية هو الراجح بالنسبة لمعانيها وبالنسبة لأحداثها وبالنسبة أيضاً لأقوال أهل التفسير في ذلك .
/ يقول الله سبحانه وتعالى : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فكما أنه يسبح له هؤلاء المذكورون بالعموم فإنه له المُلك فإن استغنيتم أنتم أو انصرفتم أنتم أو ابتعدتم أنتم أو غفلتم أنتم فإن الله له المُلك، بيده ملك السماوات والأرض، وبيده ملك ما يعطي وبيده ملك ما يأخذ، فأي شيء ترجونه من أحد غير الله جل وعلا وهو الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض، وأي شيء أيضاً ترجونه من حمد الناس وذِكر الناس والله سبحانه وتعالى له الحمد يُحمَد في السماوات ويُحمَد في الأرض فإن حمِدتموه فإنه له الحمد، وإن جحدتموه فإن له الحمد، وإن شكرتموه فإن له الحمد، وإن لم تشكروه فإن الله جل وعلا له الحمد وهو الغفور الشكور.
/  قال الله جل وعلا : { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } يعني أن قدره نافِذ فيكم وفي سماواته وفي أرضه فاتقوا أن يصيبكم بقدرِه إن شاء متى شاء .
/ قال : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ }
 { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ } هذا المعنى يُحيي تصوراً إيمانياً عميقاً عظيماً في النفوس وهو أدق وأوسع تصور عرفه المؤمنون في تاريخ العقيدة { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } يعني أيها المخلوقون من بني آدم -من ذرية آدم- والمخلوقون من الجن منكم مؤمن ومنكم كافر أنتم الذين كُلفتم بالإيمان وأنتم الذين كُلفتم بالطاعة وأنتم الذين كُلفتم بالعبودية، وخصّ هؤلاء لأن الله جل وعلا قال :{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } أما أولئك الذين خلقهم الله سبحانه وتعالى من غير هؤلاء من غير الجن ومن غير الإنس فإن الله سبحانه وتعالى جعل عبوديتهم قسراً لأنهم جاءوا طائعين من البداية - بداية الخلق - { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } لأنهن أتين طائعين من بداية الخلق { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } كما قال الله سبحانه وتعالى . أما الأمانه فعرضها الله على السماوات والأرض وأبين أن يحملنها فحملها الإنسان الله جل وعلا قال : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } خشين أن لا يقُمن بها { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } ولذلك قال الله سبحانه وتعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ } أنشأكم .. أوجدكم من تراب ثم جعل نسلكم من سلالة ثم هذه السلالة التي كان أصلها ومبدأها من طين بعد التراب، ثم جعلها حمأً، ثم جعلها فخار، ثم جعلها بعد ذلك بشراً، وهو الذي خلق من التراب وخلق من الماء أيضاً فجعله من التراب ومن الماء فجعله طيناً وجعل منه نسباً وصهراً وكان هؤلاء الإنس الذين يتزاوجون ويتكاثرون، ثم هم من بعد ذلك منهم كافر ومنهم مؤمن صاروا إلى هذا الحال بعد أن أغوتهم الشياطين وأضلتهم الشياطين ، والله جل وعلا بعث بهذه التصورات وبهذه المعاني الرسل وأنزلهم وبعث معهم الآيات مُصدقات والبراهين والأدلة وجعل للحق قبولاً في النفوس الصادقة، النفوس التي بقيت على فطرتها وعلى طبيعتها لم تجتالها الشياطين ولم تصرِفها عن ما خلقها الله عليه يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة ) كل المواليد يولدون على الفطرة ( فأبواه يُهودانه أو يُنصرانه أو يُمجسانه ) فالله جل وعلا أنشأ هذا الوجود جميعا على هذه العقيدة العظيمة وهي عقيدة التوحيد له سبحانه وتعالى ولا عبرة بما يجتال الناس بفترة من فترات زمانهم مما تخبو معه تلك العقيدة ويذهب نورها في النفوس فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل الرسل يبعثونها من جديد ويحيونها من جديد بما أنزل الله سبحانه وتعالى عليهم من الآيات والبراهين. وقد جعل الله جل وعلا في هذه السورة هذه المعاني كما جعل أيضاً معاني أخرى لإنشاء تلك النفوس وإحيائها مرة أخرى - أنا أتكلم بالعموم عن السورة قبل أن أدخل في تفسيرها تفصيلاً- أقول إن الله جل وعلا جعل أيضاً مُحييات لتلك النفوس وهي المصائب التي تصيب العبد فإذا أصابته تلك المصايب أحيت قلبه ولكن بشرط أن يكون لديه يقين وتصديق بأن الذي أصابه هو الله وأن تنتفض تلك الفطرة التي قد داهمتها الشكوك أو قد غطاها الران بما كسبت، أو غطتها الغفلة بما ظلمت، فإذا انتفضت تلك الفطرة عادت إلى حياتها مرة أخرى وعادت إلى تصوراتها التي خلقها الله سبحانه وتعالى عليها وسنتحدث عن هذه في حينه إن شاء الله تعالى.
 ولا شك أنه ربما يكون ثمة مُغطيات ومُلهيات ومُشغلات عن هذا التصور ومن هذه المُلهيات والمُشغلات المال والولد والزوجة فهذه الثلاثة أمور إذا طاوعها الإنسان وتكالبت عليه فإنها - طبعاً نحن نقول الزوجة قد يكون بالمقابل الزوج بالنسبة للمرأة، قد تكون الزوجة مُشغلة وقد يكون الزوج أيضاً مُشغلاً يعني إذا قال الله جل وعلا : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ } فالأزواج هنا بالمُجمل يمكن يكون الزوج فتنة للمرأة وممكن تكون المرأة فتنة للزوج أو لزوجها فهي هكذا وهكذا على كل حال أحدهما فتنة للآخر - فإذا انتفضت تلك الفطرة من هذا ثم بقيت تقرأ كلام الله جل وعلا وتُصدقه وتلتصق بمعاني التسبيح والتهليل والتحميد والذِكر والطاعة فإن الله سبحانه وتعالى يحفظها ويبقي لها حياتها حتى تبقى حية معافاة من الشكوك ومن الشِرك ومن الهوى ومن الغفلة اسأل الله سبحانه وتعالى أن يحيي قلوبنا .
/ يقول الله جل وعلا : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي يُبصر ما تعملون من عمل لأنفسكم ولأمتكم وللبشرية التي أمركم الله سبحانه وتعالى أن تدعُوها وأن تُصلحوها فإن الله جل وعلا أخذ على الناس الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وأخذ عليهم الميثاق أن يُبلِّغوا دينه قال الله جل وعلا : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ } وكذلك أخذ الله جل وعلا على من أعطاهم العِلم ومن أعطاهم الإيمان أن أخذ عليهم الميثاق أنهم يبلغونه ولا يكتمونه وهذا مذكور أيضاً في سورة آل عمرآن، فالله جل وعلا قال : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يبصر ما تعملون وما تقومون به من عبادته ومن نشر دينه ومن إقامة الحق في هذه الحياة الدنيا حتى تلقَوه .
/ قال الله جل وعلا : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ } يعني من دواعي الإيمان ومن دوافعه ومن أدلته أن الله جل وعلا خلق السماوات والأرض بالحق فجعل هذه السماوات قائمة بالحق وقائمة بالعدل، قائمة بالبينات فهذه البينات التي هي القوانين والنواميس الكونية التي خلق الله جل وعلا السماوات عليها وخلق الأرض عليها، هذه النواميس والقوانين التي لا تتبدل ولا تتغير ولو أن هذه القوانين وهذه النواميس تتغير بناء على معصية العبد إذ عصى فإنه سيختل الاتزان والله جل وعلا ما أراد ذلك وإنما خلق السماوات والأرض بالحق مذ خلقها إلى أن يرثها، إلى أن يرث الأرض ومن عليها فهي باقية على هذا الحق، وبقاء السماوات والأرض على الحق أولى من عقاب كافر في وقت من الأوقات بإيقاع السماوات على الأرض ليُطبقها عليه ولو شاء لفعل ولكن الله جل وعلا اقتضت حكمته أن يبقى الناس على الإمهال إلى يوم القيامة حيث يريد الله سبحانه وتعالى أن يُقيم الساعة فيُقيمها فقد خلق الله جل وعلا السماوات والأرض بالحق ليبقى الناس أمامهم الحُجج والبراهين ومع ذلك مع أنه خلق السماوات والأرض بالحق أيضاً ثمة آلة أخرى وأداة أخرى للتوصل إليه سبحانه وتعالى ليصل الناس إليه وليقتربوا منه وليعبدوه وليوحِّدوه وهو أنه صوّرهم فأحسن صورهم قال الله جل وعلا : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي أحسن أشكالكم وليس المقصود الأشكال الظاهرة وإنما أيضاً صوّرهم على أحسن صورة فجعلهم ناطقين، وجعلهم عاقلين، وجعلهم أسوياء في صورهم، وسخّر لهم الدواب والبهائم، وجعل الأرض كلها مسخرة لهم، فالله سبحانه وتعالى صوّرهم فأحسن صورهم قال سبحانه :{ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } يعني هذه الصور ستبقى على هذا الحال أن يقيم الله جل وعلا الساعة فيكون بعد ذلك ما يكون مما اخبرنا الله سبحانه وتعالى عنه يوم القيامة ، يقول جل وعلا : { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } وقال سبحانه : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } فإحسان الصورة هنا صورة العقل .. صورة النُطق، هل فيه ناطق مثل الإنسان يتفاهم بلغة ظاهرة معلومة ؟ لا ، أيضاً هل هناك كائن ينطِق ؟ هل هناك كائن يعقِل كعقل الإنسان ؟ ثمة كائنات تعقل لكن هذا العقل عقل ضعيف جداً إذا قورن بعقل الإنسان، فيمكن أن تقولي : والله القط يعقل مثلاً قدر معين وفق ما هيأه الله سبحانه وتعالى له تعقل أن الأم إذا حملت وأنجبت تحتوي صغارها ترضعهم تعرف أين تضعهم هذا عقل، لكن هذا العقل عقل مُسيّرة إليه مهدِية إليه كما أعطاها الله سبحانه وتعالى قال الله جل وعلا : {الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}.
وجدت في عندي في البيت أرنب فجأة يعني لا أدري سبحان الله العظيم فطرتها كما شاءها الله سبحانه وتعالى وحملت وما علمت أنها حملت ثم وضعت ثم وقعت على وضعها بطريقة من غير تفتيش صادفتها بقدر الله سبحانه وتعالى لعل الله جل وعلا أراد أن يُعلِمَني شيئاً فماذا وجدت ؟ وجدت أن هذه الأرنب قد نتفت فروها وافترشته لأن الأرض كانت رطبة -والله في بيتي هذا- يعني افترشت الأرض بفروها نتفت فروها وظلت تنتف فروها، أنا قلت سبحان الله كيف أحضرت منديل ؟ ما علمت أنها إلا لما حركته وجدت أنه فرو فوضعت فروها وضعت عليه صغارها، ثم جاء ابني ووقع في هذه الحفرة ما كانت أصلاً بيّنه كانت مغطاة بالتراب فوقع فيها من دون شعور فظننت أنها هربت وتركتها وظننت أن قطاً جاء وأكلها لأنها اختفت وفقدناها وجلست على هذا يمكن على نحو شهر أو أكثر ثم بعد ذلك بدأ الصغار يخرجون لنا، إذا بها أخذتها من مكانها هذا ووضعتها في مكان آخر لا نعلم به وما درينا وهي معنا في البيت وما درينا أنها على هذا الحال حتى اقتضت إرادة الله جل وعلا ، فأردت أن أتخلص من هذه الأرانب فأخذتها وأعطيتها واحدة من الأخوات فلما أخرجت الأم فإذا بالصغار يخرجون واحد واحد، من الذي هدى هذه لمثل هذا من الذي هداها؟ هداها الله سبحانه وتعالى هداها الله جل وعلا .
 القطة نفس الشيء تجدينها بصغارها لو اكتشفتي محلهم وجدتيها أخذتهم وذهبت بهم إلى مكان آخر. قبل كم يوم وجدت قطة نفس الشيء وضعت لها حليب بارد فوجدتها تدافع أولادها عن شرب الحليب ما تريدهم يشربون تدافعهم يشربون وما تترك لهم فرصة فلما شربت شربت الحليب كله وقفت فجاءوا يرضعون منها صلحت لهم الوجبة بطريقة دافئة وصالحة لتغذيتهم، الحليب البارد هذا كامل الدسم ما يصلح لهم هذا كله من هداية من ؟ من هدايه الله سبحانه وتعالى.
 إذاً هذا العقل لا يقال له عقل لماذا ؟ لأن الله جل وعلا جعله لهم جميعاً جعلها فطرة فطر الناس عليها، فطر البهائم عليها هذه فطرة تجدين هذه الفطرة موجودة في كل خلق الله جل وعلا كل خلق الله جعل له هداية مُعينة حتى الشجر لو أنكِ وضعت شجرة في الظل وجدتها تنحرف إلى الشمس هذا خلق الله جل وعلا ، لو أنها جفت عروقها من الأعلى تجدينها تتوقف عن النمو من فوق وتبدأ تنمو من تحت من الذي أعطاها هذا ؟ إنه الله جل وعلا، فالله جل وعلا قال عنا :{ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } إذاً صور الإنسان أعظم بملايين المرات من هذه الصور التي قد نُعجَب حين نراها.
س : ليس المقصود الصورة الخارجية؟
جـ : المقصود الصورة الخارجية والصورة الباطنة، صورة العقل ما أحسن منه، وصورة التكوين ما أحسن منه ، صورة الشكل ما أحسن منه، صورة المشاعر ما أحسن منها ، فالصورة الكاملة التي الإنسان عليها من حيث العقل، من حيث الشكل، من حيث الفطرة، من حيث المشاعر الأحاسيس، النطق، التناسل، كل الكيان هذا صوّره الله سبحانه وتعالى لا أحسن من صورة الله جل وعلا التي صور عليها، هذه الصورة ستبقى على هذا الحال، فإن أحسن الإنسان إلى نفسه حفظ لها فطرتها وصورتها التي صوّرها عليه، وإن لم يُحسن إلى نفسه فإنه يحرف تلك الفطرة عن ما أرادها الله عليه ويغيرها. فتجدين البعض يعني الله جل وعلا خلق لك حواجب على طريقة معينة لم تغيرينها، خلق الله لك -مثلاً- خدود على طريقة معينة لم تغيرينها ؟ الناس الآن خدود بارزة وشفايف ناطة وأنوف أشكال وألوان وحواجب أصبحت يعني ليست كشبه حواجب البشر لِمَ ؟ لِمَ يغير الإنسان خلق الله جل وعلا ؟ لا بأس بالتزين ولا بأس بالتجمل، لابأس بالتجمل والتزين في إطار ما لا يُغير الفطرة، مالا يغير الخِلقة، الله جل وعلا يقول عن ذلك في سورة النساء : { لَعَنَهُ اللَّهُ ۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ } يقول لها : ستصبحين جميلة { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا } فلذلك لا أحسن من تصوير الله جل وعلا ولا أحسن من خلق الله جل وعلا فلا نغير خلق الله ولا نُبدل خلق الله فإن حسنَّا حسنَّا في وفق ما شرع الله جل وعلا وما أباح سبحانه وتعالى وما دعى إلى ذلك الرسل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملة بين أيدينا واضحه ما ترك لنا صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا علمنا إياه حتى آداب الاستنجاء كما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما ترك لنا شيء إلا دلنا عليه وعلمنا إياه.
/ قال الله جعل وعلا : { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } يعني إليه المرجع والمآل، وثم هذا الخبر { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } فيه نوع من العِظة فيه نوع من التذكير باليوم الآخر بما يكون فيه وما ينبغي للعبد أن يتذكره دوماً لأن (إليه المصير) هذه هي التي تعِظ القلوب وهي التي تُذكِّر الناس، مرة يُذكرهم إليه المصير بالكلام، ومرة لا ينفع فيهم الكلام فيُذكرهم الله جل وعلا بالحوادث فتقع فيهم ليعلموا أن الله إليه المصير.
/ يقول سبحانه وتعالى : { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } يعني بعد أن أعلمهم أن إليه المصير وأعلمهم أيضاً أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض يعني كل ما لا تعلمونه، أنتم تعلمون شيء عن الأرض؟ نعم تعلمون لكن ماذا تعلمون ؟ تعلمون شيء عن حياة الإنسان وتعلمون شيء عن حياة الحيوان وتعلمون شيء عن حياة الطير لكن ما الذي تعلمونه عن ما غاب عنكم ؟ ثمة أمور غائبة عنكم كثيراً، الآن الأطباء -مثلاً- يكتشفون الفيروسات يكشفون -مثلاً- البكتيريا ويكتشفون الجراثيم ما لم يكتشفوه من الفيروسات والبكتيريا والجراثيم أكثر.
 مثلاً أصحاب الفلك يكتشفون مثلاً نجوم ويكتشفون كواكب ما لم يكتشفوه أكثر.
 أصحاب الجيلوجيا يكتشفون أشياء مثلاً من التُربة وكذا وما لم يكتشفوه أكثر، إذا كانوا يكتشفون في أرض فالله عنده سبع أراضين إذا كانوا يكتشفون في سماء فالله عنده سبع سماوات والبحار فوق ذلك، أشياء دون ذلك فيها أشياء عظيمة لا ندركها هذا فضلاً عن أن الإنسان فيه أسرار لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى مثلاً قد يقولون : والله الناس اكتشفوا كل شيء، الأطباء أكتشفوا كل شيء، لكن الحقيقة أنا أقول في شيء يمكن لو قلته ما أحد يمكن أن يعرفه على كنهه بحقيقته الأرواح التي بين جنبينا هذه، أرواحنا هذه من يعرف كنهها ؟ لا أطباء لا فلاسفة لا خبراء لا علماء من يعرفها يقول الله جل وعلا : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} هذه الأرواح لا نعلم  كيف ترى بعضها بعضاً، كيف ترى أموات وهي في المنام، كيف مثلاً إذا فارقت الجسد مات، كيف تفارقه في النوم ثم تعود إليه ثم تعود له الحياة وإذا أراد الله جل وعلا فارقته فراقاً نهائياً ثم لا تعود إليه مرة أخرى و يتبدل حاله ويتبرأ منه حتى أهله يدفنونه في التراب يعني كل هذه المعالم ؟ من يعلمها إلا الله جل وعلا فهو { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } الذي تُخفيه في نفسك الله جل وعلا يعلمه، الذي تُعلِنه الله جل وعلا يعلمه، فإذا علِم الإنسان أنه لا مفر من الله وأن الله جل وعلا يعلم السر وما أخفى، يعلم نيته، يعلم صدقه، يعلم كذبه، يعلم نفاقه، يعلم إيمانه، يعلم كل شيء وهو مُذكّر أنه إلى الله المصير لا شك أن القلب يستحضر هذا المعنى ويستيقظ . 
/ يقول الله جل وعلا : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أن الله سبحانه وتعالى يُذكّر عباده بأنه عليم بذات الصدور يعني عليم بكل ما فيها وما يحيك فيها وما يخطر فيها ولذلك فإن الله جل وعلا يعطي عليه وهل يحاسب عليه ؟ لا شك .. الله يحاسب عليه ولكن يحاسب عليه بحدود ليس على الإطلاق { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ }
/ يقول الله جل وعلا : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ثم ذكر الله سبحانه 
س: (**)
جـ : ... هذا في مسائل العمل إذا عمل الإنسان شيئا أو قال شيئا من معصية الله جل وعلا وهو نادم عليها فإن الله سبحانه وتعالى لا يؤاخذه بالخطرة تخطر ثم يدفعها ، أما إذا كان ذلك في قلبه مستقرا مُستحكما فلاشك أن الله يؤاخذه عليه وإلا كيف يصير أهل النفاق منافقون . 
(**) إذا كان يقاومه ويُدافعه فالله جل وعلا يعلم ما جاءه من خواطر ويعلم ما دافعها أيضا من إيمانيات فيصدُق على ذلك ومن يصدُق الله يصدقه سبحانه.  
قلت إن هذه السورة كانت لترسيخ الإيمان وهذا فحسب ليس إنها مكية لذا قال الله جل وعلا : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } ليدلك على أنه مما يؤكد أن هذه السورة مدنية { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يعني اذكروا إذا ما تذكرتم بخلق السماوات بخلق الأرض بكذا، إذا ما تذكرتم بما سبق مِما مر فاذكروا { نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ثمود الذين هم قوم صالح، قوم لوط، قوم عاد، مِمن حولكم وترون بيوتهم (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين و بالليل) فأنتم ترون هذا وتشاهدونه وتعرفونه فكيف تكفرون بالله سبحانه وتعالى وأنتم ترون الأمم من قبلكم عُذبت.
 { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } ألم ياتكم خبرهم وما كان من أمرهم { فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ } أي وخيم تكذيبهم ورديء أفعالهم وما حل بهم في الدنيا من العقوبة والخِزي (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يعني في الدار الآخرة.
 ثم علّل ذلك سبحانه وتعالى فقال : { ذَٰلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } ما حجتهم ؟ { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } نحن يهدينا بشر ؟ لا ، فكفروا وكذبوا وتولوا من أجل أن بشرا يعظونهم أو يهدونهم أو يعلمونهم أو يبصِرونهم فقالوا : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } أي استبعدوا أن تكون الرسالة في البشر وأن يكون هداهم الله سبحانه وتعالى بهم فهداهم على يد بشر مثلهم فيقول الله جل وعلا :{فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا } أي كذبوا بالحق الذي جاءت به الرسل ونكلوا عن العمل يقول الله جل وعلا : { وَتَوَلَّوْا } يعني تولوا عن التصديق والطاعة والعمل بمقتضى التصديق، قال الله جل وعلا : { وَاسْتَغْنَى اللَّهُ } والله جل وعلا غني سبحانه وتعالى وإنما إستغناؤه بذاته سبحانه وتعالى لا بأحد قال الله جل وعلا : { وَاسْتَغْنَى اللَّهُ } المعتاد أنه يقال مثلاً : أستغنيت بكذا لكن لما كان الله جل وعلا هو الغني واستغناؤه بذاته قال : { وَاسْتَغْنَى اللَّهُ } فحسب، قال : { وَاسْتَغْنَى اللَّهُ } وانتهى وانقضت الجملة.
 { وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } والله جل وعلا غني حميد يعني غني كامل الغنى كامل الغنى عن كل أحد وهو حميد محمود الفعال محمود القول في الدنيا والآخرة، في السماوات والأرض، فهو حميد سبحانه وتعالى مُستحق لحمد عباده له بما أعطاهم وبما أنعم عليهم وبما خلق وبما صوّر وبما قدّر فهو بكل ذلك حميد
{ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا } ثم ابتدأت قضية أخرى وهي: { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا } السبب في كفر الكفار وضلالهم أنهم زعموا أن لن يُبعثوا وهذا القول محكوم عليه بالتكذيب والرداءة منذ بدء ذِكره حتى قال الله جل وعلا : { زَعَمَ } فكلمة (زعم) دالة على أن هذا القول كذب صراح ولذلك جاءت كلمة (زعم) من أول الجملة لتُشعِر السامع أن قولهم هذا افتراء وكذِب وأن هذا الكذب يكذبه كل أحد، ودليل التكذيب بل إن الذي يكذبه أصحابه أصحاب القول ذاتهم يُكذبونه على وجه الحقيقة على وجه الباطن لكنهم يتظاهرون بضده، قال الله جل وعلا : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا } يقول الله جل وعلا : قل يا محمد لهم { قُل بَلَىٰ وَرَبِّي } قل لهم { بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } فيعطيهم التأكيد بالقسم أولاً وبالجواب { بَلَىٰ } وبـ "اللام" { لَتُبْعَثُنَّ } وبـ "نون التوكيد" ثم بالتوكيد أيضاً من نوع آخر { ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } فأُكدت الجملة بجميع أنواع التوكيدات في العربية { قُل بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } حينما يأتي المُقام ليس مُقام الرد فإنه قال الله جل وعلا : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } قال الله جل وعلا في سورة المؤمنون : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } فالأولى مؤكدة مع إنها { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ } فأُكدت { إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ } وباللام، ثم الآية التي بعدها { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } وما فيها مؤكدات ؟ على حسب المُخاطبين، هناك لم يكن هنالك تكذيب وإنما كان في سياق حقيقة فدل توكيد الحقيقة وترك الحقيقة الأخرى بدون مؤكد ليدُلك على أنك إذا احتجت إذا احتاجت الحقيقة إلى توكيد والحقيقة الأخرى من غير توكيد دلّ على أنها مؤكده تأكيداً لا مرية فيه فما احتاجت إلى توكيد، أما هنا لأنه في مقام التكذيب فإن الله سبحانه وتعالى قال لنبيه : { قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } وأكد ذلك أيضاً بختامٍ قال : { وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } كنتم تستعسرونه .. تستصعبونه فإنه يسير على الله جل وعلا.
 أولا ترون إلى النبات يكون يابساً ثم يكون حطاماً ثم تمرون في الصحراء، ما تمرون في رمل نجد قاعاً صفصفاً ما فيها نبتة ولا شجرة ولا شيء لو نزل عليها المطر شهر لقيتيها كلها خضراء من أين أتت هذه ؟ هكذا يُبعث الناس ولذلك قلّ أن يأتي ذكر البعث إلا ويأتي ذِكر الماء والمثل إذا نزل الماء على الأرض كيف يحييها الله سبحانه وتعالى.
 قال الله جل وعلا : { وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ولم يُذكر المثل هنا إذ كفاهم لأنهم يعلمونه حقاٌ وأنه يحييها حفنة من ماء بإذن الله جل وعلا فكيف إرادة الله سبحانه وتعالى ؟ كيف تعمل في الناس وكيف تعمل في الإحياء ؟ فإذا علمتم ذلك فما المطلوب منكم ؟ 
{ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا } يعني بالقرآن {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }.
{ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } معلوم { وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا } يعني القرآن والله سبحانه وتعالى يقول : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير } فلا تخفى عليه من أعمالكم خافية واذكروا إن كنتم تؤمنون، إن آمنتم حينئذ فاذكروا قال الله جل وعلا : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ } هذا اليوم يوم الجمع هو يُسمى يوم الجمع ويوم الساعة ويوم التغابن ويوم القيامة وهو له أسماء عدة ولكن ما ذكر هنا يوم التغابن سُمي بذلك لمِ ؟ لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد والإنس والجن والحيوان والملائكة إذا كانت الملائكة في السماء ما في موضع أربعة أصابع إلا ويوجد ملك وهذه الملائكة على ضخامتها ويجمع الله جل وعلا الجميع في صعيد واحد جميعاً أولهم وآخرهم جنهم وإنسهم فكيف سيكون هذا ؟ لاشك أنه يوم الجمع لذلك سُمي يوم الجمع. 
/ قال الله جل وعلا : { ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } هل المجموع فقط الناس ؟ لا .. لكن لما كان الخطاب للناس قال { ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } يعني تشهده الملائكة ويشهده من شاء الله جل وعلا أن يشهده وكل الأولين والآخرين مجموعون لذلك اليوم كما جاء في سورة الواقعة في قول الله جل وعلا : { قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } هذا اليوم هو يوم التغابن، يقول ابن عباس : هو اسم من أسماء يوم القيامة وذلك أن أهل الجنة يغبنون أهل النار ، وقال مُقاتل: لا غبن أعظم من أن يدخل هؤلاء الجنة ويُذهَب بأؤلئك إلى النار.
 يعني اليوم الغبن ساقول لكم شيء الآن : لو خرجتم من المسجد ووجدتم أن الملك مر ووزع على مليون أي واحد طالع في هذا المكان قلت: والله غبينة لو تقدمت خمس دقائق غبينة صح أو لا ؟ هذه وهي أموال الدنيا من منكم ما يقول أنها غبن؟ ماذا بعد هذا الغبن ، كيف لو كان إلى جنة أو إلى نار، يوم خُلد ما فيه بعده مرجع ولا مرد، لا مرد له من الله ولا بعد ذلك يأتيه الناس يرجعون أبداً ذلك يوم التغابن لأنه يُذهَب بأهل الجنة إلى الجنة ويُذهَب بأهل النار إلى النار.
 قال الله جل وعلا : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ } الآن هذا يوم التغابن عرفتموه، كيف نصبح نحن غير مغبونين كيف لا نُغبَن ؟ { يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا } لأجل أن يُكفِّر الله عنه سيئاته، ولأجل أن يُدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم. لما أراد عمر بن العاص أن يبايع النبي صلى الله عليه وسلم وبسط يده ليبايعه قبضها (قال : مالك  قال : أني أريد أن أشترط قال : وما تشترط؟ قال: أشترط أن يُغفَر لي، قال: وما علمت أن الإسلام يجُبّ ما قبله وأن التوبة تجُبّ ما قبلها ؟ فبايعه) فهكذا من يؤمن بالله ويعمل صالحاً يُكفِّر عنه سيئاته وتكفير السيئات. 
إذاً يقول الله جل وعلا : { مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } يعني من هذا حاله فإن الله يُكفِّر عنه سيئاته، وتكفير السيئات إما أنه يكفِّرها يعني لا يذكرها له ولا تُعدُّ له، وإما إنه يُبدِلُها حسنات
قد جاء في الحديث ( إن العبد يؤتى به يوم القيامة فيُذكّره بسيئاته وهو مستحي منها فإذا انقضت أي ذكّره ببعضها وهو مُشفق منها مُشفق أن تُذكر جميعاً ثم يقول الله جل وعلا : بدلوا سيئاته حسنات.
 تاب وآمن، فيقول : لا أراها سيئات كنت عملتها يقول : عملت سيئات ما أراها فيضحك الله جل وعلا له وضحك النبي صلى الله عليه وسلم. لذلك من أجل ماذا الإنسان سبحان الله طماع فيوم كانت سيئات عليه وهو مُشفق منها حين أبدلها الله جل وعلا حسنات قال : أين السيئات التي كنت أعملها ما أراها ؟ فالله جل وعلا يُبدلها فهذا معناه التكفير بالإبدال وهو أعظم وأقرب لرحمة الله سبحانه وتعالى. ومن رحمة الله جل وعلا أنه أعطاه الأمان في الآخرة فجعله يدخل جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً يعني خُلد ولا موت بعد ويؤتى بالموت على هيئة كبش ويُذبَح بين الجنة والنار فيقال لأهل الجنة : خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت.
 فهذا الذي يقول عنه الله جل وعلا { ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } هذا هو الفوز لا الدنيا ولا القصور ولا الدور ولا متاع الدنيا جميعاً.
 وبالمقابل { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } وقد ذكرنا مراراً هذا المعنى ولكن بإختصار فالذين كفروا وكذبوا بآيات الله كما قال الله جل وعلا : { وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ } وسماهم أصحاب لأنهم ملازمين لها { خَالِدِينَ فِيهَا } يعني لا يخرجون منها ولا يُفتر عنهم عذابها، ولا يُنقص عنهم عذابها، ويعتذرون ولا يُعذَرون، ويشكُون ولا يُسمع لهم، ويُنادون فلا يُجابون ولذلك قال الله جل وعلا فيها : { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }.
 / ثم يقول سبحانه وتعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } قال ابن عباس : "{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } يعني بأمر الله يعني بقدره ومشيئته".
 { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } يقول ابن كثير : "أي ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضائه وقدره فصبر واحتسب عوّضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقيناً صادقاً" ، وهذا ملحوظ .. سبحان الله ملحوظ أن الإنسان الذي يُبتلى ببلاء ثم يصبر ويحتسب فإن الله يهدي قلبه ، الشاهد على هذا والدليل عليه أو ما يؤيده أين في القرآن ؟ { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } يعني هنا { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } هي تقوم مقام الإيمان بالله { قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } فأعلنوا إيمانهم بالله جل وعلا أنهم راجعون إليه وهذا معنى الإيمان { قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } يقول الله جل وعلا : { أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } يعني { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } نفس المعنى فهو عِدة من رب العالمين أن من أصابته مصيبه في زوج أو في ولد أو في نفس فصبر واحستب واسترجع وعلِم أن ذلك إنما هو بقضاء الله وقدره وسلّم لقضاء الله وقدره غير ساخط على ذلك فإن الله جل وعلا يُورثه هدىً ويقيناً واستقامة وقبولاً حسناً ويذكره الله جل وعلا في عباده الصالحين { أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } وهنا قال : { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } فهداية القلب إذا هدى الله قلب عبد فأي مضلٍ له.
على أية حال فهذا جانب عظيم يضعه هذا النور الذي هو القرآن في قلوب العباد ويملأ قلوبهم به ويجعله تصوراً لهم فإذا امتلأت أفئدتهم بهذا التصور الإيماني الذي ينشئه الإسلام بهذه المعاني في ضمير المؤمن يشعر أن يد الله جل وعلا في كل حدث من أحداثه ويشعر بتوفيق الله جل وعلا ويشعر بتوفيق الله جل وعلا ويشعر بمعية الله جل وعلا له فيُثبته ويهدي قلبه ويقوي جوارحه في تحمل تلك الأحداث التي تصيبه فيرجع بذلك مطمئن القلب لما يُصيبه من الضراء ومن السراء يصبر للأولى ويشكر للثانية وقد يتسامى حينئذ إلى آفاق فوق هذا فيشكر الله سبحانه وتعالى على هذا الحال فيهبه الله جل وعلا من الأجر ما لا يعلمه إلا الله ولا يحصيه إلا الله ولذا قال الله جل وعلا : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فإن جئت إلى تثبيت القلب وجدت أن الله جل وعلا نصّ على ذلك في كتابه، وإن جئت إلى زيادة اليقين وجدت أن الله نصّ على ذلك في كتابه، وإن جئت إلى الصلوات والذِكر الحسن في الآخرين وفي الأولين وفي عباد الله وجدت أن الله جل وعلا نصّ على ذلك في كتابه قال : { عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } قضى الله جل وعلا أن الصابرين عليهم صلوات من الله جل وعلا، ثم أيضاً عليهم رحمة من الله جل وعلا، فلا تسألي عن الرحمة التي ينزلها الله جل وعلا والسكينة التي ينزلها عليهم، ومع ذلك فقد قضت حكمة الله جل وعلا وقضت عِدة الله جل وعلا أنهم هم المهتدون {يَهْدِ قَلْبَهُ} ولا شك أن الجواب عِدة للشرط من يؤمن بالله يهد قلبه لكن الإيمان جاء هنا في مضمون ماذا ؟ في مضمون الصبر على المصيبة ولذلك جاء في الحديث ( عجباً للمؤمن لا يقضِ الله قضاء إلا كان خيراً له إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن )، وتفسير ابن عباس واختيار ابن كثير رحمهم الله جل وعلا فيه حسن تعزيه لأصحاب المصائب التي يصابون بها وما أجمل أن يُعزى الإنسان في مُصابه بمثل هذه المعاني ليُبعث في قلبه الإيمان واليقين وليصنع العالِم أو الداعية أو من معه نور القرآن يصنع تصوراً لهذا الإنسان الذي طالما غفل وغطى قلبه ران الدنيا ومكاسب الدنيا ولهوها وزخرفها . 
/ يقول الله جل وعلا : { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } يعني الله سبحانه وتعالى يعلم الأصلح للعباد حين يُسلط عليهم وحين يبتليهم وكيف أن ذلك أنفع لهم فهو يختصهم بهذه البلايا لعلمه بأنه أصلح لهم ولذلك جاء في الحديث ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل لهم ) وإن العبد لتُكتب له المنزلة لا يبلغها بعمله فيبلِّغه الله جل وعلا إياها بما يصيبه من بلايا. 
/ قال الله جل وعلا بعد ذلك هناك ارتباط عظيم إذا علمتِ ذلك ، إذا علمتِ أنك مطالبة بالإيمان والصبر من أجل أن لا تكوني من المغبونين فماذا تفعلين في هذه الحياة الدنيا وقد تكاثرت عليك وتكاثرت عليك الأحداث وصار عندك تصورات هنا وهنا واختلطت عليك الأوراق { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۚ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } هذا المطلوب منكِ أطيعي الله فيما أمر والحمد لله أوامر لله جل وعلا ظاهرة { وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } وأيضاً أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة محفوظة أداها لنا أصحابه رضوان الله عليهم { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ } يعني أعرضتم عن سماعها وعن تطبيقها وعن العمل بمقتضاها { فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } ما على الرسول إلا البلاغ كما قال الله جل وعلا ما البلاغ الذي أمر الله جل وعلا نبيه إيصاله للناس ؟ { اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } ماهو البلاغ المبين ؟ البلاغ المبين يعني هناك بلاغ في أشياء ليست مُبينة هذه غير داخلة هنا، هي غير داخله في حسبان ما يتم الغبن فيه، غير داخلة قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ) الله جل وعلا ما تعبد الناس فيما لا يعلمه كثير منهم وإن كانت هذه يعني هي نوع من الحماية، نوع من الحِصن، نوع من الوقاية، المباعدة ابتعد عن الشبهات حتى يسلم لك فعل الطاعات، لكن الذي يجعل الناس يُغبنون يوم القيامة هو هذا المعنى الذي نص عليه القرآن وهو البلاغ المبين الذي جاءت به الرسل من قبل { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } ماهو ؟ { اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } فالتوحيد ولوازم التوحيد ليس التوحيد فقط أقول لا إله إلا الله وأقع في المكفرات ومخالفات التوحيد وإنما أوحِّده وأحمي توحيدي من الفساد، أوحد { اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ } وأحمي توحيدي من الفساد {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ولا أتوكل إلا عليه وقيسي على ذلك غير التوكل أيضاً الخوف من غير الله، أيضاً الاستغاثة بغير الله، الاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله وهكذا الذبح لغير الله، ما ذكره الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه التوحيد في بيان حق الله على العبيد فيُرجع إليه وينتظم فيه.
 يقول الله جل وعلا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } وهذه محك البيان بأن السورة مدنية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } يقول سبحانه وتعالى مخبراً عن الأزواج والأولاد أن منهم من هو عدو الزوج والوالد بمعنى أنه يلتهي به عن العمل الصالح ممكن يكون الولد عدو للوالد ويمكن يكون الوالد عدو للولد، ممكن الزوج يكون عدو للزوجة ويمكن تكون الزوجة عدوة للزوج، فواحد منهم عدو للآخر فلذلك قال : { فَاحْذَرُوهُمْ } والله جل وعلا قال : { لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } كما ذكرنا الأسبوع الماضي ولهذا قال الله جل وعلا :{ فَاحْذَرُوهُمْ } قال ابن زيد : "يعني على دينكم احذروهم على دينكم فلا يؤثروا عليه"، وقال مجاهد: { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ } قال : "يحمل الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه" ، وقال ابن حاتم عن ابن عباس وسأله رجل عن هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } قال : "فهؤلاء رجال أسلموا من مكة فارادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقِهوا في الدين - يعني تعدوهم فاتهم الخير قد فهموا في الدين- فهموا أن يعاقبوهم قالوا نرجع نعاقبهم على ما أخرونا فانزل الله تعالى هذه الآية { وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
/ وقوله تعالى بعد ذلك : {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } إذاً حُذِّر الإنسان من ولده مرتين مرة بأنه عدو احتمال يكون عدو، ليس عدو على كل حال لكن منهم عدو ومنهم لا. منهم اللهم لك الحمد يالله من فضلك بِر وقُرة عين وإعانة على الصلاح، ومنهم لا ولذلك قال : { إِنَّ مِنْ } والثانية : { أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } الأولى فيها تبعيض أما الثانية فلا { أَنَّمَا} توكيد { أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } من حيث العداوة بعضهم عدو وبعضهم لا، أما الفتنة فكل مال وكل ولد فتنة وسنبين هذا المعنى إن شاء الله في الدرس القادم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١- ومن أعظم سياقات هذا الحديث ما رواه الترمذي (2312) عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ ، أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ) وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1722) . [https://islamqa.info/ar/131516]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق